الغلول


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي لم يزل بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه.

وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له كان على كل شيء قديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا لله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161].

نزلت هذه الآية يوم أن فقد الصحابةُ رضوان الله عليهم قطيـفة بعد غـزوة من الغزوات، فقال بعضهم: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها؟ فنـزل قول الله جل وعلا: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].

والأصل في الغلول: الأخذ من الغنيمة قبل أن تُقسم، ويدخل فيه كل أخذ من بيت مال المسلمين، ويدخل فيه كل أخذ أو كل أثرة من مصالح المسلمين دون رضى الأمة بذلك.

معاشر الأحبة: قال الإمام أحمد رضوان الله عليه فيما يرويه في ( مسنده ): استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال: [هذا لكم، وهذا أُهدي إلي] فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: (ما بال العامل! نبعثه على عمل، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي؟ أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيُهدى إليه أم لا، والذي نفس محمد بيده، لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها ثغاء، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟) قالها صلى الله عليه وسلم ثلاثاً.

وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأَعْرِفَنَّ أحدَكم يأتي يوم القيامة يحمل شاةً لها ثُغاء، ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملكُ لكَ من الله شيئاً، قد بلَّغْتُك، ولأَعْرِفَنَّ أحدَكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رُغاء، يقول: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملكُ لكَ من الله شيئاً، قد بلَّغْتُك، ولأَعْرِفَنَّ أحدَكم يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة، ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملكُ لكَ من الله شيئاً، قد بلَّغْتُك، ولأَعْرِفَنَّ أحدَكم يأتي يوم القيامة يحمل قسماً من أدَمٍ، ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملكُ لكَ من الله شيئاً).

وقال أبو عيسى الترمذي : عن معاذ بن جبل قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فلما سرت أرسل في إثري، فرددتُ، فقال: أتدري لم بعثتُ إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]).

معاشر المؤمنين: الأحاديث في شأن الغلول عظيمة وكثيرة جداً، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم جُملة من الأحاديث الصحيحة فيها، مما يعظم شأن الغلول وعِِظَم خطره، وشؤم ذنبه في الدنيا والآخرة.

من صور الغلول اليوم التهاون في الأموال العامة

والسؤال: هل يوجد غلول في هذا الزمان؟

نعم -أيها الأحبة- إن كثيراً من المسلمين يتهاونون بمصالح الأمة التي هي بين أيديهم، فتجد موظفاً تحت يده مصلحة، يستخدم أوراق دائرته في كتابة أولاده وأطفاله، ويستخدم أوراقاً وأقلاماً لعمله لمصالحه الشخصية، ويستخدم سيارة لا يؤذن له أن يتصرف فيها إلا في مهمات عمله، وإنجاز ما وُكل إليه، فتراه يجد هذه السيارة فرصة للذهاب والإياب، للسفر والتنقل، لكل متعة ونزهة برية، من الذي أحل لك هذا؟! ومن الذي جوَّز لك هذا؟! ومن أين لك هذا؟! كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل الولاة في زمنه، إذا جاء أحد ومعه مال وفير، قال له: [من أين لك هذا؟] إذا كان ذلك المال يختص به لنفسه.

أيها الأحبة: إن كثيراً منا قد تساهل بهذا الأمر تساهلاً عظيماً في هذا الزمان، فتراه يستخدم آلة التصوير ليصور الأوراق لأولاده وبناته في مكتبه، وتراه يستخدم الورق والأقلام والسيارة وبطاقات البنـزين، أقول: وبطاقات البنـزين؛ لأن كثيراً من الناس يأخذها من مرجع عمله، فيوزعها على أولاده؛ كي لا يخسروا من جيوبهم شيئاً، ولكي يحمل هذه الأوزار على نفسه وحده يوم القيامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

أين الورع في أموال المسلمين؟! وأين الزهد؟! وأين المراقبة والمحاسبة يا عباد الله؟! رحم الله زماناً وأهله مضوا يوم أن كانوا يحاسبون النفس عن القليل والكثير.

كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذات يوم وقد جاء غلام له بتمر، فأكل منه تمرة، وكانت عادة الصديق ألا يأكل طعاماً من يد خادمه إلا بعد أن يسأله: من أين لك هذا؟، فأكل الصديق ذات مرة من ذلك الطعام قبل أن يسأله، فلما ابتلعها سأل خادمه وقال له: [من أين لك هذا التمر؟ فقال: تلك كهانة كنت تكهنت بها في الجاهلية لرجل فأعطاني عليها هذا، فأدخل الصديق رضوان الله عليه أصبعه في حلقه، فأخذ يستجرها ويخرجها -يتقيأ- حتى كاد يهلك من شدة ما جهد نفسه بذلك، حتى خرجت تلك التمرة، وخرج سائر ما في بطنه، فقال له الغلام: لقد شققت على نفسك، فقال: والله لو لم تخرج هذه التمرة إلا مع روحي لأخرجتُها] الله أكبر يا عباد الله! الله أكبر يا عباد الله! الله أكبر يا عباد الله!

أين المسلمون في هذا الزمان عن تلك الصورة الإيمانية الرائعة؟! أين المسلمون في هذا الزمان الذي لا يبالي أحدهم أي مال وقع في يده, وأي لقمة وضعها في فمه، وأي متاع أدخله بيته؟! أيدري أنه حلال أو حرام؟!

فيا عباد الله: راقبوا الله جل وعلا فإنه: (لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ...) فتباً لدنيا حلالها حساب، وحرامها عذاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

معاشر المؤمنين: إننا نرى رأي العين في هذا الزمان بعض المسلمين يظنون أن من الذكاء، ومن الحنكة، ومن القدرة العقلية، أن يخدع دائرة ما، أو محكمة ما، أو جهة ما، لينال منها صكاً يتقوى به على مال أخيه بالحرام، أو ليزور طريقة لكي ينهب ويسلب شيئاً من متاع أخيه بالحرام.

ألا يظن أولئك أن الخصومات تُعاد يوم القيامة؟!

من ظن أن الخصومة في الدنيا منجية منتهية فظنه خطأ، وعلمه جهل.

وليتذكر وليعلم أن الخصومات ستُعاد يوم القيامة، وسيقف الناس بين يدي الله للقصاص حتى يقاد للشاة القرناء من الشاة الجلحاء.

فما بالكم برجل خَصِيْمُه أمة محمد أجمع، من تناول سيارة أو متاعاً أو مالاً أو أرضاً بغير حق، فاقتطعها دون سائر الأمة أتظنون أن خصمه واحد؟! لا والله، بل نحن وكل أمة محمد خصيمه يوم القيامة، فلا حول ولا قوة إلا بالله!

فانتبهوا لذلك يا عباد الله، ولا يَتَجَرَّأَنَّ أحدٌ على مال لم يتأكد أنه حلال له، ولا يتسلطن أحد على مال قل أو كثر، وإلا فليعلم أنه سيُحاسب حساباً شديداً، سيجده محمولاً على رقبته: (من غل شاة جيء به يوم القيامة تيعر وهي على كتفه، ومن غل بعيراً جاء يحمله يوم القيامة وله رُغاء يسمعه أهل الموقف على كتفه، ومن غل غرساً جاء يحملها يوم القيامة ولها حمحمة معلومة) ومن غل شيئاً قليلاً أو كثيراً إلا جُعل ناطقاً أمامه، حتى الذهب والفضة، من غل صامتاً، أي: ذهباً أو فضة جاء به يوم القيامة يحمله.

فاتقوا الله يا عباد الله، وخففوا الحمل في هذه الدنيا، لا تثقلوا كواهلكم بحقوق الناس وأعراضهم ودمائهم، فحسب ابن آدم أن يغدو بما اجترح من الذنوب والسيئات، عسى الله أن يتجاوز، وعسى الله أن يتدارك الجميع برحمته.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

والسؤال: هل يوجد غلول في هذا الزمان؟

نعم -أيها الأحبة- إن كثيراً من المسلمين يتهاونون بمصالح الأمة التي هي بين أيديهم، فتجد موظفاً تحت يده مصلحة، يستخدم أوراق دائرته في كتابة أولاده وأطفاله، ويستخدم أوراقاً وأقلاماً لعمله لمصالحه الشخصية، ويستخدم سيارة لا يؤذن له أن يتصرف فيها إلا في مهمات عمله، وإنجاز ما وُكل إليه، فتراه يجد هذه السيارة فرصة للذهاب والإياب، للسفر والتنقل، لكل متعة ونزهة برية، من الذي أحل لك هذا؟! ومن الذي جوَّز لك هذا؟! ومن أين لك هذا؟! كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل الولاة في زمنه، إذا جاء أحد ومعه مال وفير، قال له: [من أين لك هذا؟] إذا كان ذلك المال يختص به لنفسه.

