مقدمة في الفقه - فقه الإمام أبي حنيفة [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين. اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين. سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! شرعنا في مدارسة ترجمة موجزة لأئمتنا الكرام، أئمة الإسلام، أصحاب المذاهب الأربعة الحسان، وبدأت بأولهم سيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه وعن سائر علمائنا الكرام.

إخوتي الكرام! تقدم معنا أن الله جل وعلا جمع الخير وأمور الكمال في أئمتنا الكرام الأبرار، وخص الله هذا الإمام المبارك بثلاث خصال:

أولها: أنه تابعي، وما حصل هذا لبقية علمائنا الكرام أصحاب المذاهب الأربعة، ما حصل للأئمة الثلاثة الآخرين، فهو تابعي، رؤيته لسيدنا أنس رضي الله عنه وأرضاه ثابتة بيقين، كما تقدم معنا.

والأمر الثاني: له فضل عظيم على جميع المتفقهين إلى يوم الدين، فهو الذي وضع هذه الطريقة المحكمة السديدة في الفقه، وعلى هذا الترتيب نهج سائر الفقهاء بعده رضي الله عنهم وأرضاهم.

الأمر الثالث: أنه فيه شبهاً عظيماً بنبينا الأمين، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فنبينا أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة، وسيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه أكثر العلماء تابعاً، فمن دان لله بمذهبه واتبعه واقتدى به أكثر بكثير ممن دان لله بمذاهب الأئمة الكرام الآخرين رضوان الله عليهم أجمعين.

إخوتي الكرام! تقدم معنا أننا سنتدارس أربعة أمور في ترجمة هذا الإمام المبارك المبرور.

أولها: فيما يتعلق بنسبه وطلبه، ومر الكلام على ذلك.

والأمر الثاني: في ثناء العلماء عليه رضوان الله عليهم أجمعين، ومر الكلام على ذلك.

والثالث: في طريقته في التفقه في الدين، وهذا ما كنا نتدارسه وأكمله في هذه الموعظة.

وأنتقل إلى الأمر الرابع: ألا وهو عبادته لرب العالمين، وخشيته من مالك يوم الدين سبحانه وتعالى.

إخوتي الكرام! تقدم معنا ثناء أئمتنا، وجد إمامنا في طلبه العلم، وتقدم معنا طريقته المحكمة السديدة في الفقه، وكل هذا يؤكد لنا ما هو معلوم متواتر عن فقيه ملتنا رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه إمام مبارك صالح خيِّر فاضل رضي الله عنه وعن سائر أئمتنا، وكما قلت: جمع الله فيه وفي أئمتنا خصال الخير.

قبل أن أكمل الأمر الثالث الذي بدأنا في مدارسته فيما يتعلق بطريقته في الفقه رضي الله عنه وأرضاه، استمعوا لهذا العبد الصالح الذي هو من تلاميذ سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وهو سيدنا الفضيل بن عياض أبو علي إمام الحرم المكي رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه إخوتي الكرام في الكتب الستة إلا سنن الإمام ابن ماجة، أبو علي الفضيل بن عياض، توفي سنة سبع وثمانين ومائة، أي: بعد سيدنا أبي حنيفة بسبع وثلاثين سنة، وهو من تلاميذه، وهو ثقة، عابد، إمام.

قال الذهبي في ترجمته، في الجزء الثامن صفحة واحد وعشرين وأربعمائة: هو الإمام، القدوة، الثبت، شيخ الإسلام، ومن كلامه المحكم الذي يدل على خشيته من الرحمن، ويقرر لنا ما ذكرته سابقاً في المواعظ المتقدمة فيما مضى من أيام، يقرر لنا كلامه هذا ما ذكرته سابقاً، يدل على عظيم خشيته من ربه سبحانه وتعالى، كان يقول: لو خيرني الله بين أن أعيش كلباً وألا أُبعث يوم القيامة، لاخترت أن أعيش كلباً وألا أُبعث.

