تفسير سورة الطور [34-49]


الحلقة مفرغة

قال الله سبحانه وتعالى: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [الطور:29-34]. قوله تعالى: (( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا )) أي: أتأمرهم عقولهم بهذا التناقض في القول؟ (( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ )) يعني: بل هم قوم طاغون، أي: مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق. وهذه الآية: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا .. فيها إثبات الأحلام والعقول للكافرين يعني: أن لهم عقولاً ولهم أحلاماً، في حين أن كثيراً من الآيات تنفي عن الكفار صفة العقل، ولا تعارض على الإطلاق، وإنما المقصود: أن الله سبحانه وتعالى آتاهم العقول، ولكنهم عطلوها، واستعملوا العقول في كل شيء إلا فيما خلقوا من أجله، وهو التفكر في آيات الله التكوينية والتنزيلية للاستدلال بها على توحيده وعبادته وحده عز وجل. وقد قيل لـعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟ يعني: بمثل هذه الآية: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا .. ، فقال: تلك عقول كادها الله. يعني: لم يصحبها توفيق الله، وإنما خذلها الله عز وجل، وحرمها من الهداية، كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]. والجواب الأوضح عن هذا السؤال في قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179] يعني: عندهم العقول؛ لكنهم لا يُعملونها ولا يستعملونها في الاهتداء إلى التوحيد. وقوله تعالى: (( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ )) يعني: اختلق هذا القرآن من عند نفسه، (( بَل لا يُؤْمِنُونَ )) يعني: لا يريدون أن يؤمنوا حسداً وتقليداً، فلذلك يرمونه بتلك الفِرى. قوله: (( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ )) أي: في الهداية بذلك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة، كقوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ [القصص:49]، وهنا قال: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ، ووصف القرآن بأنه حديث أو محدث كما في قوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء:2] هو محدث بالنسبة للبشر، أما بصفته كلام الله سبحانه وتعالى فلا شك أنه كلام الله غير مخلوق، بدليل أننا نستعيذ بكلمات الله فنقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، ولا يستعاذ إلا بالخالق أو بصفاته عز وجل، أما المخلوق فلا يصح بحال الاستعاذة به، فإثبات الحداثة هنا هو بالنسبة للبشر حينما يأتيهم ما لم يعرفوه من قبل. وقوله: (( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ )) أي: في الهداية بذلك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة، (( إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ )) أي: في زعمهم؛ فإنهم من أهل لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتعذر عليهم مضاهاة بعضهم لبعض في ميدان التساجل والتراسل، فلو كان هو كلامَ بشر فعادتهم أن يتساجلوا ويتراسلوا ويضاهي بعضهم قول بعضهم، فإنهم ملكوا زمام الفصاحة والبلاغة، ومع ذلك عجزوا عن أن يقبلوا هذا التحدي، مما يثبت أنه كلام فوق مستوى البشر، وأنه تنزيل من عند الله تبارك وتعالى.

قال تبارك وتعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36]. قوله: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) قال ابن جرير : أي: أخلق هؤلاء المشركون من غير آباء ولا أمهات فهم كالجماد لا يعقلون، ولا يفهمون لله حجة، ولا يعتبرون له بعبرة، ولا يتعظون بموعظة؟! وقد قيل: إن قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) تفسيرها: أم خلقوا لغير شيء؟! يعني: لا لحكمة، وإنما خلقوا عبثاً! كقول القائل: فعلت كذا وكذا من غير شيء، بمعنى: لغير شيء. وقوله: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) أي: أنفسهم، أو هذا الخلق، فهل هم الذين خلقوا أنفسهم أو خلقوا هذه المخلوقات، فهم لذلك لا يأتمرون لأمر الله ولا ينتهون عما نهاهم الله؟ فالله سبحانه وتعالى بما أن له الخلق فلا بد أن يكون له الأمر، فالذي يخلق هو الذي يشرع، وهو الذي يأمر، وهو الذي يحلل، وهو الذي يحرم، فهناك ارتباط وثيق بين صفة الخلق وبين توحيد الله تبارك وتعالى، فالله وحده هو الخالق، وهذا مظهر توحيد الربوبية، وهو الذي ينبغي أن يُعبد وحده، وهذا تحقيقٌ لتوحيد الألوهية، فلا يعبد إلا الله، فكما أنه لا يخلق إلا الله فلا ينبغي أن يُعبد إلا الله؛ لأن الله له الخلق وله الأمر عز وجل. فقوله تبارك وتعالى هنا: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ يعني: لا يوقنون بوعيد الله وما أعد لأهل الكفر به من العذاب في الآخرة، فلذلك فعلوا ما فعلوا.

