مقدمة في الفقه - فضل العلم [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

إخوتي الكرام! إن الخاصية التي يتميز بها الإنسان عن بهيم الحيوان هي العلم، وقد أشار إلى ذلك ربنا الرحمن في سورة عروس القرآن، وهي سورة الرحمن: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4].

علم القرآن من شاء من خلقه ممن رضي عنهم وأنعم عليهم، الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ [الرحمن:1-3]، تعييناً للمتعلم، من الذي يتعلم القرآن؟ صنف واحد من مخلوقات الرحمن وهو الإنسان، تعيين للمتعلم: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:4]، بيان لكيفية التعلم، البيان الذي هو النطق تخبر عما في نفسك، وتفهم بعد ذلك خطاب غيرك، وهذان الأمران هما عماد تعلم القرآن، فلو لم تبن عما في نفسك ولم تفهم ما يحدث به غيرك لما استطعت أن تتعلم كلام الله عز وجل.

الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ [الرحمن:1-3] تعييناً لمن يتعلم القرآن، ولذلك خلقت لهذا الأمر لتتعلمه ولتعمل به، فإذا ضيعته فقد خرجت عن إنسانيتك، خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:4] فنحن نمتاز عن بهيم الحيوان بهذا الأمر عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:3-4]، ونتعلم به كلام الرحمن سبحانه وتعالى، فمن ضيع هذا فبأي شيء يمتاز عن بهيم الحيوان؟!

إنه حي لكنه في الحقيقة ميت، ورحمة الله على الإمام ابن القيم عندما ينشد بيتين لطيفين، وهما -فيما يظهر والعلم عند الله- من نظم غيره وما أعرف قائلهما، ويكررهما في كثير من كتبه، انظروا مثلاً: إغاثة اللهفان في الجزء الأول صفحة ثلاث وعشرين، ومدارج السالكين في الجزء الثالث صفحة واحد وستين ومائتين، والأبيات أيضاً في شرح الإحياء في الجزء الأول صفحة سبع وأربعمائة، يقول عليه رحمة الله ورضوانه، قائل هذين البيتين المحكمين:

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأبدانهم قبل القبور قبور

وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور

(وفي الجهل قبل الموت موت لأهله) فالجاهل ميت, وقد خرج عن صفة الإنسانية، (وأبدانهم قبل القبور قبور) يعني: أرواحهم قبرت في أبدانهم، كما أن أبدانهم ستقبر في القبور التي هي في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، نسأل الله حسن الخاتمة.

وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور

إخوتي الكرام! المرء بأصغريه، بلسانه وقلبه، كما قال زهير بن أبي سلمى:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

يعني: بأي شيء تمتاز عن بهيم الحيوان؟ بأصغريك، لسان يتكلم (علمه البيان)، وقلب يعقل ويفهم، ما عدا هذا لحم ودم موجود فيك وفي سائر الحيوانات الأخرى.

يا عبد الله! إن كنت تفتخر بقوتك فالجمل أقوى منك، وإن كنت تفتخر بضخامة جثتك فالفيل أضخم جثة منك، وإن كنت تفتخر وتدل بكثرة أكلك فالثور أعظم أكلاً منك، وإن كنت تفتخر بشجاعتك فالأسود أعظم شجاعة منك، وإن كنت تفتخر بكثرة وطئك فأصغر المخلوقات وهو العصفور أكثر سفاداً منك, إذن بأي شيء تفتخر يا عبد الله؟ هذه الأمور غلبك عليها الحيوان البهيم، إنما عندك بعد ذلك عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:4]، هذه هي التي فقدها بهيم الحيوان.

ولذلك الحيوان مهما أوتي من شراسة وقوة وضخامة جثة يهاب الإنسان، لما ركز الله فيه من تمييز غريزي؛ لأن هذا الإنسان له فضل عليه، وأنه عنده ما يدبر به الصناعات الخفية، وعنده ما يحصل به العلوم النظرية، الإنسان صاحب عقل، امتاز بالبيان عن الحيوان، ولذلك مهما عظم الحيوان فإنه يهاب الإنسان، نعم، هو أحياناً قد يدخل معه في صراع، هذا موضوع آخر، ولكن الأصل أنه يهابه، كل من يرى الإنسان من الحيوان يهابه ويحترس منه، هذا هو الأصل والغالب أنها تشرد من الإنسان خوفاً من الاتصال به، لكن إذا انفرد به بعد ذلك وهو بحاجة إلى أكله أكله كالأسود المفترسة ونحوها.