أيها الأحبة: إن كثيراً منا قد تساهل بهذا الأمر تساهلاً عظيماً في هذا الزمان، فتراه يستخدم آلة التصوير ليصور الأوراق لأولاده وبناته في مكتبه، وتراه يستخدم الورق والأقلام والسيارة وبطاقات البنـزين، أقول: وبطاقات البنـزين؛ لأن كثيراً من الناس يأخذها من مرجع عمله، فيوزعها على أولاده؛ كي لا يخسروا من جيوبهم شيئاً، ولكي يحمل هذه الأوزار على نفسه وحده يوم القيامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

أين الورع في أموال المسلمين؟! وأين الزهد؟! وأين المراقبة والمحاسبة يا عباد الله؟! رحم الله زماناً وأهله مضوا يوم أن كانوا يحاسبون النفس عن القليل والكثير.

كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذات يوم وقد جاء غلام له بتمر، فأكل منه تمرة، وكانت عادة الصديق ألا يأكل طعاماً من يد خادمه إلا بعد أن يسأله: من أين لك هذا؟، فأكل الصديق ذات مرة من ذلك الطعام قبل أن يسأله، فلما ابتلعها سأل خادمه وقال له: [من أين لك هذا التمر؟ فقال: تلك كهانة كنت تكهنت بها في الجاهلية لرجل فأعطاني عليها هذا، فأدخل الصديق رضوان الله عليه أصبعه في حلقه، فأخذ يستجرها ويخرجها -يتقيأ- حتى كاد يهلك من شدة ما جهد نفسه بذلك، حتى خرجت تلك التمرة، وخرج سائر ما في بطنه، فقال له الغلام: لقد شققت على نفسك، فقال: والله لو لم تخرج هذه التمرة إلا مع روحي لأخرجتُها] الله أكبر يا عباد الله! الله أكبر يا عباد الله! الله أكبر يا عباد الله!

أين المسلمون في هذا الزمان عن تلك الصورة الإيمانية الرائعة؟! أين المسلمون في هذا الزمان الذي لا يبالي أحدهم أي مال وقع في يده, وأي لقمة وضعها في فمه، وأي متاع أدخله بيته؟! أيدري أنه حلال أو حرام؟!

فيا عباد الله: راقبوا الله جل وعلا فإنه: (لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ...) فتباً لدنيا حلالها حساب، وحرامها عذاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

معاشر المؤمنين: إننا نرى رأي العين في هذا الزمان بعض المسلمين يظنون أن من الذكاء، ومن الحنكة، ومن القدرة العقلية، أن يخدع دائرة ما، أو محكمة ما، أو جهة ما، لينال منها صكاً يتقوى به على مال أخيه بالحرام، أو ليزور طريقة لكي ينهب ويسلب شيئاً من متاع أخيه بالحرام.

ألا يظن أولئك أن الخصومات تُعاد يوم القيامة؟!

من ظن أن الخصومة في الدنيا منجية منتهية فظنه خطأ، وعلمه جهل.

وليتذكر وليعلم أن الخصومات ستُعاد يوم القيامة، وسيقف الناس بين يدي الله للقصاص حتى يقاد للشاة القرناء من الشاة الجلحاء.

فما بالكم برجل خَصِيْمُه أمة محمد أجمع، من تناول سيارة أو متاعاً أو مالاً أو أرضاً بغير حق، فاقتطعها دون سائر الأمة أتظنون أن خصمه واحد؟! لا والله، بل نحن وكل أمة محمد خصيمه يوم القيامة، فلا حول ولا قوة إلا بالله!

فانتبهوا لذلك يا عباد الله، ولا يَتَجَرَّأَنَّ أحدٌ على مال لم يتأكد أنه حلال له، ولا يتسلطن أحد على مال قل أو كثر، وإلا فليعلم أنه سيُحاسب حساباً شديداً، سيجده محمولاً على رقبته: (من غل شاة جيء به يوم القيامة تيعر وهي على كتفه، ومن غل بعيراً جاء يحمله يوم القيامة وله رُغاء يسمعه أهل الموقف على كتفه، ومن غل غرساً جاء يحملها يوم القيامة ولها حمحمة معلومة) ومن غل شيئاً قليلاً أو كثيراً إلا جُعل ناطقاً أمامه، حتى الذهب والفضة، من غل صامتاً، أي: ذهباً أو فضة جاء به يوم القيامة يحمله.

