تفسير سورة الجمعة [6-11]


الحلقة مفرغة

يقول الله تبارك وتعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الجمعة:6]. لما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] ولو دخلنا النار: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] أي: مدة عبادة آبائهم العجل وهي أربعون يوماً. وقالوا أيضاً: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، اختبرهم الله وامتحنهم؛ ليبينوا صدق هذه الدعوى، فقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ . هذا رد على عنصريتهم وزعمهم أنهم شعب الله المختار، وأن كل من عداهم من البشر خلقوا كالحمير ليسخرها الله لهم، وقد خطب أحد كبار حاخامات اليهود خطبة وشتم فيها كلينتون بأقبح الشتائم وقال: إنه فاجر وفاسق وعربيد، وإنه فعل كذا وكذا من الأشياء المعروفة عن كلينتون ، فعوتب على ذلك وحصل رد فعل شديد يقول: إن كلينتون خدم إسرائيل، فقال: أنا أقر وأعترف بأنه فعل ذلك خدمة لدولة إسرائيل، لكن هذا لأن الله سخره ليخدم شعب الله المختار. إذاً: عقيدتهم أن كل الدول الأخرى يجب أن تكون خدماً لإسرائيل. فالشاهد: أن الله سبحانه وتعالى وضعهم في هذا الاختبار لما ادعوا هذه الفضائل كلها. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: كان اليهود يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، فقيل لهم: إن كنتم صادقين في زعمكم وعلى ثقة من أمركم، فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى الآخرة، فإن الحبيب يتمنى لقاء من يحب ولا يفر منه، ويود أن يستريح من كرب الدنيا وغمومها، ويطير إلى روح الجنان ونعيمها. فرق بين عقيدة الإنسان وبين إقدامه وشجاعته، فهو يتصف بصفتين: الصبر واليقين، مادام عندهم إيمان بأن لهم الجنة عند الله سبحانه تعالى، فهذا لا شك أنه سيكون له أثر في الإقدام والتضحية في الجهاد؛ لأن المؤمن لو ضرب بصاروخ ونسفه نسفاً، فهو لن يحس قطعاً بألم هذا الانفجار أو الوخز أو الطعنة إلا كلسع نحلة أو بعوضة، ويكون بذلك قد تجاوز الامتحان ونجح؛ لأنه يعلم أن الشهيد تغفر له ذنوبه عند أول دفعة من دمه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن السيف محاء للخطايا). ففيه تأييد من الله سبحانه وتعالى وضمان، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهْ [التوبة:111] وكذلك وصفها الله بأنها تجارة: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10] فإذاً اليقين بما بعد الموت من الثواب العظيم الذي أعده الله لمن يقتل في سبيله هو الذي يجعل المرء يطلب الاستشهاد، وهو الذي يجعل الموت أحب إليه من الحياة. وقلنا من قبل: إن هذا هو اللغز المحير، وأعداء الإسلام لم يستطيعوا أن يستوعبوه حتى الآن، فاليهود يقولون: نحن أتينا إلى هذه الأرض لكي نعيش، أما هؤلاء فهم يقاتلون لكي يموتوا، فلذلك يستغربون من الإقدام والشجاعة الناشئة عن اليقين، فيكون اليقين أولاً ثم يأتي بعده الصبر والإقدام والشجاعة. أما تمني الموت وحبه فإنه يرتبط بما يكون عند الإنسان من الفطرة والجبلة، فتراه يكره الموت، وقد سماه الله مصيبة، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة: كلنا يكره الموت -أي: كراهية فطرية جبلية- فقال: إن العبد المؤمن إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة أتته ملائكة..) إلى آخر الحديث المعروف. فإذا كان عند الإنسان يقين قوي تنكشف له الحجب، كأن يرى الجنة ويرى الحور العين ويرى النعيم المقيم، ويعلم يقيناً أن ذنوبه سوف تمحى عند الله: (إن للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويأمن الفزع الأكبر، ويجار من عذاب القبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)، كل هذا مضمون إذا بذل نفسه في سبيل الله. الإنسان مهما عاش فإنه سوف يموت، فلماذا لا يختار أشرف موتة؟! وجود اليقين بما بعد الموت هو الذي يجعل الإنسان يبذل روحه في سبيل الله. أما الخوف من الموت فإن الإنسان يخاف من لقاء الله سبحانه وتعالى ومحاسبته له على ما فعل، فإذاً: هناك ارتباط بين اعتقاده بالفارق بين الدنيا والآخرة، فإذا كان الإنسان قد خرب الدنيا وعمّر الآخرة فإنه يحب الانتقال من الخراب إلى العمران؛ لكن إذا كان قد عمّر الدنيا وخرّب الآخرة فهو يخاف الانتقال من العمران إلى الخراب، فلذلك كان هذا الارتباط في غاية الدقة وفي غاية القوة والمصداقية.

