تفسير سورة البقرة [243-252]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [البقرة:243]. (ألم تر) بمعنى: ألم تعلم، والرؤية إما تكون رؤية بصرية، وإما أن تكون بمعنى الرؤيا العلمية، كقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] يعني: ألم تعلم، وكذلك هنا (ألم تر) يعني: ألم تعلم. (ألم ترى إلى الذين خرجوا) يعني: ممن تقدمكم من الأمم، خرجوا من ديارهم التي ألفوها لما وقع فيها مالا طاقة لهم به من الموت، وقع بهم كرب وبلاء، إما أنه الطاعون كما جاء في بعض الروايات، وإما أنهم دعوا إلى الخروج من ديارهم التي اعتادوا عليها وألفوها إلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، والأظهر أنهم دعوا إلى الخروج إلى الجهاد. ولفظة (ألم تر) قد تذكر لمن تقدم علمه بالفعل، وقد تذكر لمن لم يتقدم له علم بالفعل. فيمكن أن يكون المعنى ألم تعلم. ويمكن أن تقال لشخص علم بالفعل وقُصد من هذه الصياغة التعجب أو التعجيب، والتقرير والتذكير، كما تقول -مثلاً-: ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟! ويكون قد علم ما يصنع فلان، لكن المقصود منه التعجب من فعله ومن حاله. فقوله عز وجل هنا: (ألم تر) تقال لمن تقدم علمه، فتكون للتعجيب والتقرير، كإخبار من يعرف التاريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه. وفعل (رأى) متعدٍّ أصلاً، ولا يحتاج إلى حرف الجر (إلى)، لكن لما ضمن الفعل معنى (تنظر) عدي بـ(إلى)، يعني: ألم تنظر إلى، وفائدة استعارته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له. (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف) ألوف في العدد جمع ألفٍ، أو ألوف جمع آلف، كشاهد جمعها شهود، كذلك (وهم ألوف)، وهذا قول آخر، بمعنى أنهم خرجوا وهم مؤتلفون، لم يدفعهم إلى الخروج من ديارهم أنهم كانوا متقاتلين فيما بينهم أو متناحرين أو متخاصمين، إنما كانوا مؤتلفين. فقوله تعالى: (وهم ألوف) إما أن يكون في العدد جمع ألف، أو: وهم ألوف مؤتلفون ومجتمعون جمع آلف بالمد كشاهد وشهود. أي: إن خروجهم لم يكن عن افتراق كان منهم وخصام، ولكن حذر الموت، و(حذر) مفعول له، أي: فراراً من الموت.

قدرة الله تعالى على الإماتة والإحياء

قوله تعالى: (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) كان يمكن أن يقول الله تبارك وتعالى: فأماتهم الله بدل قوله: (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم)، وإنما جيء به على هذا التركيب للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد لأمر الله ومشيئته، وتلك مشيئة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالاً من غير إباء ولا توقف، فلذلك قال: (فقال) ولم يقل: (فأماتهم) إنما قال: (فقال لهم الله موتوا) يعني: ماتوا في الحال في وقت واحد أجمعين. كأنهم أمروا بالموت فامتثلوه في الحال دون توقف ودون إباء أو اعتراض، فلذلك أتى بهذه الصيغة كي يبين قدرته تبارك وتعالى ومشيئته التي لا راد لها، قال لهم الله: موتوا. فماتوا في الحال! وهذا كقوله تبارك وتعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]. (ثم أحياهم) هذا عطف بـ(ثم) إما على مقدر يستدعيه المقام، والمعنى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله: موتوا فماتوا ثم أحياهم، فتكون (أحياهم) معطوفة على (فماتوا). وحذف قوله: (فماتوا) للدلالة على الاستغناء عن ذكره، فإنه لا أن يتخلف مراد الله تبارك وتعالى عن إرادته، فالله أراد منهم أن يموتوا، فلا يتخلف أبداً مراد الله إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فلما قال لهم: موتوا كان لابد أن يموتوا كما أراد الله، وقد ماتوا بالفعل، ولشدة اليقين بوقوع هذا المراد من الله سبحانه وتعالى لم يذكر (فماتوا)؛ لأن هذا واقع ولابد، لاستحالة عدم وقوعه، فاستغني عن ذكره باستحالة عدم وقوع مراد الله. أو تكون (ثم أحياهم) معطوفة على (قال) (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) والتقدير: (قال ثم أحياهم)، فهي معطوفة على (قال) فهذه فعل ماض وهذه فعلٌ ماض.