وهذا لعظيم خشيته من ربه؛ لأنه يعلم أنه سيجتمع في يوم يجعل الولدان شيباً، فهو يرى أنه لو خُلق كلباً وعاش كلباً أيسر عليه من أن يشهد هول ذلك الموقف، وكما تقدم معنا ليس في هذا اعتراض على الله، وليس في هذا أيضاً إنكار لذلك اليوم من باب أولى, إنما غاية ما يدل هذا على عظيم خشيته من ربه سبحانه وتعالى، وأنه يتهم نفسه بالتفريط في حق الله وفي جنب الله، فقال ما قال، وتقدم معنا نظير هذا عن نبينا إمام الأبرار، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وعن الصحابة الأخيار، ومن تبعهم بإحسان من أئمتنا التابعين الأبرار، رضوان الله عليهم أجمعين، تقدم معنا نظير هذا بكثرة.

وكان يقول هذا العبد الصالح لتلميذه وصاحبه سفيان بن عيينة، من تلاميذه، وسفيان بن عيينة من تلاميذه، توفي بعده سنة ثمان وتسعين ومائة، رضوان الله عليهم أجمعين، كان يقول له وقد أخذ بيده: إن كنت تظن أنه بقي في هذه الحياة من هو شر مني ومنك، فقد أخطأ ظنك! يقول: أنا وأنت لا يوجد أشر منا في هذا الوقت, إذا كنت أنت تظن خلاف هذا فقد أخطأ ظنك.

وكان سيدنا سفيان بن عيينة رضي الله عنه وأرضاه إذا التقى بهذا العبد الصالح أبي علي الفضيل بن عياض يقبل يده، كما هو في ترجمته في السير في المكان الذي حددته وفي غير ذلك من المواضع، هذا الذي ذكرته لأبين قيمة هذا الإمام؛ لأنه من تلاميذ سيدنا أبي حنيفة النعمان، أتدرون من أخذ عن أبي علي الفضيل بن عياض؟ أخذ عنه الإمام الشافعي، ولذلك قال أئمتنا كما في الجواهر المضية في تراجم السادة الحنفية، في الجزء الثاني صفحة سبعمائة، قال: هو إمام عظيم، أخذ عن إمام عظيم، وأخذ عنه إمام عظيم.

أنا أقول: وخرَّج حديثه أئمة كل منهم عظيم، فحديثه في صحيح البخاري ومسلم كما تقدم معنا، أبو علي الفضيل بن عياض إمام عظيم، تتلمذ على إمام عظيم، أخذ عنه الإمام الشافعي وهو إمام عظيم، هذا أبو علي الفضيل بن عياض الذي هو شيخ الإسلام، استمع لكلامه في سيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه وعن سائر أئمتنا الكرام.

يروي الإمام السيوطي في كتابه تبييض الصحيفة في مناقب سيدنا أبي حنيفة، صفحة ست عشرة وثلاثمائة قال: كان أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه فقيهاً معروفاً بالفقه، مشهوراً بالورع، واسع المال، معروفاً بالإفضال، صبوراً على تعليم العلم بالليل والنهار، حسن الليل -إذا جن عليه الليل كان ليله حسناً، لا سوء فيه ولا ظلم، وسيأتينا أنه ما توسد يمينه مدة أربعين سنة رضي الله عنه وأرضاه- كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في الحلال والحرام، هارباً من مال السلطان.

هذا نعت الإمام العظيم للإمام العظيم، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل، رضي الله عنهم وأرضاهم.

إخوتي الكرام! كما قلت هذا هو حال سيدنا أبي حنيفة النعمان، وشهد بذلك أئمتنا الكرام، وكما قلت: ينبغي أن نحذر الهذيان الذي يجري في هذه الأيام نحو سيدنا أبي حنيفة النعمان، ونحو غيره من أئمة الإسلام.

استمع إلى هذا العبد الصالح يزيد بن هارون، وحديثه في الكتب الستة، توفي سنة ست ومائتين، قال عنه الحافظ في التقريب: ثقة، متقن، عابد، يقول هذا العبد الصالح كما في مناقب سيدنا أبي حنيفة وصاحبيه للإمام الذهبي صفحة اثنتين وأربعين، يقول: لم أرَ أعقل، ولا أفضل، ولا أورع من أبي حنيفة.

وقال كما في تذكرة الحفاظ، في الجزء الأول صفحة ثمان وستين ومائة، والأثر رواه الإمام الصالحي في عقود الجمان والإمام ابن حجر في الخيرات الحسان، قال: كتبت عن ألف شيخ، ما رأيت أحداً أورع، ولا أحفظ، ولا أفقه من أبي حنيفة.

