تفسير سورة الفتح [3-6]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:3]. قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: وينصرك على سائر أعدائك ومن ناوأك نصراً لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع، بالبأس الذي يؤيدك الله به وبالظفر الذي يؤيدك به؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينصرك، وهو الذي يعلي بك. وقال القرطبي : (( نَصْرًا عَزِيزًا )) أي: غالباً منيعاً لا يتبعه ذل، وعن ابن جريج في قوله: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا يريد بذلك فتح مكة وخيبر والطائف. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا أي: بسبب خضوعك لأمر الله يرفعك وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) يعني: لأن النبي عليه السلام خضع لأمر الله، وحقق أعلى مراتب العبودية التي لم يصل إليها بشر قبله صلى الله عليه وسلم، فكافأه الله سبحانه وتعالى بأن رفعه على العالمين.

قال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح:4]. قوله: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) هذا يدل على أن المقصود بالسكينة في هذه الآية الكريمة السكينة التي يهبها الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، أما مكانها فهو في قلوب المؤمنين، يقول ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) أي: جعل الطمأنينة، وهذا قاله ابن عباس ، وعنه: السكنية: الرحمة، وقال قتادة : الوقار في قلوب المؤمنين، وهم الصحابة يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله، وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيماناً مع إيمانهم. وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب، يعني: بقوله تعالى: (( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ))، فهذه الآية من أدلة القرآن الكريم على أن الإيمان يزيد، وبالتالي ينقص؛ لأن ما كان قابلاً للزيادة يكون قابلاً للنقصان، وهذه عقيدة أهل السنة، ومسألة من أمهات المسائل في الإيمان، فعند أهل السنة: أن الإيمان تصديق بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأنه قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وقال القرطبي رحمه الله تعالى: السكينة: السكون والطمأنينة، وقال ابن عباس : كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في البقرة. يشير بذلك إلى قول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248]، فما عدا هذا الموضع في سورة البقرة فإن السكنية تعني السكون والطمأنينة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة، فلما صدقوه زادهم الزكاة، فلما صدقوه زادهم الصيام، فلما صدقوه زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم فذلك قوله تعالى: ( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ) يعني: بما يصدقون به من شعب الإيمان المتجددة باستمرار، والتي كانت تضاف إلى الدين بين وقت وآخر عن طريق الوحي، فهم بذلك يزدادون إيماناً مع السابق، فإيماناً يعني: تصديقاً بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان، وقال الربيع بن أنس : (ليزدادوا إيماناً) خشية مع خشيتهم، وقال الضحاك : يقيناً مع يقينهم، وقال الخشني : السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن، وهو من مبادئ عين اليقين، يعني: أن مرتبة السكينة أعلى من مرتبة علم اليقين، ومن أوائل درجات مرتبة عين اليقين بعد علم اليقين، كأنه وجدان يقيني معه لذة وسرور. وقال الشوكاني : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) أي: السكون والطمأنينة بما يسره لهم من الفتح؛ لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم. ( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ) (ليزدادوا) هذا ضمير يعود إلى أهل الحديبية رضي الله تعالى عنهم أي: ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيماناً منضماً إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل. قال الكلبي : كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم يعني: كما أن المؤمن كلما آمن وتعلم شيئاً جديداً أو عمل بشيء جديد يزداد إيماناً مع إيمانه الأصلي السابق، كذلك الكافر أيضاً على الجهة الأخرى كلما كذب بشيء من الحق فإنه يزداد كفراً؛ لذلك قال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية قال: إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، فأكمل لهم دينهم فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] ). وعنه أيضاً قال: فأوثق إيمان أهل السماء وأهل الأرض وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله.