فضل الله تعالى على الناس

قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ قاطبة بما في ذلك أولئك الذين قال لهم الله: موتوا ثم أحياهم، فتفضل الله عليهم بذلك ليعتبروا بما جرى عليهم من قدرة الله سبحانه وتعالى في إماتتهم ثم إحيائهم، فيعتبروا بهذه العبرة فيفوزوا بالسعادة. وأما الناس الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار، فقد تفضل على الجميع ليشكروه. (إن الله لذو فضل على الناس) هؤلاء الذين أماتهم ثم أحياهم وكل من يسمع قصتهم أيضاً الله ذو فضل عليهم لما هداهم إليه من الاعتبار والاستبصار بقصتهم. فتفضل الله على الجميع ليشكروه وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243] يعني: لا يشكرون فضله كما ينبغي.

الحث على الجهاد

روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله ثم أحياهم، فأمرهم أن يجاهدوا عدوهم، فكأنها ذكرت ممهدة للأمر بالقتال بعدها في قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله). ومعلوم أن سورة البقرة نزلت في المدينة إثر الهجرة قبل فتح مكة، وكان العدو في مكة وما حولها في كثرة وقوة ومنعة، فأُمِر المسلمون المهاجرون ومن آواهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وقص لهم من الأنباء ما فيه باعث لهم على الجهاد، وتبشير لهم بالفوز والعاقبة وإن كانوا في قلة وضعف، حتى لو كانوا في قلة وضعف فلا يمنعنهم ذلك من الخروج في سبيل الله، ما داموا مستمسكين بحبل الوثاق والصبر والمصابرة، وما قص الله من حوادث الإسرائيليين كان معروفاً في الجملة؛ لمخالطة اليهود للعرب في قرون كثيرة.

الحكمة من ذكر القصص في القرآن

قال الدهلوي ولي الله في الفوز الكبير: واختار سبحانه في تنزيله من أيام الله -يعني الوقائع التي أحدثها الله سبحانه وتعالى- كإنعام المطيعين وتعذيب العصاة ما قرع سمعهم، وهذا من مقاصد القرآن، تذكر القصص كي تكون عبرة للجميع. وذكر لهم إجمالاً قصص قوم نوح وعاد وثمود، وكانت العرب تتلقى هذه القصص أباً عن جد، ومثل قصص سيدنا إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل، فإنها كانت مألوفة عند العرب، مألوفة لأسماعهم؛ لأنهم كانوا يخالطون اليهود العرب في قرون كثيرة. وانتزع من القصص المشهورة ما ينفع في تذكرهم، ولم يسرد القصص بتمامها مع جميع خصوصياتها، والحكمة في ذلك أن القرآن الكريم لو سرد تفاصيل القصص وتفاصيل كل الأحداث التي تتعلق بهذه القصص فإن العوام إذا سمعوا القصص النادرة غاية الندرة، أو سمعوا الخصوصيات يميلون إلى القصص نفسها ويفوتهم التذكر والاعتبار الذي هو الغرض الأصلي هنا. فإذا ذكرت القصة كلها من أولها إلى آخرها بجميع ما يتعلق بها من أحداث ووقائع، فالناس ينجرون إلى متابعة تسلسل الأحداث، وينبهرون به، وينجذبون إليه، ويفوتهم الاعتبار، فلذلك القرآن الكريم ما ذكر كل تفاصيل قصصهم، وإنما ذكر ما ينفعهم لأجل الاعتبار. وهذا يظهر لنا إذا قارنا بين كثير من قصص القرآن الكريم وبين نفس القصص إذا ذكرت في التوراة مثلاً، فنجد القصص في التوراة موجودة بتفاصيل عجيبة جداً، وتفاصيل كثيرة جداً، بما في ذلك الأسماء، ومواقع البلاد، وأنواع الضيوف، والطيور وغير ذلك من تفاصيل وخصوصيات القصة، أما القرآن الكريم فحذراً وتجنباً لما يحصل من العوام، لأنهم إذا سمعوا القصص بجميع خصوصياتها وتفصيلاتها يميلون إلى هذه الخصوصيات وتسلسلها، وينسون وينشغلون عن موضع العبرة، مع أن العبرة والاعتبار والتذكر هو الغرض الأصلي من سردها، فيذكر الله من القصة في القرآن. ونظير هذا الكلام في موضوع القصص ما قاله بعض العارفين: إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة! ولذلك ينبغي أن ينتبه الإنسان إذا درس علم التجويد ألا يلبس عليه الشيطان بأن يصرف كل همه إلى مراعاة قواعد التجويد ومخارج الحروف دون الاعتبار بالمعاني.

