تفسير سورة التوبة [107-110]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107]. (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً) عطف جملة على جملة، يعني: ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً، (ضراراً) إعرابها: مفعول لأجله، وتفسير الآية يوضح إعرابها، فهم اتخذوا المسجد من أجل الضرار. وقد ذكر الضرار في قوله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار، (من ضار ضاره الله، ومن شاق شاق الله عليه). قوله: (وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين) أي: يفرقون به جماعتهم؛ ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب، واجتماع الكلمة على الطاعة، وعقد الزمام، والحرمة بفعل الديانة، حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد. ولذلك يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى هنا في تفسيره: تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال: لا تصلى جماعتان في مسجد واحد بإمامين، خلافاً لسائر العلماء. يعني: العلماء الذين ذهبوا إلى منع تعدد الجماعة في المسجد الواحد الذي له إمام راتب فطنوا إلى هذا، وهو أن الجماعة شرعت من أجل ارتباط القلوب، والتحاب، والتعاطف بين المسلمين، وتكرر الجماعة يفتح الذريعة إلى الطعن في الإمام، وإلى تفرق القلوب، كما حصل من أهل البدع كأمثال أهل التكفير حينما كانوا يتعمدون التخلف عن الجماعة الأولى، ويقيمون جماعة ثانية؛ لأنهم يكفرون الإمام أو يفسقونه أو يطعنون فيه، فالعلماء سدوا هذا الباب، ومنعوا إقامة جماعة ثانية في المسجد الواحد، وهذا مذهب كثير من العلماء، وسبق أن تكلمنا بالتفصيل في هذه المسألة. قال: وروي عن الشافعي المنع؛ حيث كان تشتيتاً للكلمة وإبطالاً لهذه الحكمة، وذريعة إلى أن نقول: من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر، فيقيم جماعته، ويقدم إمامه، فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك على بعض العلماء، قال ابن العربي : وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدماً منهم في الحكمة، وأعلم بمقاصد الشريعة. (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ )) (من قبل) يعني: من قبل بناء مسجد الضرار. (( وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى )) يعني: إلا الفعلة الحسنى، فالحسنى هنا صفة لمحذوف تقديره: إلا الفعلة أو الخصلة الحسنى، وهي الرفق بالمسلمين ذوي العلة والحاجة، هذه هي الحسنى التي زعموها؛ لأن مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام بعيد، وهناك ناس مرضى وذوو حاجة وعندهم علل، وحتى لا يشق عليهم نبني لهم هذا المسجد ليصلوا فيه (( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ )). قوله تعالى: (والذين) أي: ومن المنافقين الذين (اتخذوا) أي: بنوا مسجداً، (ضراراً) أي: مضارة لأهل مسجد قباء، لأن الضرار ليس بالمسجد: بالحجارة والطوب والأرض، إنما الإضرار بأهل المسجد، (وكفراً) يعني: بالله ورسوله، أو تقوية للكفر الذي يضمرونه. (وتفريقاً بين المؤمنين) أي: الذين كانوا يجتمعون بمسجد قباء اجتماعاً واحداً، يؤدون أجل الأعمال وهي الصلاة التي يقصد بها تقوية الإسلام بجمع قلوب أهله على الخيرات، ورفع الاختلاف من بينهم.(وإرصاداً): إعداداً وترقباً وانتظاراً، (وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل) أي: من كفر بالله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً، وسمي بـأبي عامر الراهب ؛ لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم، فمات كافراً بقنسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم. و أبو عامر هذا الكافر خرج من ظهره مؤمن، وهو حنظلة الملقب بغسيل الملائكة، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [يونس:31]، وكان حنظلة رضي الله تعالى عنه قد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه الخائن، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، كما فعل عبد الله بن عبد الله بن أبي حينما استأذن النبي أن يقتل أباه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، ولكن بر أباك وأحسن صحبته)، وقد قتل عبد الله بن عبد الله بن أبي شهيداً في معركة اليمامة تحت قيادة خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه. وحنظلة بنى بزوجته ليلة أحد، فكانت غزوة أحد صبيحة زفافه، ولما سمع داعي الجهاد لحق به على عجل، ولم يغتسل من الجنابة، وقتل في المعركة، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة تغسله، فأمرهم أن يسألوا أهله ما شأنه؟ ما الخبر؟ لماذا هو بالذات تغسله الملائكة؟! وما كان أحد يعرف السر في ذلك، فسألوا زوجته وهي جميلة بنت أبي بن سلول وكانت عروساً عليه تلك الليلة، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتف، فقال صلى الله عليه وسلم: (كذلك غسلته الملائكة) رضي الله عنه. وقد مر أبو عامر الخائن على ابنه حنظلة ، وهو مضرج بدمائه بين الشهداء قتيلاً، فضربه برجله في صدره، وقال له: ذنبان أصبتهما، ولقد نهيتك عن مصرعك هذا، ولقد والله كنت وصولاً للرحم. وأبو عامر هو الذي حلف ألا تقع معركة مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا وشارك فيها ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم: فاسقاً. قوله: (وليحلفن) يعني: بعد ظهور نواياهم ومقاصدهم السيئة، وقلنا من قبل: إن من خصائص المنافقين: الاستجنان بالأيمان الكاذبة؛ ليصدوا عن سبيل الله، ويستروا عداءهم للدين، وقد جاء ذكر حلفهم في عدة مواضع، منها: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [التوبة:62]. فهم بعدما تفتضح نواياهم وتظهر مقاصدهم السيئة يلوذون بالحلف. قولهم: (إن أردنا إلا الحسنى) أي: ما أردنا ببناء المسجد إلا الخصلة الحسنى أو إلا الإرادة الحسنى، وهي: الصلاة وذكر الله، والتوسعة على المصلين، وقال بعضهم: (الحسنى) طاعة الله، وقيل: (الحسنى) الجنة، وقيل: (الحسنى) فعل التي هي أحسن من إقامة الدين والاجتماع للصلاة. (والله يشهد إنهم لكاذبون) يعني: في حلفهم.