أما أن يأتي هو ويخالط بني آدم ويصارعهم فلا، بل بنو آدم هم الذين يطاردون الحيوانات مهما عظم شأنها، وهي تتكفف -كما يقال- شرهم وتبتعد عنهم، لكن إذا اضطرت ستدافع عن نفسها، فالهرة تدافع عن نفسها إذا اضطرت، لكن في الأصل كل ما عدا الإنسان يهابه ويخاف منه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70].

ولذلك إخوتي الكرام! لا بد من أن نحصل العلم النافع، وأصله -كما سيأتينا- هو الفقه، فهو أصل العلوم، والتذكير حلواؤها وأعمها نفعاً، كما قال الإمام ابن الجوزي رحمة الله ورضوانه عليه، كما سيأتينا في بيان منزلة علم الفقه بعون الله وتوفيقه، فالعلم ضروري، من خرج عنه خرج عن الإنسانية.

سئل سيدنا عبد الله بن المبارك رضي الله عنه كما في الحلية: (من الناس؟ قال: العلماء). فمن خرج عن هذا الوصف ليس من بني آدم، لا يوجد ما يميزه على الحيوان البهيم.

(قالوا: فمن الملوك؟ قال: الزهاد)، حقيقة الملك والغنى أن تستغني عن الشيء لا به، الملك والأمير فقير، حتى إلى أعوانه وخدامه، وأما الغنى الحقيقي فهو أن تستغني عن الشيء لا به، ولذلك فالزهاد هم الملوك.

(قالوا: فمن الغوغاء؟ قال: أعوان السلطان)، أعوان السلطان هؤلاء هم الغوغاء السفهاء، الذين يبيعون دينهم بدنيا غيرهم، (قالوا: فمن السِفلة؟ -بكسر السين وإسكان الفاء, السِفلة وهم السفهاء المنحطون- قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين)، يتاجرون بدين رب العالمين.

فالناس هم العلماء، والملوك هم الزهاد، والغوغاء هم أتباع الأمراء، والسِفلة هم الذين يأكلون الدنيا بالدين، هذا كلام سيد المسلمين في زمانه عبد الله بن المبارك رحمة الله ورضوانه عليه، فمن خرج عن وصف العلم خرج عن الإنسانية.

إخوتي الكرام! كان أئمتنا يوصون بطلب العلم، وينبغي أن يحفظ الإنسان هذا، وأن يحرص عليه حتى يغادر هذه الحياة، فوظيفته أن يتعلم وأن يعمل، نقل الإمام ابن الجوزي في تلبيس إبليس صفحة تسع وعشرين وثلاثمائة، عن سيدنا الإمام أحمد رحمة الله ورضوانه عليه، أنه قال: وكان يوصي تلاميذه وأصحابه بذلك، وهي وصية للمسلمين إلى يوم الدين، المحبرة إلى المقبرة. دواة الحبر ينبغي أن تلازمك حتى تقبر.

وفي سير أعلام النبلاء في الجزء الرابع عشر، صفحة ثمان وأربعين وثلاثمائة: جاء رجل إلى العبد الصالح سهل بن عبد الله التستري ومعه كتاب ومحبرة، فقال له: (إن استطعت ألا تفارقهما حتى تفارق الحياة فافعل)، حتى تدفن في قبرك فافعل، الكتاب والمحبرة، لا تفارق هذين، فقال له: (أبا محمد ! -وهي كنية لـسهل بن عبد الله التستري - انصحني بنصيحة، فقال له: الدنيا كلها جهل إلا ما كان علماً، والعلم كله حجة إلا ما كان عملاً، والعمل موقوف على السنة والسنة تقوم على التقوى)، احفظ هذا، الدنيا كلها جهل من أولها لآخرها إلا ما كان علماً، والعلم حجة إلا ما كان عملاً، والعمل ينبغي أن يكون على السنة، والسنة تقوم على التقوى.

نعم إخوتي الكرام! الدنيا كلها جهل وكلها ظلمة، وكل ما فيها ملعون إلا ذكر الحي القيوم، وما أريد به وجه الله الكريم من علم نافع وعمل صالح.