قوله تعالى: (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) كان يمكن أن يقول الله تبارك وتعالى: فأماتهم الله بدل قوله: (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم)، وإنما جيء به على هذا التركيب للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد لأمر الله ومشيئته، وتلك مشيئة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالاً من غير إباء ولا توقف، فلذلك قال: (فقال) ولم يقل: (فأماتهم) إنما قال: (فقال لهم الله موتوا) يعني: ماتوا في الحال في وقت واحد أجمعين. كأنهم أمروا بالموت فامتثلوه في الحال دون توقف ودون إباء أو اعتراض، فلذلك أتى بهذه الصيغة كي يبين قدرته تبارك وتعالى ومشيئته التي لا راد لها، قال لهم الله: موتوا. فماتوا في الحال! وهذا كقوله تبارك وتعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]. (ثم أحياهم) هذا عطف بـ(ثم) إما على مقدر يستدعيه المقام، والمعنى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله: موتوا فماتوا ثم أحياهم، فتكون (أحياهم) معطوفة على (فماتوا). وحذف قوله: (فماتوا) للدلالة على الاستغناء عن ذكره، فإنه لا أن يتخلف مراد الله تبارك وتعالى عن إرادته، فالله أراد منهم أن يموتوا، فلا يتخلف أبداً مراد الله إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فلما قال لهم: موتوا كان لابد أن يموتوا كما أراد الله، وقد ماتوا بالفعل، ولشدة اليقين بوقوع هذا المراد من الله سبحانه وتعالى لم يذكر (فماتوا)؛ لأن هذا واقع ولابد، لاستحالة عدم وقوعه، فاستغني عن ذكره باستحالة عدم وقوع مراد الله. أو تكون (ثم أحياهم) معطوفة على (قال) (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) والتقدير: (قال ثم أحياهم)، فهي معطوفة على (قال) فهذه فعل ماض وهذه فعلٌ ماض.

قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ قاطبة بما في ذلك أولئك الذين قال لهم الله: موتوا ثم أحياهم، فتفضل الله عليهم بذلك ليعتبروا بما جرى عليهم من قدرة الله سبحانه وتعالى في إماتتهم ثم إحيائهم، فيعتبروا بهذه العبرة فيفوزوا بالسعادة. وأما الناس الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار، فقد تفضل على الجميع ليشكروه. (إن الله لذو فضل على الناس) هؤلاء الذين أماتهم ثم أحياهم وكل من يسمع قصتهم أيضاً الله ذو فضل عليهم لما هداهم إليه من الاعتبار والاستبصار بقصتهم. فتفضل الله على الجميع ليشكروه وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243] يعني: لا يشكرون فضله كما ينبغي.

روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله ثم أحياهم، فأمرهم أن يجاهدوا عدوهم، فكأنها ذكرت ممهدة للأمر بالقتال بعدها في قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله). ومعلوم أن سورة البقرة نزلت في المدينة إثر الهجرة قبل فتح مكة، وكان العدو في مكة وما حولها في كثرة وقوة ومنعة، فأُمِر المسلمون المهاجرون ومن آواهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وقص لهم من الأنباء ما فيه باعث لهم على الجهاد، وتبشير لهم بالفوز والعاقبة وإن كانوا في قلة وضعف، حتى لو كانوا في قلة وضعف فلا يمنعنهم ذلك من الخروج في سبيل الله، ما داموا مستمسكين بحبل الوثاق والصبر والمصابرة، وما قص الله من حوادث الإسرائيليين كان معروفاً في الجملة؛ لمخالطة اليهود للعرب في قرون كثيرة.