كلام ابن القيم حول السكينة وأنواعها وآثارها وأسبابها

تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلاماً موسعاً عن معاني السكينة في مصنفين: الأول مدارج السالكين، والثاني: إعلام الموقعين عن رب العالمين، فتكلم في إعلام الموقعين أثناء شرحه لقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى فيما يشترط في المسلم، وهو أن يكون له حلم ووقار وسكينة، يقول: فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار، فإنها كسوة علمه وجماله، وإذا فقدها كان علمه كالجبل العاري من اللباس، وقال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم، والناس هاهنا أربعة أقسام: فخيارهم من أوتي الحلم والعلم -والحلم هي السكينة والوقار-، وشرارهم من عدمهما لا حلم ولا علم، الثالث: من أوتي علماً بلا حلم، والرابع: عكسه، يعني: من يؤتى حلماً، لكن لا علم له، فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله، وضده الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات، فالحليم لا يستفزه البداوات أي: بداءات الأمور، لا يستفزه المبتدأ بل ينظر إلى الخبر كما قال الشاعر: مبتدأ حلو لمن ذاقه ولكن انظر خبر المبتدأ فالحليم دائماً ينظر فيما بعد ولا ينظر إلى بداءات الأمور: فلا تخدع بأول ما تراه فأول طالع فجر كذوب فلابد أن يتحلم الإنسان ويتصبر، يقول: فالحليم لا يستفزه البداوات، ولا يستفزه الذين لا يعلمون، ولا يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل، بل هو وقور ثابت ذو أناة، يملك نفسه عند ورود أوائل الأمور عليه، ولا تملكه أوائلها، وملاحظته للعواقب تمنعه من أن تستخفه دواعي الغضب والشهوة، فبالعلم تنكشف له مواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وبالحلم يتمكن من تثبيت نفسه عند الخير، فيؤثره ويصبر عليه، وعند الشر فيصبر عنه، فالعلم يعرفه رشده، والحلم يثبته عليه، وإذا شئت أن ترى بصيراً بالخير والشر لا صبر له على هذا ولا عن هذا رأيته، وإذا شئت أن ترى صابراً على المشاق لا بصيرة له رأيته، وإذا شئت أن ترى من لا صبر له ولا بصيرة رأيته، وإذا شئت أن ترى بصيراً صابراً لم تكد، وإذا رأيته فقد رأيت إمام هدى فاستمسك بغرزه، والوقار والسكينة ثمرة الحلم ونتيجته. يقول: ولشدة الحاجة إلى السكينة وحقيقتها وتفاصيلها وأقسامها نشير إلى ذلك بحسب علومنا القاصرة، وأذهاننا الجامدة، وعباراتنا الناقصة، ولكن نحن أبناء الزمان، والناس في زمانهم أشبه منهم بآبائهم، ولكل زمان دولة ورجال. فالسكينة فعِيْلة من السكون، وهو طمأنينة القلب واستقراره، وأصلها في القلب، ويظهر أثرها على الجوارح، وهي عامة وخاصة، فسكينة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أخص مراتبها وأعلى أقسامها يعني: أعلى درجات السكينة حازها الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. يقول: فالسكينة حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافراً إلى الله لما أضرم له أعداء الله من النار، فلله تلك السكنية التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وتعبير السفر هنا هو تعبير مجازي؛ لأن السفر معروف معناه في اللغة، وهنا إبراهيم عليه السلام ما أدخلوه من الباب، لا، بل بنوا له بنياناً مغلقاً عالياً، وأضرموا فيه النيران، ثم وضعوه على المنجنيق -وهو شيء مثل المدفع-، ثم رموه في الهواء حتى يسقط في هذه النار، بحيث لا يستطيع الفرار من مثل هذا البناء المحكم فإبراهيم عليه السلام في أشد لحظات الابتلاء وهو في هذه المرحلة العصيبة التي قطعها من ساعة انطلاقه بالمنجنيق إلى أن دخل في هذه النيران يطلق عليه الإمام ابن القيم اسم المسافر، أي: السفر من المنجنيق إلى النار، فإبراهيم عليه السلام في هذه اللحظات كان في أعلى درجات السكينة والطمأنينة والوقار والثقة بالله عز وجل، فما كان له من قول إلا أن قال: حسبي الله ونعم الوكيل! حسبي الله ونعم الوكيل! ففوض أمره إلى الله، وتوكل على الله، وتحمل في سبيل الله هذا العمل وهذا العذاب، وقد صح في الحديث أن هذه الكلمة (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها المؤمنون حين قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]. ويروى في بعض الآثار عند تفسير قوله تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] أن إبراهيم عليه السلام في تلك اللحظة وهو في هذا السفر الذي استغرق ثواني معدودات عرض له جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا -يعني: لأنك مخلوق-، وإنما حاجتي إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: حسبي الله -يعني وحده- ونعم الوكيل. والتوكل لا يكون إلا على الله وحده، فإن بعض الناس يخطئون حيث يظنون في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] أن معناها: حسبك وكافيك الله والمؤمنون معه يكفونك، لا، هذا التفسير غير مقبول على