أسلوب السبر والتقسيم ودليله من القرآن الكريم

هذا الأسلوب الذي احتج الله سبحانه وتعالى به على المشركين هو مما يسمى بالسبر والتقسيم عند الأصوليين. والدليل الأصولي متركب من أصلين: الأصل الأول: حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحصر، وهذا هو التقسيم. الأصل الثاني: بعدما نحصر الأقسام التي ينقسم إليها هذا الشيء أو الاحتمالات التي ينحصر فيها نختبر تلك الأوصاف المحصورة ثم نبطل ما هو باطل منها، ونبقي ما هو صحيح منها، وهذا هو الذي يسمى بالسبر، يقول في مراقي السعود: والسبر والتقسيم قسمٌ رابعُ أن يحصر الأوصاف وصفٌ جامعُ ويبطل الذي لها لا يصلحُ فما بقى تعجيله مصطلحُ ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم: هذه الآية الكريمة: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36]، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح، فنقسم تقسيماً صحيحاً ونضع كل الاحتمالات ونحصرها: الاحتمال الأول: أن يكونوا خلقوا من غير شيء، يعني: بدون خالق أصلاً. الاحتمال الثاني: أن يكونوا هم خلقوا أنفسهم أو خلقوا هذا العالم. ولا شك أن هذين الاحتمالين باطلان قطعاً بالضرورة، ولا يحتاج إلى إقامة دليل على بطلانهما. الاحتمال الثالث: أن يكون قد خلقهم خالق غير أنفسهم، فهذا هو الحق الذي لا شك فيه، وهو أن الله جل وعلا هو خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا. وفي هذه الآية الكريمة صرح الله سبحانه وتعالى بالقسمين الأولين فقال: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ ، أما الاحتمال الثالث فسيأتي لوحده. هناك مثال آخر في القرآن الكريم أيضاً حصل فيه استرسال بنفس دليل السبر والتقسيم، وذلك في سورة مريم في قول الله تبارك وتعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالَاً وَوَلَدَاً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدَّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدَاً [مريم:77-80]، فقول الله تبارك وتعالى: (( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا )) هو العاص بن وائل السهمي ، (( وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالَاً وَوَلَدَاً )) يعني: لأوتين يوم القيامة مالاً وولداً، فهذا الزعم الذي زعمه العاص بن وائل حينما أعطاه الله في الدنيا المال والولد فأقسم وحلف على سبيل القطع أن الله سبحانه وتعالى كما كرمه في الدنيا بهذه الأعراض الدنيوية فسوف يعطيه نفس الشيء أيضاً في الآخرة، ولذا قال: (( لَأُوتَيَنَّ )) يعني: يوم القيامة، (( مَالَاً وَوَلَدَاً )). وهذا القول لا يخلو مستند قائله في هذا الزعم من واحد من ثلاثة احتمالات: الاحتمال الأول: قال تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي: أنه قد قال ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب، فمن أين له أن يقسم على أن الله سوف يؤتيه يوم القيامة مالاً وولداً؟! فأول احتمال: أن عنده اطلاعاً على الغيب استطاع به أن يطلع على ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، فعلم أن هذا مما كتبه الله في اللوح المحفوظ، وهذا الاحتمال أبطله الله سبحانه وتعالى في نفس الآية، بأداة الإنكار في قول الله تبارك وتعالى: (( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ )) فالإنكار يبطل هذا الاحتمال، فإن قوله تعالى: (( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ )) يدل