قال الدهلوي ولي الله في الفوز الكبير: واختار سبحانه في تنزيله من أيام الله -يعني الوقائع التي أحدثها الله سبحانه وتعالى- كإنعام المطيعين وتعذيب العصاة ما قرع سمعهم، وهذا من مقاصد القرآن، تذكر القصص كي تكون عبرة للجميع. وذكر لهم إجمالاً قصص قوم نوح وعاد وثمود، وكانت العرب تتلقى هذه القصص أباً عن جد، ومثل قصص سيدنا إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل، فإنها كانت مألوفة عند العرب، مألوفة لأسماعهم؛ لأنهم كانوا يخالطون اليهود العرب في قرون كثيرة. وانتزع من القصص المشهورة ما ينفع في تذكرهم، ولم يسرد القصص بتمامها مع جميع خصوصياتها، والحكمة في ذلك أن القرآن الكريم لو سرد تفاصيل القصص وتفاصيل كل الأحداث التي تتعلق بهذه القصص فإن العوام إذا سمعوا القصص النادرة غاية الندرة، أو سمعوا الخصوصيات يميلون إلى القصص نفسها ويفوتهم التذكر والاعتبار الذي هو الغرض الأصلي هنا. فإذا ذكرت القصة كلها من أولها إلى آخرها بجميع ما يتعلق بها من أحداث ووقائع، فالناس ينجرون إلى متابعة تسلسل الأحداث، وينبهرون به، وينجذبون إليه، ويفوتهم الاعتبار، فلذلك القرآن الكريم ما ذكر كل تفاصيل قصصهم، وإنما ذكر ما ينفعهم لأجل الاعتبار. وهذا يظهر لنا إذا قارنا بين كثير من قصص القرآن الكريم وبين نفس القصص إذا ذكرت في التوراة مثلاً، فنجد القصص في التوراة موجودة بتفاصيل عجيبة جداً، وتفاصيل كثيرة جداً، بما في ذلك الأسماء، ومواقع البلاد، وأنواع الضيوف، والطيور وغير ذلك من تفاصيل وخصوصيات القصة، أما القرآن الكريم فحذراً وتجنباً لما يحصل من العوام، لأنهم إذا سمعوا القصص بجميع خصوصياتها وتفصيلاتها يميلون إلى هذه الخصوصيات وتسلسلها، وينسون وينشغلون عن موضع العبرة، مع أن العبرة والاعتبار والتذكر هو الغرض الأصلي من سردها، فيذكر الله من القصة في القرآن. ونظير هذا الكلام في موضوع القصص ما قاله بعض العارفين: إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة! ولذلك ينبغي أن ينتبه الإنسان إذا درس علم التجويد ألا يلبس عليه الشيطان بأن يصرف كل همه إلى مراعاة قواعد التجويد ومخارج الحروف دون الاعتبار بالمعاني.

