تفسير سورة الأنعام [154-164]


الحلقة مفرغة

قال عز وجل: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [الأنعام:154]. قوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب ) أي: أعطينا موسى الكتاب، يعني التوراة. وقوله: ( تماماً على الذي أحسن ) يقرأ بفتح النون في (أحسن) على أنه فعل ماض، وفاعله إما ضمير الذي، أي: تماماً لإكرام الله ولنعمة الله على هذا الشخص الذي يحسن ويكون من المحسنين. يريد به جنس المحسنين، وتدل عليه قراءة عبد الله : ( تماماً على الذين أحسنوا)، وإما ضمير موسى عليه السلام، ومفعوله محذوف، وعلى هذا فقوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن ) يعني: تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به، أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع؛ من (أحسن الشيء): إذا أجاد معرفته. أي: زيادة على علمه على وجه التتميم. فعلى القول الأول يكون قوله تعالى: ( ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن ) يعني: تمام الكرامة والنعمة على الذي كان محسناً صالحاً، وعلى هذا فيكون إعراب (تماماً) أنه مفعول له أو مفعول لأجله. وعلى القول الثاني يكون قوله تعالى: ( ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن ) يعني: تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به، أو ( تماماً على الذي أحسن )، أي: على موسى الذي أحسن العلم والشرائع، فتكون الجملة حالاً من الكتاب، أي: حال كون الكتاب تماماً على الذي أحسن. وقرأ يحيى بن يعمر : ( على الذي أحسنُ ) بالرفع، أي: على الذي هو أحسن، أو: على الوجه الذي هو أحسن ما تكون عليه الكتب، قال ابن جرير : هذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، يعني: قراءة ( تماماً على الذي أحسنُ )، وإن كانت في العربية لها وجه صحيح فإن التفسير يعتبر هذه القراءة شاذة ولا يعتمدها. وقوله: ( وتفصيلاً لكل شيء ) أي: وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في الدين، (وهدى) يعني: هدىً لهم إلى ربهم في سلوك سبيله، (ورحمة) أي: عليهم بإفاضة الفوائد، (لعلهم)، أي: أهل الكتاب، ( بلقاء ربهم يؤمنون )، أي: يصدقون بلقائه للجزاء. ويلاحظ هنا أنه في الآية السابقة : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. ثم قال تعالى: (( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ))، فهل (ثم) في قوله تعالى: (ثم آتينا) هنا تفيد العطف مع الترتيب؟ الجواب: لا، ويؤيد هذا أن هذه الوصايا هي في هذا القرآن الكريم، فقوله تعالى: ( ثم آتينا موسى ) هل يفيد موسى أن أتى بعد القرآن الكريم؟! الجواب: لا، وهذا شاهد قوي لمن قال: إن (ثم) أحياناً لا تفيد الترتيب؛ لأنه لا يتخيل أن يكون محمد هو الذي أتى أولاً ثم موسى بعده عليهما السلام، ولذلك قال السيوطي في (الإكليل): استدل بقوله تعالى: ( ثم آتينا ) من قال: إن (ثم) لا تفيد الترتيب. وقال ابن كثير : و(ثم) هنا لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب، يعني: أن (ثم) هي هنا لمجرد العطف وليست للترتيب، كما قال الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده ففي هذا البيت مجرد عطف الخبر بدون إرادة الترتيب؛ لأنه لا يسود الابن الحفيد وبعده يسود الأب وبعده يسود الجد، بل يسود أولاً الجد ثم الأب ثم الحفيد. وقال أبو السعود : و(ثم) للتراخي في الأخبار، كما في قولك: بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب. يعني أن (ثم) هنا تفيد التراخي ولا تفيد الترتيب، وهي تفيد التراخي من ناحية أهمية الكلام أو مقدار ما يتعجب منه فيه، لكن ليس المقصود الترتيب الزمني، وإنما تفيد التراخي فيما يتعجب منه، أو التفاوت في الرتبة، فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به قديماً وحديثاً، ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى التوراة؛ فإنها مشتملة على الوصية المذكورة وغيرها مما هو أعظم من التوصية بها فقط، ثم أشار الله سبحانه وتعالى إلى أن التوراة وإن كنت تماماً على النهج الأحسن فالقرآن أتم منها وأزيد حسناً، فهو أولى بالمتابعة، أي: أن الله سبحانه وتعالى أثنى هنا على موسى وعلى التوراة، لكنه أشار في الآية التي تليها مباشرة إلى أن القرآن أعظم وأشرف وأكمل، كما قال تبارك وتعالى في سورة المائدة: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ... [المائدة:44] إلى آخر الآية، ثم بعد ذلك قال: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [المائدة:46]، ثم قال بعد ذلك: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48]، فالقرآن هو الحاكم على ما سبق من الكتب، وأشرف منها جميعاً.