وكان يكتب عن أئمة التابعين رضوان الله عليهم أجمعين، يقول: ما كان لـأبي حنيفة نظير في الفقه، ولا في الورع، ولا في الفضل، ولا في الزهد والعبادة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولا في العقل ورجاحة العقل وسداد الرأي، هذا كلام يزيد بن هارون في هذا الإمام المبارك الميمون.

وهكذا -إخوتي الكرام- الإمام الصالح إمام الجرح والتعديل في زمانه، وأخبرُ خلق الله بعلل الحديث، وهو سيدنا علي بن المديني رضي الله عنه وأرضاه، المتوفى سنة أربع وثلاثين ومائتين، روى له البخاري، وأهل السنن الثلاثة أبو داود وابن ماجه والنسائي، وروى له الإمام ابن ماجة لكن في التفسير لا في السنن، وهو ثقة، ثبت، إمام أهل عصره في الجرح والتعديل، انظروا ترجمته الطيبة في السير، في الجزء الحادي عشر صفحة إحدى وأربعين، وقد نعته بأنه: الشيخ الإمام شيخ الإسلام، إمام أهل عصره في الجرح والتعديل رضي الله عنه وأرضاه.

هذا العبد الصالح إخوتي الكرام هو من شيوخ البخاري، والبخاري ملأ كتابه بالرواية عنه، وكان الإمام البخاري رضي الله عنه وأرضاه يقول: ما استصغرت نفسي إلا عند علي بن المديني، وهو الذي يقول في حقه شيخه سفيان بن عيينة: تلومونني على حب هذا، والله لقد استفدت منه أكثر مما استفاد مني! هذا يقوله سفيان بن عيينة في حق تلميذه علي بن المديني رضي الله عنهم وأرضاهم، علي بن المديني الإمام المبارك، الذي يقول عنه الذهبي في السير: الشيخ الإمام الحجة أمير المؤمنين في الحديث، يقول كما في جامع بيان العلم وفضله للإمام ابن عبد البر، في الجزء الثاني صفحة تسع وأربعين ومائة، والأثر في الجواهر المضية، في الجزء الأول صفحة سبع وخمسين يقول: أبو حنيفة ثقة، لا بأس به.

وتقدم معنا ضمن مواعظ الجمعة، أن قول علي بن المديني : لا بأس به، أي: أنه ثقة، وبمعنى الثقة, فإذا أطلق علي بن المديني أن هذا ثقة لا بأس به، فالمعنى: أنه ثقة ثقة، توثيقه ثابت، ولا يراد من (لا بأس به) كما هو مصطلح عليه في المشهور عند علماء المصطلح أنه درجة نازلة في التوثيق، بل هي بمعنى: أنه ثقة.

وعلي بن المديني -كما تقدم معنا ضمن مواعظ الحديث- حاله كحال سيدنا أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين، لا تأخذه في الله لومة لائم، فقد ضعَّف والده، ووالده من حملة الآثار، ومن رواة حديث نبينا المختار، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، والده هو عبد الله بن جعفر المديني ، روى له الإمام الترمذي في السنن، وهكذا الإمام ابن ماجه في السنن، وأئمتنا اتفقوا على ضعفه، ضعيف، توفي سنة ثمان وسبعين ومائة، قال الإمام الحاكم في المستدرك، في الجزء الرابع صفحة ثلاث وأربعين وثلاثمائة: عبد الله بن جعفر المديني وإن ضعفه ابنه علي بن المديني فلم يُترك.

قال الذهبي معلقاً على هذا: قلت: ولا احتج به أحد، فـعلي بن المديني رضي الله عنه وأرضاه شيخ البخاري، الذي كما قلت ملأ البخاري صحيحه بالرواية عنه، يحكم على سيدنا أبي حنيفة بأنه ثقة، وما عندنا شك أن سيدنا أبا حنيفة فاق علي بن المديني، هذا ما عندنا شك فيه، وهو أقدم منه وأعلى رتبة منه، لكن من باب بيان الفضل، وكيف أن أهل الفضل يقرون بذلك الفضل.

