شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع - باب الحوالة والضمان


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

يقول المصنف رحمه الله: [باب: الحوالة والضمان]، وهذا باب خفيف، ولكن فيه ربما ثلاث مسائل، فالعنوان يدل على أنه سوف يبحث الحوالة أولاً، وسيبحث الضمان ثانياً، والواقع أن هناك موضوعاً ثالثاً سيشير إليه إشارة سريعة في الأخير وهو الكفالة.

إذاً: نحن نقول: باب: الحوالة والضمان، وبين قوسين: (والكفالة)، وبعض الفقهاء يفردون لكل واحدة من هذه المسائل باباً خاصاً، وإن كانت متقاربة، وسوف يتضح من خلال عرض هذه المسائل الثلاث أوجه الفرق وأوجه الاتفاق بينها.

ففيما يتعلق بالحوالة، فمعناها -طبعاً من حيث اللغة- من حال وأحال أي: تغير وانتقل، ومنه مثلاً: حال الظل إذا انتقل، ومنه: حال اللون، إذا تغير من لون إلى لون آخر، والحال أيضاً، يقال: لا تدوم حال، يعني: سميت حال؛ لأنها تتحول، وهكذا أمر الدنيا.

والمقصود بالحوالة في الاصطلاح: هو نقل الدين من ذمة إلى ذمة أخرى، مثلاً عندما يكون عندك لي مليون ريال في ذمتك، وقلت لي: سوف أحولك بهذا الدين على صالح ؛ لأن عنده لي مليوناً فسوف أحيلك عليه لتأخذ الدين الذي له، فهنا الدين بدلاً مما كان في ذمتك انتقل إلى ذمة صالح، فلذلك سميت حوالة.

هذا معنى الحوالة: انتقال الدين من ذمة إلى أخرى، بغض النظر عن سبب الدين، قد يكون قرضاً، قد يكون بيعاً، قد يكون شيئاً آخر ترتب عليه في ذمتك حق لي أو دين لي، فانتقاله إلى ذمة شخص آخر يسمى حوالة.

والحوالة ثابتة في كتاب الله تعالى، في قول الله عز وجل في سورة يوسف : قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72]، فقوله: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ معناه: أنا ضامن أو كافل أو شيء من هذا القبيل، وهذا يدخل فيه طبعاً جانب من موضوع الحوالة كما سوف نشير.

والسنة النبوية: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة حديث: ( مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل أو فليتبع )، الحديث متفق عليه عن أبي هريرة .

فقوله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم)، يعني: مماطلته في السداد هذا ظلم.

وقوله: (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل، أو أتبع على مليء فليتبع) يعني: إذا أحالك من لك عليه دين، وقال: اطلب الدين من فلان عنده لي نفس المبلغ أو أكثر منه، فعليك إذا كان الذي أحالك عليه مليئاً أن تقبل هذه الحوالة، هذا معنى قوله: فليحتل أو فليتبع، عليك أن تقبل هذه الحوالة وتنتقل إلى مطالبة الغريم الجديد، هذا سوف يأتي تفصيله.

المهم الحديث يدل على أصل الحوالة.

وأما الإجماع على جوازها فقد حكاه الموفق وغيره في المغني أن العلماء أجمعوا على جواز الحوالة وعلى مشروعيتها من حيث الأصل.

الحوالة هنا حوالة كما هو واضح بدين، يعني: لك دين على شخص، هذا الشخص أحالك بالدين على ذمة أخرى، أعتقد واضح معنى الحوالة أم لا؟

يعني: هل الحوالة على وفق القياس أم ليست على وفق القياس؟

أكثر الفقهاء من الحنابلة والشافعية والأحناف يرون أن الحوالة ليست على وفق القياس وأنها استثناء، لماذا استثناء؟ قال لك: لأن الأصل النهي عن بيع الدين بالدين، وعندنا حديث: ( نهى عن بيع الكالي بالكالي )، وهذا الحديث مر معنا كثيراً، وذكرنا أنه لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الفقهاء من حيث الجملة أجمعوا على المعنى؛ أنه لا يجوز بيع الدين بالدين.

