خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
تفسير سورة المدثر [31-56]
الحلقة مفرغة
يقول تعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31]. قوله تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ )، المقصود بأصحاب النار خزنتها من الملائكة. (إِلَّا مَلائِكَةً) أي: وهم أقوى الخلق بأساً، وأشدهم غضباً لله عز وجل، ليباينوا جنس المعذبين فلا يستروحون لهم، لأنه ربما لو كان خزنة النار من البشر لربما رقت قلوبهم لبشر مثلهم؛ لأنهم يحسون كإحساسهم، لكن الله سبحانه وتعالى جعل خزنة النار من جنس آخر غير جنس البشر. ليباينوا جنس المعذبين فلا يستروحون لهم، فلا يجد الكفار روحاً وفرجاً إذا كانوا من نفس جنسهم؛ لأن الكفار إذا رأوا خزنة النار من الملائكة الذين هم أقوى الخلق وأشد الخلق بغضاً للكفار وغضباً لله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يتوقعوا منهم أن يخففوا عنهم العذاب. (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يعني: من مشركي قريش، أي: إلا عدة من شأنها أن يفتتن بها الكافرون فيجعلونها موضع البحث. وهذه الآية موضع لبحوث كثيرة مهمة، فأحياناً يشاء الله سبحانه وتعالى مشيئة كونية قدرية، فتأتي بعض الأحكام الشرعية لفتنة من يستحق الفتنة قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، يعني: كما سيحصل مثلاً مع يأجوج ومأجوج عندما يبطشون بأهل الأرض، يقولون: قضينا على أهل الأرض فلنقض على من في السماء، فيرمون الحراب إلى السماء فتعود إليهم ملطخة بالدماء، فتنة يفتنهم الله سبحانه وتعالى؛ ليزدادوا عصياناً؛ لأنهم كلما زادوا إجراماً زاد استحقاقهم للعذاب. فكذلك قد يشاء الله سبحانه وتعالى وجود بعض الأسباب لتكون فتنة لمن شاء الله فتنته بحكمته تبارك وتعالى، فمن ذلك هذا الطعن الذي يحصل من بعض الملاحدة والزنادقة في بعض الأحكام الشرعية، كتعدد الزوجات، أو بعض أخبار الغيب، فيسخرون ويهزءون ويتطاولون ويظنون أنهم في وضع العلو، في حين أن هذا بلاء جديد يضاف إلى بلائهم، وهو أنهم بذلك يستحقون عذاباً أكبر والعياذ بالله. فهنا يقول الله تبارك وتعالى: (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ) التي هي تسعة عشر ملكاً (إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وذلك لأنهم سوف يجعلونه موضع الاستهزاء والسخرية. وقال الجبائي : المراد من الفتنة تجديد التعبد، ليستدلوا ويعرفوا أنه تعالى قادر على أن يقوي هؤلاء التسعة عشر على ما لا يقوى عليه مائة ألف ملك أقوياء. وقال الشعبي : المراد من الفتنة الامتحان، حتى يفوض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى أمر الخالق سبحانه وتعالى، فحينما سمع المؤمن بهذا العدد يقول: آمنت بالله وبما جاء من عند الله، ويفوض ما يتعلق بهذا العدد إلى الله سبحانه وتعالى. ويقول المؤمنون: هذا من المتشابه الذي أمرنا بأن نؤمن به، ولذا قال: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) لأنك كلما صدقت أكثر بخبر جديد ازداد إيمانك، يقول تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة:124]. وقوله: (( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ )) النبي صلى الله عليه وسلم في إنبائه عن وعيد الجاحدين المفسدين ما لديهم مصداقه في كتبهم، أي: ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) عندما يرونه يخبر بأخبار موافقة لما عندهم في كتبهم. وقوله تعالى: (( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ))، أي: تصديقاً إلى تصديقهم بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم. (( وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا ))، يعني: ماذا أراد الله بهذا مثلاً حتى يخوفنا بهؤلاء التسعة عشر؟! قال الزمخشري : فإن قلت: كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون والسورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، وإنما نجم في المدينة؟ قلت: معناه: وليقول المنافقون الذين يخرجون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة والكافرون بمكة: (( مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا ))، وليس في ذلك إلا إخبار بما سيكون كسائر الإخبارات بالغيوب، وذلك لا يخالف كون السورة مكية، ويجوز أن يراد بالمرض الشك والارتياب؛ لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين وبعضهم قاطعين بالكذب. وقال الرازي : إن قيل: لم سموه مثلاً؟ فالجواب: أنه لما كان هذا عدداً عجيباً ظن القوم أنه ربما لم يكن مراد الله منه ما أشعر به ظاهره، بل جعله مثلاً لشيء آخر سموه مثلاً. ّ(كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ) إضلاله، بصرف اختياره إلى جانب الضلال عند مشاهدته آيات الله الناطقة بالحق. (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) هدايته، بصرف اختياره عند مشاهدته تلك الآيات إلى جانب الهدى. (( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ))، قال الزمخشري : أي: وما يعلم ما عليه كل جند من العدد الخاص من كون بعضها على عقد كامل وبعضها على عدد ناقص وما في اختصاص كل جند بعدده من الحكمة إلا هو، ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك كما لا يعرف الحكمة في أعداد السماوات والأرضين وأمثالها. أو (( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ )) بفرض كثرتها إلا هو، فلا يعز عليه الزيادة على عدد الخزنة المذكورة، ولكنه في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها. ويجوز أن تكون الجملة تأييداً لكون ما تقدم مثلاً، أي أن المؤمنين يستيقنون بأن عدتهم ضربت مثلاً للكثرة غير المعتاد سماعها للكافرين، ومن سنته تعالى ضرب الأمثال في تنزيله، وإلا فلا يعلم جنوده التي يسلطها على تعذيب من يشاء إلا هو، وهذا معنىً آخر ينعكس الآن على من نبه عليه. ويؤيده قوله: (( وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ )). (وَمَا هِيَ) يعني: عدتهم المذكورة. (إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) أي: عظة يرهبون بها، ومنها عذاب النار وهول أصحابها. وقيل: الضمير لسقر، يعني: وما سقر إلا ذكرى للبشر. وقيل: (وَمَا هِيَ)، يعني: الآيات. والأقرب عندي هو الأول؛ لسلامته من دعوى كون ما قبله معترضاً إذا أعيد الضمير لغيره، ولتأييده لما قبله بالمعنى الذي ذكرناه. يقول فضيلة الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: (( وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ))، حكى القرطبي في معنى الفتنة هنا معنيين: الأول: التحريق، كما في قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [البروج:10] يعني: أحرقوهم. الثاني: الابتلاء. فأصل الفتنة الاختبار والابتلاء، تقول: اختبرت الذهب، أو فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتعرف زيفه من خالصه، ولكن السياق يدل على الثاني، والمقصود هنا: وما جعلنا عدتهم إلا اختباراً وابتلاءً؛ لقوله تعالى: (( وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا )). وقوله تبارك وتعالى: (( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )) يعني: وما يعلم عددهم، فلو كان المراد التحريق والوعيد بالنار لما كان هناك مجال لتساؤل الذين في قلوبهم مرض والكافرين عن هذا المثل، ولما كان يصلح أن يجعل مثلاً، ولما كان الحديث عن عدد جنود ربك بحال.
المسائل المستفادة من قوله: (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ...)
