تفسير سورة البلد


الحلقة مفرغة

سورة البلد مكية بإجماعهم، وهي عشرون آية. قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [البلد:1-3]، (لا أُقْسِمُ) فيها قولان: القول الأول: أن معناها: أقسم، وإنما أدخلت (لا) في التوكيد، فـ(لا) زائدة، وهذا معهود في لغة العرب، كما قال الله تبارك وتعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الحديد:29]، يعني: ليعلم، فهي مزيدة للتوكيد. القول الثاني: أن هذا التركيب: (لا أقسم) صيغة من صيغ القسم. فقوله تعالى: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني: أقسم بهذا البلد، وهو مكة المكرمة.

قال تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:2] يعني: أقسم بهذا البلد وأنت في هذا البلد، فالقسم مقيد بكون النبي صلى الله عليه وسلم حالاً بهذا البلد، وفيه عناية بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله أقسم بالبلد لأجل وجود النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وفيه الإشارة إلى عدم شرف أهل مكة، وأنهم جهلوا جهلاً عظيماً بهمهم بإخراج من هو حقيق بالبلد، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أحق الناس أن يقيم في بلد الله الحرام، وشرف هذا البلد يتم بحلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فمثل هذا حقه أن يوقر وأن يؤمن به وأن يتبع وأن يصدق، لا أن يطرد ويخرج من هذا البلد. قال الشهاب: والحل صفة أو مصدر بمعنى: الحال، ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة. إذاً: قوله تعالى: (( وَأَنْتَ حِلٌّ )) أي: وأنت حال مقيم موجود في هذا البلد، وقيل معناه: وأنت يستحل فيه حرمتك، ويتعرض لأذيتك، ففيه تعجيب من حالهم في عداوته، وتعريض بتجميعهم وتفريقهم؛ لأنه لا يستحل فيه الحمام، فكيف يستحل فيه دم مرشد الأنام عليه الصلاة والسلام! وقيل: معناه (( وَأَنْتَ حِلٌّ )) به في المستقبل، أي: سيحل له القتال فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا البلد حرمه الله عز وجل، وإن مكة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار) يعني: ساعة الفتح، فعندما فتحها أحل الله له أن يفعل بأعدائه ما يشاء، ثم قال: (فإن ترخص أحد بقتال النبي صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لك)؛ فلذلك فإن مكة البلد الحرام لا يجوز لأحد أن يستحل القتال فيها بحال من الأحوال. وهذه السورة مكية بإجماع المفسرين، وسورة النصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2].. إلى آخرها هي آخر سورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يدل على أن في هذه الآية إخباراً بشيء لم يكن قد وقع، فقوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني: سوف يأتي وقت تحل لك فيه مكة، وذلك ساعة من النهار كما حصل في فتح مكة، ثم عادت حرمتها بعد الفتح كما كانت قبل الفتح. فهذه الآية إشارة إلى ما سيقع من فتح مكة وإحلالها له صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار يقتل فيها ويأسر، مع أنها ما أحلت لأحد قبله ولا تحل لأحد بعده، ففيه تسلية له ووعد بنصره وإهلاك عدوه. والحل على هذين الوجهين ضد الحرمة، قال بعض المفسرين: هذا فيه بعد، لاسيما الوجه الأخير، فالتفسير الأول أولى، يعني: وأنت حال في هذا البلد، أي: أقسم بهذا البلد وأنت حال فيها، وفي ذلك زيادة في شرفها لوجودك وحلولك فيها. قال بعضهم: وإنما كان الأول أولى لتشريفه صلى الله عليه وسلم، بجعل حلوله به مناطاً لأعوانه، فهذا تشريف لمكة حتى أقسم الله بها؛ وإنما زاد شرفها لوجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها، مع التنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب بذكر بعض مواد المكابدة على نهج براعة الاستهلال، وأنه كابد المشاق، ولاقى من الشدائد في سبيل الدعوة إلى الله ما لم يكابده داع قبله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذا القسم: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) جوابه في قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، فذكر هذا القسم بالبلد مع حلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه تحقيق لمضمون الجواب، وهو أن الإنسان بالفعل خلق في كبد، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم كابد من المشاق، ولاقى من الشدائد في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ما لم يكابده داع قبله صلوات الله عليه وسلامه.