قال تبارك وتعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:244] من المخاطبون هنا في قوله: (وقاتلوا)؟ إما أن يكون المخاطبون هم الذين أماتهم الله ثم أحياهم، فبعدما أحياهم أمرهم قائلاً: (وقاتلوا في سبيل الله)، وإما أن يكون الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون المقصود تحذيرهم، أي: لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء، فلا ينفعكم الهرب، ولكن قاتلوا في سبيل الله إذا استنفرتم إلى الجهاد. قال المفسرون: في إتباع القصة المتقدمة الأمر بالقتال دليل على أنها سيقت بعثاً على الجهاد، فحرض على الجهاد بعد الإعلام بأن الفرار من الموت لا يغني، كما قال تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]. وقوله: (سبيل الله) السبيل أصلاً هو الطريق، سميت المجاهدة سبيلاً إلى الله تعالى من حيث إن الإنسان يسلكها ويتوصل إلى الله بها ليتمكن من إظهار عبادته تعالى ونشر الدعوة إلى توحيده وحماية أهلها والمدافعة عن الحق وأهله. فالجهاد سبيل الله لأنه يحمي الحق وينشره في ربوع الأرض، والقتال في سبيل الله شرع لإزالة الضرر العام، والضرر العام هو منع الحق وتأييد الشرك، فالجهاد هو لإزالة هذا المانع. وفي قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:244] باعث على صدق النية والإخلاص، (سميع عليم) سميع لأقوالكم عليم بأحوالكم وضمائركم. فهذا حث على أن يكون الجهاد في سبيل الله لا رياء ولا سمعة ولا لطلب الغنيمة، كما في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]. هذا حث من الله تعالى لعباده على الصدقة، وهذه الآية مكررة في الكتاب الكريم في أكثر من موضع، يقول القرطبي : (من ذا الذي يقرض الله) طلب القرض في هذه الآية هو تقريب للناس بما يفهمون، هذا هو الأسلوب الذي يفهم به الناس، وهذا نوع من البساطة في التعبير حتى يفهموا عن الله سبحانه وتعالى آياته، والله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، لكنه تعالى شبه إعطاء المؤمنين وإنفاقهم في الدنيا بالقرض، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في طلب الجنة بالبيع والشراء كما يأتي في سورة براءة، وكنى الله سبحانه وتعالى عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيباً في الصدقة، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة كما في الحديث المعروف. وأشير هنا إلى أن قوله سبحانه وتعالى: (من ذا الذي يقرض الله) لا نفهم منه كما فهم اليهود -لعنهم الله- حينما قالوا: (إن الله فقير ونحن أغنياء) يسخرون من القرآن الكريم، فقالوا: الله -سبحانه وتعالى- يستقرضنا ويسألنا القرض، فالله فقير ونحن أغنياء. وقد علم ما رد الله سبحانه وتعالى عليهم في مقالتهم الشنيعة هذه. ففي حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني! قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟!)، إذاً معنى قله: (مرضت فلم تعدن)، أنك لو أتيته لنلت ثواب عيادة المريض. (يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب! وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟! يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك -سألك سقيا الماء- عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي؟!). فمن نفس هذا الباب جاء قوله تعالى: (( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ))، فهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كني عنه ترغيباً لمن خوطب به. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله! وإن الله يريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح . قال: أرني يدك يا رسول الله! فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وكان له حائط فيه ستمائة نخلة، وفيه أم الدحداح وعيالها، فجاء أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح ! قالت: لبيك. قال: اخرجي؛ فقد أقرضته ربي عز وجل. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رب عرق لـأبي الدحداح مدلل في الجنة)، وفي رواية: (كم من عذق رداح في الجنة لـأبي الدحداح). قوله تعالى: (( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا )) يعني: طيبة به نفسه بغير من ولا أذى، (فيضاعفه له أضعافاً كثيرة)، وهذا كقوله عز وجل: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]. ولما رغب رهب، فرغب أولاً في إقراضه سبحانه وتعالى بهذه الآية، ثم أتبعه جملة مرهبة مرغبة فقال: (( وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ )) أي: يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على من يشاء. وما دام الذي يبسط ويقبض والذي يوسع ويضيق الرزق هو الله سبحانه وتعالى إذاً فلا تبخلوا بما وسع عليكم؛ لئلا يبدل الله سبحانه وتعالى السعة التي أودعها فيكم بالتضييق. (( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )) يعني: يوم القيامة فيجازيكم. قال المهايمي : وكيف ينكر بسط الله وقبضه وهو الذي يعطي الفقير الملك ويسلبه من أهله الملوك الذين هم سلالة الملوك وأبناء الملوك؟! فالله سبحانه وتعالى يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، فالملك الذي هو سبط الملوك ومن سلالتهم يمنعه الله الملك ويؤتيه للفقير! وهو أيضاً سبحانه وتعالى يقوي الضعفاء في الجمع القليل ويضعف الأقوياء في الجمع الكثير، فلا ينكر هذا، وهذا تمهيد بين يدي هذه القصة التي حكاها الله سبحانه وتعالى عن الملأ من بني إسرائيل، حيث آتى طالوت الملك مع أنه لم يكن من سبط الملوك ولم يكن من سلالة الملوك، وأيضاً نصر جنوده الذي كان فيهم داود عليه السلام على قوم جالوت رغم قلة عَدَدِهم وعُدَدِهم بالنسبة إليهم.

يقول السيوطي رحمه الله تعالى: أَلَمْ تَرَ [البقرة:243] استفهام تعجيب وتشويق إلى استماع ما بعده، يعني: ألم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف أربعة يعني إما أربعة آلاف، أو ثمانية، أو عشرة آلاف، أو ثلاثون، أو أربعون أو سبعون ألفاً، كلها أقوال. (حذر الموت) هذا مفعول له، وهم قوم من بني إسرائيل وقع الطاعون ببلادهم ففروا، وهذا الذي قاله السيوطي مرجوح، والأرجح أنه دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا من وجه عدوهم حذر الموت، وهذا القول أقرب، ويشير إليه قوله تعالى: وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:243] فخافوا القتال مع كثرة عددهم، فالفرار من الطاعون لا يستدعي الإشارة إلى أنهم ألوف، بل الذي يستدعي الإشارة إلى أنهم كانوا ألوفاً هو دعوتهم إلى القتال. (فقال الله لهم موتوا ثم أحياهم) ماتوا ثم أحياهم بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيهم حزقيل، فعاشوا دهراً عليهم أثر الموت. وقوله: (عليهم أثر الموت) هذه المبالغة لا دليل عليها؛ لأنه يقول: عاشوا دهراً بعدما أحيوا عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن! واستمرت في أسباطهم، وهذا القول -كما ترى- حكاه السيوطي بغير دليل، فلا ينبغي التعويل عليه. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [البقرة:243] ومن هذا الفضل إحياء هؤلاء، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ [البقرة:243] وهم الكفار لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]. والقصد من ذكر خبر هؤلاء تشجيع المؤمنين على القتال، ولذا عطف عليه وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:244] أي: لإعلاء دينه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ [البقرة:244] لأقوالكم عَلِيمٌ [البقرة:244] بأحوالكم فيجازيكم. مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة:245] يعني: بإنفاق ماله في سبيل الله قَرْضاً حَسَناً [البقرة:245] يعني: بأن ينفقه لله عز وجل عن طيب قلب -كما ذكرنا- بغير من ولا أذى، فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245]، وفي قراءة أخرى: (فيُضعِّفه له). أَضْعَافاً كَثِيرَةً [البقرة:245] من عشرة إلى أكثر من سبعمائة. وَاللَّهُ يَقْبِضُ [البقرة:245] أي: يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء وَيَبْسُطُ [البقرة:245] تقرأ بالصاد أو السين، أي: يعطيه لمن يشاء سبحانه. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245] يعني: في الآخرة بالبعث فيجازيكم بأعمالكم.

قال تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:246]. (ألم تر إلى الملأ) الملأ هم القوم ذوو الشارة والتجمع. (من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم) نكر اسم هذا النبي، فلم يقل: لنبيهم أو النبي وإنما قال: (لنبي لهم)؛ لعدم وجود مقتض لتعريفه، ولن نستفيد شيئاً إذا عرفنا اسمه،والذي يفيدنا هو العبرة، وزعم الكتابيون أنه (سموائيل). (ابعث لنا ملكاً) أي: أقم لنا أميراً. (نقاتل) أي: معه وعن أمره، فيقودنا ويأمرنا بالجهاد وينظمنا في الجهاد. (في سبيل الله) وذلك حين ظهرت العمالقة قوم جالوت على كثير من أرضهم. (قال هل عسيتم) يعني: قال لهم نبيهم لما قالوا له ذلك: (هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا)، والمعنى: أنا أتوقع أنكم أناس غير جادين في هذا الطلب، فأتوقع منكم أنكم لا تقاتلون، فهذا مجرد كلام منكم. فأراد أن يقول: (هل عسيتم أن لا تقاتلوا) بمعنى: أنا أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل (هل) مستفهماً عما هو متوقع عنده ومضمون، وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن؛ لأنه صائب في توقعه، كقوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] يعني: (قد أتى) فهو تقرير، وفي (عسيتم) قراءة أخرى بكسر السين سبعية. (قالوا وما لنا أن لا نقاتل) يعني: أي سبب لنا في ترك قتال عدونا أن لا نقاتل في سبيل الله؟ (وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) أي: والحال أنه قد عرض ما يوجب القتال إيجاباً قوياً مِنْ أخذ بلادنا وسبي أولادنا. (فلما كتب عليهم القتال) يعني: بعد إلحاحهم (تولوا) أي: أعرضوا عن قتال عدوهم جبناً، (إلا قليلاً منهم) من المؤمنين. (والله عليم بالظالمين) وعيد لهم على ظلمهم بالتولي عن القتال وترك الجهاد عصياناً لأمره تعالى. وثمرة هذه الآية الكريمة أنها دلت على جملة من الأحكام: الأول: وجوب الجهاد؛ لأن الله تعالى إنما ذكر هذه القصة المشهورة في بني إسرائيل وما نالهم تحذيراً من سلوك طريقهم، ولأن شرائع من قبلنا تلزمنا. الثاني: أن الأمير يحتاج إليه في أمر الجهاد لتدبير أمورهم، لذلك قالوا لنبيهم: (ابعث لنا ملكاً) أي: أميراً يأمرنا، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أمر عليها أميراً، وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)، وفي رواية: (إذا كان ثلاثة في سفر .. .). الثالث: مما تدل عليه الآية: وجوب طاعة الأمير في أمر السياسة وتدبير الحرب؛ لأن سياق الآية يقتضي ذلك، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)، وقد ذكر أهل علم المعاملة أنه ينبغي في الأسفار أن يجعل أهل السفر لهم أميراً ودليلاً وإماماً، وهذا محمود؛ إذ بذلك ينقطع الجدال، وينتظم أمرهم، ويلزم مثل هذا في كل أمر يحتاج فيه إلى ترداد في الآراء نحو أمور الأوقاف والمساجد والإمامة لكل مسجد ونحو هذا. قال الحاكم : وفيه دلالة على أن للأنبياء تشديد العهود والمواثيق فيما يلزمهم، ووجه ذلك أنه قال: (( هَلْ عَسَيْتُمْ ))، وهذا نوع من التأكيد عليهم، وكذا يأتي في الإمام قياس ما ذكر الحاكم في النبي، وكذلك أن الإمام أو الخليفة ينبغي له أن يجدد عهده مع جنده على السمع والطاعة، ويؤكد مواثيقهم معه.