أقسام الأوامر المفروضة بالنسبة لما اشتملت عليه من حكم
وفي هذه الآية الكريمة عدة مسائل هامة: الأولى: جعل المثل المذكور -يعني: العدد المعين تسعة عشر- فتنة في توجه السؤال أو مقابلته بالإذعان، قد تساءل المستبعدون، واستسلم وأذعن المؤمنون، كما قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26]. ثم بين تعالى الغرض من ذلك طبق ما جاء في الآية الأولى فقال: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26]، فآية البقرة تبين آية المدثر. المسألة الثانية: أيضاً قوله تعالى: (( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ )) يعني: أن هذا مطابق لما عندهم في التوراة، وهذا مما يشهد على صدق ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وما ادعاه لإيمانهم وتصديقهم. المسألة الثالثة: أن المؤمن كلما جاءه أمر من عند الله وصدقه ولو لم يعلم حقيقته اكتفاءً بأنه من الله، ازداد بهذا التصديق إيماناً، وهي مسألة ازدياد الإيمان بالطاعة والتصديق. المسألة الرابعة: بيان أن الواجب على المؤمن المبادرة بالتصديق والانقياد ولو لم يعلم الحكمة أو السر؛ بناءً على أن الخبر من الله تعالى، وهو أعلم بما يخبر به عز وجل.
فكل ما صح عن الشارع الحكيم من كتاب أو سنة وجب التسليم والانقياد إليه، سواء علمنا الحكمة أو لم نعلمها؛ لأن علمنا قاصر، وفهمنا محدود، والعليم الحكيم الرءوف الرحيم سبحانه وتعالى لا يكلف عباده إلا بما فيه الحكمة. والأحكام بالنسبة لحكمتها قد تكون محصورة في أقسام ثلاثة: القسم الأول: حكم تظهر حكمته بنص، كما في وجوب الصلاة مثلاً، قال الله تبارك وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، والزكاة: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، وفي الصوم: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، أي أنه يكون سبباً لحصول التقوى. وفي الحج قال تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28]، فمع أنها عبادات لله فقد ظهرت حكمتها جلية، وفي الممنوعات كما قالوا في الضروريات الست: حفظ الدين والعقل والعرض والنسب والمال لقيام الحياة، وأخرى ووفرة في الأمن وصيانة المجتمع، وجعلت فيها حدود لحفظها، فهذه هي الحكمة حفظ هذه الضرورات الخمس. القسم الثاني: قسم لم تظهر حكمته بهذا الوضوح ولكنه لا يخلو من حكمة، كالطواف والسعي والركوع والسجود والوضوء والتيمم والغسل ونحو ذلك، فهذه لم تظهر حكمتها بوضوح، ولكن من حكمتها تمام الانقياد لله، وكلها أمور تعبدية؛ لأن الإنسان إذا علم الحكمة في كل شيء معنى ذلك أنه لا ينقاد إلا إذا اقتنع بالحكمة، فكأنه يشترط على ربه: لن أنقاد إلا إذا علمت، ففتح باب الأمور التعبدية التي لا يعقل معناها لإظهار الانقياد وتمام العبودية لله سبحانه وتعالى؛ فهذا فيه إظهار لكمال العبودية، وانتفاء حظ النفس الذي هو الاقتناع. القسم الثالث: ابتلاء وامتحان أولاً وثانياً لحكمة، كتحديد القبلة كما قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143]، وفي التحول عنها حكمة كما في قوله تبارك وتعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:150]. المسلم سواء ظهرت له الحكمة أو لم تظهر يجب عليه الامتثال والانقياد، كما قال عمر عند استلامه للحجر: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) فقبله امتثالاً واقتداءً بصرف النظر عما جاء من أن علياً رضي الله تعالى عنه قال له: (بلى يا أمير المؤمنين، إنه يضر وينفع، فيأتي يوم القيامة وله لسان وعينان يشهد لمن قبله بحق) يعني أن من قبل الحجر الأسود فهذا الحجر يأتي يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على كل من استلمه بحق. لكن لعل مراد عمر أنه لا يضر ولا ينفع بنفسه طبعاً. وقد تنكشف الأمور عن حكمة لا نعلمها، كما في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام إذ خرق السفينة، وقتل الغلام، وأقام الجدار، وكلها أعمال لم يعلم لها موسى عليه السلام حكمة، فلما أبداها له الخضر علم مدى حكمتها. فالمقصود: أن الإنسان قد لا يدرك الحكمة، ولذلك كثير من الناس يقدر الله سبحانه وتعالى له أمراً من الأمور، هو لا يدري عاقبته لكنه إذا كان مؤمناً بحق فإنه يستحضر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، فأنت لا تدري أين يكون الخير، لكن كن على ثقة أن الله سبحانه وتعالى يختار لك الخير، خاصة إذا كنت محافظاً على دعاء الاستخارة. فالإنسان يرضى بما يختاره الله سبحانه وتعالى له، ويفوض الأمر إلى الله عز وجل ثقة بأن الله لا يقدر له إلا الخير، يقول الله تبارك وتعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]. وقد جاء في نهاية الآية الكريمة ما يلزم البشر بالعجز، ويدفعهم إلى التسليم في قوله: (( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ))، فكذلك بقية الأمور من الله تعالى هو أعلم بها والعلم عند الله عز وجل.