يقول الله تعالى: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [الجمعة:7]. (( وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم )) أي: بسبب المعاصي والسيئات والكفر، وأعظم الكفر الذي وقعوا فيه هو ما أسلفوه من تكذيب النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، جاء في بعض الأحاديث: (أنهم لو تمنو الموت لماتوا)، فكان في ذلك بطلان قولهم وما ادعوا أنهم أولياء لله وأحباء الله تبارك وتعالى. (( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ )) أي: سيجازيهم على أعمالهم، وتقدم في سورة البقرة قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:94-95] ففي هذا إخبار عن الغيب، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنهم لم يتمنوا الموت ولم يستجيبوا لهذا التحدي.

قال تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8]. (قل إن الموت الذي تفرون منه) أي: الذي تخافون أن تتمنوه بألسنتكم مخافة أن يصيبكم فتقهروا بأعمالكم. (فإنه ملاقيكم) لا مفر من الموت، يقول زهير : ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أن يرقى السماء بسلم وقال طرفة : وكفى بالموت فاعلم واعظاً لمن الموت عليه قد قدر فاذكر الموت وحاذر ذكره إن في الموت لذي اللب عبر كل شيء سوف يلقى حتفه في مقام أو على ظهر سفر والمنايا حوله ترصده ليس ينجيه من الموت الحذر قوله: (قل إن الموت الذي تفرون منه) أي: الذي إن فررتم منه، (فإنه ملاقيكم) فكلمة: (الذي) مع إنها اسم موصول لكنها تضمنت معنى الشرط والجزاء، فقوله: (فإنه ملاقيكم) فيه مبالغة للدلالة على أنه لا ينفع الفرار من الموت. ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ أي: من الأعمال حسنها وسيئها فيجازيكم عليها. وقوله: (( فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ )) مثل قول الله تبارك وتعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] ، وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (( إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ )) أي: إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أولياء لله وأبناء الله وأحباؤه دون غيركم من الناس فتمنوا الموت؛ لأن ولي الله حقاً يتمنى لقاءه والإسراع إلى ما أعد له من النعيم المقيم. يقول: هذا الزعم المجمل هنا: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ )) بينه بقوله عن اليهود وعن النصارى حين قالوا: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] فرد الله عليهم هذا الزعم بقوله: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18]. ومثل هذه الآية قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة:94-95]، وقيل: المراد بقوله تعالى: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ )) أي: تعالوا نباهلكم حتى يظهر الله الكاذب من الفريقين، والمراد من الآية إظهار كذب اليهود في دعواهم أنهم أولياء لله. وقوله تعالى: (( إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ )) ثم قال: (( إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )) شرطان يترتب الآخر منهما على الأول، أي: فتمنوا الموت إن صدقتم في زعمكم، ونظيره في كلام العرب قول الشاعر: إن تستغيثوا بنا إن ترعووا تجدوا منا معاقل عز زانها كرم إذاً: اليهود لا يتمنون الموت أبداً، وهذا معروف عن اليهود، فشيمتهم التشبث الشديد بالحياة وحب المال، والسبب في عدم تمنيهم الموت هو ما قدمت أيديهم، لكن لم يبين هنا في هذه السورة ما هو الذي قدمته أيديهم، والذي حال دون تمني الموت هو شدة حرصهم على الحياة، كما بينه قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] لعلمهم أنهم إذا ماتوا دخلوا النار، ولو تمنوا لماتوا من حينهم. (( بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ )) هذه الباء سببية، والمسبب انتفاء تمنيهم. ومن هذه