مقدمة في الفقه - المكفرات من المخالفات [3]


الحلقة مفرغة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس أحوال الإنسان عندما يخالف شرع الرحمن، وقلت: له ثلاثة أحوال: حالة يعذر فيها، وحالة يوزر ويأثم فيها، وحالة يرتد ويكفر فيها.

أما الحالة الأولى التي يعذر الإنسان فيها عند وقوعه في مخالفة شرعية، فلها ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يتأول فيما فيه مجال للتأويل، وهو من أهل التأويل، والحالة الثانية: أن يجهل حكم الله الجليل من غير إعراض ولا تقصير، كما تقدم معنا تقرير هذا وبيانه، والحالة الثالثة: أن يُكره ويقسر على معصية الله عز وجل، ففي هذه الحالات الثلاث هو معذور عند رب الأرض والسموات.

الحالة الثانية التي يأثم فيها الإنسان، ويرتكب وزراً دون أن يصل إلى الكفر والردة نسأل الله العافية: أولها: أن يتأول في غير مجال التأويل أو هو ليس من أهل التأويل، ثانيها: أن يجهل حكم الله ويقع في مخالفة بناء على جهله، لكنه أعرض وقصر، أعرض عن العلم وقصر في طلبه، الحالة الثالثة: أن يتعمد المعصية دون استحلال لها.

الحالة الثالثة للإنسان: إذا وقع في مخالفة يكون كافراً مرتداً، وذكرنا أن لذلك ست حالات، تدارسنا أربعة منها، ولعلنا ننتهي إن شاء الله من بقية هذه الأمور لنشرع في المواعظ الآتية في ترجمة ساداتنا أئمتنا أصحاب المذاهب الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين.

إخوتي الكرام! تدارسنا أربع حالات من الحالة الثالثة للإنسان عندما يقع في معصية الرحمن ويكفر إذا وقع في تلك المعصية:

الحالة الأولى: ألا يرى أن شرع الله جل وعلا حق وصواب، فعل التباب وقال: إن شرع الله ليس بحق ولا صواب.

الحالة الثانية: أن يرى أنه حق وصواب، وفيه خير ورشاد، لكنه يقول: شرع العباد في هذه الأوقات أنفع، ويحصل مصلحة لنا، فقد كفر بذلك.

الحالة الثالثة: أن يقول: إن شرع الله فيه خير ونفع، وشرع العباد لا يفضل عليه لكنه يساويه، فشرع العبيد يساوي شرع الله المجيد، ولك أن تأخذ بأيهما تريد، فهذا أيضاً كفر وردة.

الحالة الرابعة أن يقول: إن شرع الله خير وهدى ونفع وبركة، لكن يجوز أن نأخذ بالقوانين الوضيعة الوضعية في بعض الحالات تحقيقاً لمصلحة دنيوية، مع جزمنا واعتقادنا أن القوانين الوضيعة الوضعية دون شريعة رب البرية، فهذا أيضاً كافر عندما استباح وأجاز الخروج عن شرع الله جل وعلا، هذه الأحوال تقدم معنا مدارستها، وسرد أمثلة عليها.

الحالة الخامسة التي يكفر فيها الإنسان عندما يقع في مخالفة لشرع ذي الجلال والإكرام: أن يستخف ويعاند، ويستهزئ ويعارض، إذا صدر منه هذا فمعصيته كفر.

إبليس أول من استخف واستهزأ وعارض

وأول من فعل هذه المعصية إبليس عليه لعائن ربنا العزيز، فقد أمر الله جل وعلا بالسجود لأبينا آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فامتنع، ثم بعد ذلك استخف بأمر الله وعاند وعارض واستهزأ، فالله جل وعلا عندما أمره أن يسجد قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].

وهذه هي السفاهة بعينها، فأنت توقن بأن الله جل وعلا ربك، وهو الذي خلقك، فكيف تعترض عليه؟ وكيف تعاند؟ وكيف تعارض؟ فكأنك تقول: أنا أعلم منك وأنت علمتني، وأنا أحكم منك وأنت الحكيم العليم، وهذا كما قلت: ضلال مبين، وهذه سفاهة وشطط، وأول من سلك هذا المسلك مسلك المعاندة والمعارضة هو إبليس عليه لعائن ربنا العزيز.