الإطلاق، وإنما: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه ) الله كافيك وكافي المؤمنين، فهو حسبك وحسب المؤمنين أيضاً، وليس المعنى: حسبك الله والمؤمنون أيضاً حسبك؛ لأن الحسب -الذي هو بمعنى التوكل والتفويض إلى الله- عبادة كالسجود والركوع، ولا يجوز أن تقول لشخص: توكلت على الله ثم عليك، حتى لو قلت (ثم)؛ لأنها بالضبط كأنك تقول: سجدت لله ثم لك! فالتوكل لا يكون إلا على الله وحده سبحانه وتعالى، فتقول: توكلت على الله وحده، أما توكلت على الله ثم عليك حتى لو استعملت (ثم) فليس هذا موضعها؛ لأن التوكل عبادة مثل السجود والركوع، والتعبد إنما يكون لوجه الله سبحانه وتعالى. الشاهد: أن إبراهيم عليه السلام أنزل الله في قلبه في هذا الوقت العصيب أعلى درجات السكنية، يقول: فالسكينة التي حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافراً إلى ما أضرم له أعداء الله من النار فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وكذلك السكينة التي حصلت لموسى وقد أدركه فرعون وجنوده من ورائهم، والبحر أمامهم، وقد ناداه بنو إسرائيل: يا موسى! أين تذهب بنا؟ هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون خلفنا! قال الله: قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فأجاب موسى بكل ثقة وبكل طمأنينة ووقار وسكينة: قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]؛ لأنه واثق بوعد الله سبحانه وتعالى أن يجعل له مخرجاً، وأن ينصره ويمكنه وينجيه من فرعون وجنوده، فتأملوا هذا الموقف! فرعون بجنوده وعساكره يطاردهم، ثم هم يجرون حتى انتهى بهم الأمر عند البحر: فـ((قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)) وإن هنا للتوكيد، وأيضاً التوكيد باللام: (( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ))، والجواب من موسى عليه السلام: (( قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ))، فهذا بلا شك غاية الطمأنينة والوقار. والثقة بالله سبحانه وتعالى. وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكريم الله له نداء ونجاءً، كلاماً سمعه حقيقة بأذنه، وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعباناً مبيناً. وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد رأى حبال القوم وعصيهم كأنها تسعى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً [طه:67]، وهذا الخوف ليس بخوف مذموم، فهو الخوف الجبلي الموجود في البشر، كما يخاف الإنسان من الأسد إذا رآه أو من النار أن تحرقه، وغير ذلك من الخوف الفطري الجبلي الذي لا يخلو منه بشر، وقيل: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67] خاف أن يفتن الناس قبل أن يلقي هو عصاه، وقيل: ألقى: (( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى )) خاف حين أبطأ عليه الوحي كإبطاء العصا أن يفترق الناس قبل المعجزة. وكذلك السكينة التي حصلت لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار، فلو نظر أحدهم إلى تحت قدميه لرآهما! وللمناسبة فإن قصة العنكبوت والحمامة والبيض ونحو هذا الكلام لم يثبت وهذا يصدم عواطف كثير من الناس، ويعز عليهم جداً أن يعرفوا أن هذه القصة غير صحيحة وضعيفة السند، ولكن لا شك أن عدم وجودها هو أقوى لوجود هذه السكينة؛ لأن عدم وجود هذه الأشياء يكون أدعى أنهم دخلوا يستخفون، ولكن مع ذلك صدقهم الله سبحانه وتعالى، وبعض الناس تصطدم عواطفهم إذا علموا بذلك، لكن نقول: ليس بأمانيكم ولا أماني الوضاعين، وإنما الحكم هنا لأهل الحديث وعلماء الحديث. يقول: كما قال تبارك وتعالى: (( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ )) قال بعض السلف: هذه الآية فيها عتاب لكل الأمة إلا أبي بكر رضي الله عنه: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التوبة:40] قال: (يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما): فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:40] إلى آخر الآية. وكذلك السكينة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة، وأعداء الله قد أحاطوا به كيوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق وغيره، فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر، وهي من أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم عند أرباب البصائر، فإن الكذاب ولاسيما الذي يكذب على الله سبحانه وتعالى أقلق ما يكون وأخوف ما يكون وأشده اضطراباً في مثل هذه المواقف، فلو لم يكن للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم. فالرسل لهم أعلى مراتب السكينة وأخصها على الإطلاق، وهي مرتبة سكينة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أما الخاصة التي هي دونها فهي تكون لأتباع الرسل بحسب متابعتهم، وهي سفينة الإيمان، فهي

معنى قوله تعالى: (ولله جنود السماوات والأرض ...)