على أنه ما اطلع الغيب، ولذلك أنكر الله بأداة الإنكار. الاحتمال الثاني: قال تعالى: (( أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً )) يعني: أنه يقول ذلك مستنداً ومعتمداً على أن الله سبحانه وتعالى أعطاه عهداً، والله لا يخلف الميعاد، ولا يخلف عهده، فهو يقول: إن الله أعطاه عهداً أنه سوف يؤتيه يوم القيامة مالاً وولداً، وهذا أيضاً أبطله الله بأداة الإنكار. الاحتمال الثالث والأخير: أن يكون قد قال ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب، وهذا الاحتمال هو المتعيِّن، وما سواه باطل؛ فإنه قال ذلك افتراءً على الله سبحانه وتعالى من غير عهد ولا اطلاع غيب، والدليل قوله تعالى: (( كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ))؛ فإن (كلا) حرف زجر وردع، فدل على أن هذا الاحتمال الثالث هو الاحتمال المتعيِّن، وهو أنه ما قال ذلك إلا افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب، قال تعالى: كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدَّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدَاً فيلزم أن الأمر ليس كذلك؛ فإنه لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهداً، بل قال ذلك افتراءً على الله؛ لأنه لو كان أحدهما حاصلاً -أي: لو أنه استند إلى اطلاعٍ على الغيب أو استند إلى عهدٍ- لم يستوجب الردع عن مقالته بلفظة: (كلا). وبنفس الدليل أبطل الله سبحانه وتعالى دعوى اليهود حينما ادَّعوا: (( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً )) قالوا: هي الأربعون يوماً التي عبدوا فيها العجل، فأبطل الله سبحانه وتعالى هذه الدعوى من اليهود -لعنهم الله- بقوله عز وجل: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80]. والاحتمال الثاني لم ينص الله سبحانه وتعالى عليه هنا، فقوله تعالى عنهم: (( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً )) فيه التقسيم: أنهم يدعون هذه الدعوى؛ وهي: أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة. فإن قيل: ما مستندهم في ذلك القول؟ فنقول: إذا حاولنا حصر الاحتمالات سنجدها تنحصر أيضاً في نفس الثلاثة الأقسام التي تكلمنا عنها في سورة مريم: الاحتمال الأول: قوله تعالى: (( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ )). الاحتمال الثاني: لم يذكره الله سبحانه وتعالى هنا، وإنما دلت عليه الآية السابقة في سورة مريم في قوله سبحانه: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً ، فالاحتمال الثاني هو: أن يكون اليهود قد اطلعوا على اللوح المحفوظ وعرفوا أو علموا الغيب، وعلموا أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، فحذف هنا هذا الاحتمال الثاني لدلالة ما هناك عليه؛ لأن هذا هو الحصر الطبيعي. الاحتمال الثالث: قوله تعالى: (( أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ )). فلا شك أن الاحتمالين الأولين باطلان: الاحتمال الأول: قوله: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ، وليس عندهم عهد. الاحتمال الثاني: أنهم اطلعوا الغيب وعلموا ذلك من خلاله، وهم لم يطلعوا على الغيب. إذاً: كلا الاحتمالين باطل. وبقي الاحتمال الأخير وهو: قوله تعالى: (( أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ )) يعني: أنكم تفترون على الله الكذب، وهذا هو الواقع والمتعين. فهذا هو دليل السبر والتقسيم في هذه الآيات الكريمات.