وانظر بعد ذلك للظلم والجور الذي نشهده في هذه الأيام، وكنت ذكرت لكم كلام بعض السفهاء في هذه الأيام من أهل الزيغ والضلال والغباء، عندما قال: أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه لا يعتمد عليه في الفقه، ضعيف في الحديث، الجرح فيه مفسر، أي: في ديانته وعدالته، فلا ديانة ولا عدالة! نعوذ بالله من هذا الكلام، واستمع لكلام أئمة الإسلام: أبو حنيفة ثقة، ثم يضعف والده، هذا -إخوتي الكرام- لا يحابي أحداً، إذا كان سيدنا أبو عبيدة رضي الله عنه وأرضاه أمين هذه الأمة؛ لأنه حقيقة اؤتمن على هذا الدين، وجاهد في سبيل رب العالمين، وضحى بوالده من أجل إعلاء كلمة الإسلام، فهذا الإمام المبارك يضعف والده، ولما سُئل: هل تضعف والدك؟ قال: هذه الديانة, الديانة تلزمني بذلك، أنا اطلعت على سوء حفظه وفحش غلطه وخطئه، فلابد من أن أضعفه، هذه هي الديانة وهذا هو الدين لا محاباة فيه لأحد، فهذا علي بن المديني رضي الله عنه وأرضاه يوثق أبا حنيفة ، لقد جمع الله له الفضائل وخصال الخير، وهو فقيه الملة، وأفقه الأمة بلا خلاف.

للفقه منزلته العالية السديدة العظيمة في دين الله جل وعلا، كما تقدم معنا في المقدمة الأولى من المقدمتين، وفقيه هذه الملة وأفقه هذه الأمة هو أبو حنيفة بشهادة علماء الإسلام قاطبة، وقد قال سيدنا الشافعي رضي الله عنه وأرضاه كما تقدم معنا: من أراد أن يتفقه فهو عيال على أبي حنيفة، الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة ، رضي الله عنهم وأرضاهم.

استمع لهذه المحاورة اللطيفة بين أكبر تلاميذ سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، وهو الإمام المبارك قاضي القضاة أبو يوسف رضي الله عنه وأرضاه، وبين تلاميذه من المحدثين والفقهاء، القصة يرويها الإمام الذهبي في الجزء الذي جمعه في ترجمة سيدنا أبي حنيفة وصاحبيه رضي الله عنهم أجمعين، صفحة خمس وستين، يرويها عن الإمام الجبل المبارك أبي الوليد الطيالسي هشام بن عبد الملك ، ثقة، ثبت، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة سبع وعشرين ومائتين، انظروا ترجمته الطيبة في السير، في الجزء العاشر صفحة إحدى وأربعين وثلاثمائة قال:

هو الإمام الحافظ الناقد، شيخ الإسلام: وهذا اللقب (شيخ الإسلام) أطلقه عليه الإمام المبجل سيدنا أحمد بن حنبل رضي الله عنهم وأرضاهم، ولا تخطئوا فـأبو الوليد الطيالسي غير أبي داود الطيالسي ، وغير أبي داود سليمان بن الأشعث صاحب السنن، أبو داود الطيالسي اسمه: سليمان بن داود بن الجارود، وأما هذا الذي معنا فهو أبو الوليد الطيالسي، توفي كما قلت سنة سبع وعشرين ومائتين، وأبو داود توفي سنة أربع ومائة، وأبو داود الطيالسي ليس هو أبو داود صاحب السنن، فذاك توفي سنة خمس وسبعين ومائتين، وأبو داود الطيالسي هو سليمان بن داود بن الجارود، وهو ثقة، حافظ، حديثه في البخاري تعليقاً، وصحيح مسلم، والسنن الأربعة، والذي معنا هو أبو الوليد الطيالسي ، وهو من المحدثين الكبار، وكما قلت: حديثه في الكتب الستة.

انظروا هذه القصة المحكمة التي ينقلها هذا العبد الصالح أبو الوليد الطيالسي من كبار المحدثين، قال: لما قدم هارون الرشيد البصرة، وهو في بلاد بغداد في الأصل، فجاء يتجول على أمصار المسلمين، فجاء إلى البصرة ومعه قاضي القضاة سيدنا أبو يوسف، وهذا الرتبة نُقلت إلى من زهد فيها، نقلت إلى أتباع الإمام الذي زهد في هذه الرتبة، فسيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه زهد في القضاء، وضُرب من أجله وما قبله، فجاء بعد ذلك تلاميذه كلهم فصاروا قضاة الأمة الإسلامية.