طيب الآن الحوالة أليست صورتها في الظاهر أنها بيع دين بدين؟ بدل ما الدين بذمة محمد، أصبح بذمة صالح، فقالوا: هذا نوع من بيع الدين بالدين، ولذلك اعتبروه استثناءً من النهي عن بيع الكالي بالكالي، بيع الدين بالدين.

والذي يختاره ابن تيمية وابن القيم وجماعة: أن الحوالة وفق القياس، وأنها ليست استثناءً، سواء قلنا: أن الحوالة عقد مستقل، عقد إرفاق بالناس؛ لأن فيها فائدة لصاحب الدين وفائدة للمدين وفائدة للمحتال، وليس فيها ضرر على أحد منهم، وليست بيعاً، هذا يمكن أن يقال.

ويمكن أن يقال من وجه آخر -وهذا أيضاً ذكره ابن تيمية رحمه الله-: أن النهي عن بيع الدين بالدين ليس مطلقاً، ومادام لم يصح الحديث في النهي عن بيع الدين بالدين يبقى أن المسألة من كلام الفقهاء، فهناك صور متفق عليها أنه منهي عنها بيع الدين بالدين، ولعل أوضح صورة ينهى عنها في بيع الدين بالدين هو بيع دين السلَم بسلَم، يعني: كون السلم ثمنه مؤجلاً كما أن السلعة مؤجلة، يعني: أشتري منك مثلاً مائة كيس رز بعد سنة بماذا؟ بفلوس أو بذهب أو بشيء، لكن يكون أيضاً بعد سنة أو بعد سنتين أو بعد ستة شهور، فيكون الثمن مؤجلاً وتكون السلعة مؤجلة، هذه صورة من السلم المؤجل بطرفيه، التي ربما وقع الإجماع -كما ذكره غير واحد على تحريمها-، ولعل هذه هي الصورة التي يصح الإجماع عليها في النهي عن بيع الدين بالدين.

أما بقية صور بيع الدين بالدين، ففي كثير منها خلاف، وبعض العلماء أوصلها إلى عشر صور، كثير منها قد يكون له وجه من النظر.

إذاً: المقصود أن الحوالة سواء قلنا: أنها من باب بيع الدين بالدين وهي استثناء وليس هناك نهي عنها، أو قلنا: إنها عقد مستقل وهي وفق القياس، إلا أن العلماء متفقون على جواز الحوالة.

هذا فيما يتعلق بالقسم الأول الذي هو الحوالة.

القسم الثاني الذي ذكره المصنف هو الضمان، الضمان مشتق من ماذا؟ الفعل الذي اشتق منه ما هو؟

ضمن. بينما بعض الفقهاء يقولون: مشتق من ضَمَّ، وهذا في نظري أنه ضعيف أو خطأ؛ لأن الضمان فيه النون، والنون فيه أصلية، بخلاف ضم فليس فيه نون، فلذلك نقول: الضمان مشتق من ضمن، وإن كان في معناه الضم، لماذا نقول الضم في معناه؟ لأن الضمان فيه نوع من إشراك ذمتي مع ذمتك في ضمان الدين، وليس مثل الحوالة أنه انتقال الدين من ذمة إلى أخرى.

ولذلك نقول: إن الضمان هو التزام ما وجب في ذمة الغير مع بقائه في تلك الذمة، يعني: إذا كان لوكالة (تويوتا) عليك مال بمائة ألف ريال، فأنا أضمن هذا المال وأكتب عندهم في العقد أنني ضامن، هل ضماني يبرئ ذمتك من الحق الذي عليك؟ لا، وإنما ينضم إليك، ذمتي وذمتك تكون مشغولة، ولذلك نقول عن الضمان: إنه من عقود التوثيق، نقول: الضمان من عقود التوثيق، مثل ماذا؟ مثل الرهن، مثل الإشهاد، مثل الكتابة، هو من عقود التوثيق ومن أدوات التوثيق، مثل الكفالة أيضاً، الكفالة نوع من التوثيق للدين أو للحق.

كذلك ما يتعلق بالضمان هو جائز بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فكما تلونا في الآية: قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72]، فالزعيم هو الضامن، ولهذا نقول: الزعيم معناها الضمين، والضمين معناها الحميل الذي يحمل تبعة ومسئولية، والحميل معناها الصبير، يعني: الذي يصبر بالحق الذي على الآخر، والصبير معناها القبيل، يعني: الذي يستقبلك يكون هو المواجه لك في تحمل هذا الأمر، فهذه كلها معان متماثلة، الزعيم والضمين والصبير والقبيل والحميل.. كلها معان متماثلة . فهذا من القرآن الكريم دليل على جواز وأصل مشروعية الضمان.

أما من السنة النبوية، فقد روى أبو أمامة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: ( العارية مؤداة، والزعيم غارم )، لاحظ الزعيم الذي هو الضامن أو الكفيل، ( والزعيم غارم، والدين مقضي، والمنحة مردودة ). وهذا الحديث رواه أهل السنن؛ رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وذكر أنه قد جاء عن أبي أمامة من غير هذا الوجه، ورواه أيضاً أبو داود وابن ماجه والإمام أحمد والبيهقي في سننه، وصححه ابن حبان، ورواه النسائي في سننه الكبرى .

هذا الحديث حديث أبي أمامة في حجة الوداع، والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: ( والزعيم غارم )، وفيه فوائد منها أن العارية مؤداة والمنحة مردودة، وبالذات العارية؛ لأنه في خلاف في مسألة العارية كما سيمر.

فالمقصود أن هذا الحديث فيه كلام، فإن في سنده عند من ذكرنا: إسماعيل بن عياش، وإسماعيل منهم من ضعفه، ومنهم من قال: إنه صالح الحديث إذا روى عن قومه من أهل الشام من الشاميين، وضعيف في روايته عن غيرهم، وروايته هنا هي عن الخولاني، وهو من أهل الشام، فهي من روايته عن الشاميين، ولذلك صحح الحديث من ذكرنا: ابن حبان وغيره.

وأيضاً للحديث طريق آخر عند ابن حبان توبع فيه إسماعيل بن عياش، ولهذا صححه الشيخ الألباني، وذكرنا قبل قليل أن الترمذي أيضاً ممن صحح الحديث، فيبقى أن الحديث إذاً لا بأس بإسناده إن شاء الله تعالى.

طيب. إذاً الكتاب والسنة دلتا على موضوع الضمان.

وهكذا الإجماع، فقد حكى ابن قدامة وابن هبيرة .. وكثير من الفقهاء الإجماع على جواز الضمان ولا خلاف فيه، أنه يجوز أن تضمن شخصاً وتضم ذمته إلى ذمته في التزام هذا الدين.

طيب. ما هو الفرق بين الحوالة والضمان إذاً؟ الفارق الأساسي بين الحوالة والضمان، أننا فيما يتعلق بالحوالة ينتقل الدين من ذمة الأول إلى ذمة الثاني، وتبرأ ذمة الأول، بينما فيما يتعلق بالضمان هناك ضم ذمة الأول إلى ذمة الثاني، ويبقى كلاهما مطالباً بالحق، هذا فيما يتعلق بالفرق.

طيب. فيما يتعلق بالشبه بينهما، ما هو الشبه بين كل من الضمان والحوالة؟

نقول: إن الجامع بين الحوالة والضمان: أن في كل منهما شغل ذمة جديدة غير ذمة الأول، غير ذمة الأصيل، فأما في الحوالة فهو شغل ذمة جديدة بدل عن القديمة، وأما في الضمان فهو شغل ذمة جديدة مع القديمة، فنقول في كل منهما: انتقال إلى ذمة جديدة، لكن في الأولى انتقال مع فراغ الذمة الأولى وشغورها، وفي الثاني الذي هو الضمان: انتقال مع بقاء الحق متوجهاً للذمة الأولى، وأما ما يتعلق بالكفيل أو الكفالة فيأتي الكلام عنها بعد قليل.

يقول المصنف رحمه الله: [من أحيل بدينه على من عليه مثله فرضي فقد برئ المحيل] يعني: عندك عشرة آلاف ريال، ولك عشرة آلاف ريال، أو لفلان عشرة آلاف ريال فأحال بهذه العشرة على صاحب الدين، هذا معنى (على من عليه مثله)، طيب. لو كان في الذمة عشرين، وأحال بعشرة هل يجوز؟

من باب أولى؛ لأنه مادام أن الدين أكثر من الإحالة، نقول: يأخذ عشرة والعشرة الباقية تبقى في ذمته لصاحب الدين الأصلي.

إذاً: المقصود هنا: (من عليه مثله)، يعني: ما يكافئه، ولو وجد زيادة تبقى في ذمة المدين لصاحبه الأصلي هذا لا بأس به.

[على من عليه مثله فرضي]، من هو الذي رضي؟

المحال. هو يقول: (من أحيل بدينه فرضي)، يعني: كأن المؤلف هنا يشترط أنه لابد من الرضا؛ لأنه لما أحيل لك، أقول مثلاً: هذا الدين الذي لك علي عشرة آلاف ريال خذه من الأخ تركي، فإذا رضي وقال: خلاص أنا أذهب.. هنا برئت ذمتي وانتقل المطالبة إلى تركي، ومعنى ذلك أنه لو لم يرض فإنها لا تبرأ الذمة، ولا ينتقل.. هذا طبعاً ظاهر كلام المصنف.

طيب. عندنا في هذه الفقرة من كلام المصنف، عندنا أولاً: حكم الحوالة، هل يلزم أني أقبل الحوالة إذا أحالني على الأخ تركي، هل يلزمني قبولها أم بإمكاني أن أرفض وأقول: لا، أنا لا أعرف إلا أنت صاحب الدين، وأنت قبيلي ولا أعرف غيرك؟ الحديث ماذا يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟ ( إذا أحيل على مليء فليتبع )، من هو المليء؟

المليء له ثلاثة شروط: أن يكون مليئاً بماله -بالرصيد-، يكون عنده رصيد. هذا رقم واحد.

الشيء الثاني: أن يكون مليئاً بقوله، لا يكون مماطلاً: تعال بكرة.. تعال بعد بكرة!

الشرط الثالث: أن يكون مليئاً ببدنه، يعني: قابلاً أن ينتقل لو طلب للقضاء أو للمحكمة.

الإمام أحمد ذكر هذه الأشياء الثلاثة، وهذا أكمل ما يكون من الملاءة، أن يكون مليئاً بماله وقوله وبدنه، ونحن نقول: لا يلزم أن تكون الملاءة بكل هذه الأشياء الثلاثة، فالملاءة أمر عرفي، حتى لو كان إنساناً -مثلاً- عاجزاً عن الحركة، إذا كان عنده أموال ومعروف بالسداد ولا إشكال، فلا يلزم أن يكون مليئاً ببدنه مثلاً.

إذاً: هذا المقصود بالملاءة من حيث الأصل، طيب! هذا معنى المليء.

فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أحيل على مليء فليتبع )، هل الأمر هنا: (فليتبع) (فليحتل) يدل على الوجوب أو على الاستحباب، هل يجب أني أتحول إلى تركي وأطالبه بالدين بدلاً عن المدين الأول، أو لا يجب علي وبإمكاني أن أقول للمدين الأول: لا أعرف غيرك، وسدد أنت هات لي المال ممن شئت، الجمهور يرون أن هذا مستحب، وهذا مذهب الثلاثة: مالك وأبي حنيفة والشافعي ؛ يرون أن الأمر بالإحالة هنا مستحب وليس بواجب، لماذا؟ قالوا: لأن الناس يتفاوتون في سداد الدين، حتى المليء، وهذا دين توجب لي في ذمة فلان فلا ينتقل من هذه الذمة إلا برضاي وبموافقتي، هذا مذهب الجمهور.

القول الثاني: وهو مذهب الإمام أحمد وأبي ثور وابن جرير الطبري أنه يجب عليه أن يتحول إذا كان المحال إليه مليئاً، وحجتهم الحديث وأن فيه الأمر والأمر للوجوب.

والقول الثالث: وهو للكمال بن الهمام من الحنفية أنه قال: إن الأمر للإباحة، ولعل هذا أضعف الأقوال، ولا شك أن الأمر متردد بين الاستحباب وبين الوجوب، وقد يجب إذا لم يترتب على ذلك ضرر عليه، والضرر مدفوع، إذا كان يترتب عليه أي ضرر، مثلاً يقول: فلان أنا لا أعرفه، وقد يكون في بلد آخر، أو يخشى منه، أو يكون بينه وبين هذا الإنسان الذي أحيل عليه علاقة معينة تقتضي أنه يتضرر، كما لو أحاله على قريب له، أو على إنسان سيجامله مثلاً في المطالبة، فلا يلزمه في هذه الحالة أن يتحول؛ لأن عليه ضرراً، لكن إذا لم يكن عليه ضرر البتة، فهنا يجب عليه أن يقبل الحوالة.

هذه الحوالة لا تتم ولا تصح إلا بشروط، بعضهم أوصلها إلى عشرة شروط، المختار المهم منها أربعة شروط أساسية من أجل أن تكون الحوالة صحيحة:

الشرط الأول: تماثل الحقين

الشرط الأول: تماثل الحقين، أن يكون الحق الذي أحاله به مثل الحق الذي أحاله عليه، يتماثل الحقان في الجنس وفي الصفة وفي الوقت، في الجنس: مثل إذا كان الدين الذي له عليك ذهب، والدين الآخر مثلاً طعام أو فضة لا يحيله حينئذ، فتكون الحوالة في دين متحد الجنس.

وأيضاً أن يكون الدين متحد الصفة، فإذا كانت -كما يقولون- صحاحاً، إذا كان له عليه دراهم صحاح وله على الآخر دراهم مكسرة، لا يحل الصحاح بالمكسرة أو الجيد بالرديء؛ لأن هذا فارق مؤثر.

الجانب الثالث: هو الوقت، فلا يحيل بالمؤجل على الحالّ، أو بالحالّ على المؤجل؛ لأن هناك فارقاً مؤثراً، فإذا اتحد الدينان في الجنس والصفة والوقت وجبت أو صحت الإحالة. هذا الشرط الأول: تماثل الحقين.

الشرط الثاني: رضا المحيل

الشرط الثاني: أن يحيل المدين برضاه، يعني: أنا علي دين، فحولتك برضاي؛ قمت بتحويلك إلى تركي أن تستوفي منه، أنا صاحب الدين، يعني: الدين علي الآن، فأحلتك على فلان برضاي وليس بضغط منه، وهنا لابد من رضاي أنا المدين -المديون باللهجة العامية- هذا مذهب الجمهور، بل ربما نقول: مذهب الأئمة الأربعة كلهم، وإن اختلفوا في التعليل، لكنهم يتفقون على أنه لابد أن تكون الإحالة برضاي، لماذا لابد من رضاي؟ قالوا: لأنه هناك دين علي، كوني أسدده مباشرة، أو من ذمة تركي أو أحمد أو سامي ما في إشكال، فأنا أسدده كيفما تيسر لي، ولا يلزم أني أكره مثلاً على أن أحيل على فلان أو علان، فلابد من رضاي.

وهذا لا إشكال فيه أن يكون برضاه.

طيب. بالنسبة للمحال الذي له الدين هل يلزم رضاه؟

هذا الذي ذكرناه قبل قليل، أنه فيه الأقوال الثلاثة: قيل الوجوب، وقيل: الاستحباب وقيل: الإباحة، واخترنا أنه إذا كان عليه أدنى ضرر فإنه لا يلزمه ولابد من رضاه، أما إذا لم يكن عليه ضرر فلا يشترط رضاه.

بقينا في الثالث: المحال عليه هل يجب رضاه أم لا؟ الجمهور أيضاً لا يشترطون رضاه، ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أحيل أحدكم على مليء ) ما قال: على مليء راض أو موافق، وإنما قال: على مليء، فالمحال عليه لا يشترط رضاه؛ لأنه أنا أستطيع أستحصل الدين الذي عليه بنفسي، وأستطيع أن أستحصل الدين بمن؟

بغيري، مثلاً بالوكيل، أقدر على أن أوكل واحداً يأخذ الدين منه، وإذا جاءه الوكيل هل يستطيع أن يقول له: لا أعطيك، لازم أعطي صاحب الدين الأصلي؟ أبداً. يعطيني أو يعطي وكيلي، فالمحال مثل الوكيل، ولذلك الجمهور لا يشترطون رضا المحال عليه. فلي استيفاؤه بنفسي أو وكيلي أو من أحلته.

إذاً: عندنا ثلاثة: صاحب الدين الذي له الدين، وعندنا الذي عليه الدين، وعندنا الذي أحيل إليه، هؤلاء ثلاثة، فتبين لنا القول في إمكانية رضا كل واحد منهم.