هذا الأسلوب الذي احتج الله سبحانه وتعالى به على المشركين هو مما يسمى بالسبر والتقسيم عند الأصوليين. والدليل الأصولي متركب من أصلين: الأصل الأول: حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحصر، وهذا هو التقسيم. الأصل الثاني: بعدما نحصر الأقسام التي ينقسم إليها هذا الشيء أو الاحتمالات التي ينحصر فيها نختبر تلك الأوصاف المحصورة ثم نبطل ما هو باطل منها، ونبقي ما هو صحيح منها، وهذا هو الذي يسمى بالسبر، يقول في مراقي السعود: والسبر والتقسيم قسمٌ رابعُ أن يحصر الأوصاف وصفٌ جامعُ ويبطل الذي لها لا يصلحُ فما بقى تعجيله مصطلحُ ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم: هذه الآية الكريمة: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36]، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح، فنقسم تقسيماً صحيحاً ونضع كل الاحتمالات ونحصرها: الاحتمال الأول: أن يكونوا خلقوا من غير شيء، يعني: بدون خالق أصلاً. الاحتمال الثاني: أن يكونوا هم خلقوا أنفسهم أو خلقوا هذا العالم. ولا شك أن هذين الاحتمالين باطلان قطعاً بالضرورة، ولا يحتاج إلى إقامة دليل على بطلانهما. الاحتمال الثالث: أن يكون قد خلقهم خالق غير أنفسهم، فهذا هو الحق الذي لا شك فيه، وهو أن الله جل وعلا هو خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا. وفي هذه الآية الكريمة صرح الله سبحانه وتعالى بالقسمين الأولين فقال: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ ، أما الاحتمال الثالث فسيأتي لوحده. هناك مثال آخر في القرآن الكريم أيضاً حصل فيه استرسال بنفس دليل السبر والتقسيم، وذلك في سورة مريم في قول الله تبارك وتعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالَاً وَوَلَدَاً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدَّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدَاً [مريم:77-80]، فقول الله تبارك وتعالى: (( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا )) هو العاص بن وائل السهمي ، (( وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالَاً وَوَلَدَاً )) يعني: لأوتين يوم القيامة مالاً وولداً، فهذا الزعم الذي زعمه العاص بن وائل حينما أعطاه الله في الدنيا المال والولد فأقسم وحلف على سبيل القطع أن الله سبحانه وتعالى كما كرمه في الدنيا بهذه الأعراض الدنيوية فسوف يعطيه نفس الشيء أيضاً في الآخرة، ولذا قال: (( لَأُوتَيَنَّ )) يعني: يوم القيامة، (( مَالَاً وَوَلَدَاً )). وهذا القول لا يخلو مستند قائله في هذا الزعم من واحد من ثلاثة احتمالات: الاحتمال الأول: قال تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي: أنه قد قال ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب، فمن أين له أن يقسم على أن الله سوف يؤتيه يوم القيامة مالاً وولداً؟! فأول احتمال: أن عنده اطلاعاً على الغيب استطاع به أن يطلع على ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، فعلم أن هذا مما كتبه الله في اللوح المحفوظ، وهذا الاحتمال أبطله الله سبحانه وتعالى في نفس الآية، بأداة الإنكار في قول الله تبارك وتعالى: (( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ )) فالإنكار يبطل هذا الاحتمال، فإن قوله تعالى: (( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ )) يدل على أنه ما اطلع الغيب، ولذلك أنكر الله بأداة الإنكار. الاحتمال الثاني: قال تعالى: (( أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً )) يعني: أنه يقول ذلك مستنداً ومعتمداً على أن الله سبحانه وتعالى أعطاه عهداً، والله لا يخلف الميعاد، ولا يخلف عهده، فهو يقول: إن الله أعطاه عهداً أنه سوف يؤتيه يوم القيامة مالاً وولداً، وهذا أيضاً أبطله الله بأداة الإنكار. الاحتمال الثالث والأخير: أن يكون قد قال ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب، وهذا الاحتمال هو المتعيِّن، وما سواه باطل؛ فإنه قال ذلك افتراءً على الله سبحانه وتعالى من غير عهد ولا اطلاع غيب، والدليل قوله تعالى: (( كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ))؛ فإن (كلا) حرف زجر وردع، فدل على أن هذا الاحتمال الثالث هو الاحتمال المتعيِّن، وهو أنه ما قال ذلك إلا افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب، قال تعالى: كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدَّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدَاً فيلزم أن الأمر ليس كذلك؛ فإنه لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهداً، بل قال ذلك افتراءً على الله؛ لأنه لو كان أحدهما حاصلاً -أي: لو أنه استند إلى اطلاعٍ على الغيب أو استند إلى عهدٍ- لم يستوجب الردع عن مقالته بلفظة: (كلا). وبنفس الدليل أبطل الله سبحانه وتعالى دعوى اليهود حينما ادَّعوا: (( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً )) قالوا: هي الأربعون يوماً التي عبدوا فيها العجل، فأبطل الله سبحانه وتعالى هذه الدعوى من اليهود -لعنهم الله- بقوله عز وجل: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80]. والاحتمال الثاني لم ينص الله سبحانه وتعالى عليه هنا، فقوله تعالى عنهم: (( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً )) فيه التقسيم: أنهم يدعون هذه الدعوى؛ وهي: أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة. فإن قيل: ما مستندهم في ذلك القول؟ فنقول: إذا حاولنا حصر الاحتمالات سنجدها تنحصر أيضاً في نفس الثلاثة الأقسام التي تكلمنا عنها في سورة مريم: الاحتمال الأول: قوله تعالى: (( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ )). الاحتمال الثاني: لم يذكره الله سبحانه وتعالى هنا، وإنما دلت عليه الآية السابقة في سورة مريم في قوله سبحانه: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً ، فالاحتمال الثاني هو: أن يكون اليهود قد اطلعوا على اللوح المحفوظ وعرفوا أو علموا الغيب، وعلموا أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، فحذف هنا هذا الاحتمال الثاني لدلالة ما هناك عليه؛ لأن هذا هو الحصر الطبيعي. الاحتمال الثالث: قوله تعالى: (( أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ )). فلا شك أن الاحتمالين الأولين باطلان: الاحتمال الأول: قوله: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ، وليس عندهم عهد. الاحتمال الثاني: أنهم اطلعوا الغيب وعلموا ذلك من خلاله، وهم لم يطلعوا على الغيب. إذاً: كلا الاحتمالين باطل. وبقي الاحتمال الأخير وهو: قوله تعالى: (( أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ )) يعني: أنكم تفترون على الله الكذب، وهذا هو الواقع والمتعين. فهذا هو دليل السبر والتقسيم في هذه الآيات الكريمات.