ثم زاد أيضاً في الاستهزاء والاستخفاف والمعارضة لله وبالله جل وعلا فقال له: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، وقال هذا في معرض إغضاب الله، وأنه سيؤثر على الله، وأنه سيغيظ الله عندما سيغوي عباده، واللعين يعلم أن الله لا ينتفع بطاعات العباد، ولا يتضرر بمعاصيهم، ولو أن الخلق كلهم من أولهم لآخرهم كفروا بالله لما تضرر رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو -كما قلت- ساق هذا الكلام مساق إغضاب الرحمن، كأنه سيغيظه بذلك سبحانه وتعالى.

أمر ثان: هو يعلم أيضاً أن من حفظه الله ليس له سلطان عليه، ولذلك عاد إليه بعد ذلك شيء من الرشد، فقال: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40]، فالله جل وعلا لا يتضرر بمعصية العاصي، ومن قدر حفظه فليس للشيطان سلطان عليه، انظر لهذه الظلمات، وهذه التناقضات، وهذه الاعتراضات على رب الأرض والسموات، هذا أول من سلكه إبليس.

بيان فساد قياس إبليس في قوله: (أنا خير منه ..)

وأما قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، فقد تقدم معنا فساد هذه المقولة ضمن مواعظ الحديث الشريف، وقلت: هذا كلام باطل لأمور عديدة:

أولها: أن هذا قياس عارض النص فهو فاسد الاعتبار لا ينظر في مضمونه، وأول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، قياس فاسد الاعتبار، والقياس إذا صادم النص وعارضه لا ينظر في مضمونه، فالله عليم حكيم، أحاط بكل شيء علماً، فشرعه لا يعارض، ومن عارضه فهو صاحب الفساد والعناد، فالقياس إذا صادم النص فهو قياس فاسد، لا ينظر فيه ولا يعول عليه.

الأمر الثاني: لو ناقشنا هذه المقولة وبحثنا في محتواها، فهي فاسدة حقيقة عدا عن معارضتها للنص، فمن رجح النار على الطين؟ ومن زعم أن جوهر النار أفضل من جوهر الطين في الحقيقة؟ من زعم هذا فهو واهم، إن جوهر الطين أفضل من جوهر النار، فالنار طبيعتها الطياشة والتفريق، والبعثرة والإحراق، والطين طبيعته الرزانة والهدوء، وإن أردت أن تعرف آثار الطين وفوائده وثماره فانظر إلى الجنات والبساتين، تضع في الطين حبة فيخرج لك بعد ذلك ثمار وأشجار، فمعدن الطين وجوهر الطين أنفع من جوهر النار.

وإذا سلمنا تنزلا أن جوهر النار أفضل من جوهر الطين، فهل يلزم أن كل مخلوق من ذلك الجوهر -أعني من النار- أفضل من كل مخلوق من ذلك الجوهر -أعني من الطين-؟ لا ثم لا. وقد قيل:

إذا افتخرت بآباء لهم نسب قلنا صدقت ولكن بأس ما ولدوا

فهب أن جوهر النار أفضل من جوهر الطين، هل يلزم أن كل مخلوق من النار أفضل من كل مخلوق من الطين؟ لا يلزم، وعليه كما قلت: فهو قياس فاسد باطل، سلك مسلك المعارضة، والمعاندة، وهو أول من عارض، ومع أنه منظر إلى يوم القيامة فهو كما قال أئمتنا أول من مات، أول من مات من الخليقة إبليس؛ لأن من عصى الله فهو ميت، ومن أطاعه فهو الحي: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، فأول من مات إبليس؛ لأنه عصى الله العزيز، وأي معصية؟ معصية العناد، معصية المعارضة، معصية المشاقة والمحادة، وهذا هو الضلال المبين.

ابن الراوندي واستخفافه بدين الله تعالى

إذاً: أول من سلك هذا المسلك إبليس، وله خلفاء من الإنس وهم أبالسة الإنس، منهم اللعين الملعون الملحد عدو الدين أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي الزنديق الشهير.

قال الحافظ ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في لسان الميزان، في الجزء الأول صفحة ثلاث وعشرين وثلاثمائة: أجاد الشيخ -يعني الإمام الذهبي - في حذفه من الكتاب. أي أنه ما ترجم له الإمام الذهبي في الميزان، واللسان وُضع على الميزان ليبين وضع التراجم التي تعرض لها الإمام الذهبي في ميزانه، ويوافق أحياناً وأحياناً يخالف، أحياناً يضيف على ما ذكره الإمام الذهبي زيادة تقرير في لسان الميزان، قال: أجاد الشيخ في حذفه -أي من ميزانه- وإنما أوردته لألعنه. هذا الحافظ ابن حجر يقول: وإنما أوردته لألعنه، توفي إلى لعنة الله سنة ثمان وتسعين ومائتين من هجرة نبينا الأمين، عليه صلوات الله وسلامه.