نعيدها باختصار:

بالنسبة لي أنا مدين (مديون)، هل يشترط رضاي في تحويلك إلى الطرف الثالث أو لا؟ نعم يشترط؛ لأني أستطيع أن أسدد لك الدين بنفسي ولا أحيلك إلى غيري.

طيب. بالنسبة لصاحب الدين الذي هو المحال، هل يلزم رضاه أو لا يلزم؟ يلزم رضاه إذا كان عليه أدنى ضرر، فإذا لم يكن ضرر البتة فلا يلزم رضاه، وهذا مذهب الجمهور.

الطرف الثالث من هو؟ المحال عليه، وهذا أيضاً نقول: إنه لا يشترط رضاه عند الجمهور؛ لأنه يسدد الدين لي أو لوكيلي.

طيب. إذاً: ذكرنا شروط الحوالة:

الشرط الأول: تماثل الحقين.

الشرط الثاني: ما يتعلق برضا المحيل، وبحثنا ضمنها رضا المحال والمحال عليه.

الشرط الثالث: أن يكون الدين مستقراً

الشرط الثالث: أن يكون الدين مستقراً ثابتاً؛ فإن كان معرضاً للسقوط أو غير ذلك لم يصح؛ الفقهاء يضربون المثل بمال الكتابة، لو كان عندك عبد وكاتبته على أن يعطيك أقساطاً أو نجوماً مقابل أن يتحرر بعد أربع أو خمس سنوات، كل شهر يعطيك مائة ريال.. ألف ريال على أنه يتحرر بعد كمال المبلغ الذي عليه، هذه تسمى الكتابة: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33].

طيب. مال الكتابة هذا هل هو مستقر أو غير مستقر؟

غير مستقر؛ لأنه لو عجز بعد سنتين ما الذي يكون؟ يعود قناً، والمال الذي ذهب هل يطالب به؟ لا؛ لأنه مال أعطاه لسيده، فيقولون: دين الكتابة هنا غير مستقر، وهذا عند الحنابلة.

والشافعية يرون أنه لا بأس بالإحالة بمال الكتابة.

كذلك دين السلم -كما ذكرناه- غير مستقر؛ ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الإحالة به، وقال: ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره )، وهذا الحديث عن أبي سعيد الخدري عند أبي داود وابن ماجه والبيهقي، وفيه عطية بن سعيد العوفي وهو ضعيف، ولذلك لا يصح الحديث، وقد ضعفه الإمام أحمد وغيره: ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره ).

إذاً: الشرط الثالث: هو أن يكون الدين مستقراً.

ومن الدين غير المستقر -كما يذكر بعض الفقهاء- المهر قبل الدخول؛ لأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ [الأحزاب:49].. والآية الأخرى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]، فهذا غير ثابت، غير مستقر.

الشرط الرابع: أن يكون المال معلوماً

الشرط الرابع: أن يكون المال معلوماً؛ لأنه سبق أن ذكرنا من شروط البيع في الجملة العلم بالمبيع، والعلم بالثمن، فهكذا الحوالة لابد أن تكون بشيء معلوم وعلى شيء معلوم.

الشرط الأول: تماثل الحقين، أن يكون الحق الذي أحاله به مثل الحق الذي أحاله عليه، يتماثل الحقان في الجنس وفي الصفة وفي الوقت، في الجنس: مثل إذا كان الدين الذي له عليك ذهب، والدين الآخر مثلاً طعام أو فضة لا يحيله حينئذ، فتكون الحوالة في دين متحد الجنس.

وأيضاً أن يكون الدين متحد الصفة، فإذا كانت -كما يقولون- صحاحاً، إذا كان له عليه دراهم صحاح وله على الآخر دراهم مكسرة، لا يحل الصحاح بالمكسرة أو الجيد بالرديء؛ لأن هذا فارق مؤثر.

الجانب الثالث: هو الوقت، فلا يحيل بالمؤجل على الحالّ، أو بالحالّ على المؤجل؛ لأن هناك فارقاً مؤثراً، فإذا اتحد الدينان في الجنس والصفة والوقت وجبت أو صحت الإحالة. هذا الشرط الأول: تماثل الحقين.