قال الله تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108] أي: لا تصل في مسجد الشقاق أبداً، في أي وقت من الأوقات، لكونه موضع غضب الله، ولذلك أمر بهدمه وإحراقه. وأطلق هنا القائم على المصلي؛ لأن الصلاة أحياناً يعبر عنها ببعض أجزائها، كما تقول: صليت ركعة، وهل تقصد ركعة فقط، أم تقصد القيام والركوع والسجود والتشهد وغيره؟! (لا تقم فيه أبداً) يعني: لا تصل فيه أبداً، وفي الحديث: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً) يعني: من صلى. قوله تعالى: ((لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ))[التوبة:108] (لمسجد) اللام لام القسم، يعني: والله لمسجد، وقيل: هي لام الابتداء وهي تقتضي التأكيد، (لمسجد أسس على التقوى) أي: بنيت قواعده على طاعة الله وذكره، وقصد التحفظ من معاصي الله، بفعل الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والمسجد الذي بناه المتقون على هذا الأساس هو مسجد قباء. (من أول يوم) يعني: من أول يوم من أيام وجوده، (أحق أن تقوم فيه) يعني: أن تصلي فيه، (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) المقصود بالمطهرين: المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة، الطهارة الظاهرة: بالماء، والباطنة: بالتوبة من الذنوب، والله يحب المطهرين المتصفين بالطهارتين. قوله تعالى: (من أول يوم) معناها: منذ أول يوم، قال الزجاج : (من) في الزمان والأصل منذ ومذ، يعني: أن (من) إذا استعملت في الزمان يكون أصلها منذ، (من أول يوم) أي: منذ أو مذ أول يوم، وهو الأكثر في الاستعمال. وجائز دخول (من) لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض، ومثله قول زهير : لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن شهر الحجر: منازل ثمود، ناحية الشام، في وادي القرى. والقنة: أعلى الجبل، أو هي الجبل الذي ليس بمنتشر، أقوين يعني: خلون وأقفرن، من حجج، أي: من سنوات، وفي القرآن: عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27] يعني: ثمان سنوات، من شهر: أي: من شهور. يقول القرطبي : أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على من أحب الطهارة وآثر النظافة، وهي مروءة آدمية، ووظيفة شرعية. وفي الترمذي عن عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم، وقال: حديث صحيح. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل الماء معه في الاستنجاء، فكان يستعمل الحجارة تخفيفاً، والماء تطهيراً.

