مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين! سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس الفروق الجلية بين الشريعة الربانية والقوانين الوضيعة الوضعية، وقلت: هذه الفروق كثيرة متعددة يمكن أن نجملها في خمسة عشر فرقاً:

فذكرنا أن الشريعة الإسلامية مستمدة مأخوذة من رب البرية سبحانه وتعالى، وما في ذلك من دِلالات مَرَّ إيضاحها.

وذكرنا أن شريعة الله جل وعلا فيها علم تام كامل، وفيها حكمة كاملة، وفيها هدى ونور، وإرشاد العباد إلى أقوم الأمور، وفيها خير وبركة، وهي رحمة عظيمة من رحمات الله لعباده وعلى عباده، ولا تناقض فيها ولا تضارب ولا خلل، لا في ألفاظها ولا في معانيها وأحكامها، وشريعة الله هي أحسن الحديث، وهي -كما تقدم معنا- حياة حياتنا، وروح هذا العالم، وهي المهيمنة على ما عداها، وهي محترمة مقدسة، ومصونة أيضاً من العبث والتغيير والتحريف، تتسع نصوصها لما جد ويجد، ثم بعد ذلك فيها إنصاف بين المخلوقات، فلا تحيز فيها ولا محاباة.

هذه -إخوتي الكرام- أربعة عشر فرقاً، تقدم الكلام عليها، ووصلنا إلى الفرق الخامس عشر ألا وهو أنها: جنسية عظيمة فوق الجنسيات، جنسية فوق الجنسيات، في هذه الجنسية وحدة حقيقية بين المكلفين والمكلفات في هذه الحياة، عن طريق توحيد المشاعر والأفكار والعقائد والأعمال، فهذه الأمور تنتج بعد ذلك بين عباد الله الأخيار وجداناً مشتركاً، مهما تعددت أفرادهم كأنهم شخص واحد، وهم كالجسد الواحد، وكالبنيان المرصوص، يتساوون فيما يحبون وفيما يكرهون، ونظرتهم تستوي في هذه الحياة إلى جميع الأشياء تحليلاً وتحريماً، حباً وبغضاً، قرباً وبعداً، عندما وحَّد الإسلام بينهم في أفكارهم ومشاعرهم وأعمالهم وعقائدهم، فهم ذوات متعددة، لكنهم في الحقيقة شخص واحد.

إخوتي الكرام! كما قلت: هذه الجنسية العظيمة التي من الله بها علينا وهي الإسلام الذي ننتمي إليه، ونفتخر بذلك، وهو دين ذي الجلال والإكرام، هي أعلى الجنسيات، فكل مَن كان عبدا لرب الأرض والسماوات، دخل في هذه الجنسية إذا وحد الله جل وعلا: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52]، والله جل وعلا خلقنا من أبوين مباركين، من أبينا وسيدنا آدم وأمنا وسيدتنا المباركة حواء على نبينا وعليهما أفضل الصلاة والسلام، فنحن إذاً بعد ذلك إخوة في الإنسانية، وإخوة في شريعة رب البرية، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].

من مميزات الجنسية الإسلامية توحيدها بين الناس على جميع المستويات وجعلهم كالجسد الواحد

إخوتي الكرام! هذه الجنسية هي الجنسية الحقة على التحقيق، وهي التي ربطت بين الناس برباط محكم وثيق، فجعلت الناس كالبنيان المرصوص، وكالجسد الواحد، يألم كل واحد لصاحبه، ويشد كل واحد أزر أخيه وأزر صاحبه، هذه الجنسية العظيمة هي جنسية الإسلام، ولذلك ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه)، عليه صلوات الله سلامه والسلام، كما أن البنيان تترابط لبناته مع بعضها وكأنه قطعة واحدة، فهكذا حال الأمة الإسلامية.

والحديث إخوتي الكرام ثابت في المسند والصحيحين وسنن الترمذي والنسائي، ورواه شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق، والإمام الحميدي في مسنده، ورواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده، وهكذا ابن حبان في صحيحه، والإمام ابن أبي شيبة في مصنفه وفي كتاب الإيمان له أيضاً، ورواه البيهقي في عدد من كتبه: في السنن الكبرى، وفي كتاب الآداب، وفي كتاب شعب الإيمان، ورواه الإمام أبو الشيخ في كتاب الأمثال، ولفظ الحديث إخوتي الكرام من رواية سيدنا أبي موسى الأشعري: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه)، عليه الصلاة والسلام.

وراوي الحديث هو سيدنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، والحديث في الصحيحين وغيرهما، فهو في أعلى درجات الصحة، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الأوسط، والإمام الرامهرمزي في كتابه الأمثال من رواية صحابيين آخرين، من رواية سيدنا أبي هريرة، وسيدنا أبي سعيد رضي الله عنهم أجمعين، وعليه فهو من رواية أبي موسى وأبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهم أجمعين، عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام أنه قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه)، عليه صلوات الله وسلامه.

وكما أنه كالبنيان، فهو أيضاً كالجسد الواحد، وهذه الأعضاء مترابطة لا يمكن لعضو واحد إذا فُصل عن الجسد أن ينتفع به، هذه الأعضاء لا تقوم بوظيفتها ولا ينتفع منها إلا إذا كانت داخل الجسم، وهكذا الفرد المسلم ينبغي أن يكونه ضمن الأمة الإسلامية ينتفع بها وينفعها، ويساعدها وتساعده، كما هو الحال في أعضاء الجسد الواحد، وقد أشار إلى هذا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ففي مسند الإمام أحمد أيضاً والصحيحين، والحديث في مسند الحميدي أيضاً، ورواه الإمام أبو داود الطيالسي والإمام أبو نعيم في الحلية والبيهقي في عدد من كتبه منها الكتب الثلاثة المتقدمة: السنن الكبرى والآداب وشعب الإيمان له، ورواه الإمام أبو الشيخ في الأمثال، وهكذا الإمام الرامهرمزي في الأمثال وأبو نعيم في الحلية، هناك الحديث الذي تقدم من رواية أبي موسى وأبي هريرة وأبي سعيد، وهنا الحديث من رواية النعمان بن بشير، ورواه ابن حبان عن النعمان وعن سيدنا أبي موسى الأشعري أيضاً.

وهذه الرواية الثانية التي سأذكرها بأن (المؤمن للمؤمن كالجسد)، انظروها في جامع الأصول في الجزء السادس صفحة سبع وأربعين وخمسمائة، وانظروا الرواية الأولى التي تقدم ذكرها: (المؤمن للمؤمن كالبنيان)، في الجزء السادس أيضاً صفحة خمس وستين وخمسمائة، وانظروا رواية الطبراني كما قلت: من رواية أبي هريرة وأبي سعيد في المجمع في الجزء الثامن صفحة ثمان وثمانين ومائة، وانظروا جامع الجوامع للإمام السيوطي في الجزء الأول صفحة أربعين وأربعمائة.

الحديث الثاني كما قلت: من رواية النعمان بن بشير ، ورُوي عن أبي موسى الأشعري في صحيح ابن حبان عليهم جميعا الرحمة والرضوان، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

وفي رواية ولفظ ثابت أيضاً في الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (المؤمنون كرجل واحد)، فهم متعددون في الذوات، لكنهم في الحقيقة شخص واحد وشخصية واحدة، (المؤمنون كرجل واحد، إذا اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وفي رواية: (المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله)، يعني: مثل الرجل الواحد إذا اشتكى عينه يشتكي كله، وإذا اشتكى رأسه يشتكى كله، جميع الأعضاء تتألم، ويشعر الإنسان بالتنغيص والشدة والكرب عندما يقع ضرٌ على عضو من أعضائه، فاليد إذا ضُربت يسري الألم إلى سائر ذرات البدن، ويتألم الإنسان، وهكذا الصداع عندما يضرب في رأس الإنسان، يتألم جميع بدن الإنسان، وهذا حال أهل الإيمان، حالهم كالرجل الواحد، كالجسد الواحد يشد بعضه بعضاً، ويألم بعضه لبعض.

وهذا الحديث -إخوتي الكرام- كما قلت من رواية النعمان بن بشير وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين، وقد رُوي أيضاً من رواية سهل بن سعد رضي الله عنهم أجمعين في مسند الإمام أحمد بسند رجاله رجال الصحيح، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير والأوسط كما في المجمع في الجزء الثامن صفحة سبع وثمانين ومائة، وانظروه في الحلية أيضاً في الجزء الثامن صفحة تسعين ومائة، ولفظ حديث سيدنا سهل بن سعد رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن من أهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس)، وهذه رواية ثالثة.