وهذه سنة من سنن الله بين عباده، أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فسيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه ترك القضاء، وتركه تديناً لما فيه من شوائب، وهذه الرتبة لابد من أن يليها أئمة بعد ذلك من أجل إقامة العدل، فجعلها الله في أتباع مذهبه، والقضاة في الدولة العباسية التي حكمت قرابة خمسة قرون، والدولة العثمانية التي حكمت قرابة سبعة قرون، أكثر القضاة ومسئولي القضاء هم من المذهب الحنفي، مع أن إمام المذهب زهد فيه.

وهذا كحال سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين، لما تنازل عن الخلافة لسيدنا معاوية رضي الله عنهم وأرضاهم سنة أربعين، وسُمي العام بعام الجماعة، خلّد الله ذكر الحسن بن علي وذكر آل البيت الطيبين الطاهرين كلهم ذكراً طيباً إلى يوم الدين، لكن هذا خلّد الله ذكره وجعل له كرامة خاصة لسيدنا الحسن بن علي، وهي أن المهدي الذي سيخرج في آخر الزمان من نسله، فأنت تتنازل من أجل وَحدة المسلمين، سيلي أمر الأمة في نهاية الأمر واحد من صلبك وبنيك، وهو من نسل الحسن لا من نسل الحسين رضي الله عنهم وأرضاهم، كما في الأحاديث الصحيحة.

ولذلك قال أئمتنا: الحكمة من كون المهدي من نسل الحسن لا من نسل الحسين رضي الله عنهم وأرضاهم: أنه عندما تنازل وترك الخلافة لله عوضه الله وكافأه بأن جعل الأمر يصير إلى ولد من أولاده في نهاية الأمر، وهو ينقذ الأمة، كما أن هذا تنازل عن الخلافة التي أُبرمت له وبقي فيها ستة أشهر، من أجل وحدة الأمة، فالأمر سيعود إلى بنيك في نهاية الأمر.

وهكذا سيدنا أبو حنيفة ترك القضاء، ثم أكبر تلاميذه فمن بعده يلون القضاء، بل سيأتينا شريك أبي حنيفة الذي كان يعمل مضاربة وهو أجير عنده، وهو صار قاضي نيسابور، شريكه الذي يبيع في دكانه، وندم بعد ذلك على القضاء واستقال، لكنه ولي قضاء نيسابور، رضي الله عنهم وأرضاهم.

فاستمع لهذه المناظرة الحلوة اللطيفة: قدم هارون الرشيد إلى البصرة ومعه أبو الوليد الطيالسي والإمام أبو يوسف رضي الله عنهم وأرضاهم.

فاجتمع طلبة العلم بأصنافهم، طلبة الحديث وطلبة الفقه، اجتمعوا إليه من أجل أن يستفيدوا منه الفقه والحديث، فطلبة الفقه جاءوا من أجل الفقه، وطلبة الحديث جاءوا من أجل طلب الحديث ليحدثهم، وهو فقيه محدث رضي الله عنه وأرضاه.

وتقدم معنا مراراً: أن عدد المحدثين أكثر من عدد الفقهاء، ففي الكوفة أربعة آلاف يطلبون الحديث، وأربع مائة فَقُهوا، الذين يطلبون الفقه أقل، ودرجة الفقيه أعلى كما تقدم معنا مراراً، فاجتمع الفقهاء والمحدثون يريدون مقابلة أبي يوسف من أجل أن يستفيدوا منه، فقال لهم: أنا من الصنفين، أنا فقيه وأنا محدث، ولا أريد أن أقدم صنفاً على صنف، فلن أقول: يتقدم الفقهاء لأجل أن نبحث معهم أمور الفقه، ولن أقول: يتقدم المحدثون من أجل أن أروي لهم حديث نبينا الميمون على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وطلبة الحديث لا يريدون الأحكام الفقهية، يعني تروي له الأحاديث من طرق وأسانيد، وهكذا خلقهم الله جل وعلا من أجل أن تحفظ السنة بالطرق والأسانيد.

