المخرج من الفتن


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وعاقبته الحسنى لمن اتقى الله، والصلاة والسلام على خاتم أنبياء الله، محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وجميع من آمن به واستن بسنته واهتدى بهداه.

أما بعد:

معشر الأبناء الحضور! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

كيف الخروج من الفتن؟

إن الفتن كثيرة ومتنوعة، وقد جاء ذكر بعضها في كتاب الله عز وجل، ومن ذلك: فتنة الشيطان عليه لعائن الرحمن، إذ قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ .. [الأعراف:27] الآية، والخروج من فتنة الشيطان تكون أولاً: باللجأ إلى الله الصادق، والاحتماء بحماه تعالى.

ومن ذلك: إذا زين لك باطلاً أو حسن لك قبيحاً، فافزع إلى الله بكلمة: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، فإنه لا يضرك، وقد ذكر تعالى في سورة الأعراف أن أهل التقوى يملكون جهازاً أشبه بالرادار التي تملكه الحكومات، فصاحب هذا الجهاز ما أن يحوم العدو حول حماه، حتى يتفطن له ويرميه فيبعده عنه ويقصيه إن لم يحرقه ويمزقه.

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، بعد قوله تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200].

إذاً: ففتنة الشيطان نخرج منها باللجأ الصادق إلى الرحمن إذا زين لنا قبيحاً، أو حسن لنا شراً، أو رغبنا في باطل أو دعانا بنفسه أو بوسائطه إلى معصية ربنا، عرفناه فلعناه واستعذنا بالله فأعاذنا منه.

هناك أيضاً فتنة هي فتنة المال والولد، إذ قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15].

فكيف الخروج من فتنة المال والولد؟

فتنة المال فتنة عظيمة، وكم.. وكم هلك فيها من البشر، والخروج من هذه الفتنة أن نذكر أن هذا المال هو من النعم التي أنعم الله تعالى بها علينا، فالمال نعمة، ومن نعم الله التي ينعم بها على عبيده، فنخرج من فتنته التي هي أن نعطل أحد أركان الإسلام وهي الزكاة، فقد يفتن حب المال صاحبه حتى يمنع الحقوق الواجبة فيه، يحمله على الشح والبخل حتى لا يساهم في خير، ولا يساعد في معروف، يحمله على أن ينمي ماله ويكثره بما حرم الله تعالى من أساليب كسب المال وتنميته، كأن يحمله على أن يرابي فيه.

فتنة المال قد تحمل صاحبها على أن يتكبر، والتكبر -والعياذ بالله- منازعة لله عز وجل في صفة الكبرياء، والكبر شر كله؛ إذ لا يليق بهذا الآدمي الضعيف أن ينازع الله في كبريائه ويتكبر، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) لخطورة الكبر، والمال يحمل على ذلك.

فلهذا، الخروج من هذه الفتنة أن لا ننفق هذا المال -النعمة- فيما يغضب الله تعالى، ألا ننفق هذا المال الذي هو نعمة الله علينا فيما يسخط الله المنعم علينا، فإذا كان ذو المال ينفق ماله في طاعة ربه، في مرضاة مولاه، ولا ينفقه في معصية الله، نجا من فتنة المال.

فالشح والبخل يقاومان بالإنفاق في سبيل الله، واسمعوا إلى قول الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، فالشح مرض خطير ولا يعالج إلا بالإنفاق، فمن كان ينفق مما رزقه الله، فإنه يسلم من هذا الداء الخطير، ويقيه الله عواقبه المدمرة، واذكروا قول الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يوجه هذا الأمر لنا حيث يقول: ( اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا ما حرم الله عليهم )، إذاً: كيف نخرج من فتنة المال بإنفاقه في مرضاة الله، وبعدم إنفاق قليل ولا كثير فيما يغضب الله، ومن ثم خرجنا من هذه الفتنة التي أهلكت أمماً وشعوباً، فضلاً عن أفراد أو جماعات.