فاتقوا الله يا عباد الله، وخففوا الحمل في هذه الدنيا، لا تثقلوا كواهلكم بحقوق الناس وأعراضهم ودمائهم، فحسب ابن آدم أن يغدو بما اجترح من الذنوب والسيئات، عسى الله أن يتجاوز، وعسى الله أن يتدارك الجميع برحمته.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.

اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتُها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، عياذاً بالله من ذلك.

أيها الأحبة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من ظلم قيد شبر طُوِّقَهُ يوم القيامة من سبع أرضين) هذا شأن من ظلم شبراً فأدخله في أرضه وهو يعلم أنه ليس له! فما بالكم بمن ظلم متراً؟! أو كيلو متراً، أو أقل أو أكثر من ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

إن الواقع في هذه الأيام يشهد نزاعات عظيمة، وخصومات كبيرة، وإحداثات ممنوعة، كلها من اعتداء بعض المسلمين على أراضي البعض.

فهذا يدخل في أرض جاره خمسمائة متر أو أكثر، وهذا يدخل أكثر ويدَّعي أنه صاحب الملك، وهذا يستشهد الناس بالزور، ويدفع رشوة لكي يقيم الحق لصالحه؛ ولكي يطرد صاحب الحق من مكانه.

أين الله؟! أين الله؟! أين الله يا عباد الله؟! أين الله عن قلوب أولئك الذين لا يبالون بما ظلموا في هذه الأرض، من قليل أو كثير؟!

ألا يخشون أن يُطَوَّقُون من سبع أرضين يوم القيامة؟! ألا يعلمون أن هذا غلول؟! ألا يعلمون أن الغلول يؤتى به يوم القيامة؟! ألا يعلمون أن هذا عذاب ونار وسعير وجهنم ونارٌ تلظى؟!

والعجب العُجاب من ذلك يا عباد الله: أن ترى غنياً له من العقار ما له! وله من الضِّياع ما له! ومع ذلك يظلم فقيراً في أرض ليس له إلا هي! أما يخشى الله في ظلم الضعفاء؟! أما يخشى الله في ظلم الأبرياء؟! أما يتقي الله جل وعلا في شبر أو أقل أو أكثر في هذا الظلم؟! سبحان الله العلي العظيم!

إذا انعدمت التقوى، وغابت المراقبة، فحدث ولا حرج عن الظلم والطغيان والجرائم والغلول، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

فيا عباد الله: اتقوا الله جل وعلا، ومن كان معتدياً على شيء ليس له؛ فليرجع إلى حده، ومن كان قد غصب شيئاً ليس له؛ فليتق الله وليرده إلى صاحبه، ومن كان في نفسه شيء من مالٍ؛ فليراجع صاحبه حتى يُمضي معه صلحاً؛ فإن الصلح تبرأ به الذمم؛ ما لم يكن صلحاً متفقاً فيه بالباطل على الباطل؛ فإن الصلح على الباطل باطل، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

عباد الله: ما شأن الناس في هذا الزمان يتخاصمون، ويتنازعون، ويحلفون, ويشهدون الزور، ويرتشون، وكلٌّ يقول: هذا لي. وأحدهم والله يعلم أنه كاذب فيما يشهد، ويحلف ويدعي ويرشي؟!

أين الناس من مراقبة الله في هذا الزمان؟! أين الناس من زمان مر فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات ليلة، فسمع أمَّاً تقول لبنتها: [يا بُنَيَّة! قومي فامذُقي اللبن بالماء، قالت البنت: يا أماه! إن هذا لا يجوز، ,إن أمير المؤمنين قد نهى عن هذا! فقالت الأم: إن عمر لا يرانا الآن، فالتفتت البُنَيَّة إلى أمها صائحة، وقالت: يا أماه! إن كان عمر لا يرانا، فإن رب عمر يرانا].

وكان ابن عمر ذات يوم في برية، فوجد راعياً، وأراد أن يمتحنه، فقال: [اذبح لنا شاة من هذه الشياة، قال: لا. إنها ليست لي، وإن شئتَ حلبت لك شاة منها، فتشرب لبناً قال: لا. أعطنيها وخذ قيمتها من الدنانير، وإذا جاء صاحبها قل: إن الذئب افترسها وماتت، فالتفت الراعي إلى ابن عمر، وقال: فأين الله؟! فأين الله؟! فأين الله؟! -صاح ثلاثاً، وهو يقول: فأين الله- ... إن غاب الراعي، فإن ربي ورب الراعي موجود، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض].

