أرشيف المقالات

الفقر ليس مبررا

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
الفقرُ ليْسَ مُبرِّرًا
 
الحمد لله وكفى، وسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين:
بدافع الحاجة والفقر والعوز بعض الناس يبيح لنفسه أكل الربا، والتعامل به؛ لبناء بيت مثلًا، أو شراء سيارة، والآخر ينضم إلى عالم الفن والغناء، والتمثيل والرقص؛ لأنه مضطر إلى توفير المعيشة لأولاده وعياله، وبعض الفتيات والسيدات تتنازل عن عفتها وشرفها من أجل أن تحصل على المال مقابل ذلك؛ لأنها فقيرة - زعمت - وبعضهم يتخذ من التسول حرفة ومهنة؛ ليجمع ما يقدر عليه من مال، ويستدلون على أفعالهم الشنيعة، وتصرفاتهم الغريبة، وإعمالهم المشينة، بأقوال غير مأثورة، وأدلة غير صحيحة، ولا مسندة، وعمومات من القرآن الكريم والسنة المطهرة لا تدل على المقصود.
 
ومن الأدلة التي يحتج بها هؤلاء: حديث الثلاثة الذين انطبقت عليه الصخرة، فدعا كل واحد منهم بما كان يعمله في حياته مع الإخلاص والنية الصادقة، ومن هؤلاء الثاني؛ حيث إنه ((كان له ابنة عم يحبها كثيرًا، وهي أحب الناس إلى قلبه، فأراد أن يفعل بها الفاحشة فرفضت، وبعد ذلك اضطرت إلى المال، وطلبت منه العون فاشترط عليها أن يعطيها المال مقابل أن تسلم له نفسها، فوافقت وأخذت المال، وحينما هم ليجامعها، ذكَّرته بالله، وطلبت منه أن يتقي الله، فانصرف عنها خوفًا من عذاب الله، ومن وقوعه في الزنا، وقال: إنه ما فعل ذلك إلا ابتغاء وجهه الكريم، فانفرجت الصخرة)).
 
وليس في ذلك حجة لمن سلك الحرام، وأصبحت له حرفة ومهنة ووظيفة؛ لأن هذه المرأة ضاقت عليها الدنيا بما رحبت، ولم يبقَ عندها شيء من طعام أو زاد أو مال، وهو ابن عمها يحبها أرادت منه الإعانة والمساعدة بحكم القرابة، فطلب منها الفاحشة مقابل المال، وأرغمها على المحرم إرغامًا، فذَكَّرته بالله حتى انكف وانزجر، أين هذا ممن يتردد على مقاهي الخمور للرقص مقابل أجرة ومال، وهو متخوم من المال الحرام؟ ومن يعزم عزمًا على فعل الفاحشة قاصدًا بيوت المنكر؟

ومن الأدلة على حججهم قول سيدنا علي رضي الله عنه: "لو كان الفقر رجلًا لقتلته"، وهذا لا يثبت وليس له سند، أو كتاب معتمد، بل جاء أن الفقير الصابر مثل الغني الشاكر.
 
ومثله قولهم: "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق"، والمقصود من هذا الكلام ذم من يسعى للإضرار بالناس وإيذائهم في معاشهم، ووظائفهم بالنفاق، أو الحقد، أو التحريش وليس فيه حجة لهؤلاء.
 
ومن ذلك حديث: ((كاد الفقر أن يكون كفرًا، وكاد الحسد أن يسبق القدر))؛ والحديث ضعيف.
 
قال المناوي في فيض القدير في شرح الحديث (ج4، ص708): "أي: الفقر مع الاضطرار إلى ما لا بد منه كما ذكره الغزالي، ((أن يكون كفرًا))؛ أي: قارب أن يوقع في الكفر؛ لأنه يحمل على حسد الأغنياء، والحسد يأكل الحسنات، وعلى التذلل لهم بما يدنس به عرضه ويثلم به دينه، وعلى عدم الرضا بالقضاء وتسخط الرزق، وذلك إن لم يكن كفرًا، فهو جارٌّ إليه"؛ أي: لا ينبغي للمسلم إن كان فقيرًا أن يفعل ذلك، بل يصبر فيجعل الله له مخرجًا.
 
إن الفقر وضيق اليد، وقلة الموارد، وضيق الحال، وعدم وجود المال ليس مسوغًا لفعل الحرام، وإيذاء الآخرين، وظلم النفس بالموبقات، بل هو دافع للنفس إلى التوبة والاستغفار، والتذلل والافتقار، وكثرة العبادة، لقلة الشواغل والصوارف، فليس هناك للفقير ما يمنعه من الزيادة من الذكر والعبادة لله، فضلًا عن فعل المنكرات والمحرمات.
 
