خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/122"> الشيخ عبد الرحيم الطحان . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/122?sub=8324"> سلسلة مقدمة في الفقه
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
مقدمة في الفقه - تقوية اليقين بأخبار الصالحين [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
إخوتي الكرام! الحكايات جند من جنود رب الأرض والسماوات، يثبت الله بها المؤمنين والمؤمنات، وهذا الكلام مذكور عن العبد الصالح الجنيد بن محمد القواريري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، كما نقل ذلك عنه أئمتنا كما في كتاب قواعد التصوف، صفحة تسع عشرة ومائة، قال: الحكايات جند من جنود الله يثبت الله بها من شاء من عباده، قال: وشاهد ذلك في كتاب الله عز وجل: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120]، فالحكايات جند من جنود رب الأرض والسماوات يثبت الله بها المؤمنين والمؤمنات.
ولذلك أَذِن لنا نبينا خير البريات عليه الصلاة والسلام بالحديث عن الأمم السابقة -كما قلت- لتقرير ما تقدم من أمر التوحيد والأحكام العملية؛ لتسري الفضائل في النفس البشرية من دون قصد وشعور من الإنسان.
ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري ، والحديث رواه الإمام الترمذي والدارمي في السنن، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد، وفي كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، كما رواه أيضاً في كتاب شرف الحديث، والحديث رواه أبو نعيم في الحلية، والطحاوي في مُشكِل الآثار، وهو صحيح صحيح، فهو في صحيح البخاري كما سمعتم من رواية سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، وهذا الحديث -إخوتي الكرام- رُوي عن عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، رُوي عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود ، ومسند الحميدي وصحيح ابن حبان ، وكتاب شرح مشكل الآثار للإمام الطحاوي ، وشرف ألقاب الحديث للإمام الخطيب البغدادي ، ورُوي من رواية سيدنا أبي سعيد الخدري في مسند الإمام أحمد ، ورُوي من رواية سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي ، وفي كتاب الزهد للإمام أحمد ، ورواه عبد بن حميد في مسنده والبزار في مسنده، وعليه فهو من رواية عبد الله بن عمرو، ومن رواية أبي هريرة ، وأبي سعيد ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين.
وهذه الجملة (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) تحتمل ستة أمور حسان أوردها أئمتنا الكرام، انظروها في الفتح في الجزء السادس صفحة ثمان وتسعين وأربعمائة:
أولها: لا حرج عليكم في التحديث عنهم فقد كان فيهم العجائب، ومن التحديث عنهم فوائد لتقرير ما تقدم من أمر توحيد الله عز وجل، والأحكام العملية.
(حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) أي: لا حرج عليكم في التحديث عنهم حسبما نُقل في كتبهم حتماً مما لا يدل شرعنا عل فساده وضلاله وزيغه وبطلانه وكذبه، هذا لا بد من وعيه، إنما أمر قرره شرعنا أو أشار إليه أو سكت عنه، ويدخل في دائرة الجائز الممكن الذي لا يُتصور عدمه واستحالته، فلا حرج إذاً من التحديث به، وإن لم يرد هذا عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
المعنى الثالث: عكس هذا المعنى: أي: ولا حرج عليكم في ألا تحدثوا، لأن الأمر وهو قوله: (حدثوا عن بني إسرائيل) قد يفهم منه الوجوب، ولذلك قال: (ولا حرج) أي: لا حرج عليكم في ترك التحديث، إنما الأمر مما هو جائز، فإن فعلتموه فلا حرج عليكم، وإن تركتموه فلا حرج عليكم، إن فعلتموه ففيه خير، وإن تركتموه ففي شريعتنا ما يغني عنه، ولا حرج عليكم في أن تحدثوا، ولا حرج عليكم في ألا تحدثوا؛ لأن الأمر قد يفهم منه الإلزام والحتم والوجوب، فقال: ولا حرج في ترك التحديث.