فما بال الناس في هذا الزمان يعتدون تحت سمع السلطة وبصرها بعضهم على بعض، ويعلمون أن الله رقيب حسيب؟ لكن ...

إذا الإيمان ضاع فلا أمانٌ     ولا دُنْيا لمن لم يحي دينا

والله لا لذة ولا هناءة ولا سعادة ولا استقرار إلا بالإيمان ومراقبة الله جل وعلا. فاتقوا لله يا عباد الله.

جاءت امرأة إلى الإمام أحمد ، وقد كان محبوساً في زمن المحنة، فقالت: يا أبا عبد الله ! إن السلاطين يخرجون بالمشاعل على سطوح قصر الخليفة، أفيجوز أن أنسج الصوف في ظل نور قصر السلطان؟ قال: رحمكم الله! إنكم من آل بيت تقىً وزُهد، أنتم من آل فلان؟! قالت: نعم. قال: فذاك أمر لا يخرج إلا من عندكم.

تسأل أبا عبد الله أحمد بن حنبل، تقول: أيجوز أن أنسج الغزل تحت أنوار قصر الخليفة؟ فيعجب أحمد بن حنبل: هذا كلام ليس من سائر الناس، هذا لا يكون إلا في بيت بني فلان، بيتٌ عُرف بالورع، وعُرف بالزهد، وعُرف بالتقى والمحاسبة.

عباد الله: لن نكون متشائمين إذا قلنا: إن لقمة الحلال في هذا الزمان نادرة! والله ثم والله ما أصاب الناس من الأمراض ومن المحن والمصائب وقلة الغيث وقلة الإجابة والبلاء والفتن، ما أصابهم إلا من لقم الحرام، من طعام الحرام، من شراب الحرام، كلهم لا يبالي إلا ما قل وندر في هذا الزمان، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمضي على الناس زمان، لا يسلم فيه أحدٌ من الربا، من لم يأكله صراحة أصابه من غباره) والله إنه لهذا الزمان، إن لقمة الحلال أندر من النادر في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

فلنراقب أنفسنا يا عباد الله، ولنحاسب أنفسنا فيما نركب، فيما نصْيَف، فيما نعمل في دوائرنا.

ثم انظروا عِظَم التساهل! كم يوجد عندنا في هذه المملكة من موظف؟ مليونا موظف -مثلاً- على وجه التقريب؟ لو كل موظف أتلف ورقة واحدة في يوم من الأيام لكان حصيلة التلف والإسراف وإهدار مال الأمة: مليوني ورقة في يوم واحد، فما بالك إذا غصب دفتراً، وهذا أخذ قلماً، وهذا أخذ سيارةً، وهذا صرف وقوداً، وهذا فعل، وهذا ترك، إن الناس لا يحاسِبون فيما يفعلون في هذا الزمان.

فراقبوا الله يا عباد الله، راقبوا الله في أنفسكم، وفيما ولاكم الله عليه.

يقول أحدهم لي: أنا مسئول دائرة من الدوائر، فيأتي موظف يقول: لو تسمح! تصوِّر لي هذا المخطط في هذه الآلة، فأقول: هذا ليس لك، وليس لي، وليس من حقنا؟ فيتهمني بالتعقيد والتشديد والتضييق.

نعم. فليقل لك ما يقول، ما دامت ذمتك بريئة. إذا أذن لك المسئول المفوض بالأمر والنهي في هذا، فعند ذلك برئت ذمتك، أما إذا كنتَ مسئولاً فلا تصرف قلماً، ولا تصرف ورقةً، ولا تصور قرطاساً، ولا تؤدِّ لتراً، إلا إذا كان مأذوناً لك فيه، وما سوى ذلك، فحسبك وذنوبك ونفسك أن تتحملها، فضلاً عن أن تحمل ذنوب الآخرين يوم القيامة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2802 استماع
حقوق ولاة الأمر 2664 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2652 استماع
توديع العام المنصرم 2647 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2552 استماع
من هنا نبدأ 2495 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2461 استماع
أنواع الجلساء 2460 استماع
الغفلة في حياة الناس 2437 استماع
إلى الله المشتكى 2436 استماع