وتقدم معنا أصحاب الورع البارد في هذه الأيام، الذين يتورعون عن لعن الكفار الأحياء والأموات، يقول: الكافر المعين لا تلعنه! ثم يدخلون أنفسهم بين الله وبين عباده في الاطلاع على أسرار الناس، فيقولون: هذا مخلص، وهذا ليس بمخلص، سبحان الله! وصل ورعك البارد أن تتورع عن لعن الكافر حياً أو ميتاً، ثم بعد ذلك تحكم على المؤمنين! من الذي أطلعك؟!

في المكان الذي يجب عليك أن تكف لسانك ما كففت لسانك، عن أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي المكان الذي إذا أطلقت لسانك تثاب عند ربك، كففت اللسان، لكن هذه أحوال خوارج هذا الزمان، سَلِمَ منهم عبَّاد الصلبان وما سلم منهم أهل الإيمان.

وقد تقدم معنا إخوتي الكرام: أن المعتمد أن كل من استوجب ما يستحق عليه اللعن فإنه يلعن، مهما كان حاله، سواء من عصاة المؤمنين أو من الكافرين، وهذا الذي تدل عليه أحاديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، وقال عنه شيخ الإسلام الإمام النووي: هو الظاهر، وتقدم معنا الكلام في هذه المسألة، والحافظ ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا علل من منع من لعن المعين فقال: من منع أراد به الإبعاد من رحمة الله، وأنه لا يناله شيء من رحمة الله، فهذا تعليل من منع، وأما من أجاز -وظواهر النصوص تدل على ذلك، وتقدم معنا أن شيخ الإسلام البلقيني شيخ الحافظ ابن حجر وغيره قرروا الجواز- قال: أراد السب والتعيير والتحقير، دون أن يمنع عنه رحمة الله الجليل.

وقلت: هذا الذي تدل عليه أحاديث نبينا البشير النذير عليه صلوات الله وسلامه، وقلت: وهو المأثور عن سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

ابن الراوندي من جملة من يستهزئ بالله ويستخف، ويعاند ويعارض، قال الإمام الذهبي في السير، في الجزء الرابع عشر صفحة تسع وخمسين في ترجمته: هو الملحد عدو الدين، صاحب التصانيف في الحط على الملة -ألف تصانيف لكن ليطعن فيها بالإسلام- صاحب التصانيف في الحط على الملة، وهذا خبيث وأبوه أخبث، أبوه تهود، فكان اليهود يقولون للمسلمين عندما أسلم أحمد بن يحيى بن إسحاق بن الراوندي : إياكم أن يفسد هذا عليكم دينكم، كما أفسد أبوه علينا التوراة، هؤلاء زنادقة أبوه دخل في اليهودية وأفسد، والابن دخل في الإسلام ويريد الإسلام فاحذروه، إياكم أن يفسد عليكم دينكم كما أفسد أبوه علينا التوراة.

وحقيقة خرج الابن أخبث من الأب، وهذا كحال الأب الذي كان ينبش القبور ويسرق الأكفان، وكان الناس يستعيذون بالله منه ويدعون عليه بأن يخلص الله الناس من شره، فلما مات الأب جاء الابن وكان إذا دفن ميت ينبش قبره ويأخذ كفنه ويلوط به، يفعل به الفاحشة، فقالوا: ليته عاد النباش الأول، الأب أخف وزراً وضلالاً من الابن.

وهذا أحمد بن يحيى الراوندي ذكره الحافظ ابن حجر ليلعنه، واليهود يقولون: احترسوا من هذا الولد الخبيث، فأبوه كان خبيثاً، أفسد علينا التوراة وهذا سيفسد عليكم الإسلام.

ثم ختم الإمام الذهبي ترجمته في السير بعد أن قال إنه كان من أذكياء العالم المعدودين: لعن الله الذكاء بلا إيمان، ورضي الله عن البلادة مع التقوى.

وسيأتينا في ترجمة خليفة إبليس الثاني أنه كان ذكياً ولم يك زكياً، وهذا من أذكياء العالم، لكنه ذكاء كالقرود، استعمل ذكاءه في الاعتراض على ربنا المعبود سبحانه وتعالى.