فتنة الولد، والمراد بالولد جنسه -ذكراً كان أو أنثى- الخروج من هذه الفتنة بمراقبة الله تعالى في هؤلاء الأولاد؛ وذلك بتربيتهم التربية الروحية، التربية التي تجعلهم أطهاراً أتقياء، وأنت الذي تثاب على طهرهم وصفائهم، وتلقينهم مبادئ الخير، وتلقينهم فضائل الأخلاق والآداب، والنظر إليهم على أنهم فتنة؛ افتتنك الله بها لينظر كيف تعمل مع أولادك.

إذاً: فالخروج من هذه الفتنة أن نراقب الله تعالى فيهم، فلا نعمل من أجل أن نوفر لهم المال والطعام والشراب، ثم نهمل الجانب الحق الذي هو مفتاح سعادتهم أو شقائهم، وهو تربيتهم التربية الإيمانية الإسلامية الروحية، فانظر إليهم وأنهم نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها، واصرف هذه النعمة فيما يريد الله أن تصرف، فلا يحملنك أولادك على أن تعصي الله عز وجل وتفسق عن أمره من أجل إكرامهم أو من أجل الإنعام عليهم، فاتق الله فيهم.

هناك أيضاً فتنة الكفار، إذ حذرنا تعالى من ذلك، حذرنا من أن يفتننا الكفار، والخروج من فتنتهم معاشر المستمعين! بالاعتراف بأنهم (شر البرية) ومن ثم فلا نقتدي بهم ولا نتأسى بحالهم ولا نقلدهم في مجالات حياتهم، فنعصم أنفسنا من شرهم وأذاهم بلياذنا بما شرع الله لنا من هذه القوانين التي تحفظ قلوبنا، وتحفظ أبداننا وأموالنا.

ومما يتقى به الذين كفروا إذ هم يفتنوننا: أن نعد العدة لهم، وأن نتسلح من أجلهم، وأن نكون دائماً أقوياء قادرين على ضربهم وعلى طردهم، إن هموا أو أرادوا أن يغزونا أو يقاتلونا، ولكن من مظاهر الفتنة اليوم: هي الاقتداء بهم والتحلي بهم بتلك الزخارف الباطلة في زيهم ولباسهم وسلوكهم، فإن ذلك من فتنتهم، فقد ساقوا إلينا بلا حساب من أنواع الفتن، وانخدعنا، وجرينا وراء تلك الفتن، حتى كادت تقضي على طهرنا وصفائنا، المباينة والمفاصلة هي وقاية الفتنة من الكافرين، أما أن نجعلهم قدوة نقتدي بهم حتى في تناول الطعام والشراب، فذلك هو عين الافتتان بهم والعياذ بالله تعالى، هذه مقدمة لكلماتنا.

والآن معاشر الأبناء! مع هذا النداء الإلهي، جاء من سورة الأنفال قول ربنا تعالى بعد:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:24-25].

هذه الآية معاشر الأبناء هيا بنا نجلي حقائقها، ونظهر مكنونها، وننظر هل نحن من أهلها، أو ممن هم بعيدون عنها.

الاستجابة لله والرسول علامة الإيمان

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:24] لبيك اللهم لبيك، نادانا بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمنين أحياء، يسمعون النداء ويمتثلون الأمر ويجتنبون النهي لكامل حياتهم؛ لأن الإيمان روح، ولا حياة بدون روح، هذا سر نداء الله تعالى للمؤمنين بعنوان الإيمان في سبعين آية من كتاب الرحمن؛ لأن المؤمن حي، والكافر ميت، فهل الكافر تناديه فيسمع ويجيب؟