المعنى الثالث: المراد من الحرج هنا ليس ما يتعلق بموضوع الحرج في الدين، أنه يجب أو لا يجب، إنما المراد من الحرج ضيق الصدر، وعليه فلا تضق صدوركم، ولا تسترعد قلوبكم مما في تلك القصص من أعاجيب، فقد كان فيهم العجب، يعني: حدثوا عنهم ولا يحصل حرج في نفوسكم، أي: ضيق واستغراب، فقد كان فيهم العجائب، وهذا حقيقة واقعة، وقد تمنى نبينا عليه صلوات الله وسلامه لو صبر كليم الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه مع العبد الصالح الخضر حتى يقص عليه من أمرهما العجائب، والحديث ثابت في الصحيح، وقصتهما ذكرت في سورة الكهف، إذاً هم كان فيهم العجائب، ولذلك لا ينبغي أن يحصل في نفوسكم حرج أو ضيق أو استغراب أو استبعاد أو استنكار عندما تنقل تلك العجائب المروية عنهم، فقد كان فيهم ذلك.
المعنى الرابع: ولا حرج على من يحكي أخبارهم إذا كان فيها ما يُستشنع للتحذير منها، حدثوا عنهم، وأنهم قالوا كذا، وفعلوا كذا، مما يمكن أن يقع، ومما هو جائز، أو مما هو ممنوع، حدثوا به وحذروا منه، ولا حرج عليكم، عندما تقولون: إن اليهود قالوا: إن عُزيراً ابن الله! فعندما نتحدث بهذا لا حرج علينا، وإن كان هذا الخبر مستشنعاً، نتحدث به من أجل أن نحذر منه، فلا حرج علينا عندما نحكي أخبارهم لنزنها بميزان الشرع.
المعنى الخامس: المراد ببني إسرائيل أولاد نبي الله يعقوب على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وعليه فلا مانع أن نتحدث بأخبارهم حسبما ورد في كتاب الله عز وجل، وحسبما أشارت سورة نبي الله يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال الحافظ : وهذا أبعد الأقوال وفيه غرابة.
المعنى السادس: وهو معنى حق نقل عن سيدنا الإمام الشافعي وغيره رضي الله عنهم أجمعين، قال: حدثوا بما تعلمون صدقه، ولا حرج عليكم في التحديث عنهم بما تجوزونه مما لا تعلمون صدقه ولا كذبه، ما تعلمون أنه صدق وحق حدثوا به، وانشروه بينكم، ثم ما لا تعلمون صدقه ولا كذبه، لا يوجد عندنا دليل، لا على هذا ولا على هذا، لكنه في دائرة الإمكان، فلا حرج عليكم في التحديث به أيضاً، ما علمتم صدقه حدثوا به، وما لم تعلموا فأنتم بالخيار، إن شئتم أن تحدثوا وإن شئتم ألا تحدثوا.
الحكايات جند من جنود رب الأرض والسماوات يثبت الله بها المؤمنين والمؤمنات، وقد حدثنا القرآن عما جرى للأنام في غابر الزمان، وتواترت بذلك الأخبار الحسان عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ولذلك أثر بليغ في نفس الإنسان، استمعوا لحديثين من أحاديث كثيرة وردت في الحديث عن أخبار من سبقنا:
قصة الرجل الذي باع داراً فوجد المشتري فيها ذهباً فاختصما إلى القاضي
وإذا كان من دفون الجاهلية فهو ركاز، والركاز لمن استخرجه، ففيه الخمس زكاة، وبقية الأخماس له، وإن كان هذا المال ليس من دفن الجاهلية، إنما عليه علامات الإسلام، ولا يُعلم صاحبه، فحكمه حكم اللقطة التي لا يعلم صاحبها، فهو يمسكها عنده من أجل الأمانة والتعريف، فإذا لم يأت صاحبها فحكمها حكم اللقطة؛ ينتفع بها، فإن عاد صاحبها في مستقبل السنين، فهو مكلف بإعادتها لصاحبها.
على كل حال: لم يتفقا فاختصما بعد ذلك إلى قاضي ذلك الزمان، انظر للرعية، وانظر للقضاة في ذلك الوقت، وحقيقة الأمة إذا انحط صنف منها اعلم أن جميع الأصناف منحطة، وإذا ارتقى صنف منها اعلم أن جميع الأصناف راقية، ولذلك إذا نظرت إلى السوق فرأيت فيه انحطاطاً، فاعلم أن حال المسئولين أشد انحطاطاً، وأن حال الدعاة أشد انحطاطاً، وأن الأمة من أولها لآخرها في ضلال، هذا لا بد منه، مترابطة ببعضها، وعندما ترى الجهل فاشياً فاعلم أن حال العلماء يندى له جبين النبلاء، وإلا لو كان هناك علم لحيتِ البلاد، لكن الانحطاط -كما قلت- عام، ولذلك عالمنا هو عالم من أجهل منه فقط، ولكن إذا عُرض مع علماء سلفنا لما استطاع أن يتكلم، عالمنا عالم ممن هو أجهل منه، يعني لما وُجد من الجهلة من عنده كلمتان صار من علماء الزمان في هذه الأيام، ونشكو أحوالنا إلى ربنا سبحانه وتعالى.