وهناك رواية رابعة رواها الطبراني في معجمه الكبير عن بشير بن سعد الصحابي رضي الله عنه وأرضاه، انظروا الحديث في المجمع في المكان المشار إليه، وذكره الحافظ في الإصابة في ترجمة بشير بن سعد في الجزء الأول صفحة ثمان وخمسين ومائة، ولفظ حديث سيدنا بشير بن سعد رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (منزلة المؤمن من المؤمن كمنزلة الرأس من الجسد، متى ما اشتكى الجسد اشتكى له الرأس، ومتى ما اشتكى الرأس اشتكى سائر الجسد).

استطراد في الكلام عن علي بن المديني ووالده وبيان مرتبتهما

والروايات الأربع -إخوتي الكرام- كلها صحيحة ثابتة، إلا الرواية الأخيرة ففي إسنادها والد سيدنا علي بن المديني، وهو: عبد الله بن جعفر بن نجيح، خَرَّج له الإمام الترمذي في سننه، وهكذا الإمام ابن ماجة القزويني في سننه، لكنه ضعيف، والرواية صحيحة قطعاً وجزماً، يشهد لها ما تقدم من روايات ثلاث عن سيدنا أبي موسى والنعمان وسهل بن سعد رضي الله عنهم أجمعين.

قال الإمام الهيثمي في المجمع في المكان المشار إليه: عبد الله المديني متروك. والحكم في الحقيقة فيه شيء من الشدة، فهو لا يصل إلى درجة الترك كما نص أئمتنا، إنما هو في درجة الضعف، وإذا وُجد شواهد للحديث فإنه ينجبر، والمعنى -كما تقدم معنا- ثابت، وقد حكم عليه الحافظ في التقريب: بأنه ضعيف، قال: ضعيف، ويقال: إنه تغير حفظه بآخره، ثم أشار إلى أنه توفي سنة ثمان وسبعين بعد المائة، وذكر أنه خرج له الترمذي والإمام ابن ماجة القزويني رضي الله عنهم أجمعين، على أن الحاكم في المستدرك يصحح حديثه أينما ورد، يستدل بأحاديثه ويصححها، ولكن تعقبه الذهبي وقال: إن حديثه لا يصل إلى درجة الصحة، فاستمع مثلاً إلى كلام الحاكم في موطن من المواطن في المستدرك في الجزء الرابع صفحة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، يقول: عبد الله بن جعفر بن نجيح المديني، وإن شهد عليه ابنه -يعني علي بن المديني شهد على أبيه- وإن شهد عليه ابنه بسوء حفظه. وكما قلت: علي بن المديني ضعف والده، وهذه أمانة علمية، فهو ضعيف في الحفظ لا في عدالته وديانته، لكنه ضعيف في حفظه، وكان يخلط ويخطئ كثيراً، ولذلك حكم عليه أئمتنا بالضعف، فالابن حكم على الأب بالضعف، قال: وإن شهد عليه ابنه بسوء الحفظ، فليس ممن يُترك. فـالذهبي وافقه، وقال: ليس هو بمتروك، ولا احتج به أحد. يعني: هو لا يُترك، نحن معك، ما وصل إلى درجة الترك والنكارة، لكن حديثه لا يصل إلى درجة الحسن والصحة، فما احتج به أحد، فهو ضعيف، ولذلك قال الذهبي في الميزان: اتفقوا على ضعفه، وهكذا في المغني في الضعفاء: متفق على ضعفه، وحكم عليه بالضعف الحافظ ابن حجر أيضاً في التلخيص الحبير في الجزء الثالث صفحة أربع وتسعين، والعلم عند رب العالمين.

أما الولد وهو علي بن المديني، فهو إمام الدنيا في زمنه، وقد نعته الإمام الذهبي في السير في الجزء الحادي عشر صفحة إحدى وأربعين: بأنه أمير المؤمنين في الحديث، قال الإمام ابن حجر في التقريب: ثقة ثبت إمام، أعلم أهل عصره بالحديث وعِلله. ثم ذكر كلام عبدين صالحين عن مكانته: الأول: شيخ أهل الصناعة الحديثية الإمام البخاري، وهو من تلاميذ علي بن المديني رضي الله عنهم أجمعين، قال الإمام البخاري: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني. يعني: إذا حضرت في مجلسه أشعر حقيقة بأنني طالب، وهذا هو الإمام الذي يملأ العين، وقال شيخه -شيخ علي بن المديني - سفيان بن عيينة فيه: إن ما استفدته منه أكثر مما استفاده مني.

يقول: هو يستفيد مني وأنا شيخه، لكن أنا استفدت منه أكثر مما استفاد مني، هذا الشيخ يقول هذا عن تلميذه رضي الله عنهم أجمعين.

وقد توفي شيخ الإسلام أمير المؤمنين علي بن المديني سنة أربع وثلاثين ومائتين، وحديثه في صحيح البخاري والسنن الأربع إلا سنن ابن ماجه، نعم روى له الإمام ابن ماجه لكن في التفسير (فق) ولم يرو له في السنن.

تساوي المسلمين في الحقوق والواجبات

نرجع إلى الحديث: (مثل المؤمنين في توادهم وترحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

إخوتي الكرام! هذه الجنسية -كما قلت- مَنَّ الله بها على عباده، وألف بها بينهم، وهي حقيقة جنسية عظيمة، لا محاباة فيها لأحد على حساب أحد، وكل من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، بمجرد ما ينطق بهذا يساوي أعلى شريف في الدولة الإسلامية، بمجرد ما ينطقها، مهما كان أصله وفصله، ما دام أنه نطق بكلمة التوحيد صار له ما لأعلى مسلم في الدولة الإسلامية من الحقوق، وقد أشار إلى هذا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرنا أن المسلمين يتساوون ويتكافئون، كما ثبت في حديثه المبارك الميمون عليه الصلاة والسلام.

روى الإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن، وهكذا الإمام ابن ماجة في سننه، والحديث في السنن الكبرى للإمام البيهقي، وإسناد الحديث حسن من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند أيضاً وأبو داود في السنن والنسائي في سننه والبيهقي في السنن الكبرى عن سيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين، والحديث كما قلت: صحيح صحيح، أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ويجير عليهم أقصاهم، ويرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم).

(تتكافأ دماؤهم)، فلا فارق بينهم في ذلك، ومن قتل مؤمناً يقاد به ويقتل به، وليس بعد ذلك أن هذا شريف وهذا وضيع كما كان يوجد عند العرب في الجاهلية، أو هذا من هذه القبيلة فإذا قتل لا يقتل، وهذا إذا قتل يُقتل، أو أن هذا إذا قتل ينبغي أن نقتل مقابله عشرة من تلك القبيلة، هذه كلها -إخوتي الكرام- زالت بمجيء نور الرحمن بالإسلام.

الخصلة الثانية: (يسعى بذمتهم أدناهم) عهد الذمة، وعهد الأمان، إذا أعطاه أدنى مسلم لكافر ثبت له ذلك العهد، ولا يجوز لأحد أن يخفر هذه الذمة، وأن يرد هذا الجوار، فلو قُدر أن مسلماً من المسلمين، من أضعف أفراد الجيش، أمَّن كافرا من أجل أن يدخل إلى الدولة الإسلامية، ويرى نور رب البرية، ويرى الحياة الإسلامية، ليقضي له مصلحة فيها، بمجرد إجارة المسلم له وتأمين المسلم له، لا يجوز لأحد أن يؤذي هذا الكافر الحربي الذي دخل بإجارة مسلم هو من أدنى المسلمين، لا يجوز أن ينظر إليه نظرة احتقار، أو يؤذيه؛ لأن معه الأمان.

يا إخوتي الكرام! هل هذا يوجد الآن في الحقوق الوطنية التي يعيشها الناس؟! لا يوجد، لكن في الدولة الإسلامية أدنى المسلمين أجار واحداً ثبت له حق الجوار، ولا يجوز لأحد أن يخفر هذه الذمة، ولا أن ينقض هذا العهد.

(وهم يد على من سواهم، ويجير عليهم أقصاهم)، فكما أنه يسعى بالذمة أدناهم، أيضاً إذا أجار ينفذ ذلك.

(ويرد مُشِدُّهم على مُضْعفهم)، المشد: هو الذي عنده خيل مسرعة قوية جميلة حسنة نشيطة، ومضعفهم عنده خيل ضعيفة لا تحمله ولا تبلغه حاجته، فهذا يساعده، فهم يتساعدون فيما بينهم.

(ويرد متسريهم على قاعدهم) المتسري: هو الذي يخرج في السرية، ويقاتل في سبيل رب البرية، فالغنائم التي يحصلها يُشَرِّك فيها إخوانه الذين ما حضروا معه، فيشتركون في الغنائم، فالمتسري يرد على القاعد، والمشد الذي عنده خيل قوية يساعد المضعف، (وهم يد على من سواهم)، هذا هو حال المؤمنين إخوتي الكرام! يتكافئون فيما بينهم، فلا محاباة، ولا تفضيل لواحد على آخر في الدولة الإسلامية.

وهذا -إخوتي الكرام- أشار إليه ووضحه نبينا عليه الصلاة والسلام في كثير من أحاديثه الصحيحة والحسان، ثبت في صحيح البخاري وسنن النسائي، والحديث أصله مروي في سنن الترمذي وأبي داود، والرواية التي سأذكرها -كما قلت- في صحيح البخاري وسنن النسائي من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته)، وهذا الحديث -إخوتي الكرام- رُوي أيضاً عن صحابيين آخرين، فرُوي عن سيدنا عبد الله بن مسعود في معجم الطبراني الكبير، وعن سيدنا جندب بن عبد الله في معجم الطبراني الكبير كما في المجمع في الجزء الأول صفحة ثمان وعشرين، ورواية جندب رضي الله عنهم أجمعين أيضاً رواها الضياء المقدسي، والإمام الروياني في مسند كما في جمع الجوامع للإمام السيوطي صفحة اثنتين وتسعين وسبعمائة: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله).

ولذلك المسلم سيده ربه، من اعتدى عليه فخصمه السيد، هذا مسلم، كما أنه في المفاهيم الوطنية عندهم أن المسئول عن وطن ما هو المسئول عن رعايا تلك البقعة، وذلك الوطن، ومن اعتدى عليه يدافع عنه، فكذلك رب العالمين مسئول عن أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، من اعترضهم أو عارضهم أو آذاهم فخصمهم وخصمه رب العالمين سبحانه وتعالى، فلا تخفروا الله في ذمته، لا تنقضوا ولا تخونوا ولا تغدروا، ولا تردوا ذمة الله جل وعلا.

إسلام الذمي يسقط عنه ما كان قد وجب عليه من جزية

ولذلك إخوتي الكرام! نحن نقاتل الكفار -كما تقدم معنا- ليدخلوا في دين العزيز القهار، وإذا قبلوا الجزية فاستمع لهذا الحكم الشرعي الذي يقرره أئمتنا، والجزية -أولاً- مأخوذة من الجزاء كما قال أئمتنا؛ لأنه جزاء إعراضه عن الإيمان رُتب عليه شيء من الضريبة والمال إذلالاً له وصغاراً، وهي أيضاً من الإجزاء؛ لأن هذا المبلغ الذي يدفعه يجزئ في حقن دمه، ولا يجوز الاعتداء عليه، فيصبح له عهد الأمان، إذن: هي جزاء على عدم إيمانه، وهي تجزئ في المحافظة على ماله ودمه، ويصبح بعد ذلك في أمان الدولة الإسلامية.

والجزية -إخوتي الكرام- سوف تأتينا مباحثها ضمن مباحث الفقه، وهل هي مقدرة أو موكولة لرأي الإمام؟ الإمام أحمد له رأي من آراء ثلاثة: أنها موكولة لرأي الإمام يقدر ما يراه مصلحة على كل رأس ممن يطيق العمل، والنساء ليس عليهن جزية، وليس بعد ذلك على الأولاد، هذا محل اتفاق، إنما هي على كل محتلم يطيق العمل نشيط، ليس بمريض لا يستطيع أن يتحرك، فتقدر وتضرب عليه الجزية.

والمعتمد عند الحنابلة وهو مذهب الحنفية: أن الجزية على ثلاثة أقسام: فالفقير يؤخذ منه اثنا عشر درهماً، يعني دينار، والدينار في حدود خمسة غرامات من الذهب، وهو مبلغ يسير، والمسلم يدفع ضرائب أضعاف أضعاف ما يدفعه الذمي جزية، وهي تؤخذ فقط من المطيق على العمل مقابل أن يُحفظ في الدولة الإسلامية، ويعصم ماله ودمه، لكن هي من أجل إذلاله أيضاً، أنه يدفع لإشعاره بالذل عندما كفر بالله جل وعلا، فالفقير الذي ليس بغني وليس معدماً أيضاً، إنما عنده ما يكفيه لكنه ليس بغني ولا متوسط الحال، فيؤخذ منه اثنا عشر درهماً، ومتوسط الحال يؤخذ منه أربعة وعشرون درهماً، والغني الثري يؤخذ منه ثمانية وأربعون، فهي مرتبة هكذا: دينار، ديناران، أربعة دنانير، هذا عند أبي حنيفة والإمام أحمد رضي الله عنهم أجمعين، وهناك قول للإمام أحمد: أن أقلها يحدد، والأكثر موكول لرأي الإمام، والمالكية قالوا: أربعة دنانير على الغني والفقير بالتساوي، والإمام الشافعي قال: دينار واحد على الغني والفقير بالتساوي أيضاً.