وتقدم معنا كلام سيدنا يحيى بن معين رضي الله عنه وأرضاه: أنه لا تطيب نفسه حتى يسمع الحديث من خمسين طريقاً، هذا أقل شيء فما فوق، أما خمسمائة أو خمسة آلاف فهذا أحسن، أما أقل من خمسين فلا يطمئن للحديث، فهؤلاء يريدون طرقاً متعددة للرواية، ولو ذكر لهم الأحكام الفقهية لن يستوعبوا، فإنهم ما جاؤوا لهذا، يريدون رواية فقط، وأولئك على العكس يريدون الرواية وتفصيل ما فيها من أحكام، أما أن يقول: رُويت لنا من مائة طريق، ما لنا ولتلك الطرق، اذكر لنا طريقاً وفرع بعد ذلك الأحكام التي تؤخذ من هذا الحديث الذي نُقل عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو حقيقة لمن سيقدم وقد اجتمعوا؟ ولا يمكن أن يجمع بينهما في مجلس واحد, هؤلاء لهم وقت وهؤلاء لهم وقت.

قال: لا أستطيع أن أقدم واحداً من الصنفين فأنا من الصنفين، أنا محدث وأنا فقيه، لكن سأسألكم سؤالاً، فأي الفريقين يجيب أبدأ به، حتماً سيسأل عن مسألة فقهية في الدين، قال لهم: لو أن إنساناً عض خاتمي هذا -الذي يلبسه خاتم فضة يختم به الكتب؛ لأنه قاضي القضاة- فهشمه، ماذا عليه؟ أجيبوني يا معشر المحدثين، ويا معشر الفقهاء! جاء إنسان فعض الخاتم فهشمه، أي: صار فيه التواء وانحراف ولم يبقَ على استقامته وجودته، فماذا عليه؟

قال: فاختلف المحدثون في الجواب، وما وُفقوا للصواب، وما ارتضى جوابهم، فقام أحد الصنف الثاني من الفقهاء وهو هلال الرأي ، كان يقال له: هلال الرأي كـربيعة الرأي ، كما في الجواهر المضية، في الجزء الثالث صفحة اثنتين وسبعين وخمسمائة، سُمي بـهلال الرأي لسعة علمه وكثرة فقهه، توفي سنة خمس وأربعين ومائتين.

وهو إمام مبارك، لكن يغفر الله لنا ولسيدنا الإمام ابن حبان ، على طريقته في الغض من مرتبة سيدنا أبي حنيفة وتلاميذه، ترجمه في المجروحين، وقال: كان ينتحل مذهب أبي حنيفة، طيب وهل هذه سُبة، أو مكرمة؟!! ثم اتهمه بالإرجاء على عادتهم في نسبة الإرجاء إلى سيدنا أبي حنيفة، وإلى أتباعه، وتقدم معنا أن إرجاءهم سني وليس ببدعي، وتقدم معنا بيان الإرجاء مراراً، انظروا هذا في المجروحين في الجزء الثالث، صفحة سبع وثمانين ومائة، وانظروا ترجمته في اللسان، في الجزء السادس صفحة اثنتين ومائتين، وغير ذلك من الكتب.

فقام هلال بن يحيى وقال له: يجب عليه أن يدفع قيمته مصوغاً، وأن يأخذ الخاتم المهشوم الذي هشمه وعضه بأسنانه، إلا أن يشاء صاحب الخاتم أن يمسكه فليس له شيء، هذا الذي هشم الخاتم وأفسده يدفع قيمته مصوغاً؛ لأن الصياغة لها قيمة، إلا أن يشاء صاحب الخاتم أن يمسكه، قال: فليس له إلا ذلك، يعني هو بين أمرين: إما أن يدفع هذا الخاتم لمن هشمه وعضه ويأخذ قيمته مصوغاً، وإما أن يمسكه وليس له شيء.