الأسباب كما قال الله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181] والذين قالوا هذا القول الكفري هم اليهود. فبسبب هذه المذكورات لم يتمنوا الموت، بل هم كما قال تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] فهم قد أيقنوا بالهلاك ويئسوا من الآخرة، قال تعالى في سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [الممتحنة:13] أي: أن هؤلاء اليهود آيسون من رحمة الله، ولذلك لم يتمنوا أن ينتقلوا إلى الدار الآخرة. (( لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) الغضب يكاد يكون عَلماً على اليهود، وقال تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] وهم اليهود كما جاء في الحديث الصحيح، وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] وهم النصارى. فغضب الله من خصائص اليهود؛ لأنهم أحق الناس بصفة الغضب، وهم الأمة المغضوب عليهم.

يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]. هذا الموضع يتعلق بتفسير آيات الأحكام، أحكام الأذان وأحكام يوم الجمعة وصلاة الجمعة، وقد سبق أن درسناه بالتفصيل في الفقه، لكن من أراد التفصيل فليرجع إلى كتب تفسير آيات الأحكام. قوله: (( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ )) (من) هنا بمعنى: (في) كما في قول الله تبارك وتعالى: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ [فاطر:40] أي: أروني ماذا خلقوا في الأرض. وقيل: إن (من) في قوله: (( مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ )) تبعيضية. لقد ربط الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى بين صلاة الجمعة وبين الحج حيث يقول: هذه الآية الكريمة وهذا السياق يشبه في مدلوله وصورته قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27-28] وقوله: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]. ففي كلٍ منهما نداء للصلاة، ففي الجمعة قال: (( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ )) وفي الحج قال: (( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ )) كلاهما أذان وإعلان وأذان الحج فيه صلاة وسعي وذكر لله ثم انتشار وإفاضة، فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وهذا مما يربط الجمعة بالحج في الشكل وإن اختلفا في الكيف. وهذا أيضاً مما يجعل مباحث الجمعة لا تقل أهميةً عن مباحث الحج، وتتطلب عناية بها كالعناية به، ومن هنا فصل الشيخ عطية سالم الكلام في أحكام الجمعة، اقتداءً بشيخه الشنقيطي ، فإنه في الجزء الخامس لما شرح تفسير سورة الحج توسع في أحكام الحج، وهو حوالي ثلاثمائة وخمس وخمسين صفحة كلها في فقه الحج، ما عدا مائة واثني عشر صفحة في أحكام صلاة الجمعة، فهو رابط بينهما لوجود وجه الشبه بين الحج وصلاة الجمعة. يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ )) أي: عند جلوس الإمام على المنبر؛ لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداءٌ سِواه، كان إذا جلس على المنبر أذن بلال رضي الله تعالى عنه. (( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ )) ذكر الله الخطبة والصلاة؛ لأن الخطبة والصلاة هما المؤكدتان في ذلك. (( وَذَرُوا الْبَيْعَ )) أي: ذروا البيع في ذلك الوقت. قال أبو مالك: كان قوم يجلسون في بقيع الزبير فيشترون ويبيعون إذا نودي للصلاة يوم الجمعة ولا يقومون، فنزلت: (( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ )). قوله: (( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ )) أي: سعيكم للصلاة وترك البيع خير لكم مما نفعه يسير وربحه فائض. (( مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ )) أي: من الصلاة في يوم الجمعة. (( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ )) لقد منع الله سبحانه وتعالى من البيع عند صلاة الجمعة، وحرمه في وقتها على من كان مخاطباً بفرضها، بخلاف من تسقط