قوله تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح:4] يقول شيخ المفسرين رحمه الله: يقول تعالى ذكره: (( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )) أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه. وجنود السماوات والأرض موضوع مستقل لوحده، ولا نريد أن نخرج مع كل كلمة عن سياق التفسير، ولكن جنود الله عز وجل كثيرة في السماوات والأرض، قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] وهي لا تعد ولا تحصى، ولا ينبغي أن نحصر جنود الله فقط في الملائكة، فالملائكة أحد جنود الله عز وجل، فبجانب الملائكة المؤمنون من البشر كما قال تعالى: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173] فجنود الله تتنوع مثل الرياح.. الأمطار.. الأمواج.. كل هذه الأشياء هي جنود من جند الله عز وجل، تستجيب لأمره، وينزل الله بها بأسه على من يشاء، أو ينصر ويؤيد بها من يشاء، ويرزق بها من يشاء، كلها جنود مسخرة لأمر الله. ومن أعاجيب جنود الله سبحانه وتعالى ما نسمع عنه في هذا الزمان من الأمراض التي تنشأ بسبب الفيروسات، وهي أدق بكثير جداً جداً من البكتيريا التي يمكن أن ترى بالميكروسكوب، لكن الفيروس لا يرى إلا بالميكروسكوبات الألكترونية، التي تكبره ملايين المرات حتى يمكن رؤيته! وهذا عالم بحد ذاته مستقل، وله أخباره العجيبة، فهذه إشارة عابرة نستدل بها على أن جنود الله سبحانه وتعالى كثيرون جداً، يعملون بأمر الله سبحانه وتعالى وينفذونه. يقول: (( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ))، أي: أن الله تعالى لم يزل عالماً بما هو كائن قبل كونه، وما خلقه عاملوه، حكيماً في تدبيره. وقال ابن عباس : (( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )) يريد الملائكة والجن والشياطين والإنس. وقال الشوكاني : يعني: الملائكة والإنس والجن والشياطين، يدبر أمرهم كيف يشاء، ويسلط بعضهم على بعض، ويحوك بعضهم ببعض، ((وكان الله عليماً)) كثير العلم ((حكيماً)) في أفعله وأقواله. وقال القاسمي : أي: أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه. وقال ابن كثير : ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، يعني: هذه إشارة إلى نفس الحكمة التي سبق الكلام عنها في سورة القتال في قوله تبارك وتعالى ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4] يعني: لابد أن نستخضر هذا الأمر: (( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ )) يعني: هذا الذي يعادي الله ورسوله، ويحارب دين الله من كفار والمنافقين وغيرهم، وهذا الذي يشكوه المؤمنون من الضعف والاستضعاف والإذلال وغير ذلك من هذا العناء، ينبغي أن نستحضر دائماً أن الله سبحانه وتعالى قادر على إزالته، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فالله سبحانه وتعالى قادر على أنه بكلمة مكونة من حرفين (كن) يصبح جميع من على الأرض على أتقى قلب رجل واحد منهم، وهو قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أليس الله بقادر على ذلك؟ بلى، لو أن الله قال لجميع البشر: كونوا مثل محمد عليه السلام لكانوا، أو لو قال لجميع البشر: كونوا مثل إبليس لعنه الله على أفجر قلب رجل واحد منهم؛ لحصل ذلك، ولا يضر الله شيئاً، لكن هذا ينافي حكمة الخلق والابتلاء، فالناس الذين يقهرون المسلمين ويحاربون دين الله سبحانه وتعالى لو نزل ملك واحد ينفخ فيهم على شكل صيحة -كما صاح جبريل على قوم لوط- لأبادهم جميعاً من صيحة واحدة، فالله تعالى قادر على ذلك، لكن الله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل؛ لأن هناك أجلاً قد كتبه الله، ولأن الإيمان هنا في هذه الحالة سيكون إيماناً اضطرارياً بالإكراه، ولا إكراه في الدين، فالعبرة بالخضوع والانقياد الناتج عن تفكر وتدبر وإيمان كسبي، أما الاضطرار للإيمان فهذا معناه أنك تتبع ديناً مكرهاً كيوم القيامة؛ بدليل أن جميع الناس يوم القيامة يؤمنون، وجميعهم يكونون على يقين، لكنه يقين غير مكتسب، بسبب أنهم بعثوا ورأوا آيات الله سبحانه وتعالى، قال الله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] لكنه يقين لا ينفع؛ لأن العبرة باليقين في الدنيا حتى يكون هناك إيمان بالغيب: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]، أما