مصطفى صادق الرافعي
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 11 -
1 - (إن المرأة للشاعر كحواء لآدم، هي وحدها تعطيه بحبها جديداً لم يكن فيه؛ وكل شرها أنها تتخطى به السموات نازلاً. ) 2 - (إن النابغة في الأدب لا يتم تمامه إلا إذا أحب وعشق.
) 3 - (.
إن ملكة الفلسفة في الشاعر من ملكة الحب؛ وإنما أولها وأصلها دخول المرأة في عالم الكلام بإبهامها وثرثرتها.
) (الرافعي) الرافعي يعشق.
! أتراني أستطيع الحديث عن الرافعي العاشق فأوفّي القول وأبلغ الغاية.
؟ وهل يكون لي أن أدعي أنني أكتب في هذه الصفحات تاريخ الرافعي إذا أنا لم أعرض لحديث الرافعي العاشق.
؟ وهل خَلتْ فترة في حياة الرافعي من الحب؟ ذلك الرجل الذي لا يتخيله أكثر من لم يره إلا شيخاً معتجر العمامة مطلق العذبة مسترسل اللحية مما قرءوا له من بحوث في الدين وآراء في التصوف وحرص على تراث السلف وفطنة في فهم القرآن مما لا يدركه إلا الشيوخ بل مما لا يدركه الشيوخ.
هذا الذي يكتب إعجاز القرآن وأسرار الإعجاز، والبلاغة النبوية؛ ويصف عصر النبوة ومجالس الأئمة وكأنه يعيش في زمانهم وينقل من حديثهم.
هذا الذي كانت تتصل روحه فيما يكتب - من وراء القرون - بروح الغزالي، والحسن البصري، وسعيد ابن المسيّب؛ فما تشك أن كلامه من كلامهم وحديثه من إلهام أنفسهم.
هذا الذي تقرأ له فتحسبه رجلاً من التاريخ قد فر من ماضيه البعيد وطوى الزمان القهقري ليعيش في هذا العصر ويصل حياة جديدة بحياة كان يحياها منذ ألف سنة أو يز عصر بعيد.
.
هذا الرجل كان عاشقاً غلبه الحب على نفسه وما غلبه على دينه وخلقه.
! إن الحديث عن حب الرافعي لحديث طويل؛ فما هي حادثة أرويها وأفرغ منها، وحبيبةٌ واحدة أصفها وأتحدث عنها؛ ولكنها حوادث وحبيبات، وعمر طويل بين العشرين والسابعة والخمسين، لم يشرق فيه صباح ولم يجنّ مساء إلا وللرافعي جديدٌ في الحب؛ بين غضب ورضى، ووصل وهجر، وسلام وخصام، وعتب ودلال، وحبيب إلى وداع وحبيب إلى لقاء.
وشابَ الرافعي وما شاب قلبه، وظل وهو يدب إلى الستين كأنه شاب في العشرين.
ومات وعلى مكتبه رسالة ودادٍ من صديقة بينها وبينه جواز سفر وباخرة وقطار، وكان في الرسالة موعد إلى لقاء.
! وقلت للأستاذ الزيات مرة وبين الرافعي وبين أجله عام: هل لك في موضوع طريف عن الرافعي أنشره لقراء الرسالة؟ إن للرافعي في الحب لحديثاً يلذ ويفيد.
قال: ومن لي بهذا؟ قلت: أنا لك قال: ولكنه حديث يُغضب الرافعي! قلت: وعليّ أنا أن يرضى.
وذهبت إلى الرافعي فأفضيت إليه بعزمي.
قال: أو تفعلها؟ أفكان لهذا مجلسك مني كل مساء تسترق السر لتدخره إلى يوم تنشره فيه على الناس بثمن.
؟ قلت: لو أنه كان سراً لم يعلمه غيري ما عقدت العزم على شئ ولكنك يا سيدي.
وما كان للرافعي سر يستطيع أن يطويه بين جوانحه يوماً وبعض يوم، فكأنما أذكرتُه ما كان ناسياً؛ فعاد يقول: وماذا تريد أن تقول في حديثك عن حبي؟ قلت: حديثاً لو همّ غيري أن يجعل منه مقالاً لقرائه لما كان الرافعي هو الرافعي عند من يقرؤه، ولكن أحسبني أنا وحدي الذي أستطيع أن أقول إن الرافعي كان يحب فما أغيّر شيئاً من صورة الرافعي كما هو في نفسه وكما هو عند من يعرفه.
إنني أنا وحدي الذي أعرف الحادثة وجوّها وملابساتها وما كان في نفسك منها؛ ولعلي يوم عرفت كنت أسمع نبضات قلبك وخلجات وجدانك ومرمى أملك وما كانت غايتك في الحب ومداك.
أما غيري فهل تراه يعرف إلا الحادثة؟ وحسبه أن يقول: إن الرافعي يحب.
ثم تكون الفضيحة التي تخشاها وأنت منها طاهر الإزار.
واستمع الرافعي إلى حديثي ثم أطرق هنيَّة وعاد يسألني: وهل أقرأ ما تعدّه قبل أن تنشره، أو يكون يومك كأمسك؟ قلت: لك ما تريد قال: أنت وشأنك! وأجمعت أمري، وأعددت فكري، وتهيأت للكتابة، ثم شغلتني العناية بطبع (وحي القلم) وتصحيح تجاربه عن الوفاء بما وعدت.
ومات الرافعي! فإن يكن في الحديث عن (الرافعي العاشق) حرج فلا عليّ فقد استأذنته فأذن، وما أكتب الآن إلا مستمداً من روحه، راوياً من بيانه، ولديّ شهودي من كتبه ورسائله، وما يعرفه أصدقاؤه وصفوته.
وإذا كان الرافعي قد خفت صوته إلى الأبد فلا سبيل إلى أن أسمع رأيه فيما أكتب عن تاريخ قلبه، فإني لمؤمن شديد الإيمان بأنني ما أزال في رضاه ومنزلتي عنده وإن كان بيننا هذا البرزخ الذي لا أعرف متى أجتاز إليه فأسمع من حديثه ويسمع من حديثي! الحب عند الرافعي وهل في الحب عار أو مذمة؟ هذا سؤال يجب أن يكون جوابه إلى جانبه قبل أن أمضي في هذا الحديث.
أما الحب الذي أعنيه - وكان يعنيه الرافعي - فشيء غير الحب الذي يدل عليه مدلول هذه الكلمة عند أبناء هذا الجيل.
إن الحب عند الناس هو حيلة الحياة لإيجاد النوع؛ ولكنه عند الرافعي هو حيلة النفس إلى السمو والإشراق والوصول إلى الشاطئ المجهول؛ هو نافذة تطل منها البشرية إلى غاياتها العليا وأهدافها البعيدة، وآمالها في الإنسانية السامية؛ هو مفتاح الروح إلى عالم غير منظور تتنوّر فيه الأفق المنير في جانب من النفس الإنسانية؛ هو نبوّة على قدر أنبيائها: فيها الوحي والإلهام، وفيها الإسراء إلى الملأ الأعلى على جناحي ملك جميل.
هو مادة الشعر وجلاء الخاطر وصقال النفس وينبوع الرحمة وأداة البيان كذلك كان الحب عند الرافعي، ولذلك كان يحب.
وسعى إلى الحب أول ما سعى على رجليه، منطلقاً بإرادته ليبحث في الحب عن ينبوع الشعر، فلما بلغ أغلق الباب من دونه فظل يرسف في أغلاله سنين لا يستطيع الفكاك من أسر الحب؛ وكانت (عصفورة) أول من فتح لها قلبه فسيطرت عليه وغلبته على نفسه؛ وكانت سنه يومئذ إحدى وعشرين.
وبلغ الرافعي بعصفورة إلى غايته، واشتهر (شاعر الحسن) وترنم العشاق بشعره وما بلغت عصفورة إلى غايتها.
ثم مضى كل منهما إلى طريق.
وأتمّ الرافعي طبع ديوانه.
وكما ينتهي الحب الذي هو حيلة الحياة لإيجاد النوع إلى الزواج أو إلى الغاية الأخرى ثم يبدأ في تاريخ جديد - كذلك انتهى حب الرافعي وعصفورة وأنجب ثمرته الشعرية، ثم كان تاريخ جديد.
وعلى مثال هذا الحب كم كانت له حبيبات وكم أنجبت ثمرات؛ وإنه ليخيّل إليّ أن الرافعي كان كلما أحس حاجةً إلى الحب راح يفتش عن (واحدة) يقول لها: تعالي نتحابّ لأن في نفسي شعراً أريد أن أنظمه أو رسالة في الحب أريد أن أكتبها.
! ولقد سمعته مرة يقوله لإحداهن.
وسمعت إحداهن مرة تقول له: متى أراني في مجلسك مرة لتكتب عني رسالة في (ورقة ورد)؟ على أن الرافعي كان له إحساس عجيب في مجالس النساء، وكان لهن عليه سلطان وله سحر وفتنة.
وهو في هذه المجالس فكِه مداعب رائق النكتة لا تملك السيدة الرّزَان في مجلسه إلا أن تخرج عن وقارها؛ وكانت هذه أداته في استمالتهن حين يلتمس الوحي أو يجد الحاجة إلى أن يقرأ شعراً في عينٍ ساحرة.
فإذا استوى له ما أراد عاد إلى مكتبه لينشئ وينظم وتنتهي قصة الحب وكان يسمي كل جميلة (شاعرة) لأنها هي تمنحه الشعر، و (الشواعر) عنده طبقات، على مقدار ما يبعثن فيه من الشاعرية ويرهفن من إحساسه؛ ففلانة شاعرة كالمتنبي، وهذه كالبحتري، وتلك بنت الرومي، ورابعة بشار بن برد، وخامسة عبد الله عفيفي أو شاعر الرعاع.
! وحين يجلس في شرفة قهوة (لمنوس) بطنطا وتمر به الجميلات في رياضتهن أو في حاجتهن، تسمع ثبتاً حافلاً بأسماء الشعراء يبدأ من مهلهل بن ربيعة وينتهي بفلان الذي يؤمل أن يكون أمير الشعراء بعد أن يموت كل الشعراء.
! هذه لمحات أذكرها على غير صلتها بالموضوع لأنها تشير إلى بعض عناصره؛ على أنني وقد بلغت هذا القدر من الحديث لم أبدأ القول بعدُ عن حب الرافعي الذي حاولت هذا المقال لأتحدث عنه إنها حادثة وقعت في تاريخ الرافعي وسنه ثلاث وأربعون سنة فأنشأته خلقاً جديداً، كانت دعابة من مثل ما قدّمتُ فأوشكت أن تكون علة، فلما اختار الله له أنقذه بكبريائه من دائه، ولكنه خلّف في قلبه جرحاً يَدمَى، ولكنها كانت بركة في الأدب وثروة في العربية من تكون هذه الشاعرة التي غلبته على إرادته فغلبها بكبريائه؟ ما شأنها وما خبرها؟ هذا موضوع حديثي في العدد القادم محمد سعيد العريان