انظروا إلى الحياة في زمن الخلافة الإسلامية العباسية، كان هناك جاريتان تمشيان في عهد أبي جعفر المنصور ، وكل واحدة تحمل قلة ماء على رأسها، وتتناظران في الأحكام الشرعية، في موضوع الاستثناء في اليمين، هل يجوز الاستثناء في اليمين بعد اليمين بفترة؟ أم لا يجوز الاستثناء إلا إذا كان متصلاً؟ فمتى ما حصل انفصال، إلا إذا كان لسعال أو لأمر ضروري، لكن متى ما حصل انفصال بين اليمين والاستثناء، فإن الاستثناء لغو واليمين انعقدت، هل يجوز الاستثناء في اليمين بعد حين بعد يوم يومين وشهر وسنة يحلف ثم يرجع ويستثني؟ جاريتان تبحثان في هذه القضية فواحدة قالت: لا يجوز الاستثناء في اليمين، ينبغي أن يكون الاستثناء متصلاً وإلا فإن الاستثناء يلغى، قالت: ما الدليل؟ ما شاء الله فقيهات، يستقيان الماء وكل واحدة القلة على رأسها، قالت: ما الدليل؟ قالت: كلام الله الجليل أفتى في هذه المسألة في قصة في كتابه، تأخذ الحكم الشرعي من قصص، قالت: وفي أي سورة؟ قالت: عندما حلف نبي الله أيوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن يضرب زوجته وما أخطات ولا قصرت، لكنه عليه وعلى نبينا وعليه صلوات الله وسلامه ظن أنه جرى منها تساهل، فحلف أن يضربها مائة ضربة، فالله جل وعلا أفتاه بحيلة شرعية ليبر في يمينه، ولئلا تعاقب زوجته، فقال: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، والضغث: هو الحزمة من الحشيش اليابس، من أعواد مثلاً القمح أو الشعير، خذ مائة من ذلك واضرب به ولا تحنث.
الشاهد: لو كان الاستثناء يعلق اليمين لقال الله له: استثنِ، فيمينه تصبح معلقة بعد فترة، ولا يلزمه أن يبر فيها، إنما قال: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص:44]، تستنبط حكماً شرعياً، وتقرره من قصص قرآني، هذا هو رقي الأمة.
يقول الإمام الغزالي رحمة الله ورضوانه عليه في الإحياء، يذكر هذا إخوتي الكرام في الجزء الرابع صفحة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، يقول: أكثر أسرار القرآن معبأة في طي القصص والأخبار، فكن حريصاً على استنباطها لينكشف لك فيه العجائب، أي: في القصص العجائب، وانظروا شرح هذا الكلام في إتحاف السادة المتقين للإمام الزبيدي في الجزء التاسع صفحة ست وأربعين وستمائة.
إذن: اختصما إلى القاضي، الأمة كلها راقية، وهذه حقيقة خصومة عجيبة، المشتري يقول: أنا اشتريت العقار ولم أشترِ ذهباً، والبائع يقول: بعت العقار بما فيه، وهذا رزق ساقه الله إليك، فليأخذ جرة الذهب، فالقاضي بهت من هذه الخصومة الفاضلة الشريفة، فقال: ألكما ولد؟ أي: لكل واحد منكما ولد؟ وقيل: وُلد، وهو جمع ولد، أو وِلْد بضم الواو أو كسرها مع إسكان اللام، قال: ألكما ولد؟ عندكما أولاد؟ لكما وِلْد؟ فقالا: نعم، أحدهما قال: لي ابن، والآخر قال: لي جارية، قال: أنكحوا الجارية الغلام، زوجوهما وادفعوا هذا المال إليهما، وأنفقوا عليهما منه وتصدقوا، أيضاً تصدقوا على المساكين، وهذا المال اجعلوه لهذين الولدين من هذين الأبوين المباركين.