أن يصير الغيب عياناً، فنرى الملائكة تنزل على الذين يحاربون الدين، فتقصم ظهورهم، أو تمزقهم إرباً، وكل هذا الله قادر عليه، لكنه ينافي حكمة خلق الدنيا للابتلاء؛ لأنه هذا لو حصل فسينتهي التكليف؛ لأن الناس إذا رأوا هذه الخوارق عياناً فكلهم سوف يؤمنون، وتنتهي الحكمة من خلق الدنيا، فإذاً لابد أن نستحضر هذا قال تعالى: ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ))[محمد:4] حتى يستمر الابتلاء والامتحان، كذلك أشار تعالى هنا بعدما قال: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ، وبعد قوله: (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )) يعني: أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لانتصر من الكافرين؛ لأن لله جنود السماوات والأرض، ولو أرسل عليهم ملكاً واحداً لأباد خضراءهم، ولكنه شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال؛ لما في ذلك من الحكمة البالغة، والبراهين الدامغة، ولهذا قال: (( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )) مع أن له جنود السماوات والأرض، وهو قادر على إهلاك جميع الكافرين في لحظة واحدة، لكنه مع ذلك عليم حكيم لحكمة يعلمها، وهي استمرار الابتلاء في هذه الدار التي هي دار البلاء في الدنيا.

تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلاماً موسعاً عن معاني السكينة في مصنفين: الأول مدارج السالكين، والثاني: إعلام الموقعين عن رب العالمين، فتكلم في إعلام الموقعين أثناء شرحه لقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى فيما يشترط في المسلم، وهو أن يكون له حلم ووقار وسكينة، يقول: فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار، فإنها كسوة علمه وجماله، وإذا فقدها كان علمه كالجبل العاري من اللباس، وقال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم، والناس هاهنا أربعة أقسام: فخيارهم من أوتي الحلم والعلم -والحلم هي السكينة والوقار-، وشرارهم من عدمهما لا حلم ولا علم، الثالث: من أوتي علماً بلا حلم، والرابع: عكسه، يعني: من يؤتى حلماً، لكن لا علم له، فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله، وضده الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات، فالحليم لا يستفزه البداوات أي: بداءات الأمور، لا يستفزه المبتدأ بل ينظر إلى الخبر كما قال الشاعر: مبتدأ حلو لمن ذاقه ولكن انظر خبر المبتدأ فالحليم دائماً ينظر فيما بعد ولا ينظر إلى بداءات الأمور: فلا تخدع بأول ما تراه فأول طالع فجر كذوب فلابد أن يتحلم الإنسان ويتصبر، يقول: فالحليم لا يستفزه البداوات، ولا يستفزه الذين لا يعلمون، ولا يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل، بل هو وقور ثابت ذو أناة، يملك نفسه عند ورود أوائل الأمور عليه، ولا تملكه أوائلها، وملاحظته للعواقب تمنعه من أن تستخفه دواعي الغضب والشهوة، فبالعلم تنكشف له مواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وبالحلم يتمكن من تثبيت نفسه عند الخير، فيؤثره ويصبر عليه، وعند الشر فيصبر عنه، فالعلم يعرفه رشده، والحلم يثبته عليه، وإذا شئت أن ترى بصيراً بالخير والشر لا صبر له على هذا ولا عن هذا رأيته، وإذا شئت أن ترى صابراً على المشاق لا بصيرة له رأيته، وإذا شئت أن ترى من لا صبر له ولا بصيرة رأيته، وإذا شئت أن ترى بصيراً صابراً لم تكد، وإذا رأيته فقد رأيت إمام هدى فاستمسك بغرزه، والوقار والسكينة ثمرة الحلم ونتيجته. يقول: ولشدة الحاجة إلى السكينة وحقيقتها وتفاصيلها وأقسامها نشير إلى ذلك بحسب علومنا القاصرة، وأذهاننا الجامدة، وعباراتنا الناقصة، ولكن نحن أبناء الزمان، والناس في زمانهم أشبه منهم بآبائهم، ولكل زمان دولة ورجال. فالسكينة فعِيْلة من السكون، وهو طمأنينة القلب واستقراره، وأصلها في القلب، ويظهر أثرها على الجوارح، وهي عامة وخاصة، فسكينة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أخص مراتبها وأعلى أقسامها يعني: أعلى درجات السكينة حازها الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. يقول: فالسكينة حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافراً إلى الله لما أضرم له أعداء الله من النار، فلله تلك السكنية التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وتعبير السفر هنا هو تعبير مجازي؛ لأن السفر معروف معناه في اللغة، وهنا إبراهيم عليه السلام ما أدخلوه من الباب، لا، بل بنوا له بنياناً مغلقاً عالياً، وأضرموا فيه النيران، ثم وضعوه على المنجنيق -وهو شيء مثل المدفع-، ثم رموه في الهواء حتى يسقط في هذه النار، بحيث لا يستطيع الفرار من مثل هذا البناء المحكم فإبراهيم عليه السلام في أشد لحظات الابتلاء وهو في هذه المرحلة العصيبة التي قطعها من ساعة انطلاقه بالمنجنيق إلى أن دخل في هذه النيران يطلق عليه الإمام ابن القيم اسم المسافر، أي: السفر من المنجنيق إلى النار، فإبراهيم عليه السلام في هذه اللحظات كان في أعلى درجات السكينة والطمأنينة والوقار والثقة بالله عز وجل، فما كان له من قول إلا أن قال: حسبي الله ونعم الوكيل! حسبي الله ونعم الوكيل! ففوض أمره إلى الله، وتوكل على الله، وتحمل في سبيل الله هذا العمل وهذا العذاب، وقد صح في الحديث أن هذه الكلمة (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها المؤمنون حين قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]. ويروى في بعض الآثار عند تفسير قوله تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] أن إبراهيم عليه السلام في تلك اللحظة وهو في هذا السفر الذي استغرق ثواني معدودات عرض له جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا -يعني: لأنك مخلوق-، وإنما حاجتي إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: حسبي الله -يعني وحده- ونعم الوكيل. والتوكل لا يكون إلا على الله وحده، فإن بعض الناس يخطئون حيث يظنون في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] أن معناها: حسبك وكافيك الله والمؤمنون معه يكفونك، لا، هذا التفسير غير مقبول على الإطلاق، وإنما: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه ) الله كافيك وكافي المؤمنين، فهو حسبك وحسب المؤمنين أيضاً، وليس المعنى: حسبك الله والمؤمنون أيضاً حسبك؛ لأن الحسب -الذي هو بمعنى التوكل والتفويض إلى الله- عبادة كالسجود والركوع، ولا يجوز أن تقول لشخص: توكلت على الله ثم عليك، حتى لو قلت (ثم)؛ لأنها بالضبط كأنك تقول: سجدت لله ثم لك! فالتوكل لا يكون إلا على الله وحده سبحانه وتعالى، فتقول: توكلت على الله وحده، أما توكلت على الله ثم عليك حتى لو استعملت (ثم) فليس هذا موضعها؛ لأن التوكل عبادة مثل السجود والركوع، والتعبد إنما يكون لوجه الله سبحانه وتعالى. الشاهد: أن إبراهيم عليه السلام أنزل الله في قلبه في هذا الوقت العصيب أعلى درجات السكنية، يقول: فالسكينة التي حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافراً إلى ما أضرم له أعداء الله من النار فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وكذلك السكينة التي حصلت لموسى وقد أدركه فرعون وجنوده من ورائهم، والبحر أمامهم، وقد ناداه بنو إسرائيل: يا موسى! أين تذهب بنا؟ هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون خلفنا! قال الله: قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فأجاب موسى بكل ثقة وبكل طمأنينة ووقار وسكينة: قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]؛ لأنه واثق بوعد الله سبحانه وتعالى أن يجعل له مخرجاً، وأن ينصره ويمكنه وينجيه من فرعون وجنوده، فتأملوا هذا الموقف! فرعون بجنوده وعساكره يطاردهم، ثم هم يجرون حتى انتهى بهم الأمر عند البحر: فـ((قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)) وإن هنا للتوكيد، وأيضاً التوكيد باللام: (( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ))، والجواب من موسى عليه السلام: (( قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ))، فهذا بلا شك غاية الطمأنينة والوقار. والثقة بالله سبحانه وتعالى. وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكريم الله له نداء ونجاءً، كلاماً سمعه حقيقة بأذنه، وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعباناً مبيناً. وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد رأى حبال القوم وعصيهم كأنها تسعى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً [طه:67]، وهذا الخوف ليس بخوف مذموم، فهو الخوف الجبلي