ثبت في سنن الترمذي وقال: هذا حديث حسن، والحديث رواه الإمام ابن ماجه، وحسنه شيخ الإسلام الإمام العراقي أيضاً في تخريج أحاديث الإحياء في الجزء الأول صفحة سبع عشرة، من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً ومتعلماً ).

والحديث نقل عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين بألفاظ مختلفة، تبين لنا معنى قوله: (إلا ذكر الله وما والاه) ما الذي يواليه ويشاكله ويماثله، من أمور الطاعة التي يراد بها وجه الله جل وعلا.

ففي رواية البزار عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً إلى نبينا المحمود عليه صلوات الله وسلامه، أنه قال: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو ذكراً لله عز وجل).

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن أن يحصل ألا بعد العلم النافع، والذكر كما هو في رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.

والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير من رواية سيدنا أبي الدرداء، عن نبينا خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ما ابتغي به وجه الله منها).

والحديث رواه أبو نعيم في الحلية، والضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن نبينا عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، أنه قال: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ما كان لله منها).

ونقل هذا الأثر عن كعب الأحبار موقوفاً عليه من قوله في سنن الدارمي: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا من تعلم خيراً وعلمه)، هذا كلام كعب الأحبار موقوفاً عليه من قوله.

إذاً: الدنيا كلها جهل إلا ما كان علماً، والعلم كله حجة إلا ما كان عملاً، والعمل ينبغي أن يكون على السنة، والسنة تقوم على التقوى، من حصل هذا فهو حقيقةً المتقي لله عز وجل، وكان هذا العبد الصالح سهل بن عبد الله التستري يقول كما في ترجمته في السير، في الجزء الثالث عشر، صفحة ثلاثين وثلاثمائة، وأما المكان المتقدم في الجزء الرابع عشر فذاك ليس في ترجمته، أورد ذلك الكلام ضمن ترجمة غيره، ذكر كلام سهل بن عبد الله التستري في ترجمة الحلاج ، ليبين أنه مخذول، وأنه خرج عن الهدى النبوي، ولم يلتزم بكلام أئمتنا ونصحهم، فذكر كلام سهل فيما يتعلق بذم الحلاج ؛ ليبين أنه خرج عن طلب العلم النافع، والعمل الصالح، واتبع الرأي والضلال والبدع.

فالأثر الأول ليس في ترجمة سهل، إنما الذي في ترجمته: كان هذا العبد الصالح سهل بن عبد الله التستري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يقول: (الجاهل ميت، والناسي نائم، عله يستيقظ، والعاصي سكران، والمصر هالك)، الجاهل ميت..

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله .................

والناسي نائم عله يستيقظ، والعاصي سكران، والمصر -نعوذ بالله منه- هالك، ويل للمصرين!

وقيل له كما في هذا الموضع في ترجمته: (إلى متى نكتب العلم؟ -إلى متى نكتب حديث النبي عليه الصلاة والسلام؟- قال: حتى تموت ويصب باقي الحبر في قبرك)، المحبرة هذه والقلم لا تتركهما طرفة عين، واطلب العلم حتى تموت، ثم يصب باقي الحبر في القبر، يعني: لازم هذا على الدوام.

إخوتي الكرام! هذه منزلة العلم كما قلت، وهي باختصار، ولا أريد أن أفيض فيها أكثر من هذا.

ننتقل بعد ذلك إلى مكانة الفقه ومنزلته، وحقيقة لا يمكن أن أتكلم على هذا الأمر في هذه الموعظة، إنما أذكر مقدمة لذلك، ومنزلة الفقه ومكانته في دين الله عز وجل أتكلم عليها في موعظة تامة في الموعظة الآتية بعون الله وتوفيقه، لكن الآن من باب التمهيد لما سيأتي في الغد بعون ربنا المجيد.

إخوتي الكرام! علوم الشرع المطهر وعلوم الدين خمسة أنواع، كما قرر ذلك أئمتنا الأتقياء، قرر هذا أئمتنا قاطبة، انظروها مثلاً في رد المحتار على الدر المختار، في الجزء الأول صفحة تسع وسبعين، وفي حاشية الإمام الطحطاوى في الجزء صفحة اثنتين وسبعين ومائتين، وهو كلام أئمتنا قاطبة، أن مدار أمور الدين على خمسة علوم:

أولها: العقائد.