ذكر أبي يوسف للحسن بن صالح بن حي وتعريضه بمن يتكلم فيه

قال: فارتضى جوابه، وقال: ليدخل من جاءوا لطلب الفقه، فاجتمع بهم، وخلال حديثه وهو يقرر الفقه ذكر حديثاً من طريق الحسن بن صالح بن حي رضي الله عنه وأرضاه، فقال أبو يوسف: ما أخاف على رجل من شيء خوفي عليه من كلامه في الحسن بن صالح بن حي، هذا الكلام لا ينتبه له أكثر الفقهاء الذين حضروا، وأبو الوليد الطيالسي محدث لكن شارك في مجلس الفقه، وأما المحدثون الآخرون فقد اعتزلوا حتى ينتهي دور هؤلاء ونوبتهم فيدخلون، أما أبو الوليد فقد حضر معهم ليأخذ الفقه ثم ليشارك في الحديث، فهو يعلم موضوع الجرح والتعديل وغمز الرواة هذا من اختصاص من يشتغل بالحديث، فـأبو يوسف قال: ما أخاف على رجل من شيء خوفي عليه من كلامه في الحسن بن صالح بن حي. فقام أبو الوليد الطيالسي وخرج، وقال: قلت: رجل يعرض بـأبي بسطام لا أحضر عنده.

وأبو بسطام هو شعبة بن الحجاج ، أمير المؤمنين في الحديث، توفي سنة ستين ومائة، فقال: رجل يعرض بـأبي بسطام لا أحضر عنده، لأن شعبة تكلم في الحسن بن صالح بن حي، قال فخرجت غير بعيد، ثم قلت: هذا قاضي القضاة، وإمام المسلمين، وسيد الفقهاء، ومن كبار المحدثين، ومعه خليفة المسلمين هارون الرشيد ، ما يضره إن حضرت وإن انصرفت، يعني لن يتأثر بي، ولا أؤثر على مجلسه، والله لو عُدت واستفدت وصبرت، فرجع مباشرة، فسيدنا أبو يوسف رمقه في حال خروجه ودخوله، وهو يعرف لماذا خرج ولماذا دخل، فالذكاء يتطاير من ذراته، فبعد أن انتهى المجلس قال أبو الوليد الطيالسي: التفت إلي أبو يوسف ، وناداه باسمه: يا هشام ، وقلنا: إن اسمه هشام بن عبد الملك، قال: يا هشام ! والله ما أردت بـأبي بسطام سوءاً، ولهو في قلبي أكبر منه في قلبك، أنا أجله أكثر مما تجله أنت، ولكن لا أعلم أني رأيت مثل الحسن بن صالح بن حي، ما رأيت مثل الحسن بن صالح بن حي ، كان ثقة فقيهاً.

وقد نعته بذلك أئمتنا، ثقة، فقيه، عابد، نعم رُمي بالتشيع يغفر الله لنا وله، توفي سنة تسع وستين ومائة، احتج به الإمام مسلم في صحيحه، وحديثه في السنن الأربعة، وروى له البخاري في الأدب المفرد، انظروا ترجمته في السير، في الجزء السابع صفحة إحدى وستين ومائتين، قال: هو من أئمة الإسلام، لولا تلبسه ببدعة، كان عنده شيء من الانحراف عن سيدنا عثمان رضي الله عنه وأرضاه, لا أنه يقع فيه، إنما لا يظهر منه من التعلق بسيدنا عثمان عندما يذكره كما يظهر من التعلق بسيدنا علي وسائر الصحابة الكرام، عنده شيء من الانحراف نحو سيدنا عثمان، دون أن يتكلم فيه، يذكره وينشر. فهذا حقيقة تقصير نحو هذا الخليفة المبارك الجليل رضي الله عنه وأرضاه، وهو نوع تشيع، وهذا لا يليق بالمسلم، فكيف بإمام من أئمة الدين!

ولذلك قال أئمتنا: إنه من أئمة الإسلام لولا تلبسه ببدعة، وكان وكيع بن الجراح يقول: لو رأيته -أي: لو رأيت الحسن بن صالح بن حي - لشبهته بـسعيد بن جبير.

قال الإمام الذهبي في السير: قلت: بينهما قدر مشترك -أي: بينه وبين سعيد بن جبير - في العلم، والعبادة، والخروج على الظلمة تديناً، فمن الأمور التي كانت عند الحسن بن صالح بن حي كما ورد في كتب التراجم، أنه كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور.