ثم قال تبارك وتعالى إشارة إلى فضل مسجد التقوى -مسجد قباء- على مسجد الضرار: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:109]. قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي : بفتح الألف في الحرفين جميعاً (( أَفَمَنْ أَسَّسَ )) إلى قوله: (( خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ ))، وبالتالي يفتح النون في: (أفمن أسس بنيانَه)، وفي الثانية: (أمن أسس بنيانَه) على أنهما في الحالتين مفعول به. وقرأ نافع وابن عامر : (أفمن أُسس بنيانُه على تقوى من الله ورضوان خير أممن أُسس بنيانُه) بضم الألف في أسس، ورفع النون في بنيانه على أنها نائب فاعل. قوله: (على شفا جرف هار فانهار به) أي: انهار به الجرف، أو أن الضمير في (به) يعود على من. قوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه)، يعني: المبني، والتأسيس: إحكام أسس البناء وهو أصله، فأسس البناء يعني: أصله. (على تقوى من الله) أي: على مخافة من الله. (ورضوان) أي: طلب رضوان منه. (خير أمن أسس بنيانه على شفا): شفا الشيء يعني: حرفه وطرفه. (جرف هار) جرف: بضم الراء وسكونها، والضم هو الأصل والإسكان تخفيف، كما في قوله: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ [يس:55]، فـ(شغل) بالضم وهو الأصل وبالسكون تخفيفاً، كذلك الرسّل والرسْل. (جرف) يعني: مهواة وهو ما يتجرف بالسيول من الأودية، (على شفا جرف هار) يعني: مشرف على السقوط، وقرأ ابن كثير وحمزة (هار) بالإمالة. (فانهار به) أي: بالباني فسقط معه في نار جهنم، كقوله تعالى: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9]، (( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )).

قال الله تعالى: لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:110] (لا يزال بنيانهم) يعني: مسجد الضرار، (الذي بنوا ريبة في قلوبهم) يعني: لا يزول وشمه عن قلوبهم ولا يضمحل أثره، هذا قول. وهناك قول آخر في معنى: (ريبة في قلوبهم) أي: حسرة وندامة، فهم نادمون على بنائه؛ لأنه تهدم وفضحوا. وقول ثالث: (ريبة في قلوبهم) يعني: لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظاً في قلوبهم، فما يزال يشعل الغيظ والحقد والحزازة في قلوبهم. (إلا أن تقطع قلوبهم) يعني: تقطع قلوبهم قطعاً وتتفرق أجزاءً حتى يموتوا، كما في قوله: لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:46]، والقصد: أنه ستبقى فيهم الحزازة والندم والحسرة والريبة والشك إلى أن تقطع قلوبهم قطعاً، وأما ما دامت قلوبهم سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيهم متمكنة أو تقطع قلوبهم بعذاب النار، وقيل: معناه: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. قوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ) أي: بنياتهم. قوله: (حَكِيمٌ) أي: عندما أمر بهدم بنيانهم؛ حفظاً للمسلمين عن مقاصدهم الرديئة. وفي قراءة يعقوب : (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلى أن تقطع قلوبهم) فجعله حرف جر على الغاية، والمعنى: لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا.