قال الله تبارك وتعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ [الطور:37] أي: خزائن رزقه، فهم لاستغنائهم معرضون، أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور:37] أي: الجبابرة المتسلطون. قال تعالى: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ [الطور:38] أي: مرتقىً إلى السماء، يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور:38] يعني: الوحي فيدعون أنهم سمعوا هنالك من الله: أن الذي هم عليه حق، فقوله: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ يعني: مرتقى يرتقون به إلى السماء، فيستمعون الوحي من الله سبحانه وتعالى يخبرهم ويطمئنهم أن ما هم عليه من الدين هو الحق. قال تعالى: فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [الطور:38] يعني: الذي يدعي ذلك عليه أن يأتي بحجة واضحة تصدق دعواه.

قال تعالى: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطور:39]: حيث جعلوا لتفاهة رأيهم الملائكةَ إناثاً وأنها بناته تعالى! مع أنه كان حالهم: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدَّاً وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل:58]. أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرَاً [الطور:40] أي: أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله تعالى؟ فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [الطور:40] أي: فهم من التزام الغرامة وهذه الأجرة مثقلون من أدائها حتى زهدهم ذلك في اتباعك؟ قال تعالى: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ [الطور:41] أي: يكتبون منه ما شاءوا وينبئون الناس عنه بما أرادوا؟ قال تعالى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدَاً [الطور:42] أي: بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به؟ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور:42] أي: هم الممكور بهم دونك، فثق بالله وامضِ لما أمرك به. قال تعالى: أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ [الطور:43] أي: له العبادة على جميع خلقه؟ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الطور:43] أي: تنزيهاً له عن شركهم وعبادتهم معه غيره.

قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفَاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطَاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ [الطور:44]: هذا جواب لمشركي قريش حيث كانوا يستعجلون العذاب ويقترحون الآيات، كما قال تعالى عنهم: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعَاً [الإسراء:90] إلى قوله: أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفَاً [الإسراء:92] يعني: قطعاً، وفي الآية الأخرى: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفَاً مِنَ السَّمَاءِ [الشعراء:187]، فالله سبحانه وتعالى يقول لهم: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفَاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطَاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ يعني: لو أن الله استجاب استعجالهم هذا العذاب ونزوله بهم، وحقق لهم ما اقترحوه؛ لعاندوا ولجادلوا ولقالوا: ليس هذا عذاباً لكنه: (( سَحَابٌ مَرْكُومٌ )) يعني: متراكم بعضه فوق بعض. يقول الزمخشري : يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا: هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض يمطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط من عذاب! قال تعالى: فَذَرْهُمْ [الطور:45] أي: يخوضوا ويلعبوا ويلههم الأمل، حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [الطور:45] أي: يموتون. قال تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [الطور:46] أي: لا يدفع عنهم مكرهم من عذاب الله شيئاً: وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [الطور:46].

قال تعالى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابَاً دُونَ ذَلِكَ [الطور:47] أي: دون يوم القيامة، يعني: عذاباً أقل من عذاب يوم القيامة، أو عذاباً قبل يوم القيامة. وهذا يكون إما عذاباً في الدنيا بالقحط أو النوازل التي تذهب بأموالهم وأنفسهم. وهناك قولٌ آخر: إن قوله تعالى: عَذَابَاً دُونَ ذَلِكَ المقصود به: عذاب القبر. فقوله تعالى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابَاً دُونَ ذَلِكَ المقصود به: إما عذاب القبر أو القحط أو النوازل والمصائب التي تذهب بأموالهم وأنفسهم. وهذه كلها أقوال للسلف، واللفظ صادق للجميع؛ لأن قوله: (عذاباً) نكرة فيعم هذه الأقوال كلها، سواءً كان عذاباً في الدنيا كالنوازل والزلازل وغير ذلك أو كان في القبر؛ لأن هذا كله دون يوم القيامة. وقوله: (( دُونَ ذَلِكَ )) يعني: دون ذلك اليوم المشار إليه في قوله: حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئَاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [الطور:45-46]. وقوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الطور:47] يعني: لا يعلمون سنة الله في أمثالهم من الفجرة.

قال تبارك وتعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور:48] أي: الذي حكم به عليك وامضِ لأمره ونهيه وبلغ رسالاته. فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48] قال ابن جرير : أي: بمرأىً منا نراك ونرى عملك، ونحن نحوطك ونحفظك، فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين. وقال الشهاب : يعني: أن العين لما كان بها الحفظ والحراسة استعيرت لذلك وللحافظ نفسه، فالحافظ نفسه يسمى عيناً، والحارس يسمى عيناً، وتسمية الحافظ عيناً هو استعمال فصيح مشهور. والله عز وجل جمع العين هنا فقال: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) وأفردها في قصة الكليم موسى في قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، فأفردها في قصة الكليم عليه السلام، وجمعها هنا فقال: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)، وأضافها إلى ضمير الجمع؛ وذلك لأن الآية هنا مضافة إلى ضمير الجمع: (( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ))، فناسب أن تأتي أيضاً مجموعة. ولما كانت في قوله: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي مضافة إلى ضمير الواحد ناسب أن تكون واحدة. ويوجد معنىً آخر ونكتة أخرى لهذا الجمع هنا، يقول الشهاب : ونكتة جمع العين هنا وإفرادها في قصة الكليم عدا أنه جُمع هنا لما أضيف لضمير الجمع، ووحد ثمة عند إضافته لضمير الواحد؛ هو المبالغة في الحفظ، حتى كأن معه جماعة حفظة له بأعينهم. إذاً: النكتة هي: بيان المبالغة في حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كأن معه جماعة حفظة له بأعينهم، لأن المقصود: تصبير حبيبه على المكايد ومشاق التكاليف والطاعة، فناسب الجمع؛ لأن أفعال الطاعة التي يمتثلها الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، ويحتاج كل منها إلى حارس بل حراس، بخلاف ما ذكر هناك من حفظه لموسى عليه السلام في قوله: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي .

معنى قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك حين تقوم)

قوله تبارك وتعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور:48] يعني: حين تقوم من منامك. روى الإمام أحمد والبخاري في صحيحه وأهل السنن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَن تعارَّ -أي: استيقظ من الليل- فقال -يعني: هذا المستيقظ-: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي. أو قال: ثم دعا، استجيب له)، فهذا دعاء إذا قاله الإنسان ووفق إليه يستجيب الله له دعاءه، بشرط أنه أول ما ينتبه من النوم يتذكر هذا الحديث ويقول هذا الدعاء: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، ثم يقول: رب اغفر لي، أو يدعو أيَّ دعاء، ففي هذه الحالة يستجاب له. قال صلى الله عليه وسلم: (فإن عزم -أي: نهض من فراشه- فتوضأ ثم صلى قُبلت صلاته). وورد من أذكار الاستيقاظ من النوم دعاء: (سبحان الله وبحمده، سبحان القدوس، ولا إله إلا أنت سبحانك، اللهم أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)، والحقيقة أن هذا الدعاء بعينه لا نظن أنه ثبت في أحاديث الاستيقاظ من النوم؛ لكن تكفي الأحاديث الأخرى الثابتة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد الله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره) وهذا يعتبر امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ . فيمكن أن تكون الآية نفسها دليلاً على أن الإنسان يقول: (سبحانك الله وبحمدك)؛ لأن التعليق هنا جاء بوظيفة القيام: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ، ومن ذلك أيضاً هذا الحديث؛ لأن فيه: (مَن تعارَّ من الليل فقال: وذكر من ضمن ما يقوله: سبحان الله والحمد لله)، وهذا يدخل في امتثال الآية الكريمة. وأيضاً مما يقال عند القيام من النوم: المعوذتان؛ لأن الرسول عليه السلام قال لـعقبة بن عامر : (اقرأ بهما إذا نمت، وإذا استيقظت، وإذا أخذت مضجعك). وقيل في تفسير قوله تبارك وتعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور:48] يعني: حين تقوم إلى الصلاة، روى مسلم في صحيحه عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول في ابتداء الصلاة: (سبحانك الله وبحمدك! وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، وهذا على احتمال أن قوله: (( حِينَ تَقُومُ )) يعني: إلى الصلاة. وهذا الحديث رواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد رضي الله عنه وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك. وعن مجاهد قال في قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ : حين تقوم من كل مجلس، وكذا قال عطاء وأبو الأحوص ، ولعل في هذا التفسير الإشارة إلى الدعاء المشهور في كفارة المجلس، وهو في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه -يعني: اللغو أو الكلام الذي لا يفيد- فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك! أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك) رواه الترمذي وصححه، وكذا الحاكم . وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقال رجل: يا رسول الله! إنك لتقول قولاً ما كنتَ تقوله فيما مضى، فقال صلى الله عليه وسلم: كفارة لما يكون في المجلس) وقد أفرد الحافظ ابن كثير في هذا الحديث جزءاً على حدة، وذكر فيه طرقه وألفاظه وعلله، فرحمه الله. ولا يخفى أن لفظ الآية يصدق على المواضع المذكورة كلها، وتدل الأحاديث المذكورة على الأخذ بعمومها، فإن السنة بيان للكتاب الكريم. إذاً: كما بينت هذه الأحاديث الآية: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ، فيدخل في حكم الآية كل ما ثبت في السنة مما يبين هذا التسبيح، فيدخل فيها أولاً حديث: (مَن تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله ..). وكذلك يدخل فيها أذكار الاستيقاظ من النوم على أن قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور:48] يعني: من النوم عند الاستيقاظ. وأيضاً قوله: (( حِينَ تَقُومُ )) يعني: إلى الصلاة، وهذا ثابت في أدعية الاستفتاح. وأيضاً: (( حِينَ تَقُومُ )) يعني: في القيام من المجلس، فيدخل فيها دعاء كفارة المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك..) إلخ.