هذه القصة يرويها لنا نبينا عليه الصلاة والسلام، وكم في هذه القصة من معاني الفضيلة والأمانة وتأدية الحقوق إلى أهلها، وأن الإنسان إذا اتقى الله في النهاية يحفظه الله، أيضاً ما خرج المال عنه، ذهب إلى ثمرة فؤاده إلى ولده وإلى ابنته، وبارك الله له في داره، ورزقهما ذرية طيبة، والسعادة اكتملت من جميع الجهات، وحصل بعد ذلك اتصال عن طريق المصاهرة بين هاتين الأسرتين، فكم في هذه القصة من معانٍ! عندما وُجدت الأمانة وجدت الديانة في النفوس، كم حصل لها من أثر طيب في العاجل دون أن يوجه هذا على سبيل: افعلوا أو اتركوا، المعاني التي في القصص تسري في النفس من حيث لا يشعر الإنسان.
قصة الرجل من بني إسرائيل الذي اقترض من رجل آخر وما وجد مركباً ليرد إليه ماله
( أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يقرضه ألف دينار )، رجل من بني إسرائيل جاء إلى غني من بني إسرائيل وسأله أن يقرضه ألف دينار، قال: ( هلم بالكفيل -ائت بالكفيل- قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، قال: هلم بالشهداء، قال: كفى بالله شهيداً، قال: صدقت، فدفع إليه ألف دينار، وحدد موعداً للقضاء، فأخذ الألف دينار وذهب، وكان بينهما بحر، فركب سفينته وذهب إلى جهته، ولما حان موعد الوفاء جهز الدنانير، وجاء إلى شاطئ البحر ليرى سفينة ليذهب إلى المُقرِض ليعيد إليه حقه، وقد جعل الله كفيلاً وشهيداً عليه، فما تيسرت له سفينة في ذلك الوقت، فخاطب ربه وقال: رب! طلب مني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً، وطلب مني وكيلاً فقلت: كفى بالله وكيلاً، فأدِّ هذا المال إليه، وأخذ جذع شجرة فنقره ووضع الدنانير فيه، ووضع رسالة، ويمم بعد ذلك البحر وطرح الجذع في البحر، وذهب بعد ذلك إلى بيته، ولما وجد مركباً بعد ذلك حمل ألف دينار أخرى وذهب إلى صاحبه المقرض، والمقرض خرج في اليوم الذي حُدد للوفاء ينتظر صاحبه على شاطئ البحر، فما جاء، ولما أراد أن يعود إلى بيته، وإذا بالأمواج تضرب جذع شجرة، فقال: نأخذها من أجل أن تكون وقوداً لنا، صاحبنا ما جاء لعله لعذر، فنأخذ هذا الجذع ولا نعود بلا فائدة، فأخذه، فلما كسره تناثرت الدنانير، فأخذ دنانيره وحمد الله وانتفع بهذا الجذع أيضاً، فعاد صاحبه بعد فترة واعتذر إليه أنه ما لقي مركباً، وأخرج له الدنانير، قال: ما قصتك؟ أخبرني؟ قال: جَهْدت أن أجد مركباً فما تيسر لي، فهذا دنانيرك، قال: اذهب فقد أدى الله عنك )، ما وضعته أوصله الله جل وعلا، وفي رواية: ( قال المستقرض: ذاك لربي، وهذا لك )، يعني أنا جعلت الله كفيلاً وشهيداً، فأنا لا أريد أن أخفر ذمة الله، ولا أريد أن أغدر مع الله، أنا أعطي الحق إذا أوصله لي فبها ونعمت، ذاك لربي، لكن من أجل أن أتحلل أمام ربي، وأن لا يكون مني تقصير نحوه، وأما أنت فهذه دنانيرك، قال: قد أدى الله عنك، يعني يقول له: لو لم تصل لا يضر، أنا فقط من أجل أن يعلم الله عذري دفعت الألف دينار، يا رب اشهد أنني ما قصرت، وأما حق ذاك فسأعيده إليه بعد حين.