وثانيها: الأخلاق والآداب، قال أئمتنا الفقهاء عندما بحثوا في أمور الدين: والأولان -يعني هذان العقائد والآداب- ليسا مما نحن بصدده، فنحن لا نبحث في كتب الفقه عن العقائد والأخلاق والآداب، والمواعظ والرقائق، فهذه لها كتب خاصة، فعندنا كتب التوحيد، وعندنا كتب الرقائق أو الرقاق والمواعظ والأخلاق والآداب، وعندنا بعد ذلك كتب الفقه فيها ثلاثة أمور من خمسة من أمور الدين وهي:

العبادات، وبها بدأ الفقهاء كما سيأتينا، والمعاملات، والعقوبات.

فأمور الدين تقوم على هذه الأمور الخمسة: عقائد، آداب، عبادات، معاملات، عقوبات. ونحن سنتدارس ضمن مدارستنا لعلم الفقه ثلاثة من خمسة، العبادات، والمعاملات، والعقوبات.

شمولية علم الفقه لجميع مناحي الحياة

وليس موضوع علم الفقه -كما سيأتينا- ما يتوهم بعض الجهال -وهو الشائع بين الناس- من أن تعلم علم الفقه من أجل أن نعرف كيف نصلي!! يا عبد الله! اتق الله في نفسك، وإذا كنت تجهل قدر هذا العلم فلا تتكلم بالجهل، لكن صرنا في زمن الجاهل هو الذي سيوجه طلبة العلم، ويقول: نتعلم الفقه لنعرف كيف نصلي! لا يا عبد الله.

إن علم الفقه يبحث في جميع شئون الحياة، في أعمال المكلفين من أولها لآخرها، في عباداتهم، ومعاملاتهم، لا يخرج نوع من معاملاتهم مع بعضهم إلا وهي في الفقه، ثم بعد ذلك في العقوبات، وعليه بيع وشراء، نكاح وطلاق، حرب وسلم، جهاد في سبيل الله جل وعلا، ثم جزية بعد ذلك وإمرة.

فجميع أحكام الدين تدخل في الفقه، إلا العقائد خرجت عن موضوع علم الفقه، ولن نبحث نحن فيما يتعلق بأمر العقائد إلا من زاوية، وهي: من خرج عنها كيف نعامله؟ نضرب رقبته، وهذا ضمن مباحث المرتد (ومن بدل دينه فاقتلوه)، أما بعد ذلك ما يتعلق بتفصيل العقائد فإنه يؤخذ من كتب التوحيد.

فجميع شئون الحياة يبحث فيها علم الفقه الذي سنتدارسه: عبادات، معاملات، عقوبات، ومن خرج عن هدي الشرع المطهر له عقوبة ولا بد، لكن هذه العقوبة -كما سيأتينا- إما أن تكون محددة، وإما أن تكون مطلقة، وهي عقوبة التعزير، وهي أوسع الحدود على الإطلاق.

ندرس علم الفقه لنعرف دين الله، ولنعرف الحياة الإسلامية كيف تكون، وكيف ينبغي أن نوجدها وأن نسعى إليها، وأما أن نقول: ما معنا من علم الفقه إلا الصلاة نتعلم كيف نصلي، وكيف نتطهر، وبقية الأمور تترك وتهجر، فهذا غير صحيح؛ لأنه واقع الأمر أن هذه الأمور قد هجرت من الحياة.

فعندما تأتي في المعاملات يأتيك مثلاً الربا، والربا محرم، ومن أكبر الكبائر، وتبحث بعد ذلك في ربا الفضل، وربا النسيئة، وهذه هي عماد المعاملات في هذه الأوقات، وهي محاربة لرب الأرض والسموات، فهذا لا بد -إخوتي الكرام- من وعيه، فنحن ندرس علم الفقه لنتعلم كيف نصلي، ونتعلم كيف نتعامل، أما أن نأكل الربا ليل نهار، وإذا رأيناه لا تتمعر وجوهنا غضباً للعزيز القهار، ثم نعرف كيف نصلي! أي: صلاة ستقبل منا، إذا كنا نتعامل بالربا أو نرضى به أو لا ننكره ونحاربه؟! فهذا لا بد من وعيه وضبطه، وسيأتينا ضمن المعاملات.