عنهم صلاة الجمعة كالمسافر والصبي والمرأة والمريض. البيع يطلق على الشراء أيضاً فلذلك اكتفى الله سبحانه وتعالى بذكر أحدهما: (( وَذَرُوا الْبَيْعَ )) مثل قوله تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81] أي: وتقيكم البرد؛ وخص البيع لأن أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، لأن المشتري لا بد له من بائع، فإذا سُد المنبع ومُنع البائع من أن يبيع، فالمشتري لن يجد أحداً يشتري منه. (( وَذَرُوا الْبَيْعَ )) هذا أمر بالترك وهو أقوى من النهي، أي: أقوى من أن يقال: (لا تبيعوا) وهو مثل قوله تعالى في الخمر: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] وهو أقوى من قوله: (لا تشربوه). في هذه الآية أوضح دليل يُرد به على من يُلبس الشيطان عليهم بانشغالهم بأمر الرزق، وبما يزعمونه من أن العمل عبادة، مثلما يقول أحدهم: نحن في عبادة والعمل عبادة، فيضيعون الصلاة احتجاجاً بالرزق. هذه الآية تأمر أمراً واضحاً بترك السعي للرزق إذا جاء وقت الصلاة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي: اتجروا واربحوا كما تشاءون، فمثلها أيضاً قوله تعالى في سورة النور: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:36-37] إلى آخره، فهذا أيضاً مما يبطل الدعوى في الانشغال بالرزق عن الصلاة، فأشار الله سبحانه وتعالى إلى أن الانشغال بالصلاة هو أحد أسباب إدرار الزرق كما في سورة طه يقول تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].

معنى السعي في قوله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر الله)

اُختلف في المقصود بقوله تبارك وتعالى: (( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ )). فالسعي يطلق على أمور عدة: الأول: أن السعي يأتي بمعنى القصد. قال الحسن في تفسير هذه الآية: والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية. القول الثاني في تفسير السعي: أن المقصود بالسعي العمل، والدليل قوله تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء:19] وقوله تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4]، وقال تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، وقال زهير : سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما تبزل ما بين العشيرة بالدم أي: أن هناك رجلين من قبيلة غيظ بن مرة سعيا في تحصيل الديات فعملا عملاً حسناً، لكن بعد أن قام ناس فقتلوا قتيلاً فحصل بينهم تصدع في القبيلة، فسعى هذان الرجلان من قبيلة غيظ بن مرة في جمع الديات حتى لا يحصل تصدع بين الناس وقتال. وقال الشاعر أيضاً: إن أجز علقمة بن سعد سعيه لا أجزه ببلاء يوم واحد يعني: أن أفضاله عليه لا يمكن أن يوفيها. المعنى الثالث من معاني السعي: المشي على الأقدام المنافي للركوب، وذلك له فضل، ذكر البخاري (أن أبا عبس بن جبر رضي الله عنه مشى إلى الجمعة راجلاً على قدميه، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) إذاً: الأفضل أن يخرج العبد المسلم إلى الصلاة ماشياً؛ استدلالاً بهذا الحديث. فالسعي هنا بمعنى المشي على الرجلين مخالف للركوب. المعنى الرابع من معاني السعي: الجري السريع والاشتداد، فهذا هو أحد معاني كلمة السعي، لكنه غير مراد هنا، ولذلك قال المفسرون: وهو الذي أنكره الصحابة الأعلمون والفقهاء الأقدمون، وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية: (فامضوا إلى ذكر الله) وهذه قراءة تفسيرية. وقال ابن مسعود: (لو قرأت: (فاسعوا) لسعيت حتى يسقط ردائي). وهذا كله تفسير منهم لا قراءة قرآن منزل، وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير والتعليم والإفهام، فتكون قراءة مفسرة، وليس معنى ذلك أنها أوحيت إلى النبي عليه الصلاة والسلام. وكذلك قال الشاعر: أسعى على جل بني مالك كل امرئ في شأنه ساعي يسعى عليهم يعني: ينفق عليهم. ومما يدل على أنه ليس المراد بالسعي هنا العدو حديث (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) فقوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (فلا تأتوها وأنتم تسعون) أي: لا تأتوها بالجري، فهذا منهي عنه إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا كان قريباً من المسجد وسمع إقامة الصلاة، فهنا يجري كي يدرك تكبيرة الإحرام. وقال قتادة : السعي أن تسعى بقلبك وعملك. فجمع مع السعي بالقلب القصد والعمل. هذا فيما يتعلق بمعنى قوله تعالى: (( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )). مسألة: كره بعض السلف التفرغ عن العمل يوم الجمعة، ورأى بعضهم أن في ذلك تشبه باليهود؛ لأن العمل يوم الجمعة فيه التزام بالأمر هنا، كما في قوله سبحانه: فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].

اُختلف في المقصود بقوله تبارك وتعالى: (( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ )). فالسعي يطلق على أمور عدة: الأول: أن السعي يأتي بمعنى القصد. قال الحسن في تفسير هذه الآية: والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية. القول الثاني في تفسير السعي: أن المقصود بالسعي العمل، والدليل قوله تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء:19] وقوله تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4]، وقال تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، وقال زهير : سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما تبزل ما بين العشيرة بالدم أي: أن هناك رجلين من قبيلة غيظ بن مرة سعيا في تحصيل الديات فعملا عملاً حسناً، لكن بعد أن قام ناس فقتلوا قتيلاً فحصل بينهم تصدع في القبيلة، فسعى هذان الرجلان من قبيلة غيظ بن مرة في جمع الديات حتى لا يحصل تصدع بين الناس وقتال. وقال الشاعر أيضاً: إن أجز علقمة بن سعد سعيه لا أجزه ببلاء يوم واحد يعني: أن أفضاله عليه لا يمكن أن يوفيها. المعنى الثالث من معاني السعي: المشي على الأقدام المنافي للركوب، وذلك له فضل، ذكر البخاري (أن أبا عبس بن جبر رضي الله عنه مشى إلى الجمعة راجلاً على قدميه، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) إذاً: الأفضل أن يخرج العبد المسلم إلى الصلاة ماشياً؛ استدلالاً بهذا الحديث. فالسعي هنا بمعنى المشي على الرجلين مخالف للركوب. المعنى الرابع من معاني السعي: الجري السريع والاشتداد، فهذا هو أحد معاني كلمة السعي، لكنه غير مراد هنا، ولذلك قال المفسرون: وهو الذي أنكره الصحابة الأعلمون والفقهاء الأقدمون، وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية: (فامضوا إلى ذكر الله) وهذه قراءة تفسيرية. وقال ابن مسعود: (لو قرأت: (فاسعوا) لسعيت حتى يسقط ردائي). وهذا كله تفسير منهم لا قراءة قرآن منزل، وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير والتعليم والإفهام، فتكون قراءة مفسرة، وليس معنى ذلك أنها أوحيت إلى النبي عليه الصلاة والسلام. وكذلك قال الشاعر: أسعى على جل بني مالك كل امرئ في شأنه ساعي يسعى عليهم يعني: ينفق عليهم. ومما يدل على أنه ليس المراد بالسعي هنا العدو حديث (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) فقوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (فلا تأتوها وأنتم تسعون) أي: لا تأتوها بالجري، فهذا منهي عنه إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا كان قريباً من المسجد وسمع إقامة الصلاة، فهنا يجري كي يدرك تكبيرة الإحرام. وقال قتادة : السعي أن تسعى بقلبك وعملك. فجمع مع السعي بالقلب القصد والعمل. هذا فيما يتعلق بمعنى قوله تعالى: (( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )). مسألة: كره بعض السلف التفرغ عن العمل يوم الجمعة، ورأى بعضهم أن في ذلك تشبه باليهود؛ لأن العمل يوم الجمعة فيه التزام بالأمر هنا، كما في قوله سبحانه: فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].

قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]. قوله: (( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ )) أي: إذا أديت وفُرغَ منها. (( فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ )) الأمر هنا في قوله: (فَانتَشِرُوا) ظاهره الوجوب، لكن هناك قرائن تفيد الإباحة، وهي أنه جاء بعد نهي، مثل قوله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] بعد النهي عن الصيد في حال الإحرام أتت الإباحة. قوله: (( وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) قال سعيد بن جبير : الذكر طاعة الله تعالى، فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكر، وإن كان كثير التسبيح. (( وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) أي: اذكروا أمره ودينه وشرعهُ دائماً، لتصير ملكة لكم تظهر آثارها على أعمالكم وأخلاقكم، فتفلحوا بسعادة الدارين. وقال ابن جرير : أي: اذكروه بالحمد له، والشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق بأداء فرائضه لتفلحوا، فتدركوا طلباتكم عند ربكم، وتصلوا إلى الخلد في جنانه.

قال تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11]. (( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً )) سبب نزولها: أنه كان بأهل المدينة فاقة وحاجة، فأقبلت عير من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً. (( أَوْ لَهْوًا )) أي: ما تلهو به النفس عن الحق والجد النافع. (( انفَضُّوا إِلَيْهَا )) أي: أسرعوا إلى التجارة خشية أن يسبقوا إليها وإنما أوثر ضميرها فقال: (( انفَضُّوا إِلَيْهَا )) ولم يقل: (انفضوا إليهما) ولا قال: (انفضوا إليه)؛ لأن التجارة هي الأساس، أما اللهو فهو شيء تابع. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: في عود الضمير على التجارة وحدها مغايرة لذكر اللهو معها. قال الزمخشري : تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وذكر قراءة أخرى: (انفضوا إليه) بعود الضمير إلى اللهو، وهذا التوجيه قد يسوغ لغة كما في قول نابغة ذيبان: وقد أراني ونعماً لاهيين بها والدهر والعيش لم يهمم بإمرار فهنا ذكر الدهر والعيش وأعاد عليهما ضميراً منفرداً؛ اكتفاء بأحدهما عن الآخر للعلم به، وهو كما قال ابن مالك : وحذف ما يعلم جائز أي: وحذف ما يعلم من السياق جائز. فلم يقل: (يهمّا)، فهو كقوله: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81] أي: تقي الحر وتقي البرد، فاكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر. لكن المقام هنا خلاف ذلك، وقد قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى عن هذه الآية في دفع إيهام الاضطراب: لا يخفى أن أصل مرجع الضمير هو الأحد الدائر بين التجارة واللهو. أي: أن الضمير يعود إلى أحد الأمرين التجارة أو اللهو. قال: بدلالة لفظة (أو) على ذلك. أي: فإنه قال: (( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا )) أي: إذا رأوا أحد الأمرين. قال: ولكن الضمير رجع إلى التجارة وحدها دون اللهو، فبينه وبين مفسره بعض منافاة في الجملة. والجواب: أن التجارة أهم من اللهو، وأقوى سبباً في الانفضاض عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم انفضوا من أجل العير، واللهو كان من أجل قدومها. مع أن اللغة يجوز فيها رجوع الضمير لأحد المذكورين قبله، أما في العطف بـ(أو) فواضح، كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112]، وأما (الواو) فهو فيها كثير مثل قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا [البقرة:45]. وقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة:62]. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34]. قوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا [النساء:112] الخطيئة والإثم متساويان في النهي والعصيان. وكذلك قوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45] فالصبر هو حبس النفس على الطاعة، والصلاة هي جزء من الصبر، ووجود الأخف يقتضي وجود الأعم؛ لأن الصلاة وسيلة للصبر: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة). كذلك قوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا [التوبة:34] فالضمير في قوله: (ولا ينفقونها) عائد على الفضة؛ لأن كنز الفضة أكثر، وصورة الكنز حاصلة فيها بصفة أوسع لدى كثير من الناس، فكان توجيه الخطاب إليهم بها أولى، والقيمة النقدية للفضة أقل والذهب أعظم، فكأن هذا تنبيه بالأدنى على الأعلى، فكأنه أشمل وأعم وأشد تخويفاً للناس! أما الآية هنا فإن التوجيه الذي وجهه الشيخ رحمه الله تعالى لعود الضمير على التجارة، فإنه في السياق ما يدل عليه، وذلك في قوله تعالى بعدها: (( قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ )) فذكر السببين المتقدمين لانفضاضهم عنه صلى الله عليه وسلم، ثم عقبه بقوله تعالى، بالتذييل المشعر بأن التجارة هي الأصل بقوله تعالى: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11] والرزق ثمرة التجارة. ونقل أبو حيان عن ابن عطية : تأمل إن قدمت التجارة على اللهو في الرؤيا؛ لأنها أهم، وأُخرت مع التفضيل؛ لتقع في النفس أولاً على الأبين. يريد بقوله: (في الرؤيا) قوله: (( وَإِذَا رَأَوْا )) وبقوله: (مع التفضيل) قوله: (( قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ )) أي: لأن اللهو أبين في الظهور. يقول: والذي يظهر والعلم عند الله تعالى أنه عند التفضيل ذكر اللهو للواقع فقط؛ لأن اللهو لا خير فيه مطلقاً فليس محلاً للمفاضلة، وأخر التجارة لتكون أقرب للرزق؛ لارتباطهما معاً؛ لأن التجارة من الأصلح كونها عند الله خيراً من اللهو. فلو قدمت التجارة هنا لكان ذكر اللهو فاصلاً بينها، فلو قال: (قل ما عند الله خير من التجارة ومن اللهو والله خير الرازقين). لكان أنسب أن تؤخر التجارة حتى تكون ملتصقة بما هو مرتبط بها وهو الرزق. وقال الشهاب في قوله تعالى: (( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً )): كما قلنا إنها التجارة. (( أو لهواً )) أي: ما تلهو به النفس عن الحق والجد والنفع. (( انفَضُّوا إِلَيْهَا )) أي: أسرعوا إلى التجارة خشية أن يسبقوا إليها، وإنما أوثر ضميرها لأنها الأهم والمقصود. (( وَتَرَكُوكَ قَائِمًا )) على المنبر. (( قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ )) أي: من الثواب المرجو بسماع الخطبة والعظة بها. (( خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ )) ؛ لأن الثواب مخلد نفعه، بخلاف ما يتوهمونه من التجارة فثوابها نافذ. وقال الشهاب أيضاً: وتقديم اللهو؛ لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم. (( وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )) لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ويرزق من يكفر به ويجحده، فهو يعطي من سأل ويبتدئ بالإعطاء من لا يسأل، وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته ويقدر على خدمته، ويقبل على خدمته، حتى الذي يعطي شخصاً فقيراً صدقات مثلاً فهو يعطيه هذه النفقة لأجل منفعة، وهي أنه يقصد بذلك الثواب والأجر في الآخرة، أما الله سبحانه وتعالى فهو الغني الحميد، والله غني عن عباده، فقوله تعالى: (( وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )) أي: اعملوا الأعمال الباقية عنده، فإنها خير من الأمور الفانية عندكم، وفوضوا أمر الرزق إليه بالتوكل والثقة بفضله فإنه خير الرازقين.