سبب نزول الآيات المتعلقة بمسجد الضرار

كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له: أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف كبير في الخزرج، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصار للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر؛ شرق اللعين أبو عامر بريقه، وبرز بالعداوة، وخرج فاراً إلى كفار مكة يمالئهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد، فكان من أمر المسلمين ما كان مما امتحنهم الله عز وجل به، وكانت العاقبة للمتقين، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبوه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً، فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعده ومناه وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وكان أبو عامر أرسل لهم: أعدوا لي مكاناً إذا أتيتكم؛ لنجتمع فيه، ويكون مأوىً وملجأً لنا، بحيث منه تنطلق المحاربة للرسول عليه الصلاة والسلام، وليكون هذا المكان معقلاً ومرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك، فأتوه فقالوا: (يا رسول الله! إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه) فلما نزل بذي أوان، موضع على ساعة من المدينة، أتاه خبر المسجد عن طريق الوحي، وأنه إنما بني للأغراض التي ذكرها الله في قوله عز وجل: (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ )) فدعا صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ، ومعن بن عدي ، أو أخاه عاصماً ، فقال: (انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لـمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجا يشتدان، حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه) ونزل فيهم ما نزل. وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، فسألوه أن يأذن لـمجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم، فقال: لا ونعمة عين، أليس هو إمام مسجد الضرار؟ فقال مجمع : يا أمير المؤمنين! لا تعجل عليّ، فوالله! لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، وكنت غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شيوخاً لا يقرءون، فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله، ولم أعلم ما في نفوسهم، فعذره عمر ، فأجازه بالصلاة في مسجد قباء.