قال الحافظ ابن حجر : لا فض الله فاه، ونوّر الله مرقده، وفي غرف الجنان أرقده، في تهذيب التهذيب، في الجزء الثاني صفحة ثمان وثمانين ومائتين، في ترجمة الحسن بن صالح بن حي: مذهب للسلف في القديم الخروج بالسيف على أئمة الجور، يقول: هذا مذهب لسلفنا، لكن استقر الأمر على ترك الخروج؛ لما يترتب على ذلك من فتنة وإلا فهذا مذهب لسلفنا الكرام كانوا يقولون به، وقد فعله ابن البضعة الطاهرة سيدنا السيد الجليل سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو الخروج بالسيف على أئمة الجور، وفعله من فعله من أئمة كبار كرام رضي الله عنهم وأرضاهم, لكن في خروج من خرج حقيقة كان الخرق يتسع.

فمذهب للسلف قديم الخروج بالسيف على الظالمين، ثم رأوا -أهل السنة- بعد ذلك عدم الخروج؛ لما يترتب على ذلك من فتنة, فما يقع إلا أننا نوسع الخرق دون أن نجمع الشمل، فالأولى أن نرتكب أخف الضررين دفعاً لأعظمهما، ماذا نعمل؟ هذه بلية وتلك بلية، فنرتكب الأيسر لدفع الأكبر والأخطر.

إذاً: هذا مذهب للسلف قديم، وما كان يقوله الحسن بن صالح بن حي لا يجوز أن يقال عنه بدعة؛ لأنه مذهب للسلف قديم، كما قال الإمام ابن حجر ، ثم رأى بعد ذلك أهل السنة عدم الخروج؛ لما يترتب على الخروج من فتنة، وأما إذا كان لا يترتب عليه فتنة وبإمكانهم أن يحسموا الأمر، فهذا واجب؛ من أجل تحكيم شريعة الله عز وجل تحكيماً كاملاً، وأما إذا كان سيترتب فتنة فما حصلنا إذاً من الخروج إلا توسيع الخرق، وإراقة الدماء، فالصبر والالتجاء إلى الله عز وجل أولى وأحسن، والعلم عند الله جل وعلا.

إخوتي الكرام! ينبغي أن تعلموا دِلالة هذا الكلام، يعني: إذا كان الحسن بن صالح بن حي يرى جواز الخروج في ذلك الوقت بالسيف على الحاكم الظالم، وهذا قاضي القضاة يرى أن من عرّض به يخشى عليه من العقوبة عند ربه، قال: ما أخشى على رجل كخشيتي عليه لكلامه في الحسن بن صالح بن حي، فـأبو يوسف رضي الله عنه وأرضاه لا يرى كلام شعبة مستقيماً في الحسن بن صالح بن حي، مع أنه وُجهت إليه هذه التهمة، وأبو يوسف يعتبر من قضاة الدولة، ومع ذلك يقول: هو مجتهد فيما قال، ولا ينبغي أن يعرض به، ولا أن يغض من شأنه.

وقد تقدم معنا كلام محكم لهذا العبد الصالح، نقله أئمتنا في ترجمته، وهو في تلبيس إبليس وغير ذلك، يقول: الشيطان يفتح على الإنسان تسعة وتسعين باباً من الخير ليوقعه في باب من الشر.

وقد كان هو وأخوه وأمه يقتسمون الليل أثلاثاً، فماتت الأم فاقتسم هو وأخوه الليل نصفين، فمات أخوه فقام الليل بكامله حتى لقي ربه، رحمه الله تعالى.

وكما قلت: بينه وبين سيدنا سعيد بن الجبير قدر مشترك في العلم، والعبادة، والخروج بالسيف على أئمة الجور.

الشاهد: أن للفقه شأناً عظيماً، فـأبو يوسف رضي الله عنه وأرضاه عندما اجتمع عنده الفقهاء والمحدثون، قال: أنا من الصنفين، فلا أقدم صنفاً على صنف إلا بامتحان، وما أجاب عنه إلا الفقهاء، وقد تقدم معنا مسألة: امرأة حائض هل يجوز أن تغسل الميت أم لا؟ فسيدنا يحيى بن معين تقدم ما عرف الحكم، ومثل هذا له أمثلة كثيرة، فهذا مما يدل على منزلة الفقه، فكيف بمنزلة فقيه الملة وأفقه الأمة! ولذلك فحبه من الدين، ويجب على المسلمين أن يدعوا له في صلواتهم، كما تقدم معنا نقل هذا عن أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين.

نسأل الله أن يغفر له ويرحمه ويسكنه فسيح جناته..

والحمد لله رب العالمين.