وكما ذكرت في مبحث التعزير، هذا الحد الذي هو أوسع الحدود الإسلامية، وهي عقوبة على كل معصية ليس فيها حد مقدر، فمثلاً: من حلق لحيته يعزر، هذا في الشرع المطهر، من تصور يعزر، من اقتنى صورة يعزر، من علق صورة يعزر، فلا يوجد في ذلك حد مقدر كعدد الجلد وما إلى ذلك، فالتعزير قد يكون سجناً أو جلداً أو غير ذلك، حسبما يرى ولي الأمر، هذا إخوتي الكرام لا بد منه، وهذا كله قد عُطّل، كذلك من غنى يعزر، يعتبر سفيهاً وترد شهادته، وهذا في كتب الفقه عند مبحث العدالة، لأنه أتى بخارم للمروءة، وبمفسق يسقط عدالته، فترد شهادة المغني والرقاص باتفاق أئمتنا الفقهاء، هذا لا بد من وعيه، فلا يذهب يغني ويرقص ثم يأتي ليصلي، قالوا: يتعلم الفقه ليعرف كيف يصلي! لا يا عبد الله! نتعلم الفقه لنرى الحياة الإسلامية والحياة الجاهلية.

وستأتينا هذه الأبحاث إن شاء الله ضمن موضوعات الفقه بعون الله وتوفيقه، فدين الله جل وعلا من أوله لآخره -كما قلت- يقوم على خمسة أمور: ثلاثة منها هي موضوع علم الفقه، ولذلك فهو أصل العلوم، وبعد ذلك الآداب والتذكير والمواعظ حلواؤها، فهذه المواضيع بهجة للناس، عندما تتحدث عن الرقائق عن الترغيب في الخير والجنة والتخويف من النار، فهي حلواؤها، ويعم نفعها، فهي أعظمها نفعاً، لكن لا بد من هذه الأمور، وهي الأحكام العملية في هذه الحياة الدنيوية: عبادات، معاملات، حدود وعقوبات، هذه ثلاثة من خمسة هي موضوع علم الفقه.

فضل علم الفقه على سائر العلوم

الفقه له شأن عظيم، وهو كما قال أئمتنا: دواء الدين علم الفقه.

يقول العبد الصالح يحيى بن عمار، وهو من العلماء الأبرار، توفي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، يحيى بن عمار أبو زكريا شيخ سجستان، انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء الثاني عشر صفحة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وفي هذا المكان قوله الذي سأذكره، ونقله عنه شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء العاشر صفحة خمس وأربعين ومائة، وفي مجموع الفتاوى شيء من التصحيف والتحريف، فصححوا ما في مجموع الفتاوى على ما في سير أعلام النبلاء من كلام هذا العبد الصالح يحيى بن عمار أبي زكريا شيخ سجستان، كان يقول:

العلوم خمسة:

أولها: علم تحصل به حياة الدين، وهو علم التوحيد. فهو حياة الدين، وحقيقة لا يمكن للإنسان أن يخرج من الشرك والكفران إلا بتوحيد ذي الجلال والإكرام، الحياة تحصل بلا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، والإيمان، فحياة الدين علم التوحيد.

يقول: وعلم هو قوت الدين، وهو علم الموعظة والتذكير. وهذا كما تقدم معنا يقول عنه الإمام يحيى : قوت، هذا هو القوت والحلوى، والقلوب لا بد لها من ترغيب وترهيب؛ لأجل أن تندفع إلى الخير وتبتعد عن الشر.

يقول: وعلم هو دواء الدين، وهو علم الفقه. وحقيقة إذا ما تعلمه الإنسان سيكون عليلاً، وتوحيده سيكون في حياة لكنها حياة هزيلة، فلمَ وحد الله ثم بعد ذلك فرط في شيء من العبادة، أو المعاملة، أو ارتكب ما حرم الله؟ هو لم يكفر، لكن صحة الدين عنده ناقصة.

وهذا مثل إنسان حي لكن تطعمه كل يوم نصف تمرة، وتحضر له نصف كأس من الماء يشرب، لم يموت، لكنه كما يقال: جلدة وعظمة، ونحيف شاحب اللون، لو نفخت عليه لسقط، ما مات لكن هذه ليست صحة وليست قوة، وليست عافية، وهنا عندك حياة لكن ما عندك صحة تداوي بها نفسك من أجل أن تطرد الأسقام عنك.