وقال الإمام ابن الجوزي في المنتظم، في الجزء السادس صفحة تسع وتسعين إلى صفحة خمس ومائة: إنما ذكرته ليعرف قدر كفره -أي ابن الراوندي - فإنه معتمد الملاحدة الزنادقة ثم ذكر من كفره أشياء كثيرة منها:

قال: كان يقول: إن أنبياء الله -يعني بدءاً من نبينا وانتهاء بأبينا آدم على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه- يقول: كلهم بدرجة الكهان، لكن ادعوا أنهم أنبياء ورسل ذي الجلال والإكرام، هؤلاء كهان لهم شيء من الاطلاع على الغيب، فخدعوا الناس، فالناس استجابوا لهم بذلك، هذا هو الفساد وهذا هو الضلال، ويمكن أن ينقض كما قال أئمتنا بشيء يسير، فيقال: الكاهن عندما يتكهن يتكهن عندما ينظر في الإنسان، وبعد أن ينظر في شيء من المقدمات، ويعرف شيئاً من أحوال الإنسان، ثم بناءً على هذا يقول شيئاً مما يزعم أنه من علم الغيب في إنسان ما، أما أن يأتي نبي على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه ويخبر بما كان، وبما سيكون، ويأتي بعد ذلك بشريعة يعجز عنها البشر، فهذا ليس من عمل الكهانة ولا من عمل السحرة.

وقال هذا الخبيث أيضاً: الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، ثم هو أخبرنا في كتابه بما ينقض هذا، وألف كتابه الدامغ على زعمه يدمغ شريعة الله المطهرة، ويرد على القرآن، وهو صاحب الهذيان، يقول: هنا الله يصف نفسه بأنه يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية، وفي آيات أخرى قال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وقال: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12]، وقال: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]، وقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143]، فقال: هذه الآيات تدل على أنه ما كان يعلم هذه الأشياء، وإنما فعل ليظهر له الأمر وليعلم ما لم يكن يعلمه، وهذا من انطماس بصيرته، وفساد عقله، وعدم علمه بمراد ربه من كلامه، فإن قوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ [محمد:31]، معناه: علم ظهور ومشاهدة بعد أن علمناه علم تقدير، علمه ربنا جل وعلا في الأزل، لكنه سيظهر بعد ذلك إلى الواقع المشهود، وكذلك قوله: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3] علم ظهور ومشاهدة بعد أن علمه علم تقدير سبحانه وتعالى، وعلم الظهور والمشاهدة لن يختلف عن علم التقدير، وليس في ذلك طروء علم على الله جل وعلا لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى.

وقال أيضاً: الله يقول في كتابه: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83] قال: والكفار أكثر من المسلمين الأبرار. وهذا أيضاً من فساد عقله وانتكاس بصيرته، فإن قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ بمعنى: استسلم وانقاد، وليس المراد من الإسلام هنا الإيمان بالرحمن، إنما انقاد لله طوعاً وكرهاً رغم أنفه، ولا يستطيع أن يخرج مخلوق عن إرادة ربه سبحانه وتعالى، فالإنسان جاء إلى هذه الحياة من غير اختياره، وسيخرج منها من غير اختياره، وجُعل فيها بصفة وشكل على غير اختياره، ويجري فيه أمر الله ولا يستطيع أن يغيره، وله مشيئة لكنها مرتبطة بمشيئة ربه، وينتهي سعي العباد وسعي المخلوقات من العرش إلى الفرش إلى قول رب الأرض والسموات: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30]، ( ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ).

إذاً: قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ أي: استسلم وانقاد، وكل مخلوق ذليل صاغر لرب العباد، وواقع الأمر كذلك: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

قال الإمام ابن الجوزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: ما سمعنا أحداً عاب الخالق وانبسط كانبساط هذا اللعين، ثم بعد أن ذكر نماذج من كفره قال: وكفره زاد على كفر إبليس، جمع الله بينهما وزاد هذا من العذاب على إبليس، وهو ابن الراوندي الخبيث.

أبو العلاء المعري واستهزاؤه بالدين

وخليفة إبليس الثاني، الذي كان يعترض على الله جل وعلا، ويسلك هذه المعصية المكفرة وهي الاستهزاء والمعارضة، والاستخفاف والمعاندة، هو المعري الذي يطلق عليه الإمام ابن الجوزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا عندما يذكره يقول: قال خليفة إبليس المعري ، وهو أحمد بن عبد الله بن سليمان ، توفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة للهجرة.

قال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث هذه السنة في ترجمته، في الجزء الثاني عشر صفحة أربع وسبعين: كان ذكياً ولم يك زكياً.

وقال الإمام الذهبي في السير، في الجزء الثامن عشر صفحة ثلاث وعشرين وترجمه إلى صفحة أربعين: بقي خمساً وأربعين سنة لا يأكل اللحم، تزهداً فلسفياً، وقال: وما على الرجل أنس زهاد المؤمنين، والله أعلم بما خُتم له، ثم قال: ويظهر لي أنه متحير ولم يجزم بنحلة. وكان هذا أيضاً يعارض شريعة الله، ويستخف بها ويعاند، وجعل شعره في معارضة شرع ربه سبحانه وتعالى، انظر مثلاً لزندقته وإلحاده وما قاله حول حد السرقة:

يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قُطعت في ربع دينار

تناقض ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار

يقول: اليد ديتها في شريعة الله المطهرة خمسمائة دينار ذهبي، وخمسمائة دينار عسجد من الذهب، هذه ديتها، فما بالها قطعت في ربع دينار؟ إذا سرق الإنسان بعد ذلك شيئاً قيمته ربع دينار تقطع يده، وديتها خمسمائة دينار، يقول: هذا هو التناقض أن نجعل دية اليد خمسمائة دينار ونقطعها بربع دينار.

تناقض ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار

يقول: هذه سفاهة وهذا تناقض في الشرع، يقول: نسكت ونعوذ بالله من النار فقط ولا نعترض. يا أعمى البصيرة! كما أعمى الله بصرك، وجمعت بين عمى البصر والبصيرة، الحكمة تقتضي أن تغلظ دية اليد من أجل ألا يتساهل الناس في قطع أطراف غيرهم وأعضاء غيرهم، والحكمة تقتضي أن يخفف نصاب القطع في السرقة من أجل صيانة الأموال، وحفظ أموال العباد، فهذا مقتضى الحكمة، ولو جعلنا دية اليد ربع دينار لتساهل الناس في قطع أيدي غيرهم، ولو جعلنا نصاب القطع خمسمائة دينار لسرق الناس أموالاً طائلة، خمسمائة دينار من الذهب، قدرها اثنان كيلو ونصف حتى تقطع يده، يعني: زيادة على المائة ألف، لو سرق مائة ألف فلا تقطع يده، هذا لو جعلت نصاب اليد خمسمائة دينار، وهذا فساد، فالناس سوف يتساهلون في أخذ أموال العباد، فالحكمة تقتضي أن نغلظ دية اليد، وأن يخفف نصاب القطع في السرقة.

ولذلك قال أئمتنا في الرد عليه وبيان فساد كلامه، كما قال القاضي عبد الوهاب المالكي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا:

صيانة العضو أغلاها وأرخصها صيانة المال فافهم حكمة الباري

وقال الإمام علم الدين السخاوي :

عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري

وقال الإمام ابن الجوزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت، فتقطع في هذا الشيء التافه الحقير.

هذا -إخوتي الكرام- مما قاله في معارضة شرع الله جل وعلا، والاعتراض عليه فيما يتعلق بحد السرقة.

وقال أيضاً، وهو من أخبث أقواله في معارضة ما أتى به رسل الله الكرام على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، يقول:

فلا تحسب مقال الرسل حقاً ولكن قول زور سطروه

وكان الناس في عيش رغيد فجاءوا بالمحال فكدروه

(في عيش رغيد): في نعمة وسعة وترف، فجاءوا بالمحال فكدروه.

وتقدم معنا إخوتي الكرام مراراً: أن أعظم نعم الله علينا أن أرسل رسله الكرام على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام، وأنزل علينا كتبه الحسان؛ ليخرجنا من الظلام إلى النور، وشرع الله لعقولنا كالشمس لأعيننا، ولو لم يتكرم علينا ربنا جل وعلا برسله الكرام على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه، لكان الناس أحط دركة من البهائم العجماوات.

ولذلك قال الإمام ابن كثير عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في البداية والنهاية، معارضاً كلام هذا الضال الخبيث، وانظروا البداية والنهاية في ترجمته التي ذكرتها في الجزء الثاني عشر، صفحة أربع وسبعين، قال: وقلت أنا معارضةً له:

فلا تحسب مقال الرسل زوراً ولكن قول حق بلغوه

وكان الناس في جهل عظيم فجاءوا بالبيان فأوضحوه

وقد ذكر الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في المدارج، في الجزء الثالث صفحة ست وأربعمائة، ذكر كلام الشيطان المعري خليفة إبليس، وعارضه أيضاً بكلام محكم نفيس فقال:

وكان الناس في لبس عظيم فجاءوا بالبيان فأظهروه

وكان الناس في جهل عظيم فجاءوا باليقين فأذهبوه

وكان الناس في كفر عظيم فجاءوا بالرشاد فأبطلوه

كانوا في لبس فزال عنهم اللبس والشك والظلمات، بالبيان الذي أظهره رسل الله الكرام، على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام، كانوا في جهل فجاء رسل الله الكرام باليقين فأذهبوا ذلك الجهل، كانوا في كفر عظيم فجاءوا بالرشاد فأبطلوا ذلك الكفر، وصار الناس على صراط الله المستقيم.

ويقول أبياتاً كثيرة في معارضة شريعة الله المطهرة، فمما يقول هذا الشيطان الغرور المغرور:

وما حجي لأحجار بيت كؤوس الخمر تشرب في ذراها

إذا رجع الحليم إلى حجاه تهاون بالشرائع وازدراها

وقال وهو من أخبث ما قاله أيضاً:

هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت

(هفت) أي: زلت وضلت، (الحنيفة): وهي الملة الإسلامية، يقول:

هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ويهود حارت والمجوس مضللة

يعني: المسلمون هفوا وانحرفوا، والنصارى ضالون، واليهود حيارى، والمجوس مضللون، إذن من المهتدون؟ الزنادقة الملحدون، هو وأمثاله، ثم قال:

رجلان أهل الأرض هذا عاقل لا دين فيه وهذا ديِّن لا عقل له

يعني هذا عاقل ليس عنده دين، وهذا ديِّن وليس له عقل.

هذا حال خليفة إبليس في اعتراضه على شرع الله العزيز، ومن استخف واستهزأ وعارض شرع الله عز وجل، فلا شك في كفره.

دخل مرة بعض الناس على المعري ولامه، وقال: الناس يتكلمون عليك، وأنت تقول هذا الكفر، قال: إنهم يحسدونني، قال يحسدونك على أي شيء وقد تركت لهم الدنيا والآخرة؟ أما الدنيا فأنت تركت لذاتها ومطالبها واعتزلت في صومعتك، وفي حجرتك، وفي ظلماتك، وأما الآخرة فليس لك فيها نصيب، فيحسدونك على أي شيء؟ قال: والآخرة أيضاً؟ قال: نعم، الآخرة خسرتها قبل الدنيا، فقال: أنا ما هجوت بشعري أحداً، ولو أردت أن أمدح وأتكسب لحصلت مالاً طائلاً، قال: نعم صدقت، ما هجوت أحداً من البشر، لكنك هجوت الله عز وجل ورسله الكرام على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام، ما هجوت أحداً من الناس لكن هجوت رب الناس، وما استحييت من ربك ولا وقفت عند حدك.

إذاً: هذه معصية استهزاء، معصية استخفاف، وأنا أعجب لهذه العقول الخبيثة التي هي في الأصل من صنع الله جل وعلا، كيف يعترض هذا المخلوق الضعيف على الخالق القوى الجليل سبحانه وتعالى، ومن أراد أن يزن حكمة الله بعقله كمن أراد أن يبحث عن ضياء الشمس بشمعة من صنعه، صنع شمعة يريد أن ينظر بها إلى الشمس، يقول: أن الشمس، أنا أبحث عنها بشمعة صنعتها!

يا عبد الله! طلع الصباح فأطفئ القنديل، ما تنفع شمعتك ولا قناديلك إذا أضاءت الشمس، وهنا هذا نور الله، وهذه هداية الله، ستزن كلام الله على حسب هوسك، وإذا بعد ذلك ما راق للفساد ذهنك ستعترض على ربك! هذا هو الضلال المبين، وأول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.

هذا -إخوتي الكرام- نموذج خامس، وحالة خامسة من الحالات التي يكفر فيها الإنسان ويخرج عن دين الرحمن.

نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً.. إنه سميع مجيب.

والحمد لله رب العالمين.