وعلى كل حال: هذا سوف يأتينا ضمن مبحث الجزية إن شاء الله.

الذي نريد أن نقوله: إن هذه الجزية كيفما كان حالها، إذا أقر بها، وحال الحول، وحان وقت تسليمها، لو أسلم قبل أن يسلِّم الجزية سقطت عنه، مع أنها قد وجبت في رقبته، ولو وُضعت الدنانير في الميزان من أجل وزنها ليدفعها، وقبل أن توزن قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فنقول: خذ دنانيرك ودراهمك، وانصرف عنا، فقد صرت أخاً لنا لا يجوز أن نأخذ منك درهماً ولا ديناراً، فعندما قلت: لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، سقط عنك هذا المال، وهذا الإذلال.

وهذا عند الجمهور إخوتي الكرام! وما خالف في ذلك إلا سيدنا الشافعي كما سيأتينا؛ لأنه رأى أن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة، كما سأذكره إن شاء الله على وجه الاختصار، وقال: بما أنه حق ثبت، وهو حق مالي، فإذا آمن لا يسقط عنه، كما أن الزكاة تؤخذ من المسلم، فهذا أيضاً تؤخذ منه الجزية، وهي ثبتت عليه في حال كفره، فإيمانه بعد ذلك لا يسقط عنه هذا الحق، وهو أخ لنا لا خلاف في ذلك، لكن بالإجماع بعد إيمانه لا يؤخذ منه جزية، هذا محل إجماع، لكن الجزية السابقة تسقط عند الجمهور وما خالف في ذلك إلا الإمام الشافعي رضي الله عنهم أجمعين.

وقد روى الإمام أحمد في مسنده، والإمام أبو داود والترمذي في السنن، والحديث رواه الإمام ابن أبي شيبة في المصنف والطحاوي في مشكل الآثار، والإمام الدارقطني والبيهقي في السنن أيضاً، والإمام الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، والحديث في الحلية، ورواه الخلال في جامعه أيضاً، عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المسلم جزية)، والحديث رُوي أيضاً من طريق سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين في معجم الطبراني الأوسط كما في المجمع في الجزء السادس صفحة ثلاث عشرة: (من أسلم فلا جزية عليه)، فرواية سيدنا عبد الله بن عباس: (ليس على المسلم جزية)، ورواية ابن عمر: (من أسلم فلا جزية عليه).

قال الإمام الهيثمي: فيه من لم أعرفه، حديث سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين -إخوتي الكرام- فيه قابوس بن أبي ظبيان، قال الحافظ: فيه لين، ففي حديثه ضعف، روى له البخاري في الأدب المفرد وأهل السنن الأربع إلا الإمام النسائي، والإمام الترمذي بعد أن روى الرواية المتصلة: قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، عن نبينا عليه الصلاة والسلام: (ليس على المسلم جزية)، قال: إن الحديث رُوي مرسلاً؛ لإسقاط سيدنا عبد الله بن عباس.

قال الإمام الترمذي: والعمل على هذا عند عامة أهل العلم: أن النصراني.. -وأقول: وكذا اليهودي، وكذا من تؤخذ منه الجزية، فليس المراد خصوص النصراني فقط- أن النصراني إذا أسلم وُضعت عنه جزية رقبته، العمل على هذا عند عامة أهل العلم، توضع في المستقبل، هذا محل اتفاق، وما وجب عليه فيما مضى، أي: جزية السنين المتقدمة لو لم يدفعها، كما لو وجبت عليه جزية عشر سنين وما أداها، ثم جاء بعد ذلك وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ سقطت هذه الجزية عند الجمهور كما قلت، إلا عند الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، فإنه يقول: يطالب بها؛ لأنه حق وجب عليه في حال كفره، فلا بد من أدائه بعد إيمانه.

وقد روى الإمام أبو عبيد هذا الحديث في كتاب الأموال صفحة ست وستين، وهكذا الإمام ابن زنجويه في كتاب الأموال في الجزء الأول صفحة ثلاث وسبعين ومائة، رَوَيَا الأثر المتقدم أيضاً مرسلاً من طريق قابوس عن أبيه عن نبينا عليه الصلاة والسلام: (/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 172