قال تعالى: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [البلد:3] هذا عطف على قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1] يعني: أقسم بوالد وما ولد، قيل: يعني: آدم وذريته، وقيل: إبراهيم وولده، والصواب -كما قال ابن جرير -: أن المعني به كل والد وما ولد؛ لأن الصيغة صيغة عموم، قال ابن جرير : وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل، يعني: من أراد أن يخصصه بآدم أو بإبراهيم أو غيرهما، فلابد أن يأتي بحجة نقلية أو عقلية، ولا سبيل إلى شيء من ذلك، قال ابن جرير : ولا خبر بخصوص ذلك، ولا برهان يجب التسليم له بخصوصه. وقوله تعالى: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) عبر بما مكان من للعاقل كما في قول الله تبارك وتعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] والمقصود: من طاب، فإذا كان التركيب على الوصف تستعمل ما، ومثله قول الله تبارك وتعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [آل عمران:36] يعني: والله أعلم بأي مولود عظيم الشأن وضعته. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: فإدخال (ما) على (من) لإرادة الوصف، يفيد التعظيم في مقام المدح، وكأنه لا يحتمل كنهه لشدة إبهام ما؛ لأن الإبهام في (ما) أشد، فكأن هذا الشيء المعظم لا يشتبه وصفه؛ ولذا أفادت التعجيب وإن لم يكن استفهاماً كما في قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) أي: أي مولود عظيم الشأن وضعته. فقوله تعالى: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) إن كان المقصود آدم أو إبراهيم فذكر (ما) ظاهر، فيكون المراد إبراهيم الوالد، وولده محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عظيم عجيب، أو يكون المراد آدم وذريته فالتعجب من كثرتهم يعني: وما أدراك ما هذا الذي ولد له هذا الوالد وهو: آدم وكل ذريته؟! فالتعجيب هنا من خصائص آدم وذريته التي اختصوا بها على سائر المخلوقات كالنطق والعقل وحسن السيرة.. إلى آخر تلك الخصائص.

قال عز وجل في جواب القسم: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] أي: في شدة يكابد الأمور ويعالجها في أطواره كلها، من حمله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة وإما في النار، من بداية ما يحصل الحمل به وهو نطفة مذرة ثم يستمر نموه شيئاً فشيئاً إلى أن يخرج من بطن أمه باكياً، ثم ينمو ويمر بالأطوار التي يمر بها كل إنسان من الطفولة، إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة، إلى الموت، إلى القبر، إلى البعث والنشور، إلى أهوال يوم القيامة، ومقداره خمسون ألف سنة، إلى الميزان، إلى الصراط، ثم إلى نهاية الرحلة وهي الاستقرار في دار القرار إما في الجنة وإما في النار، فالإنسان في كل هذه المراحل يكابد المشاق، ولا يخلو الإنسان أبداً من المشاق. قال الزمخشري : الكبد مأخوذ من قولك: كبد الرجل كبداً فهو أكبد إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع في هذا التعبير حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه، وأصله كبده، إذا أصاب كبده، قال لبيد : يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد أي: في شدة الأمر وصعوبة الخطب. وفي هذه الآية الكريمة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من قريش من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا، وكل من كان أعظم إيماناً فهو أشد نصباً. (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) يعني: كل إنسان يعاني ويكابد المشاق، فهذه سنة الله الماضية، وهذا فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من قريش، من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا، ولذلك لما قيل للإمام أحمد : متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: إذا خلف جسر جهنم وراءه. فالإنسان لا يجد الراحة إلا إذا مر على الصراط، ونجا من أهوال يوم القيامة، وأبصر النار بعيدة عنه، وأوشك أن يدخل الجنة، فعندها يجد طعم الراحة، أما قبل ذلك فهو في كبد، فمن يطلب الراحة في الدنيا فهو يطلب المحال؛ لأن الدار التي ليس فيها نصب هي الجنة فقط كما قال الله عنهم: لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:35]، أما الدنيا فلا يمكن أبداً أن يجد الإنسان فيها الراحة دائماً، فكل إنسان لم يخلق للراحة، وكل من كان أعظم إيماناً فهو أشد نصباً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه قوة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة). قال القاسمي رحمه الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) أي: مكابدة ومشقة، ومما ابتلي به هواه فهو معه في صراع ومجاهدة كما قال الشاعر: إني ابتليت بأربع يرمينني بالنبل قد نصبوا علي شراكا إبليس والدنيا ونفسي والهوى من أين أرجو بينهن فكاكا فالعبد في مكابدة ومشقة مع نفسه وهواه والدنيا والشيطان. والكبد مصدر القوى الطبيعية، فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل.

قال تعالى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [البلد:5] أي: أيحسب هذا الإنسان لغلظ حجابه ومرض قلبه واحتجابه بالطبيعة أن لن تقوم قيامته، وأن لن يقدر الله سبحانه وتعالى على مجازاته وقهره وغلبته؟! هذا مع أن ما هو فيه من المكابدة يكفي لإيقاظه من غفلته واعترافه بعجزه.

قال تعالى: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا [البلد:6] يعني: يقول الإنسان: أهلكت مالاً كثيراً، (لُبَدًا) من تلبد الشيء إذا اجتمع، كما قال الله: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19] فسر أنهم كانوا طبقات بعضهم فوق بعض، وكذلك قوله هنا: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) يعني: مالاً كثيراً متراكماً بعضه فوق بعض، والمراد هنا: ما أنفقه للافتخار والمباهاة والرياء، فيفتخر بأنه أنفق كثيراً، مثل قول بعض الناس إذا أنفق على شخص: خسرت عليه كذا وكذا.. يعني: ضحيت بهذا المال الكثير من أجل هذا الشخص، فهذا الإنسان الجحود يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف، ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة ولجهله، فمن الجواد؟ ومن البخيل؟ الجواد هو: الذي يعطي في موضع العطاء، ويمنع في موضع المنع، والبخيل هو: الذي يمنع في موضع العطاء، فلو أن إنساناً يعطي في غير موضع العطاء، بل لأجل المفاخرة والمباهاة؛ فهذا لا يمدح، ولا يسمى هذا جوداً وكرماً، وإنما هذه سفاهة وإسراف وتبذير، فالإنفاق لا يمدح على الإطلاق، وإنما يمدح الإنفاق إذا أنفق في المحل اللائق به، أما من ينفق ماله سفاهة فهذا لا يمدح، وليس هذا من الكرم ولا من الجود في شيء، مثل هذا الذي يقول: (( أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا )) فأنفق مالاً كثيراً يباهي به الناس، ويتفضل عليهم بالتبذير والإسراف، ويحسب أن هذا الإسراف فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله.