يا إخوتي الكرام! هذه الأمثلة ما أعظمها! يقول سيدنا أبو هريرة في القصة الأولى والثانية: فلقد رأيتنا يكثر لغطنا عند رسول الله عليه الصلاة والسلام أيهما أعظم أمانة؟! هل البائع أو المشتري؟ هل المستقرض أو المقرض؟! أيهما أعظم أمانة؟! ذاك طرح الألف، كان بإمكانه أن يقول: خلاص أنا لن أذهب، إن وصلت وإلا فقد برئت، وهذا استلم الألف، ما عليه لا بينة ولا شهود، بإمكانه أن يأخذ ألفاً أخرى، وذاك كان بإمكانه ألا يطرح حتى الألف، فلا يوجد كفيل ولا شهيد.
الحديث الأول: في مسند الإمام أحمد والصحيحين، ورواه الإمام ابن ماجه في السنن، وانظروه في جامع الأصول في الجزء الحادي عشر صفحة سبع وسبعين وسبعمائة، عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال: ( إن رجلاً في الأمم السابقة في بني إسرائيل اشترى من رجل عقاراً -والمراد من العقار هنا الدار- فحفر فيها فخرج له جرة ذهب، فجاء المشتري إلى البائع وقال: أنا اشتريت منك الدار ولم أشترِ منك الذهب، فهذا مالك خذه، فقال البائع: أنا بعتك الدار بما فيه، فهذا الذهب لك لا آخذه )، اختصم البائع والمشتري، هذا يقول: خذ الذهب، وذاك يقول: هو لك، كيف سآخذه؟! وحكم المسألة لو جرت في شريعتنا: لو أن الذهب لصاحب الدار، وهو الذي دفنه، فهو حتماً له، يعاد إليه، ولعل ذاك لم يدفن الذهب، ظاهر القصة يدل على أنه لا علم له به، وأن هذا رزق ساقه الله إلى المشتري، لكن لو علم أنه لصاحب البيت وهو الذي دفنه، فينبغي أن يعاد إليه في شريعتنا.
وإذا كان من دفون الجاهلية فهو ركاز، والركاز لمن استخرجه، ففيه الخمس زكاة، وبقية الأخماس له، وإن كان هذا المال ليس من دفن الجاهلية، إنما عليه علامات الإسلام، ولا يُعلم صاحبه، فحكمه حكم اللقطة التي لا يعلم صاحبها، فهو يمسكها عنده من أجل الأمانة والتعريف، فإذا لم يأت صاحبها فحكمها حكم اللقطة؛ ينتفع بها، فإن عاد صاحبها في مستقبل السنين، فهو مكلف بإعادتها لصاحبها.
على كل حال: لم يتفقا فاختصما بعد ذلك إلى قاضي ذلك الزمان، انظر للرعية، وانظر للقضاة في ذلك الوقت، وحقيقة الأمة إذا انحط صنف منها اعلم أن جميع الأصناف منحطة، وإذا ارتقى صنف منها اعلم أن جميع الأصناف راقية، ولذلك إذا نظرت إلى السوق فرأيت فيه انحطاطاً، فاعلم أن حال المسئولين أشد انحطاطاً، وأن حال الدعاة أشد انحطاطاً، وأن الأمة من أولها لآخرها في ضلال، هذا لا بد منه، مترابطة ببعضها، وعندما ترى الجهل فاشياً فاعلم أن حال العلماء يندى له جبين النبلاء، وإلا لو كان هناك علم لحيتِ البلاد، لكن الانحطاط -كما قلت- عام، ولذلك عالمنا هو عالم من أجهل منه فقط، ولكن إذا عُرض مع علماء سلفنا لما استطاع أن يتكلم، عالمنا عالم ممن هو أجهل منه، يعني لما وُجد من الجهلة من عنده كلمتان صار من علماء الزمان في هذه الأيام، ونشكو أحوالنا إلى ربنا سبحانه وتعالى.
انظروا إلى الحياة في زمن الخلافة الإسلامية العباسية، كان هناك جاريتان تمشيان في عهد أبي جعفر المنصور ، وكل واحدة تحمل قلة ماء على رأسها، وتتناظران في الأحكام الشرعية، في موضوع الاستثناء في اليمين، هل يجوز الاستثناء في اليمين بعد اليمين بفترة؟ أم لا يجوز الاستثناء إلا إذا كان متصلاً؟ فمتى ما حصل انفصال، إلا إذا كان لسعال أو لأمر ضروري، لكن متى ما حصل انفصال بين اليمين والاستثناء، فإن الاستثناء لغو واليمين انعقدت، هل يجوز الاستثناء في اليمين بعد حين بعد يوم يومين وشهر وسنة يحلف ثم يرجع ويستثني؟ جاريتان تبحثان في هذه القضية فواحدة قالت: لا يجوز الاستثناء في اليمين، ينبغي أن يكون الاستثناء متصلاً وإلا فإن الاستثناء يلغى، قالت: ما الدليل؟ ما شاء الله فقيهات، يستقيان الماء وكل واحدة القلة على رأسها، قالت: ما الدليل؟ قالت: كلام الله الجليل أفتى في هذه المسألة في قصة في كتابه، تأخذ الحكم الشرعي من قصص، قالت: وفي أي سورة؟ قالت: عندما حلف نبي الله أيوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن يضرب زوجته وما أخطات ولا قصرت، لكنه عليه وعلى نبينا وعليه صلوات الله وسلامه ظن أنه جرى منها تساهل، فحلف أن يضربها مائة ضربة، فالله جل وعلا أفتاه بحيلة شرعية ليبر في يمينه، ولئلا تعاقب زوجته، فقال: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، والضغث: هو الحزمة من الحشيش اليابس، من أعواد مثلاً القمح أو الشعير، خذ مائة من ذلك واضرب به ولا تحنث.
الشاهد: لو كان الاستثناء يعلق اليمين لقال الله له: استثنِ، فيمينه تصبح معلقة بعد فترة، ولا يلزمه أن يبر فيها، إنما قال: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص:44]، تستنبط حكماً شرعياً، وتقرره من قصص قرآني، هذا هو رقي الأمة.
يقول الإمام الغزالي رحمة الله ورضوانه عليه في الإحياء، يذكر هذا إخوتي الكرام في الجزء الرابع صفحة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، يقول: أكثر أسرار القرآن معبأة في طي القصص والأخبار، فكن حريصاً على استنباطها لينكشف لك فيه العجائب، أي: في القصص العجائب، وانظروا شرح هذا الكلام في إتحاف السادة المتقين للإمام الزبيدي في الجزء التاسع صفحة ست وأربعين وستمائة.
إذن: اختصما إلى القاضي، الأمة كلها راقية، وهذه حقيقة خصومة عجيبة، المشتري يقول: أنا اشتريت العقار ولم أشترِ ذهباً، والبائع يقول: بعت العقار بما فيه، وهذا رزق ساقه الله إليك، فليأخذ جرة الذهب، فالقاضي بهت من هذه الخصومة الفاضلة الشريفة، فقال: ألكما ولد؟ أي: لكل واحد منكما ولد؟ وقيل: وُلد، وهو جمع ولد، أو وِلْد بضم الواو أو كسرها مع إسكان اللام، قال: ألكما ولد؟ عندكما أولاد؟ لكما وِلْد؟ فقالا: نعم، أحدهما قال: لي ابن، والآخر قال: لي جارية، قال: أنكحوا الجارية الغلام، زوجوهما وادفعوا هذا المال إليهما، وأنفقوا عليهما منه وتصدقوا، أيضاً تصدقوا على المساكين، وهذا المال اجعلوه لهذين الولدين من هذين الأبوين المباركين.
هذه القصة يرويها لنا نبينا عليه الصلاة والسلام، وكم في هذه القصة من معاني الفضيلة والأمانة وتأدية الحقوق إلى أهلها، وأن الإنسان إذا اتقى الله في النهاية يحفظه الله، أيضاً ما خرج المال عنه، ذهب إلى ثمرة فؤاده إلى ولده وإلى ابنته، وبارك الله له في داره، ورزقهما ذرية طيبة، والسعادة اكتملت من جميع الجهات، وحصل بعد ذلك اتصال عن طريق المصاهرة بين هاتين الأسرتين، فكم في هذه القصة من معانٍ! عندما وُجدت الأمانة وجدت الديانة في النفوس، كم حصل لها من أثر طيب في العاجل دون أن يوجه هذا على سبيل: افعلوا أو اتركوا، المعاني التي في القصص تسري في النفس من حيث لا يشعر الإنسان.