قال تعالى: كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر:32-37]. قوله تعالى: (( كَلَّا ))، ردع لمن أنكر البعث، أو لمن أنكر عدة الملائكة الذين هم خزنة جهنم المذكورين في قوله: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30]، أو أنكر الآيات، أو أنكر أن تكون هذه لهم ذكرى؛ لأنهم لا يتذكرون. قال تعالى: كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر:32-33] أي: ولى ذاهباً بطلوع الفجر إذا أضاء، ومن فوائد القسم بهذه الأمور الاعتبار بفوائدها والاستدلال بآياتها؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقسم إلا بما يتضمن آيات قدرته، وشواهد وحدانيته عز وجل. إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ، أي: إنها لإحدى الأمور العظام. نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ، أي: إنذاراً لهم، فنصبه على أنه تمييز لإحدى، لما تضمنه من معنى التعظيم؛ لأنه فيه أعظم الكبر إنذاراً. فنذيراً هنا بمعنى الإنذار، مثل: نكير بمعنى الإنكار، أو على أنه حال عما دلت عليه الجملة، أي: كبرت منذرة. لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ ، أن يسبق إلى الإيمان والطاعة. (( أَوْ يَتَأَخَّرَ ))، أي: يتخلف. فقوله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ)، بدل من قوله تعالى: (لِلْبَشَر) والمعنى: منذرة لمن شاء منكم أيها البشر: التقدم والفوز أو التأخر والهلاك.
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:38-47]. يقول الله تبارك وتعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، أي: مرهونة ومحبوسة بالذي كسبته عند الله تبارك وتعالى. إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ، فإنهم لا يحبسون، لأنهم فكوا رقابهم بما أصابوه من كسبهم كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق، فالإنسان عندما يترك رهنه عند أحد مقابل شيء معين يقترضه منه، فهذا الرهن يبقى عنده حتى إذا ما وفى الدين الذي عليه أطلق وفك له هذا الشيء المرهون عنده. فكذلك هنا قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، أي: محبوسة بأعمالها التي عملتها عند الله سبحانه وتعالى إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ، فإنهم غير محبوسين. لأن أصحاب اليمين فكوا رقابهم بما أصابوه من كسبهم كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق، فأصحاب اليمين فكوا رقابهم وأعتقوها عن طريق أداء الحق الذي عليهم، وهو طاعة الله عز وجل وتوحيده. وقوله تعالى: فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ، أي: هم في جنات لا يدرك وصفها، فمن أين أتى القاسمي بقوله: لا يدرك وصفها؟ والجواب: أتى به من صيغة التنكير: ((جَنَّاتٍ)) فنكرها ليدل على أنها لا يحيط بها وصف، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. عَنِ الْمُجْرِمِينَ ، يعني: يسألون عنهم، وإيراد صيغة التفاعل للتكثير، فلم يقل تبارك وتعالى: يسألون عن المجرمين وإنما قال: (( يَتَسَاءَلُونَ ))؛ لأن معنى ذلك أن هذا يقع منهم كثيراً. وقال القاشاني : قال تعالى: عَنِ الْمُجْرِمِينَ أي: يسأل بعضهم بعضاً عن حال المجرمين لاطلاعهم عليها وما أوجب تعذيبهم وبقاءهم في سقر. فأصحاب اليمين في الجنة من نعيمهم أنهم يطلعون وهم في الجنان على أهل الجحيم وهم يعذبون، ثم إنهم يتساءلون عنهم في جلسات سمرهم وأنسهم: ما الذي أوجب تعذيب المجرمين في سقر؟ فأجاب المسئولون كأنهم قالوا: نحن قبل ذلك سألنا أصحاب سقر عن حالهم بقولنا: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42-43]، فكان هذا هو الجواب: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:42-46] هذا هو جواب أصحاب النار لمن سألهم من المؤمنين عن خبر دخولهم سقر. فكنا منكرين لهذه بسبب اختيار الراحات البدنية، ومحبة المال، وترك العبادات البدنية، والخوض في الباطل والهذيان، والتكذيب بالجزاء وإنكار المعاد. وقولهم: حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ، يعني: حتى أتانا الموت فرأينا به ما كنا ننكره عياناً، وكشف الأمر وصار الغيب شهادة.
يقول تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]. فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ يعني: الشافعين من نبي أو ملك لو قدر على سبيل فرض المحال؛ لأنهم غير قابلين لها، فلا إذن في للشفاعة لذلك. فهذا السياق لا يفيد ولا يدل على أن هناك شفاعة، وسبق أن تكلمنا على أمثلة مشابهة لهذا الأسلوب مراراً كما في قول الشاعر: بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر أي: بأرض فضاء لا باب لها فيسد. ومن ذلك أيضاً قول الله تبارك وتعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]. (( غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ))، يعني: لا زينة أصلاً عليهن حتى يتبرجن بها، والشواهد على ذلك كثيرة. فهذا أسلوب من أساليب اللغة العربية. فقوله هنا: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ، لا يفهم منه أن هناك شفاعة فيهم لكنها لا تنفعهم، بل يفهم منه أنه لا شفاعة فيهم أصلاً؛ لأن هؤلاء الكفار ليسوا بأهل للشفاعة كما قال عنهم: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100-101]. فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، يعني: من نبي أو ملك لو قدر على سبيل فرض المحال أن تكون لهم شفاعة؛ لأنهم غير قابلين لها، فلا إذن للشفاعة لذلك، شفاعة تنفع. قال ابن جرير : أي فما يشفع لهم الذين شفعهم الله في أهل الذنوب من أهل التوحيد فتنفعهم شفاعتهم. وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الله تعالى جعل الشفاعة لبعض خلقه في بعض، فهذه الآية تثبت أن هناك شفاعة؛ لكن الكافرين لا ينتفعون بالشفاعة؛ لأن الشافعين لا يشفعون إلا من بعد إذنه: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، والله لا يرضى عن القوم الكافرين، فلذلك لا يمكن أن تكون هناك شفاعة فيهم، وهناك استثناء حالة واحدة فقط، وهي حالة أبي طالب، شفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نقل من مكان في النار إلى مكان آخر في النار، وهو أنه على جمرة من نار يغلي منها دماغه والعياذ بالله.
يقول تعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-51]. فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أي: فما لهؤلاء المشركين عن تذكرة الله إياهم بهذا القرآن معرضين لا يستمعون لها فيتعظوا ويعتبروا. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ، ما وجه الشبه؟ وجه الشبه الإعراض عن الذكرى، يعني: كأنهم في إعراضهم عن الذكرى والموعظة حمر شديدة النفار. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ، أي: من أسد، فهذه صيغة في غاية الدقة، ولا يوجد وصف أبلغ وأروع وأبدع مما شبه الله سبحانه وتعالى بهما نفور الكفار من الموعظة، فمعروف أن الأسد أحب وأشهى لحم إليه هو لحم هذه الحمر، فمن ير صور المطاردة التي تحصل بين الأسود وبين الحمر المستنفرة يتذكر هذه الآية: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:50-51]. فهو يذكرهم بما فيه صلاحهم، ومع ذلك يقابلون هذا بأنهم ينفرون نفوراً شديداً كأن الذي يطاردهم أسد يريد أن يفترسهم، في حين أنه لا يريد منهم سوءاً، إنما يريد منهم الخير، ولكن هذه نظرتهم لمن ينصحهم.