الموجود في البشر، كما يخاف الإنسان من الأسد إذا رآه أو من النار أن تحرقه، وغير ذلك من الخوف الفطري الجبلي الذي لا يخلو منه بشر، وقيل: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67] خاف أن يفتن الناس قبل أن يلقي هو عصاه، وقيل: ألقى: (( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى )) خاف حين أبطأ عليه الوحي كإبطاء العصا أن يفترق الناس قبل المعجزة. وكذلك السكينة التي حصلت لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار، فلو نظر أحدهم إلى تحت قدميه لرآهما! وللمناسبة فإن قصة العنكبوت والحمامة والبيض ونحو هذا الكلام لم يثبت وهذا يصدم عواطف كثير من الناس، ويعز عليهم جداً أن يعرفوا أن هذه القصة غير صحيحة وضعيفة السند، ولكن لا شك أن عدم وجودها هو أقوى لوجود هذه السكينة؛ لأن عدم وجود هذه الأشياء يكون أدعى أنهم دخلوا يستخفون، ولكن مع ذلك صدقهم الله سبحانه وتعالى، وبعض الناس تصطدم عواطفهم إذا علموا بذلك، لكن نقول: ليس بأمانيكم ولا أماني الوضاعين، وإنما الحكم هنا لأهل الحديث وعلماء الحديث. يقول: كما قال تبارك وتعالى: (( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ )) قال بعض السلف: هذه الآية فيها عتاب لكل الأمة إلا أبي بكر رضي الله عنه: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التوبة:40] قال: (يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما): فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:40] إلى آخر الآية. وكذلك السكينة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة، وأعداء الله قد أحاطوا به كيوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق وغيره، فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر، وهي من أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم عند أرباب البصائر، فإن الكذاب ولاسيما الذي يكذب على الله سبحانه وتعالى أقلق ما يكون وأخوف ما يكون وأشده اضطراباً في مثل هذه المواقف، فلو لم يكن للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم. فالرسل لهم أعلى مراتب السكينة وأخصها على الإطلاق، وهي مرتبة سكينة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أما الخاصة التي هي دونها فهي تكون لأتباع الرسل بحسب متابعتهم، وهي سفينة الإيمان، فهي

قوله تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح:4] يقول شيخ المفسرين رحمه الله: يقول تعالى ذكره: (( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )) أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه. وجنود السماوات والأرض موضوع مستقل لوحده، ولا نريد أن نخرج مع كل كلمة عن سياق التفسير، ولكن جنود الله عز وجل كثيرة في السماوات والأرض، قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] وهي لا تعد ولا تحصى، ولا ينبغي أن نحصر جنود الله فقط في الملائكة، فالملائكة أحد جنود الله عز وجل، فبجانب الملائكة المؤمنون من البشر كما قال تعالى: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173] فجنود الله تتنوع مثل الرياح.. الأمطار.. الأمواج.. كل هذه الأشياء هي جنود من جند الله عز وجل، تستجيب لأمره، وينزل الله بها بأسه على من يشاء، أو ينصر ويؤيد بها من يشاء، ويرزق بها من يشاء، كلها جنود مسخرة لأمر الله. ومن أعاجيب جنود الله سبحانه وتعالى ما نسمع عنه في هذا الزمان من الأمراض التي تنشأ بسبب الفيروسات، وهي أدق بكثير جداً جداً من البكتيريا التي يمكن أن ترى بالميكروسكوب، لكن الفيروس لا يرى إلا بالميكروسكوبات الألكترونية، التي تكبره ملايين المرات حتى يمكن رؤيته! وهذا عالم بحد ذاته مستقل، وله أخباره العجيبة، فهذه إشارة عابرة نستدل بها على أن جنود الله سبحانه وتعالى كثيرون جداً، يعملون بأمر الله سبحانه وتعالى وينفذونه. يقول: (( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ))، أي: أن الله تعالى لم يزل عالماً بما هو كائن قبل كونه، وما خلقه عاملوه، حكيماً في تدبيره. وقال ابن عباس : (( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )) يريد الملائكة والجن والشياطين والإنس. وقال الشوكاني : يعني: الملائكة والإنس والجن والشياطين، يدبر أمرهم كيف يشاء، ويسلط بعضهم على بعض، ويحوك بعضهم ببعض، ((وكان الله عليماً)) كثير العلم ((حكيماً)) في أفعله وأقواله. وقال القاسمي : أي: أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه. وقال ابن كثير : ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، يعني: هذه إشارة إلى نفس الحكمة التي سبق الكلام عنها في سورة القتال في قوله تبارك وتعالى ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4] يعني: لابد أن نستخضر هذا الأمر: (( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ )) يعني: هذا الذي يعادي الله ورسوله، ويحارب دين الله من كفار والمنافقين وغيرهم، وهذا الذي يشكوه المؤمنون من الضعف والاستضعاف والإذلال وغير ذلك من هذا العناء، ينبغي أن نستحضر دائماً أن الله سبحانه وتعالى قادر على إزالته، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فالله سبحانه وتعالى قادر على أنه بكلمة مكونة من حرفين (كن) يصبح جميع من على الأرض على أتقى قلب رجل واحد منهم، وهو قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أليس الله بقادر على ذلك؟ بلى، لو أن الله قال لجميع البشر: كونوا مثل محمد عليه السلام لكانوا، أو لو قال لجميع البشر: كونوا مثل إبليس لعنه الله على أفجر قلب رجل واحد منهم؛ لحصل ذلك، ولا يضر الله شيئاً، لكن هذا ينافي حكمة الخلق والابتلاء، فالناس الذين يقهرون المسلمين ويحاربون دين الله سبحانه وتعالى لو نزل ملك واحد ينفخ فيهم على شكل صيحة -كما صاح جبريل على قوم لوط- لأبادهم جميعاً من صيحة واحدة، فالله تعالى قادر على ذلك، لكن الله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل؛ لأن هناك أجلاً قد كتبه الله، ولأن الإيمان هنا في هذه الحالة سيكون إيماناً اضطرارياً بالإكراه، ولا إكراه في الدين، فالعبرة بالخضوع والانقياد الناتج عن تفكر وتدبر وإيمان كسبي، أما الاضطرار للإيمان فهذا معناه أنك تتبع ديناً مكرهاً كيوم القيامة؛ بدليل أن جميع الناس يوم القيامة يؤمنون، وجميعهم يكونون على يقين، لكنه يقين غير مكتسب، بسبب أنهم بعثوا ورأوا آيات الله سبحانه وتعالى، قال الله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] لكنه يقين لا ينفع؛ لأن العبرة باليقين في الدنيا حتى يكون هناك إيمان بالغيب: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]، أما أن يصير الغيب عياناً، فنرى الملائكة تنزل على الذين يحاربون الدين، فتقصم ظهورهم، أو تمزقهم إرباً، وكل هذا الله قادر عليه، لكنه ينافي حكمة خلق الدنيا للابتلاء؛ لأنه هذا لو حصل فسينتهي التكليف؛ لأن الناس إذا رأوا هذه الخوارق عياناً فكلهم سوف يؤمنون، وتنتهي الحكمة من خلق الدنيا، فإذاً لابد أن نستحضر هذا قال تعالى: ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ))[محمد:4] حتى يستمر الابتلاء والامتحان، كذلك أشار تعالى هنا بعدما قال: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ، وبعد قوله: (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )) يعني: أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لانتصر من الكافرين؛ لأن لله جنود السماوات والأرض، ولو أرسل عليهم ملكاً واحداً لأباد خضراءهم، ولكنه شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال؛ لما في ذلك من الحكمة البالغة، والبراهين الدامغة، ولهذا قال: (( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )) مع أن له جنود السماوات والأرض، وهو قادر على إهلاك جميع الكافرين في لحظة واحدة، لكنه مع ذلك عليم حكيم لحكمة يعلمها، وهي استمرار الابتلاء في هذه الدار التي هي دار البلاء في الدنيا.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2814 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2614 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2578 استماع
تفسير سورة البلد 2563 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2556 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2540 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2435 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2407 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2397 استماع
تابع تفسير سورة الفتح [2] 2395 استماع