حكم المساجد المبنية لغرض الضرار والصلاة فيها

دلت الآية على أن كل مسجد بني على ما بني عليه مسجد الضرار أنه لا حكم له ولا حرمة، ولا يصح الوقف عليه، وقد حرق الراضي بالله كثيراً من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة. وقال الزمخشري : قيل: كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة، أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب؛ فهو لاحق بمسجد الضرار. وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة، فقيل له: مسجد بني عامر لم يصلوا فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلي فيه، فإنه بني على ضرار، وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً. وعن عطاء قال: لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه. فبناء المسجد للإضرار بالمسجد الآخر من الضرار؛ لأن الأمر يصير فوضى، والآن الفوضى ليس فقط في المساجد، بل فوضى في كل شيء، فوضى في طباعة المصاحف، فكثرة نزول المصاحف بهذه الطريقة غير صحيح، لابد أن تكون هناك ضوابط لتوزيع المصاحف، حتى إن بعض محلات النصارى يبيعون فيها المصاحف، فيمكّن النصراني من مس المصحف وبيعه والاتجار به، فوضى عارمة، فموضوع المساجد فيها فوضى، تجد الآن في الشارع الواحد مسجداً وأمامه مسجد، وبين كل مسجد ومسجد مسجد! فوضى تكاد تقضي تماماً على حكمة تشريع صلاة الجماعة، حيث يتناحر الناس وتحصل بينهم الفتن، فمنذ أسابيع قليلة قام الخطيب على المنبر ليخطب الجمعة، وهناك مسجد آخر على بعد خطوات قليلة، وأهل المسجد سلطوا الميكروفون على هذا المسجد، فالإمام على المنبر لا يستطيع أن ينطق بكلمة واحدة، فاختصر الخطبة في أقل من ثلاث دقائق؛ لأنه ما استطاع أن يخطب من شدة الأذية والإضرار الذي حصل من تسليط مكبر الصوت بطريقة سيئة جداً، حتى أن الخطيب اضطر إلى اختصار الخطبة إلى أقصى ما تتخيلوا، ونزل صلى وما عرف حتى يصلي، فهذا من أقبح صور الضرار! نقول: ما دام المنطقة الواحدة فيها مسجد جامع فالناس يجتمعون فيه، أما أن يكون بهذه الفوضى التي تحصل الآن، فهذا قضاء على الحكمة من تشريع الجماعة، وفيه معنى من معاني الضرار كما ذكرنا. يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: قال علماؤنا: لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه؛ لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد، فيبنى حينئذ. وكذلك قالوا: لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان أو ثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه، فقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه. وقال النقاش : يلزم من هذا ألا يصلى في كنيسة ونحوها؛ لأنها بنيت على شر. قلت: هذا لا يلزم؛ لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً يتعبدون فيه بزعمهم، كالمسجد لنا فافترقا. وقال علماؤنا رحمهم الله تعالى: وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه بقوله: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة) يهدم ويُزال إذا كان فيه ضرر لغيره، فما ظنك بسواه، بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم، وذلك كمن بنى فرناً أو رحىً أو حفر بئراً أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على غيره. وضابط هذا الباب: أن من أدخل على أخيه ضرراً بفعل ما كان له فعله في ماله، فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضرراً من الضرر الداخل من الفعل قطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأصول، مثال ذلك: رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه، وفيها العيال والأهل، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أن الاطلاع على العورات محرم، وقد ورد النهي عنه، فلحرمة الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح، مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر؛ لكنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين، إذ لم يكن بد من قطع أحدهما، وهذا الحكم في هذا الباب خلافاً للشافعي ومن قال بقوله، قال أصحاب الشافعي : لو حفر رجل في ملكه بئراً وحفر آخر في ملكه بئراً يسرق منها ماء البئر الأول جاز؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك. أورد القرطبي هذا الكلام منتقداً للشافعية. ومثله عندهم: لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفاً يفسده عليه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه، والقرآن والسنة يردان هذا القول وبالله التوفيق. والقاعدة تقول: لا ضرر ولا ضرار، فلا يحفر الشخص بئراً في أرضه بحيث يغور بئر جاره فيضر به، أو يجعل في أرضه مكاناً لقضاء الحاجة فتتسرب النجاسة إلى بئر جاره وتفسد عليه ماء بئره، هذا كله مما يرده القرآن والسنة. ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه مثل: دخان الفرن، كأن يقوم شخص ببناء فرن تحت عمارة يخرج منه دخان يؤذي الساكنين، فهذا من الأذية، وكذلك غبار الأندر، وهو المكان الذي يداس فيه الحبوب. ثم يقول: والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه، وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب، فإن هذا مما لا غنى للناس عنه، وليس مما يستحق به شيء، فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم، فأكبر الصبر على ذلك مقدار ساعة شيء يسير، وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر، كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه. على أي الأحوال مراعاة الجار بالذات في موضوع الإضرار أمر مهم جداً يجب مراعاته، حتى القوانين الوضعية تحاول أن تحميه، لكن يبلغ الناس أحياناً في العناد مبلغاً عجيباً جداً، لقد سمعت عن حادثة وهي أن رجلاً بنى بيتاً عالياً بجوار فلة منخفضة، والسور مشترك بين الفلة وبين هذه العمارة، فصاحب العمارة قام وفتح نافذة تطل على هذه الفلة، فحصلت قضايا ومشاكل انتهت بأن قام صاحب الفلة بعمارة الدور الأخير ورد الجدار للخلف قليلاً، بحيث يعمل فيه (بلكونة) في هذا الجدار، وفتح فيها نافذة باتجاه صاحب العمارة، فصاحب العمارة عاند وقام ببناء سور للعمارة عالياً من الأرض إلى آخر دور؛ ليسد على جاره (البلكونة) الجديدة التي بناها، حتى يمنعه من أن ينتفع بهذه الفتحة!

الفوائد المستخلصة من هدم مسجد الضرار

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في فوائد غزوة تبوك: ومنها: تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه، وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه؛ لكن لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين ومأوىً للمنافقين أمر بهدمه وتحريقه، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله. معنى ذلك: أن الهدم والحرق والقتل وغيرها كل هذه من اختصاص الإمام وليست إلى آحاد الرعية. ثم يقول: فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم أو تحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له، وإذا كان شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بذلك وأوجب، وكذلك محال المعاصي والفسوق كالحانات وبيوت الخمارين وأرباب المنكرات، وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيها الخمر، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقاً، وأحرق قصر سعد عليه لما احتجب عن الرعية. كذلك من قبل عمر همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجمعة والجماعة، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم كما أخبر هو عن ذلك. ثم قال: ومنها أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة، كما لم يصح وقف هذا المسجد، وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد، نص على ذلك الإمام أحمد وغيره، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معاً لم يجز، ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز، ولا تصح الصلاة في هذا المسجد؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولعنه من اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً. ثم قال ابن القيم : فهذا دين الإسلام الذي بعث به رسوله ونبيه صلى الله عليه وسلم وغربته بين الناس كما ترى.