الجواب: لا، ومن أدلة ذلك: أن أهل الذمة تحت راية لا إله إلا الله لا يكلفون بصيام ولا صلاة، ولا يدعون إلى جهاد ولا إلى قتال؛ لأنهم أموات، فإذا نفخنا فيهم روح الإيمان وحيوا عندها مُر وانْهَ، فإنهم أهل لأن يمتثلوا ولأن يفعلوا ويتركوا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ [الأنفال:24]، فإن استجبنا لنداء الله، فإن كان معتقداً عقدناه، وإن كان أمراً فعلنا ما أمرنا به، وإن كان نهياً تخلينا وابتعدنا عما نهانا عنه، اتقينا الفتن ظاهراً وباطناً، ومعنى هذا: أن الفتن تتقى بطاعة الله ورسوله، فالفتن المدمرة المحرقة الممزقة الخاضعة لكمال الناس كلها تدفع ويتم الخروج منها بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن أهملت طاعة الله وطاعة رسوله فوالله لا سبيل إلى الخروج من الفتن، ولا طريق أبداً للخلاص منها، وكونوا على علم؛ لأن طاعة الله وطاعة الرسول هي بالأمر والنهي، فإذا فعلنا الأوامر التي أمر الله بها ورسوله بلغنا نهاية الكمال، في آدابنا، في معارفنا، في أرواحنا، في قوانا، في كل حياتنا، إذ ما أمر الله بأمر ولا أمر رسوله بأمر إلا من أجل إكمال المؤمن وإسعاده، وإذا أطعنا الله ورسوله فيما نهانا عنه وتجنبنا المنهي اعتقاداً أو قولاً أو عملاً، معناه: أبقينا على صحتنا، أبقينا على قدراتنا، على كمالنا في حياتنا، وحينئذ من أين تأتي الفتن؟ الفتن تأتي من مخالفة أمر الله وأمر رسوله.

حياة الإيمان وأسبابه

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، سبق أن قلت للأبناء: إن الإيمان روح ولا حياة بدون روح، إذا دعانا رسول الله لما يحيينا بالإيمان وبما يوفر الإيمان، وبما يزيد في طاقات الإيمان يجب أن نسارع ونبادر بالعمل استجابة لله، فإن تلكأنا.. أو ترددنا .. أو وقفنا، معنى ذلك فتحنا أبواب كل فتنة علينا، وما المخرج وكيف الخروج؟ ومن ألقى نظرة إلى العالم الإسلامي، من يوم أن تمزق وتشتت عرف أن ذلك نتيجة عدم الاستجابة لله وللرسول، أيما مؤمن يتقي الفتن في بيته.. في نفسه، فيما حوله، يتقي تلك الفتن بالاستجابة لله وللرسول على شرط أن يعرف نداءات الله، ونداءات رسوله، أي: يعرف الأوامر والنواهي، أما الجاهل فأنى له ذلك، فلابد من العلم، أي: معرفة ما أمر الله تعالى به، ومعرفة ما نهى الله تعالى عنه، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، والله تعالى ما دعانا ليأمرنا أو لينهانا أو ليرشدنا أو يوجهنا أو ليبشرنا أو لينذرنا إلا من أجل إكمال حياتنا، وما حيي سلف هذه الأمة في القرون الذهبية الثلاثة إلا باستجابتهم الصادقة الحقة لله وللرسول في كل ما دعاهما إليه.

الحيلولة بين المرء وقلبه علامة الخسران

وهنا يقول تعالى: وَاعْلَمُوا والعلم ينفع أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]، ومعنى هذا: يا بني لا تتباطأ، إذا بلغك نداء الله يحمل أمره إليك أو نهيه لا تتأخر، إياك أن تتأخر، إياك أن تعد، إياك أن تدفع هذا الأمر إلى وقت ما؛ لأن الفرصة ضيقة جد ضيقة، فكم من إنسان رفض أمر الله فضرب على قلبه، فما أصبح يؤمن بالله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]، متى كنت قادراً على الإجابة أجب فعلاً أو تركاً، ولا تتأخر ولا تمهل ولا تهمل، فإنك لا تدري كيف يحال بينك وبين ما دعيت إليه، فتصبح تكره أمر الله وأمر رسوله.

وكم هلكى هذا، وكم صرعى هذا، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]، قلوبنا يقلبها الله كيف شاء، ( القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء )، إذاً: فتأجيل الطاعة وتأخير الإنابة والإجابة هذا من أعظم أنواع الخطر.

فلهذا شأننا شأن الجندي، إذا قيل له: قف وقف، سر سار، هل أفعل أو لا؟ أجيب النداء أو لا أجيب؟ آتي اليوم أو آتي غداً؟ هذا مما لا ينبغي أن يكون؛ لأن الله عز وجل له سنن في خلقه، كم وكم من إنسان أعرض فحيل بينه وبين الإسلام أبداً.

وكم من إنسان نودي فتراخى وتباطأ وسوّف، فما رجع بعد، وحال الله بينه وبين قلبه، ومعنى هذا: أن المؤمنين بحق كالجندي لله تعالى، لا تقل: لِم أبداً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وأخرى: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].

لا تقولوا: دعنا نتخبط في دنيانا، دعنا نتهاوى ونسقط، ما الذي يحدث، نتحمل المجاعة، ونتحمل العذاب، ونتحمل الشقاء، هذه هي الدنيا، هذا لا يقال؛ لأن حشرنا وجمعنا في صعيد واحد، وفي ساحة واحدة للسؤال والجواب والجزاء، أمر لابد منه وحتمي؛ فلهذا لا معنى للإهمال وعدم المبالاة، لو كنا نهمل ونترك ولا عودة ولا وقفة بين يدي الله، ولا ينصب ميزان ولا تلوح جنة ولا نار، يقول الشجعان: دعنا في كل شقاء وبلاء، ولا نذل ولا نخضع لأمر فلان أو فلان، لكن: أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].

رغم أنوفنا نحشر، لا باختيارنا ولا برضانا.

الفتنة العامة والخاصة

وأخيراً معاشر الأبناء! قوله: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، هذه وقفة نقفها معاشر الأبناء، اعلموا أن الفتن قد أحاطت بنا، وأصبحنا في وسطها؛ لأن راية: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ما رفعت إلا في ديارنا، وهي تحمل معنى إسقاط وإحباط وإبطال كل الآلهة، فلا يعبد إلا الله، وتحمل معنى كالأول في جلالته وكماله أن لا يتابع إلا محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واسمحوا لي أن أفيض بعض الإفاضة لتفهموا ما أقول لكم: اعلموا أننا في ديارنا هذه محسودون من قبل اليهود والنصارى والكافرين والمشركين والفسقة والمجرمين في العالم ولا حرج أبداً ولا ضير، هذه طبيعة البشر، يحسدون من كان خيراً منهم، يحسدون من كان أسمى وأعلى منهم.

فنظراً لهذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها علينا حُسدنا، وأبوا إلا أن يواصلوا مكرهم وكيدهم من أجل سلبنا هذه النعمة التي آثرنا الله بها وهي نعمة التوحيد.. نعمة الأمن.. نعمة الرخاء.. نعمة الطهر والصفاء.

إذاً: لِم لا ترفع هذه الراية إلا في هذا البلد؟ لِم لا يقام حد على زانٍ أو قاتل أو قاذف إلا في هذا البلد؟ لِم لا تقام الصلاة إلا في هذا البلد؟ لِم لا تجبى الزكاة إلا في هذا البلد؟ لِم تبقَ المرأة عندنا مستترة متحجبة وراء سترها وستارها؟ لِم ما تباع المحرمات ويعلن عنها في الأسواق والمدن والقرى لِم.. لِم هذا الزي، لِم هذا الثوب وهذه العمامة؟ هذه كلها مثيرات الحسد وموهباته، ونحن الآن كما قال طارق بن زياد : (كاليتامى في مأدبة اللئام، البحر وراءنا والعدو أمامنا).

إذاً: فهم يعملون الليل والنهار بكل ما أوتوا من طاقة على أن لا يبقى هذا النور، بمعنى: أن تعطل حدود الله كما عطلت في العالم بكامله، أن لا تقام صلاة، من شاء أن يصلي، ومن شاء أن لا يصلي، أن لا تجبى زكاة، ولا يزكي فيها مؤمن ولا مؤمنة في الحياة، أن لا تبقى امرأة متحجبة تمثل عهد الصحابيات الجليلات، لِم يبقى هذا النوع من التشدد والتزمت؟ لابد وأن تصبح هذه البلاد -كغيرها- لمجالات الشر والباطل والفساد، فهم يعملون، فنحن في فتنة.

إذاً: كيف الخروج منها؟ أستعجل فأقول: ما قيمة الحياة إذا أصبح نساؤنا وبناتنا وفتياتنا يتسابقن إلى الوظيفة، قبل أن تخرج من بيتها تقف ساعة أمام المرآة تصلح شعرها وتحسن ثيابها ليقبلها سعادة المدير! سكرتيرة أو كاتبة، لتقبل في فندق تستقبل النزلاء بالوجه الباسم!

معاشر الأبناء! كيف نخرج من فتنة أرادوها لنا، وهم يعملون الليل والنهار حتى لا يبقى ما يشار إليه بالبنان، وأكثرنا -وأنا آسف أن أقول ذلك- غافل أو لاهٍ أو معرض، إذ لو عرفنا ما عرفنا الآن، لارتفعت أصوات البكاء إلى عنان السماء.

أرأيتم لو تتحول هذه النعمة إلى نقمة، ويعمنا البلاء والفتنة، كيف يكون حالنا، إلى من نفزع، إلى من نلجأ، وهم يستعجلونها ويريدون أن تتم حسب مرادهم، والله لولا كثرة الصالحين والصالحات لنزل البلاء، وقد ذكرتم وعرفتم الحملة الأخيرة التي دبرها محافل الماسونية وجمعيات التنصير، تلك لا تنسى أبداً، وقام بتنفيذها العرب أهل الرسالة وأصحاب التركة الإسلامية، هم الذين قاموا بتنفيذها، العرب أهل الرسالة، وأصحاب التركة الإسلامية، ولولا أن الله تعالى ردهم وأوقفهم في مكانهم لما اجتمعتم هذه الليلة على مثل هذه الكلمات الربانية، لأن القضية ليست قضية ديكور ولا مال، بل قضية: لا إله إلا الله لابد أن تمزق حتى لا يبقى للإسلام ذكر، فدفع الله تلك المحنة بما شاء؛ لوجود صالحين وصالحات، مؤمنين ومؤمنات، عرفوا هذا ولم نعرف نحن هذا، فلهذا هم يعملون على تكثير الفاسقين والفاسقات، ويريدون الإكثار من أهل الفسق والخلاعة والمجون، فضلاً عن الإلحاد والكفر والعياذ بالله، إذ ذاك السلاح القوي الذي أمكنهم أن يدمروا به العالم الإسلامي، إننا على أبواب الفتنة العظمى، فكيف الخروج منها؟

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:24] لبيك اللهم لبيك، نادانا بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمنين أحياء، يسمعون النداء ويمتثلون الأمر ويجتنبون النهي لكامل حياتهم؛ لأن الإيمان روح، ولا حياة بدون روح، هذا سر نداء الله تعالى للمؤمنين بعنوان الإيمان في سبعين آية من كتاب الرحمن؛ لأن المؤمن حي، والكافر ميت، فهل الكافر تناديه فيسمع ويجيب؟

الجواب: لا، ومن أدلة ذلك: أن أهل الذمة تحت راية لا إله إلا الله لا يكلفون بصيام ولا صلاة، ولا يدعون إلى جهاد ولا إلى قتال؛ لأنهم أموات، فإذا نفخنا فيهم روح الإيمان وحيوا عندها مُر وانْهَ، فإنهم أهل لأن يمتثلوا ولأن يفعلوا ويتركوا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ [الأنفال:24]، فإن استجبنا لنداء الله، فإن كان معتقداً عقدناه، وإن كان أمراً فعلنا ما أمرنا به، وإن كان نهياً تخلينا وابتعدنا عما نهانا عنه، اتقينا الفتن ظاهراً وباطناً، ومعنى هذا: أن الفتن تتقى بطاعة الله ورسوله، فالفتن المدمرة المحرقة الممزقة الخاضعة لكمال الناس كلها تدفع ويتم الخروج منها بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن أهملت طاعة الله وطاعة رسوله فوالله لا سبيل إلى الخروج من الفتن، ولا طريق أبداً للخلاص منها، وكونوا على علم؛ لأن طاعة الله وطاعة الرسول هي بالأمر والنهي، فإذا فعلنا الأوامر التي أمر الله بها ورسوله بلغنا نهاية الكمال، في آدابنا، في معارفنا، في أرواحنا، في قوانا، في كل حياتنا، إذ ما أمر الله بأمر ولا أمر رسوله بأمر إلا من أجل إكمال المؤمن وإسعاده، وإذا أطعنا الله ورسوله فيما نهانا عنه وتجنبنا المنهي اعتقاداً أو قولاً أو عملاً، معناه: أبقينا على صحتنا، أبقينا على قدراتنا، على كمالنا في حياتنا، وحينئذ من أين تأتي الفتن؟ الفتن تأتي من مخالفة أمر الله وأمر رسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، سبق أن قلت للأبناء: إن الإيمان روح ولا حياة بدون روح، إذا دعانا رسول الله لما يحيينا بالإيمان وبما يوفر الإيمان، وبما يزيد في طاقات الإيمان يجب أن نسارع ونبادر بالعمل استجابة لله، فإن تلكأنا.. أو ترددنا .. أو وقفنا، معنى ذلك فتحنا أبواب كل فتنة علينا، وما المخرج وكيف الخروج؟ ومن ألقى نظرة إلى العالم الإسلامي، من يوم أن تمزق وتشتت عرف أن ذلك نتيجة عدم الاستجابة لله وللرسول، أيما مؤمن يتقي الفتن في بيته.. في نفسه، فيما حوله، يتقي تلك الفتن بالاستجابة لله وللرسول على شرط أن يعرف نداءات الله، ونداءات رسوله، أي: يعرف الأوامر والنواهي، أما الجاهل فأنى له ذلك، فلابد من العلم، أي: معرفة ما أمر الله تعالى به، ومعرفة ما نهى الله تعالى عنه، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، والله تعالى ما دعانا ليأمرنا أو لينهانا أو ليرشدنا أو يوجهنا أو ليبشرنا أو لينذرنا إلا من أجل إكمال حياتنا، وما حيي سلف هذه الأمة في القرون الذهبية الثلاثة إلا باستجابتهم الصادقة الحقة لله وللرسول في كل ما دعاهما إليه.

وهنا يقول تعالى: وَاعْلَمُوا والعلم ينفع أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]، ومعنى هذا: يا بني لا تتباطأ، إذا بلغك نداء الله يحمل أمره إليك أو نهيه لا تتأخر، إياك أن تتأخر، إياك أن تعد، إياك أن تدفع هذا الأمر إلى وقت ما؛ لأن الفرصة ضيقة جد ضيقة، فكم من إنسان رفض أمر الله فضرب على قلبه، فما أصبح يؤمن بالله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]، متى كنت قادراً على الإجابة أجب فعلاً أو تركاً، ولا تتأخر ولا تمهل ولا تهمل، فإنك لا تدري كيف يحال بينك وبين ما دعيت إليه، فتصبح تكره أمر الله وأمر رسوله.

وكم هلكى هذا، وكم صرعى هذا، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]، قلوبنا يقلبها الله كيف شاء، ( القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء )، إذاً: فتأجيل الطاعة وتأخير الإنابة والإجابة هذا من أعظم أنواع الخطر.

فلهذا شأننا شأن الجندي، إذا قيل له: قف وقف، سر سار، هل أفعل أو لا؟ أجيب النداء أو لا أجيب؟ آتي اليوم أو آتي غداً؟ هذا مما لا ينبغي أن يكون؛ لأن الله عز وجل له سنن في خلقه، كم وكم من إنسان أعرض فحيل بينه وبين الإسلام أبداً.

وكم من إنسان نودي فتراخى وتباطأ وسوّف، فما رجع بعد، وحال الله بينه وبين قلبه، ومعنى هذا: أن المؤمنين بحق كالجندي لله تعالى، لا تقل: لِم أبداً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وأخرى: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].

لا تقولوا: دعنا نتخبط في دنيانا، دعنا نتهاوى ونسقط، ما الذي يحدث، نتحمل المجاعة، ونتحمل العذاب، ونتحمل الشقاء، هذه هي الدنيا، هذا لا يقال؛ لأن حشرنا وجمعنا في صعيد واحد، وفي ساحة واحدة للسؤال والجواب والجزاء، أمر لابد منه وحتمي؛ فلهذا لا معنى للإهمال وعدم المبالاة، لو كنا نهمل ونترك ولا عودة ولا وقفة بين يدي الله، ولا ينصب ميزان ولا تلوح جنة ولا نار، يقول الشجعان: دعنا في كل شقاء وبلاء، ولا نذل ولا نخضع لأمر فلان أو فلان، لكن: أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].

رغم أنوفنا نحشر، لا باختيارنا ولا برضانا.