ثم قال عز وجل مبيناً أن القرآن أفضل من التوراة وأزيد حسناً، فالقرآن أولى بالمتابعة من هذه الكتب: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]. قوله: (وهذا) أي: القرآن، ( كتاب أنزلناه مبارك )، يعني: أكثر نفعاً من التوراة ديناً ودنيا، ( فاتبعوه ) أي: اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام، ( واتقوا ) يعني: اتقوا مخالفته واتباع غيره؛ لأن القرآن نسخ ما قبله، ( لعلكم ترحمون ) أي: لعلكم ترحمون بواسطة اتباعه، وهو العمل بما فيه، وفيه إشارة إلى أنه لا رحمة بمتابعة المنسوخ وإن آمن صاحب هذه المتابعة بلقاء ربه، فلو أن امرءاً يؤمن بالآخرة، وأنه يوجد يوم قيامة وحساب وجنة ونار، لكن لا يتبع القرآن، وإنما يتبع كتاباً منسوخاً كالتوراة أو الإنجيل فإنه لا يستحق أن يرحم، ولا تجوز عليه الرحمة، والدليل على ذلك قوله: ( لعلكم ترحمون ) فلا سبيل إلى الرحمة إلا باتباع القرآن، أما اتباع ما نسخه القرآن فلن ينجي من العذاب، حتى لو آمن بقضايا الإيمان الأخرى. وتعلم القرآن فرض عين، أي أن الأمة كلها ينبغي أن تتعلم القرآن الكريم، لكن إذا قام بهذا الواجب طائفة بأن حفظوا القرآن وتعمقوا في علومه سقط الواجب عن الباقين، لكن ما الذي يتعين من القرآن؟ والجواب: هو ما لا تصح الصلاة إلا به، كقراءة الفاتحة. وهنا ملاحظة يشير إليها ابن كثير كثيراً في لطائف تفسيره المباركة، وهي الربط دائماً بين موسى وبين محمد عليهما الصلاة والسلام، والربط باستمرار بين القرآن وبين التوراة، وعيسى عليه السلام وإن كان هو بين محمد وبين موسى عليهم جميعاً الصلاة والسلام، لكن عيسى إنما جاء مكملاً ومتمماً لما جاء في التوراة، وأوجه الشبه بين رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام وبين موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كثيرة، والشواهد على ذلك كثيرة، يقول ابن كثير : إنه تعالى كثيراً ما يقرن بين الكتابين: القرآن والتوراة، كهذه الآيات. يعني: بعدما قال تبارك وتعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] قال: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:154-155]، فذكر التوراة ثم عقب بالقرآن الكريم، وفي قوله تبارك وتعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا [الأحقاف:12] قرن عز وجل بين كتاب موسى وبين كتاب محمد عليهما الصلاة والسلام، وقوله تعالى في أول السورة: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى [الأنعام:91] ثم قال بعدها: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا... [الأنعام:92] إلى آخر الآيات. وقال تعالى مخبراً عن المشركين: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ [القصص:48] فانظر إلى الربط -أيضاً- بين القرآن والتوراة. وكذلك في صدر سورة الإسراء يوجد هذا الربط، وفي سورة القصص في مواضع كثيرة، وفي سورة الأحقاف قال تعالى حاكياً عن الجن: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف:30]. والنجاشي كان نصرانياً، ومع ذلك لما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب سورة مريم بكى وقال: (إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة)، وورقة بن نوفل لما تلا عليه الرسول عليه الصلاة والسلام سورة العلق، قال: (هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى)، وهذا ليس إهمالاً لشأن عيسى، لكن صاحب الرسالة الأساسية هو موسى عليه السلام، وعيسى جاء مكملاً، فرسالة موسى كانت فيها الشرائع، وكان فيها الجهاد ونحو ذلك، بخلاف رسالة عيسى عليه السلام، فإنما جاء عيسى عليه السلام ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وكان يغلب على دعوة عيسى عليه السلام الرحمة.