قال الله سبحانه وتعالى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [البلد:7] أي: أيحسب أن الله تعالى لم يطلع على باطنه ونيته حين ينفق ماله في السمعة والرياء والمباهاة لا على ما ينبغي في مراضي الله، وهذه رذيلة على رذيلة، من حيث التبذير في النفقة، ومن حيث أنه لا يريد بذلك وجه الله، فإن كانت رذيلة فوق رذيلة، فكيف يحسبها فضيلة؟!

قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد:8-9] أي: ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من البصر والكلام، فهذا تذكير بنعم الله على العباد، وما يسر عليهم في تكاليفهم، وما تفضل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم، ويدفعون بها المضار عنهم؛ لأن الحاجة إلى أكثر المنافع الدينية والدنيوية ماسة، فالحاجة إلى العينين للرؤية، واللسان للنطق، والشفتين لحبس الطعام والشراب وإمساكهما في الفم، وللنطق أيضاً.

قال تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] أي: طريقي الخير والشر كما قال تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، ومعنى: (( هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )) أي: بينا له ووضحنا له طريق الخير وطريق الشر، والنجد هو الطريق المرتفع، والمراد بهما: طريقا الخير والشر، سماهما نجدين ليشير إلى أن في كل منهما وعورة وصعوبة، فليس الشر بأهون من الخير كما يظن، وكذلك ليشير إلى أنهما واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك. فالله تعالى بين طريق الخير وطريق الشر فهما كالنجدين المرتفعين، والشيء العالي لا ينكره أحد إذا رآه، وقد بين الله الطريقين بما أوحى، فهما طريقان واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك في أحد الطريقين، فالعبد يختار أحدهما وهو على بصيرة؛ لأنه طريق غير ملتبس، بل طريق واضح. وهذه الآية: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) يفسرها قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، وقيل: أي: أوزعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر، وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاماً تدله عليهما، ثم وهبناه الاختيار بعدما بينا له، فعليه أن يختار أي الطريقين شاء، فالذي وهب الإنسان هذه الآلات، وأودع في باطنه تلك القوى؛ لا يمكن للإنسان أن يفلت من قدرته، ولا يجوز أن يخفى عليه شيء من سريرته، فأدوات الإدراك كلها منة من الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الله هو الذي أعطاك العينين واللسان والشفتين، وهو الذي هداك النجدين، فكيف تحسب بعد ذلك أن الله لم يطلع عليك حينما أنفقت مالاً لبداً للمباهاة والرياء والتفضل على الناس من غير ابتغاء وجه الله؟! وكيف يحسب أن الله لم ير ما في باطنه من النية الفاسدة والرياء؟! كيف يحسب ذلك والله هو الذي امتن عليه بكل آلات الإدراك، وهو المدبر الحكيم لهذه القوى، والإنسان لا يرى إلا بالله؟! وقول الله سبحانه وتعالى: وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد:9] هذا اللسان نعمة عظيمة، ولكن هذه الجارحة لها خطورة مهلكة إن لم يحترز صاحبها؛ ولهذا جعل الله أمام اللسان باباً من عظم وهو الأسنان، وباباً من لحم وهو الشفتان؛ كي يستحكم إغلاقه، ولا يخرجه إلا بحساب؛ لخطورة هذا اللسان الذي إذا خرج كان كالثعبان يلدغ خلق الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد:11] يعني: ألم يشكر الإنسان تلك النعم الجليلة باقتحام العقبة؟! فحق هذا الإنسان الذي آتاه الله هذه النعم أن يقتحم العقبة، لكنه لم يقتحم العقبة! والاقتحام: هو الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة، والعقبة هي: الطريق الوعرة في الجبل التي يصعب سلوكها، والتعبير بهذا اللفظ هنا لما فيه من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. والمراد بالعقبة هنا بينه الله سبحانه وتعالى بقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:12-17]، فهذا كله هو معنى اقتحام العقبة، فاقتحام العقبة يكون بالإتيان بهذه الأمور التي فيها مشقة ومجاهدة نفس. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي: أي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟! والاستفهام هنا فيه زيادة تشويق لها، وأن لها عند الله تعالى مكانة. وقوله: (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي: عتق رقبة أو المعاونة على عتقها وتخليصها من الرق وأسر العبودية، رجوعاً بها إلى ما فطرت عليه من الحرية.