قوله تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [البقرة:247]، هذا شروع في تفصيل ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأقوال والأفعال، إثر الإشارة الإجمالية إلى مصير حالهم، يعني: قال لهم بعدما أوحي إليه ما أوحي: (( إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا )) يعني: ملَّكه عليكم، فانتهوا في تدبير الحرب إلى أمره، وكان طالوت من سبط لم يكن الملك فيهم، وطالوت اسم أعجمي كـجالوت وداود؛ لذلك لم ينصرف، وإن كان بعض العلماء زعم أنه اسمٌ عربي مأخوذ من الطول، لما وصف به من البسطة في الجسم؛ لكن هذا البناء ليس من أبنية العرب، فمنع صرفهُ؛ للعلمية وشبه العجمة، وقد زعم الكتابيون أنه المعروف عندهم: بـشاءول . وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247] ثلاث جرائم، جريمة إثر جريمة -لعنهم الله- فهذا اعتراض على نبيهم؛ بل على الله تعالى بعدما أوحى الله إليه ما أوحى؛ لأن نبيهم لا يتكلم لهم من قبل نفسه، وإنما بالوحي، وهذه هي عادة القوم في سوء الأدب مع الأنبياء ومع الله عز وجل، قالوا: (( أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا )) يعني: كيف يكون له الملك علينا (( وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ))؟! يعني: لأن فينا من هو من سلالة الملوك الذين توارثوا الملك، وهذا ليس من أبناء الملوك، قال الحرالي : فثنوا اعتراضهم، يعني: هم أولاً اعترضوا فقالوا: (( أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا ))، ثم ثنوا بجريمة ثانية فقالوا: (( وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ))، فافتخروا بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملكه الله عليهم، فكان فيهم حظ من فخر إبليس حيث قال حين أُمر بالسجود لآدم: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف:12]، وهؤلاء أيضاً قالوا: (( وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ))، قال الحرالي : وثلثوا جرائمهم بقولهم: (( وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ))، فهذا كما عبر عنه بعض العلماء: استصنام للمال، جعلوا المال صنماً يعبد: (( وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ))، فصار لهذا الملك مانعان من استحقاق الملك في نظرهم: الأول: أنه ليس من سبط الملوك. الثاني: أنه مملق، أي: فقير ليس عنده مال، والملك لا بد له من مال يعتضد به. قال الحرالي : فكان في هذه الثالثة -يعني قولهم: (( وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ))-: استصنام المال -أي: اتخاذ المال صنماً يعبد- وأنه مما يقام به الملك، وإنما الملك بإيتاء الله، وليس بالمال، فكان في هذه الفتنة الثالثة جهل وشرك، فتزايدت صنوف فتنتهم فيما انبعثوا إلى طلبه من أنفسهم. قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] لما استبعدوا تملكه بسقوط نسبه وفقره رد عليهم أن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، فهذا هو الجواب الأول على باطلهم وهو: أن ملاك الأمر إنما هو اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم. ثانياً: أن العمدة في الملك وفور العلم، ليتمكن به من معرفة أمور السياسة، وبسطة البدن؛ ليعظم خطره في القلوب، ويقدر على مقاومة الأعداء، ومكابدة الحروب، وقد خصه الله تعالى منهما بحظ وافر، فالله الذي آتاه الملك، زاده بسطة في العلم والجسم، فصار في غاية الوفرة من القوة العلمية، والقوة العملية، التي هي أساس القائد والأمير. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:247] يعني: من غير إرث ولا مال، إذ لا يشترط على الله تعالى شيء، فهو الفعال لما يريد، فلا رادَّ لحكمه، ولا معقب لقضائه، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]؛ وليس لأحد أن يشترط على الله شروطاً، فيقول: يشترط في الملك أن يكون من سلالة كذا أو من سبط الملوك أو يشترط أن يكون ذا مال، وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي يصطفي، وهو الذي يؤتي الملك، فهو الذي اصطفاه عليكم، وهو الذي زاده بسطة في مؤهلات الملك، فزاده بسطة في العلم والجسم (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ فهو الفعال لما يريد، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247] أي: يوسع على الفقير ويغنيه، وهو يعلم من يليق به الملك ممن لا يليق به، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة، يعني: لم يقل تعالى: (والله يؤتي ملكه من يشاء وهو واسع عليم) وإنما قال: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247]، فكرر لفظ الجلالة لتربية المهابة في قلوبهم من الله سبحانه وتعالى. وثمرة هذه الآية: أن النبوة والإمامة لا تستحق بالإرث، وأن الحِرف الدنيئة لا تمنع الغنى والسيادة؛ لأنه روي أن طالوت كان دباغاً أو سقاءً مع فقره. وتدل هذه الآيات على أنه يشترط في الأمير ونحوه القوة على ما تولى، فيكون سليماً من الآفات، عالماً بما يحتاج إليه؛ لأن الله تعالى ذكر البسطة في العلم والجسم؛ رداً على ما اعتبروه، فدائماً يشير القرآن إلى مؤهلات الإمامة، وهي: القوة العلمية والعملية كما في قوله تبارك وتعالى حاكياً عن يوسف على السلام: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، وكذلك في قوله تبارك وتعالى: أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45]، وكذلك في قول بنت الرجل الصالح: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ )) يعني: الجماعة (( مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى )) أي: من بعد موت موسى، يعني: ألم ينته علمك إلى قصتهم وخبرهم؟ (( إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ )) هو شمويل، وأحياناً يقولون: صاموئيل (( ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا )) أي: أقم لنا ملكاً (( نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )) أي: نقاتل معه في سبيل الله، يعني: تنتظم به كلمتنا، ونرجع إليه. (( قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ )) قال النبي لهم: (هل عسيتم) بالفتح والكسر، (( إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا )) والاستفهام لتقرير التوقع بها يعني: أنا أتوقع منكم جبنكم هذا ما قاله لهم نبيهم (( قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا )) يعني: بسبيهم وقتلهم، وقد فعل بهم ذلك قوم جالوت ، أي: لا مانع منه مع وجود مقتضيه، يعني: لا يوجد مانع، وفي نفس الوقت المقتضي موجود، فيجب أن يوجد الفعل وهو القتال، قال تعالى: (( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ )) لما فرض عليهم القتال (( تَوَلَّوْا )) عنه وجبنوا (( إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ )) وهم الذين عبروا النهر مع طالوت كما سيأتي إن شاء الله (( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ )) فمجازيهم. وسأل النبي -أي: المذكور في الآية السابقة- ربه إرسال ملك، فأجابه إلى إرسال طالوت : (( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى )) يعني: كيف (( يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ))؛ لأنه ليس من سبط المملكة ولا النبوة، وكان دباغاً أو راعياً (( وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ )) يعني: يستعين بها على إقامة الملك (( قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ )) قال النبي لهم: (إن الله اصطفاه عليكم) أي: اختاره للملك (( وَزَادَهُ بَسْطَةً )) أي: سعة، بالسين والصاد (( فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ )) وكان أعلم بني إسرائيل يومئذ، وأجملهم وأتمهم خلقاً وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ إيتاءه، لا اعتراض عليه، (( وَاللَّهُ وَاسِعٌ )) أي: فضله (( عَلِيمٌ )) بمن هو أهل له.