ثم يقول تبارك وتعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ [الأنعام:156]. قوله: (أن تقولوا) علة لقوله: (أنزلنا) أي: كراهة أن تقولوا يوم القيامة. أو: لئلا تقولوا يوم القيامة ( إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) فالله سبحانه وتعالى يقيم الحجة على هذه الأمة، حتى لا يأتوا يوم القيامة فيقولوا: نحن ما جاءنا كتاب. وقوله: ( إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) هم اليهود والنصارى لعنهم الله ( وإن كنا عن دراستهم ) أي: عن تلاوة كتابهم ( لغافلين ) أي: لا علم لنا بشيء منها؛ لأنها ليست بلغتنا. قال أبو السعود : ومرادهم بذلك دفع ما يرد عليهم من أن نزوله عليهم لا ينافي عموم أحكامه، فلمَ لم تعملوا بأحكامه العامة؟! والمعنى: وإن كنا لا ندري ما في كتابهم؛ إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقى منه تلك الأحكام العامة ونحافظ عليها وإن لم يكن منزلاً علينا. وبهذا يتبين أن معذرتهم هذه غير مقبولة، مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم، كما أنه قد قطعت تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله -أيضاً- عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط. وقوله: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ [الأنعام:156] أي: بلغة غير لغتنا، فلم نتمكن حتى من معرفة الأحكام العامة التي تشملنا وتشملهم، كالأمر بالتوحيد ومكارم الأخلاق وغير ذلك، فالآن ما بقي لكم حجة، فقد آتاكم الله هذا الكتاب المبارك لعلة أن لا تقولوا: إنما أنزل الكتاب -التوراة والإنجيل- على طائفتين من قبلنا. فقد جاءكم الآن هذا الكتاب المبارك (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

ثم قال تبارك وتعالى: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام:157]. قوله: ( أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب )، يعني: كما أنزل عليهم ( لكنا أهدى منهم )، أي: لكنا أسرع إلى الحق وأسرع إجابة للرسول صلى الله عليه وسلم لمزيد ذكائنا وجدنا في العمل. ( فقد جاءكم بينة من ربكم ) كأن كلمة (فقد) متعلقة بمحذوف تنبئ عنه هذه الفاء التي يسمونها بالفصيحة، يعني: لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم. وإما أن تكون واقعة في جواب الشرط، يعني: إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما طلبتم وجاءكم ما كنتم تتعجلونه، ( فقد جاءكم بينة من ربكم )، أي: كتاب حجة واضحة، ( من ربكم ) يعني: جاءكم من ربكم كتاب، أو ( فقد جاءكم بينة من ربكم )، أي: بينة كائنة من الله تعالى لا يتوهم فيها السحر ( وهدىً ) أي: بإقامة الدلائل ورفع الشبه ( ورحمة ) أي: بإصابة الفوائد وتسهيل طريقكم وتيسيرها إلى أشرف الكمالات. وقوله: ( فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ) أي أن مجيء الآيات المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه؛ فإن هذا القرآن مشتمل على أقصى درجة من الهدى والرحمة والبيان والحجة والبرهان، فإذا كان هو بهذه الحالة فهل يوجد أظلم ممن يكذب بمثل هذا القرآن الذي اشتمل على أقصى وأعلى وغاية الهدى والرحمة، فإذا كان الأمر كذلك فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصرف عنها؟! أي: صرف الناس وصدهم عن اتباع القرآن الكريم، فجمع بين الضلال والإضلال، حيث كذب بآيات الله بنفسه، وصدف عنها، أي: صد غيره عن سبيل الله تبارك وتعالى، والمعنى: إنكار أن يكون أحد أظلم منه أو مساوياً له. وقوله: (( سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا ))، يعني: يصدون ويصرفون الناس عن آياتنا التي لو لم يصرفوا عنها لعرفوا إعجازها، أي: أنهم هم الذين يحولون بين الناس وبين آيات الله ومعرفة إعجاز كلام الله. وقوله: ((سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ))، يعني العذاب السيء، وهذا كقوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88] أي: لأنهم كانوا فاسدين في أنفسهم ومفسدين لغيرهم، فكانوا كافرين في أنفسهم وصادين الآخرين عن سبيل الله، وكانوا يصدفون عن آيات الله، فحملوا وزرهم ووزر الذين أضلوهم بغير علم، فلذلك قال: ( زدناهم عذاباً فوق العذاب )، فهم يحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم، ولا يشترط أن يكون لهم في ذلك حجة، لكن المقصود المبالغة في إبطال كل المعاذير المحتملة التي يحتمل أن يعتذروا بها، وهذه المسألة متعلقة بمسألة أخرى، وهي حال المشركين قبل نزول القرآن الكريم قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، فهل هم مسئولون عن الشريعة فهل هم من أهل النار، أم أنهم معذورون؛ لأنه لم يأتهم رسول؟ والظاهر أنهم كانوا على بقية من دين إبراهيم عليه السلام؛ لحديث: (إن أبي وأباك في النار).

ثم قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام:158]. قوله: ( هل ينظرون )، يعني: قد أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما كانوا يعتقدون من الرسالة، فما ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدهم عن آيات الله؟ قال البيضاوي : أهل مكة، وهم ما كانوا منتظرين لذلك، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين. يعني أن هذا الشيء الذي سيقع يلحقهم تماماً كما يلحق الشخص الذي ينتظر الذي سيقع. وقوله: ( إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك )، يعني: للحكم والفصل والقضاء بين الخلق يوم القيامة، قال ابن كثير : وذلك كائن يوم القيامة. وهذه الآية هي كما قال عز وجل: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة:210]، ومذهب السلف إمرار ذلك بلا كيف، أي: لا يتعرض الإنسان لتأويل قوله تعالى: ( إلا أن يأتيهم الله )، أو قوله تعالى: ( أو يأتي ربك )، ولا يقل: كيف الإتيان؟ ولا يقال: لله سبحانه وتعالى كيف. لأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فنثبت الصفة على ما يليق بالله عز وجل، ولا نشبه الله بخلقه، وفي نفس الوقت لا نعطل الصفة ولا ننفيها، هذا هو مذهب السلف. وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ) قيل: ملائكة الموت لقبض أرواحهم. والتفسير المعتمد هو أنه تأتيهم الملائكة يوم القيامة. وقوله تعالى: ( أو يأتي بعض آيات ربك ) وهذا كائن قبل يوم القيامة، وهو من أمارات الساعة وأشراطها، كما روى البخاري في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها)، لكن هذا الإيمان لن ينفع، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل) ورواه مسلم أيضاً، ولـمسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض). وقوله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) جملة: (لم تكن آمنت من قبل) صفة لـ(نفساً) وجملة ( أو كسبت في إيمانها خيراً ) عطف على (آمن)، والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء يؤمن الناس إذا رأوه؛ لأن هذه الآية حينئذٍ فيها إلجاء وفيها اضطرار إلى الإيمان؛ لأنهم إذا رأوا الشمس تطلع من المغرب علموا أن هذه الآية قاطعة على قدرة الله سبحانه وتعالى الذي أتى بها من المغرب، وحينما يعلمون أن القرآن أخبر بذلك وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك وأن الساعة تكون قد اقتربت من هذه العلامة، فحينئذ يؤمنون، لكن هذا الإيمان لا ينفع؛ لأن أوان التكليف قد انتهى، ففي هذا الوقت يتوقف وينقطع أوان التكليف عند حصول هذه الآية، فلن ينفع الإيمان حينئذٍ نفساً غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور هذه الآية، فالإيمان الذي ينفع الإنسان هو الذي يكون قبل أن تظهر هذه الآية، أما إذا ظهرت فلا ينفع ذلك الإيمان. وكذلك إذا كان الشخص مؤمناً قبل مجيء هذه الآيات كطلوع الشمس من مغربها، ولكن مع إيمانه لم يكتسب في إيمانه خيراً، ولم يستكثر من الأعمال الصالحة، فإنَّه في هذا الوقت لا يستطيع أن يستزيد، بل يتوقف أوان التكليف في هذه الحالة، فهي تشمل كل الناس، تشمل المؤمنين وتشمل الكافرين، تشمل الكافر الذي يؤمن حين تأتي الآية، وتكون الآية في حقه مثل الغرغرة، فلا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت؛ لأنه إيمان ناشئ عن اضطرار وعن إلجاء بظهور هذه الآية العظيمة، وكذلك النفس المؤمنة التي لم تكسب في إيمانها خيراً لا تستطيع بعد ظهور هذه الآية أن تزيد في عملها شيئاً. يقول: والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء -وهي آية ملجئة مضطرة- ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآية، أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً، فتوبتها حينئذ لا تجزئ. يعني أن المؤمن أو المسلم الذي هو فاسق ولم يكتسب خيراً بالتوبة قبل ظهورها إذا جاءت هذه الآية وأراد أن يكتسب الخير ويعمل أعمالاً صالحة أو يتوب لا ينفعه ذلك. قال الطبري : معنى الآية: لا ينفع كافراً لم يكن آمن قبل الطلوع إيمان بعد الطلوع، ولا ينفع مؤمناً لم يكن عمل صالحاً قبل الطلوع عمل صالح بعد الطلوع؛ لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذٍ حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة، وذلك لا يفيد شيئاً، كما قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر:85] فإذا أتى عذاب الله لا تقبل التوبة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر). وبالجملة فالمعنى أنه لا ينفع من كان مشركاً إيمانه، ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة، وذلك لذهاب زمن التكليف. قال الضحاك : من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك. وكأنه يقول: إن هذه الحالة غير مذكورة هنا في الآية؛ لأن الآية سكتت عن الشخص الذي كان قبل نزول الآية مؤمناً يعمل صالحاً، فسكت عن كونه بعد طلوع الآية يتوقف -أيضاً- عمله ويتوقف التكليف في حقه، فـالضحاك يذهب إلى أن هذه الحالة لا تستوي مع الحالتين السابقتين: حالة الكافر الذي يؤمن عند نزول الآية، فإنه لا ينفعه بعد ذلك أن يؤمن، أو المسلم الفاسق الذي لم يتب قبل نزول هذه الآية، فإنه لا تنفعه توبته عند طلوع الشمس من المغرب، وسكتت عن المؤمن الذي كان قبل الآية مؤمناً وكان يعمل الصالحات مستقيماً، فلذلك يقول الضحاك : من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك. فأما من آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية فلا يقبل منه؛ لأنها حالة اضطرار، كما لو أرسل الله عذاباً على أمة فآمنوا وصدقوا، فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك؛ لمعاينتهم الأهوال والشدائد التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة، وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهي أنه إذا نزل عذاب الله لا يقبل التوبة من هؤلاء القوم؛ لأنهم رأوا من الآيات ما يجعلهم يوقنون ويؤمنون، لكن العبرة بالإيمان الاختياري، أما هذا فهو إيمان اضطراري، كإيمان الكفار يوم القيامة حين يقولون كما حكى الله عنهم: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا [السجدة:12]. وقال ابن كثير : إذا أنشأ الكافر يومئذ إيماناً لم يقبل منه، فأما من كان مؤمناً قبل ذلك فإن كان مصلحاً في عمله فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحاً فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته، كما دلت عليه الأحاديث، وعليه يحمل قوله تعالى: ( أو كسبت في إيمانها خيراً ) أي: لا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن صاحبها عاملاً به قبل ذلك، أي: قبل مجيء الآية. والأحاديث المشار إليها منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه)، وروى الترمذي عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (باب من قبل المغرب مسيرة عرضه -أو قال: يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة- خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه) أي: لا يغلق باب التوبة حتى تطلع الشمس من المغرب، ولـأبي داود والنسائي من حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، يعني نهاية التوبة في عمر الدنيا، لكن هناك توبة في حق كل واحد منا، وهي ما قبل الغرغرة، وحديث أبي داود والنسائي عن معاوية رضي الله عنه مرفوعاً: (لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) قال ابن حجر : سنده جيد، والظاهر أن القاسمي يقصد ابن حجر العسقلاني ، وإلا فبعض المصنفين -للأسف- أحياناً يعمل نوعاً من التدليس، فيقول: وصححه ابن حجر أو: وحسنه ابن حجر. ويكون يقصد بذلك ابن حجر الهيتمي ، بالتاء المثناة، وهذا يثبت التدليس، وهذا مثل الذي يقول مثلاً: رواه البخاري ، وهو صادق في أنه رواه البخاري ، لكن عند الإطلاق يفهم أنه رواه البخاري في الجامع الصحيح، ويكون الحديث في (الأدب المفرد) أو في (التاريخ الكبير) أو في غيرهما من الكتب التي هي للبخاري ، فهذا -أيضاً- نوع من التدليس إذا تعمده الإنسان، فحين يقول: رواه البخاري ويسكت، ولا يقول: رواه البخاري في (الأدب المفرد) يعتبر كلامه إيهاماً، ولذلك تجد رموز الجامع الكبير للسيوطي أو الصغير تختلف، فـ(خ) للبخاري ، و(خد)

ثم بين تبارك وتعالى أحوال أهل الكتاب إثر بيان أهل المشركين، فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]. قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم ) أي: اختلفوا فيه مع وحدته في نفسه، فهو دين واحد أصلاً، لكن هم الذين تفرقوا فجعلوه أهواءً متفرقة ( وكانوا شيعاً ) أي: فرقاً تشيع كل فرقة إماماً لها بحسب غلبة تلك الأهواء، وكل شيعة تناصر من اتخذته إماماً في هذه الأهواء، فلم يتعبدوا إلا بعادات وبدع، ولم ينقادوا إلا لأهواء وخدع. وقوله: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي: من عقابهم، أو: أنت بريء منهم محمي الجناب عن مذاهبهم، أو المعنى: اتركهم؛ فإن لهم ما لهم. قال القاشاني : أي: لست من هدايتهم إلى التوحيد في شيء، لا تقدر أنت على هداية قلوبهم، وليست مسئوليتك أنت؛ إذ هم أهل التفرقة لا يجتمع همهم ولا يتحد قصدهم. وقوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ)، أي: في جزاء تفرقهم ومكافأتهم لا إليك. وقوله: (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ)، يعني: إذا وردوا يوم القيامة. وقوله: (بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)، أي: من السيئات والتفرقة لمتابعة الأهواء، ويجازيهم على ذلك بما يماثل أفعالهم. قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي : نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى. وروى العوفي عن ابن عباس في الآية: أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا. وحمل بعضهم الآية على أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة، وخاصة على الخوارج، ورووا في ذلك حديثاً رفعوه، ولا يصح إسناده كما قال ابن كثير . ثم قال ابن كثير : والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له؛ فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا اضطراب، فمن اختلفوا فيه وكانوا شيعاً -أي: فرقاً- كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات فإن الله تعالى قد برأ رسوله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ... [الشورى:13] إلى آخر الآية، والمقصود بذلك: وحدة الدين، وجميع الأنبياء دعوا إلى دين الإسلام، وفي الحديث: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات)، يعني: أولاد زوجات شتى لرجل واحد، فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء، والرسل برآء منها، كما قال تعالى: (( لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ))، فهذا التفرق والتشيع والتحزب ليس من الدين في شيء. ثم قال: (( إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ))، وهذا كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الحج:17] وقد أخرج أبو داود عن معاوية رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة)، ورواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو، وفيه: قالوا: (من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي).

ثم بين لطفه سبحانه وتعالى في حكمه وعدله يوم القيامة، فقال عز وجل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]. قوله: ( من جاء بالحسنة ) يعني: من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة، ( فله عشر أمثالها ) يعني: عشر حسنات أمثالها في الحسن. قال المهايمي : كمن أهدى إلى سلطان عنقود عنب، يعطيه بما يليق بسلطنته لا قيمة العنقود، والعشر أقل ما وعد من الأضعاف، وقد جاء الوعد بالسبعين، وبسبعمائة، وبغير حساب، ولذلك قيل: المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص؛ لأن المضاعفة أقلها عشر، الحسنة بعشر أمثالها، لكن هذا لا يمنع المضاعفة بأكثر من ذلك، أو أريد بعشر أمثالها مطلق الكثرة وليس عدد العشر بالذات؛ لأن من الأعمال ما يضاعف إلى سبعين، ومنها ما يضاعف إلى سبعمائة، ومنها ما يضاعف بغير حساب بلا حدود. قوله: ( ومن جاء بالسيئة ) أي: بالأعمال السيئة، ( فلا يجزى إلا مثلها ) أي: في القبح. قال المهايمي : فمن كفر خلد في النار، فإنه ليس أقبح من كفره، كمن أساء إلى سلطان يقصد قتله، ومن فعل معصية عذب بقدرها، كمن أساء إلى آحاد الرعية. أي: لأن الشرك إساءة إلى الله سبحانه وتعالى، بخلاف الإساءة للخلق فهذه تكون معصية، لكن الإساءة إلى الله سبحانه وتعالى بالشرك بأنواعه ليست كغيرها من المعاصي. والأحاديث كثيرة في معنى هذه الآية، منها قوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تعالى: (إن ربكم تبارك وتعالى رحيم، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر، إلى سبعمائة، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله عنه، ولا يهلك على الله إلا هالك)، أي: لا يهلك على الله إلا إنسان موغل في الإجرام؛ بحيث يستحق أن يهلكه الله؛ لأن هذا الإنسان الذي يهلك معناه: أن آحاده غلبت عشراته، أي: آحاد المعاصي عنده غلبت عشرات الحسنات، فالحسنات تضاعف إلى عشر أمثالها أو إلى سبعمائة ضعف أو إلى ما شاء الله، فإن كان له حسنات وضوعفت هذه المضاعفة فإنه يتوقع أن تكون كثيرة، ثم السيئات إما أن يعفو الله سبحانه وتعالى عنها، وإما أن يعطيه السيئة بمثلها آحاداً، لكن هذا إنسان غلبت آحاده مئاته، فكل هذه الأضعاف غلبتها آحاد السيئات، ومعنى هذا أنه هالك عن جدارة وعن استحقاق، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ولن يهلك على الله إلا هالك). وروى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر، من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة). وروى الشيخان عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة) هذا لفظ البخاري ، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله)، يعني أن اليوم يساوي عشرة أيام.

ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يخبر أولئك المفرقين دينهم بما أنعم سبحانه وتعالى عليه من إرشاده إلى دينه القويم، فقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].

ثم قال عز وجل مبيناً نعمته على نبيه: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:161]. قوله: ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) هو دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده المخلصين ( ديناً قيماً ) النصب هنا على البدل؛ لأن قوله: ( إلى صراط مستقيم ) يعني: صراطاً مستقيماً، و( ديناً ) نصب على البدل من محل (إلى صراط)؛ لأن معناه: هداني صراطاً، بدليل قوله تعالى: وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:175] ، أو أنه مفعول لمضمر يدل عليه المذكور، فقوله: (( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا )) يعني: عرفني ديناً قيماً: (( مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا )) أو مفعول (هداني) فقوله: ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً ) يعني: هداني ديناً، فـ(هدى) يتعدى إلى مفعولين، و(قيماً) صفة (ديناً)، ويقرأ بالتشديد: (قيّماً)، أي: ثابتاً أبداً لا تغيره الملل والنحل، ولا يستطيع أحد أن يغيره ويبدله، ولا تنسخه الشرائع والكتب، يقوم ويعدل ويصلح أمر المعاش والمعاد، و(قيماً) أصلها: (قوماً)، كـ(عوض)، فأعل لإعلال فعله. وقوله: ( ملة إبراهيم حنيفاً ) ( حنيفاً ) حال من إبراهيم، يعني أن إبراهيم كان حنيفاً مائلاً عن كل دين وطريق باطل إلى دين الإسلام ودين الحق، فـ(حنيفاً) يعني: مائلاً عن كل دين وطريق باطل فيه شرك ما. وقوله: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اعتراض مقرر لنزاهته عليه السلام عما عليه المفرقون لدينه من اعتقاد وعمل، وفي قوله: ( وما كان من المشركين ) إشارة إلى أن إبراهيم بريء من هؤلاء الذين يزعمون الانتساب إلى إبراهيم مع أنهم واقعون في الشرك، سواء أكانوا من مشركي العرب أم من اليهود أم من النصارى، قال ابن كثير : هذه الآية كقوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123]، وليس يلزم من كونه أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها. أي: هل يلزم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر باتباع إبراهيم أن معنى ذلك أن يكون إبراهيم أكمل عند الله من رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام؟ الجواب: لا يلزم ذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قام بها قياماً عظيماً، وأكملت له صلى الله عليه وسلم إكمالاً تاماً ولم يسبقه أحد إلى هذا الكمال، ولهذا قال: (أنا خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم). وهو صاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق، حتى إبراهيم الخليل نفسه عليه السلام، كما في حديث الشفاعة، فإن جميع الأنبياء يحيلون الشفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (أنا لها أنا لها)، عليه الصلاة والسلام، فيظهر الله سبحانه على مشهد من جميع الأمم وجميع الأنبياء والمرسلين وجميع الخلائق يوم القيامة شرف رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. عن ابن أبي أبزى عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: (أصبحنا على كلمة الإسلام وكلمة الإخلاص وملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)، وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قيل لرسول صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال: (الحنيفية السمحة) ، وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبيه لأنظر إلى زخم الحبشة، حتى كنت التي مللت فانصرفت عنهم، وقالت عائشة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: ليعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة).

ثم قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]. هذا المأمور به متعلق بفروع الشرائع، وما سبق متعلق بأصولها. أي: أن الأمر السابق أمر متعلق بأصول العقيدة، وهو قوله تعالى: ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين )، فقرر الأمر هنا؛ لأنه يقصد هنا فروع الشريعة، والقضايا العملية، فقوله: ( قل إن صلاتي ) يعني: صلاتي إلى الكعبة (ونسكي) يعني: طوافي وذبحي للهدايا في الحج والعمرة أو عبادتي كلها؛ لأن النسك يطلق إما على الذبح، وإما على العبادة كلها. وقوله: ( ومحياي ومماتي ) يعني: ما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح، أو ( محياي ) يعني: طاعات الحياة و(مماتي) الخيرات المضافة إلى الممات، كالوصية والتدبير، أو الحياة والممات لله رب العالمين. وقوله: (لا شَرِيكَ لَهُ) يعني: خالصة لله لا أشرك فيها غيره، (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) أي: بذلك القول أو بذلك الإخلاص أمرت، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) يعني: من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته. قال ابن كثير : يأمر تعالى نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2404 استماع