لقد كان الأوائل من العلماء، والفقهاء، والعباد يعيشون في ضنك من العيش، وقلة ذات اليد، وحاجة إلى المال ماسة، ويموت أحدهم وحاجته في نفسه لم يحصل عليها، ولم يخرجهم ذلك عن الهدي القويم، والصراط المستقيم، ولم يكن فقرهم يدعوهم إلى ارتكاب المحرمات في الدين، ومخالفة الشريعة الغراء، ومن أجل ذلك كانوا إذا أصابهم الجوع أو الخوف، حاسبوا أنفسهم على تقصيرهم في طاعة الرحمن؛ كما قال القائل: "إني لأعصي الله فأعرف ذلك من خلق حماري وخادمي"، وقالت زوجة تخاطب زوجها: "اتق الله فينا ولا تطعمنا إلا من حلال، وإياك أن تدخل علينا الحرام، فإننا نصبر على نار الجوع، ولا نصبر على نار جهنم".
 
إن شأن العبد المسلم أن يشكر في السراء، ويصبر في الضراء، ويحمَد على القليل والكثير؛ فعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اللهَ لَيرضى عن العبد أن يأكُلَ الأَكْلة فيحمَدَه عليها، أو يشرَبَ الشَّربةَ فيحمَدَه عليها))؛ [رواه مسلم].
 






رَأَيتُ القَناعَةَ رَأسَ الغِنى
فَصِرتُ بِأَذيالِها مُمْتَسِكْ


فَلا ذا يَراني عَلى بابِهِ
وَلا ذا يَراني بِهِ مُنهَمِكْ


فَصِرتُ غَنيًّا بِلا دِرهَمٍ
أَمُرُّ عَلى الناسِ شِبهَ المَلِكْ






 
بل تجد المسلم منشرح الصدر، قرير العين، ولو كان لا يملِك من الدنيا إلا بيتًا يستره، أو لقمة يسد بها جوعته، وهذه إن اقترنت بالسعادة النفسية، والإيمان الصادق لعمري لهي أفضل من عيش الملوك والرؤساء؛ قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((من أصبح آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قُوتُ يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها))، وجاء رجل يشتكي لعبدالله بن عمرو بن العاص الفاقة، فقال له: عندك زوجة؟ قال: نعم، قال: هل عندك مسكن؟ قال: نعم، قال: أنت غني من الأغنياء، قال: وعندي خادم، قال: أنت ملِك من الملوك.
 
إن كثيرًا ممن يزعم أنه فقير اليوم، له بيت يؤويه، ومواد غذائية، ربما تكفيه لسنة، وله طباخ يطبخ عليه أنواع الأطعمة واللحوم، وله ثلاجة يجمد ويحفظ فيها ما لذ من الأطعمة والخضار، وله سرير مريح، وفراش مليح، وربما له سيارة، أو رصيد مال في البنك، وله إضافة إلى ذلك زوجة حسناء، وربما خادم، أو خادمة، ومع كل ذلك يتسخط يشتكي، ويولول ويبكي، ويبرر لنفسه ولأهله الحرام بحجة عدم الكفاية والفقر، وهذا من غرور النفس، وتزيين الشيطان ووسوسته له، ولو رُزق التقوى والقناعة، والإيمان الصادق والأمانة، لكفاه القليل من المال والطعام، والشراب والمنام، ولعد نفسه من الأغنياء الأثرياء بما تفضل الله عليه من نعمه على الآخرين، والله المستعان.
 
لقد كان مفهوم الفقر في حياة الصحب الكرام، وأهل العلم في الحلال والحرام، يختلف عن مفهوم الناس له اليوم، فالفقر في عرفهم هو فقر النفس والقلوب، وإن الغنى الحقيقي هو غنى النفس بالإيمان، ومعاني الدين والإسلام، فإذا سعى الإنسان إلى الدار الآخرة يسر الله أمره، وبارك في رزقه فقيرًا كان أو غنيًّا، وإذا أصبحت الدنيا تركيزه وهمه، جعل الله فقره بين عينيه؛ كما جاء في الحديث الشريف.
 
إن من أعظم أسباب الرزق الحلال تقوى الله، وإخلاص العمل له في الحال والمآل؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3].
 
وكذلك القناعة؛ وهي أن يرضى العبد بما قسمه الله وأعطاه من النعم؛ من صحة وعافية، ومال ومسكن وزوجة، وأن يرى أنه أفضل من جميع خلق الله، وأن يلهج لسانه دائمًا بالذكر والشكر للمُنعم، فيقول: (الحمد لله الذي فضَّلني على كثير من عباده المؤمنين)، وألا يتسخط المقدور، ويزدريَ نعمةَ الله ومنَّته عليه، ويستصغرها، أو أن يرى أنه يستحق أكثر من ذلك؛ فقال سبحانه: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273].
 
ومن أسباب الرزق ودفع الفقر الدعاء؛ ففي الحديث عن سلم بن أبي بكرة: ((أَنَّهُ مَرَّ بِوَالِدِهِ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْفَقْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ: فَأَخَذْتُهُنَّ عَنْهُ، وَكُنْتُ أَدْعُو بِهِنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، قَالَ: فَمَرَّ بِي وَأَنَا أَدْعُو بِهِنَّ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَنَّى عَقَلْتَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: يَا أَبَتَاهُ، سَمِعْتُكَ تَدْعُو بِهِنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، فَأَخَذْتُهُنَّ عَنْكَ، قَالَ: فَالْزَمْهُنَّ يَا بُنَيَّ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهِنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ)).
 
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ونبيه محمد، وعلى وآله والصحب أجمعين.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