قال: والرابع -نعوذ بالله منه-: داء الدين -وهذا ينبغي أن نحذره- يقول: وهو ذكر أخبار ما جرى من منازعات بين سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ما جرى بين العلماء، أحياناً من شيء من الكلام في بعضهم، ما جرى بين السلف من خلاف مع بعضهم، فذكر هذا هو داء الدين.

والخامس -وهو شرها أيضاً-: علم إذا حصله الإنسان أهلك به دينه، وهو علم الكلام والفلسفة.

فهذه علوم خمسة لابد أن ينتبه لها: حياة الدين، وقوت الدين، ودواء الدين، وداء الدين، وهلاك الدين، فنحن إذاً عندنا أصل الدين، ودواء الدين، وثلاثة من أمور خمسة يقوم عليها دين رب العالمين، سندرسها في علم الفقه بعون الله وتوفيقه.

يقول الإمام ابن الجوزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، في كتابه: لفتة الكبد إلى نصيحة الولد، وهي نصيحة كتبها لولده في صفحة خمس وأربعين: الفقه أصل العلوم، والتذكير حلواؤها، وأعمها نفعاً. وإذا فقد الإنسان هذا الأصل فاستمعوا لما سيقع له من مثال واحد، سأذكره وأختم الموعظة به بعون الله وتوفيقه.

يقول الإمام ابن الجوزي في صيد الخاطر، صفحة اثنتين وسبعين ومائتين، من أخبار شيخه الذي تلقى عنه، وهو أبو محمد عبد الله بن أحمد الخشاب، توفي سنة سبع وستين وخمسمائة للهجرة، انظروا ترجمته في المنتظم في الجزء العاشر صفحة ثمان وسبعين ومائتين، وفي السير في الجزء العشرين صفحة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وفي الذيل على طبقات الحنابلة، فهو من أئمة الحنابلة، لكنه مزجى البضاعة في الفقه، فهو من أتباع المذهب لكن بضاعته في الفقه كاسدة، كما ستسمعون، حسب نقل تلميذه المبارك الميمون، في الذيل على طبقات الحنابلة في الجزء الأول صفحة ست عشرة.

يقول عنه الإمام ابن الجوزي تلميذه: سمع الحديث الكثير، وقرأ منه ما لا يحصى، وقرأ النحو، واللغة العربية، وانتهى إليه علمهما، بل نعته الذهبي في السير قال: كان يضرب به المثل في العربية والنحو، ويقال: هو فارسي زمانه، يعني أنه كـأبي علي الفارسي.

هذا العبد مع مكانته، سئل عن حكم رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، عند الركوع والرفع من الركوع، ما حكم رفع اليدين؟ فقال: ركن، من تركه بطلت صلاته، قال الإمام ابن الجوزي : فدهُش الحاضرون من قلة فقهه! فليس الفقه صناعته، قرأ الحديث الكثير، ومهر في اللغة والنحو، وصار إليه المنتهى فيهما، لكنه مزجى البضاعة في الفقه، وصل به الأمر أن يقول: إن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام ركن، مع أنه من المستحبات، ولو كبر ولم يرفع يديه فصلاته صحيحة، ولعل كثيراً من العامة يرى هذا، يعني لعله لا يرى صحة الصلاة إذا لم يرفع يديه؛ لأنه يرى الرفع فيظن أنه ركن، فلابد إخوتي الكرام من تمييز أفعال الصلاة عن بعضها، ومعرفة ما هو ركن وما هو سنة ومستحب.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبدك فيه، واغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وليس موضوع علم الفقه -كما سيأتينا- ما يتوهم بعض الجهال -وهو الشائع بين الناس- من أن تعلم علم الفقه من أجل أن نعرف كيف نصلي!! يا عبد الله! اتق الله في نفسك، وإذا كنت تجهل قدر هذا العلم فلا تتكلم بالجهل، لكن صرنا في زمن الجاهل هو الذي سيوجه طلبة العلم، ويقول: نتعلم الفقه لنعرف كيف نصلي! لا يا عبد الله.

إن علم الفقه يبحث في جميع شئون الحياة، في أعمال المكلفين من أولها لآخرها، في عباداتهم، ومعاملاتهم، لا يخرج نوع من معاملاتهم مع بعضهم إلا وهي في الفقه، ثم بعد ذلك في العقوبات، وعليه بيع وشراء، نكاح وطلاق، حرب وسلم، جهاد في سبيل الله جل وعلا، ثم جزية بعد ذلك وإمرة.

فجميع أحكام الدين تدخل في الفقه، إلا العقائد خرجت عن موضوع علم الفقه، ولن نبحث نحن فيما يتعلق بأمر العقائد إلا من زاوية، وهي: من خرج عنها كيف نعامله؟ نضرب رقبته، وهذا ضمن مباحث المرتد (ومن بدل دينه فاقتلوه)، أما بعد ذلك ما يتعلق بتفصيل العقائد فإنه يؤخذ من كتب التوحيد.

فجميع شئون الحياة يبحث فيها علم الفقه الذي سنتدارسه: عبادات، معاملات، عقوبات، ومن خرج عن هدي الشرع المطهر له عقوبة ولا بد، لكن هذه العقوبة -كما سيأتينا- إما أن تكون محددة، وإما أن تكون مطلقة، وهي عقوبة التعزير، وهي أوسع الحدود على الإطلاق.

ندرس علم الفقه لنعرف دين الله، ولنعرف الحياة الإسلامية كيف تكون، وكيف ينبغي أن نوجدها وأن نسعى إليها، وأما أن نقول: ما معنا من علم الفقه إلا الصلاة نتعلم كيف نصلي، وكيف نتطهر، وبقية الأمور تترك وتهجر، فهذا غير صحيح؛ لأنه واقع الأمر أن هذه الأمور قد هجرت من الحياة.

فعندما تأتي في المعاملات يأتيك مثلاً الربا، والربا محرم، ومن أكبر الكبائر، وتبحث بعد ذلك في ربا الفضل، وربا النسيئة، وهذه هي عماد المعاملات في هذه الأوقات، وهي محاربة لرب الأرض والسموات، فهذا لا بد -إخوتي الكرام- من وعيه، فنحن ندرس علم الفقه لنتعلم كيف نصلي، ونتعلم كيف نتعامل، أما أن نأكل الربا ليل نهار، وإذا رأيناه لا تتمعر وجوهنا غضباً للعزيز القهار، ثم نعرف كيف نصلي! أي: صلاة ستقبل منا، إذا كنا نتعامل بالربا أو نرضى به أو لا ننكره ونحاربه؟! فهذا لا بد من وعيه وضبطه، وسيأتينا ضمن المعاملات.

وكما ذكرت في مبحث التعزير، هذا الحد الذي هو أوسع الحدود الإسلامية، وهي عقوبة على كل معصية ليس فيها حد مقدر، فمثلاً: من حلق لحيته يعزر، هذا في الشرع المطهر، من تصور يعزر، من اقتنى صورة يعزر، من علق صورة يعزر، فلا يوجد في ذلك حد مقدر كعدد الجلد وما إلى ذلك، فالتعزير قد يكون سجناً أو جلداً أو غير ذلك، حسبما يرى ولي الأمر، هذا إخوتي الكرام لا بد منه، وهذا كله قد عُطّل، كذلك من غنى يعزر، يعتبر سفيهاً وترد شهادته، وهذا في كتب الفقه عند مبحث العدالة، لأنه أتى بخارم للمروءة، وبمفسق يسقط عدالته، فترد شهادة المغني والرقاص باتفاق أئمتنا الفقهاء، هذا لا بد من وعيه، فلا يذهب يغني ويرقص ثم يأتي ليصلي، قالوا: يتعلم الفقه ليعرف كيف يصلي! لا يا عبد الله! نتعلم الفقه لنرى الحياة الإسلامية والحياة الجاهلية.

وستأتينا هذه الأبحاث إن شاء الله ضمن موضوعات الفقه بعون الله وتوفيقه، فدين الله جل وعلا من أوله لآخره -كما قلت- يقوم على خمسة أمور: ثلاثة منها هي موضوع علم الفقه، ولذلك فهو أصل العلوم، وبعد ذلك الآداب والتذكير والمواعظ حلواؤها، فهذه المواضيع بهجة للناس، عندما تتحدث عن الرقائق عن الترغيب في الخير والجنة والتخويف من النار، فهي حلواؤها، ويعم نفعها، فهي أعظمها نفعاً، لكن لا بد من هذه الأمور، وهي الأحكام العملية في هذه الحياة الدنيوية: عبادات، معاملات، حدود وعقوبات، هذه ثلاثة من خمسة هي موضوع علم الفقه.