فوائد مستنبطة من آيات مسجد الضرار

يقول القاسمي : قال بعض المفسرين اليمانيين: في الآيات دلالة على فضل المسجد الموصوف بهذه الصفة يعني: المؤسس على التقوى. وفيها: أن نية القربة في عمارة المسجد شرط؛ لأن النية هي التي تميز الأفعال. وفيها: أنه لا يجوز تكثير سواد الكفار؛ لأنه قال تعالى: (( لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا )) وأراد بالقيام الصلاة. وقال ابن كثير : في الآية دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات. وقد روى الإمام أحمد : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح فقرأ الروم فأوهم -يعني: اختلطت عليه القراءة-، فلما انصرف قال: إنه يلبس علينا القرآن، إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء) فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها. وذهب أبو العالية والأعمش إلى أن المراد من الطهارة في الآية: الطهارة من الذنوب والتوبة منها والتطهر من الشرك. قال الرازي : وهذا القول متعين؛ لأن التطهر من الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى، واستحقاق ثوابه ومدحه؛ ولأنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر بالله والتفريق بين المسلمين، فوجب أن يكون هؤلاء بالضد من صفاتهم، وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي. يقول القاسمي : لا تسلم دعوى التعين، فإن اللفظ يتناول الطهارتين: الباطنة والظاهرة، بل الأقرب هنا هي الثانية؛ وذلك لما رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وابن خزيمة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: قد أثنى الله عليكم في الطهور فماذا تصنعون؟ قالوا: نستنجي بالماء) وهذا يدل على أن الآية تشمل الطهارتين معاً. ويقول القاسمي أيضاً: قال القاشاني : لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال، فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية، صحبته بركة ويمن وجمعية وصفاء، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة، صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم، ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت مباركة لكونها مبنية على يدي نبي من أنبياء الله، بنيةٍ صادقة ونفس شريفة صافية عن كمال إخلاص لله تعالى، ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع والكدورة والتفرقة في بعضها، فما هو إلا لذلك، فلهذا قال تعالى: (( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ )). والعوام يعبرون عن هذا مثل هذه العبارات التي ذكرها القاشاني ، يقول لك: المكان هذا ريحه طيب، أو له نفسٌ طيب. وهذه تتفاوت من مكان إلى آخر، فإنك إذا دخلت مكاناً معيناً أو مسجداً معيناً تشعر فيه براحة وبخشوع وببركة، وقد تدخل مسجداً آخر قد لا تجد فيه نفس هذه الراحة، فما مرجع ذلك؟ مرجع ذلك إلى صفاء نية من أسس هذا المسجد، والقبول الذي يوضع لبعض هذه الأماكن هو ثمرة صفاء نيته، وأنه أراد به وجه الله سبحانه وتعالى، لذلك تجد هذه الراحة النفسية في المساجد التي أسست على السنة وعلى التوحيد، فتجد فيها من الخشوع ومن البركة ما لا تحس أبداً فيما عداها من مساجد أهل البدع. ثم يقول: ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع، والكدورة والتفرقة في بعضها، وما هو إلا لذلك، فلهذا قال تعالى: (( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ )) لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس، كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام، فإذا كان موضع القيام مبنياً على التقوى وصفاء النفس، تأثرت النفس باجتماع الهمة وصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان، وإذا كان مبنياً على الرياء والضرار تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض، وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني وصدق نيته مؤثر في البناء، وأن تبرك المكان وكونه مبنياً على الخير يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح ممن يناسب حاله حال بانيه، وأن محبة الله واجبة لأهل الطهارة؛ وذلك لقوله تعالى: (( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ )).