خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع باب الغسل والتكفين [4]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [فصلٌ: يجب تكفينه في ماله].
فهذا الفصل يعتبر هو المقام الثالث الذي انتقل المصنف به إلى بعض الأحكام المتعلقة بالميت، وقد تكلم في الموضع الأول عن حكم عيادة المريض، وما ينبغي أن يصنع بالمحتضر إذا حضرته الوفاة، ثم ما ينبغي به أن يهيأ به لتغسيله، هذه هي الجزئية الأولى التي تحدثنا عنها في الموضع الأول.
ثم أتبع ذلك بفصل خصه بصفة تغسيل الميت، ثم أتبعه بهذا الفصل والذي يتعلق بصفة تكفين الميت، وهذا كله من ترتيب الأفكار، فالأصل أن الإنسان إذا احتضر أن يبدأ بأحكام الاحتضار، ثم ما يتبع ذلك من أحكام غسل الميت، ثم تكفينه؛ لأن التكفين يقع بعد التغسيل، فبين رحمه الله أنه يجب تكفين الميت.
وهذه العبارة دلت على أن تكفين الميت يعتبر فرضاً على ورثته؛ وكذلك على عموم المسلمين الذين يحضرون الميت.
أما بالنسبة لوجوبه: فالأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الرجل الذي وقصته دابته يوم عرفة (اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبين) فقوله عليه الصلاة والسلام: (كفنوه في ثوبين) أمر يدل دلالة واضحة على أن الكفن واجب، وأنه لا يجوز قبر الأموات بدون كفن.
ومن هنا أخذ العلماء أنه لو وضع الميت في قبره بدون كفن فإنه يشرع نبش قبره وتغسيله ثم تكفينه، والقيام بحقه من الصلاة عليه، ثم دفنه، فهذا يؤكد على أن تكفين الميت لا بد منه.
هذا الكفن يحتاج إلى مال، وهذا المال الذي يستحق دفعه في كفنه يكون من ماله، وهذا هو الأصل؛ وبذلك إذا مات الميت فإن مئونة التجهيز تؤخذ من ماله قبل قسمة تركته، فهذه من الحقوق المقدمة، ويعتبرها العلماء من الحقوق العاجلة التي ينبغي أن يبادر بها في أموال الموتى، وأهل الفرائض رحمة الله عليهم من الفقهاء حينما يتكلمون عن أحكام الفرائض، يقولون: من بعد القيام بحقه من تجهيزٍ.
فمئونة التجهيز يدخل فيها المال المحتاج إليه للكفن، فلو أنه احتيج إلى لفافتين لتكفينه، وهاتان اللفافتان تكلفان مبلغاً، فإنه يؤخذ هذا المبلغ من ماله ولو ترك ورثة من أيتام وغيرهم، فهذا حق للميت في ماله.
ثم لو أن هذا الميت كان عليه دين، وأصبح هناك ضيق بين أن نقضي دينه وبين أن نكفنه، قالوا: يقدم تكفينه على دينه، وحينئذٍ يكفن ثم ينظر الباقي فيقسم على أصحاب الديون على قدر حصصهم من أصل الدين كما سيأتي إن شاء الله في الوصايا.
فالمقصود: أن تكفين الميت واجب، وأن هذا الوجوب يتعلق بمال الميت إن وجد، فإذا كان الميت ليس عنده مال يشترى منه الكفن وما يحتاج إليه في مئونة تجهيزه، فحينئذٍ ينتقل إلى الذي يجب عليه نفقة الميت، فإذا كان هناك والد أو ولد أو أخ عاصب أو نحو ذلك من القرابة الذين يقومون بحقوق النفقات، فإنه حينئذٍ يتعين على الموجود منهم أن يدفع مئونة التجهيز، فإذا لم يوجد عند قرابته انتقل الوجوب إلى بيت مال المسلمين.
ويجب على من حضر أن يقوم بهذا الحق، فيكفنوه كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويحسنوا إليه في كفنه، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث.
وقوله: [مقدماً على دينٍ وغيره].
أي: تقدم مئونة التكفين على الديون التي للناس، وغيرها من الحقوق الأخرى، فلو مات ميت ولم يحج، واحتيج لحجه إلى ألفين وترك ألفين، فحينئذٍ إن أردنا أن نكفنه ربما نقص المال عما يقام به الحج عنه، فحينئذٍ يقولون: يقدم التجهيز، ويؤخذ من هذا المبلغ ولو كان سبباً لعدم السداد والوفاء بحق الحج عنه.
وقوله: [فإن لم يكن له مالٌ فعلى من تلزمه نفقته إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته].
أي: فإن لم يكن لهذا الميت مال فعلى من تلزمه نفقته، أي: أنه يجب تكفينه على الشخص الذي تلزمه نفقة ذلك الميت؛ لأن الأصل أن العبرة بالغرم؛ ولذلك الذي يلي النفقات من الورثة ويكون عاصباً يقوم بدفع المال المحتاج إليه لتكفين قريبه، فيكفن الوالد ولده، والولد والده، والأخ أخاه، ونحو ذلك من القرابات الذين يجب عليهم القيام بالنفقات.
واختلف في الزوجة، فقال بعضهم: الموت يقطع حق النفقة على الزوج، فلا يجب على زوجها أن يشتري الكفن لها إذا توفيت، ومنهم من قال: إن الموت لا يقطع حق النفقة، وتسامح بعض العلماء وقال: إن العشرة بالمعروف تقتضيه، ولكن إذا نُظِر إلى الأصل، فالأصل يقتضي أن النفقة قائمة مقام الاستمتاع، لقوله سبحانه وتعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24] فهذا هو الأصل، وبناءً على ذلك يقولون: بالموت ينقطع الحق بالموت كما لو نشزت فإنها لا تستحق النفقة، وهذا يؤكد أن النفقة مرتبة على الاستمتاع كما سيأتينا إن شاء الله في باب الحقوق الزوجية، وحينئذٍ إذا قلنا: إن الزوجية تنفصل؛ فإنه ينتقل إلى بيت مال المسلمين، وإذا قلنا: إنها لا تنفصل؛ فينتقل إلى الزوج.
فقوله: (إلا الزوج): استثناه لأن الذين تجب عليهم النفقة، منهم من تجب نفقته من باب القرابة: كالأب مع ابنه، والابن مع أبيه، والأخ مع أخيه، ومنهم من تجب نفقته لسبب كالزوجية؛ فإن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته لمكان الزوجية، والدليل ما ذكرناه من الكتاب، وكذلك من السنة في أمره عليه الصلاة والسلام بإطعامها إذا طعمت، وكسوتها إذا اكتسيت، كما في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام.
إذا ثبت هذا -وهو أن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته- فحينئذٍ إن قلنا: إن الموت يقطع الزوجية فلا تجب عليه النفقة، وإن قلنا: إن الموت لا يقطع حق النفقة بالزوجية فيجب عليه أن يكفنها، واختار المصنف سقوط النفقة عنه، فقال: (إلا الزوج)؛ لأنه عندما قال: (فعلى من تلزمه نفقته) أدخل الزوج بهذه العبارة؛ لأن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته، فلما أدخل الزوج احتاج أن يخرجه بالاستثناء بقوله: (إلا الزوج)، أي: فلا يجب عليه أن ينفق على زوجته إذا ماتت بتكفينها.
وهذا هو الأقوى بظاهر النص، ولكن العشرة بالمعروف -كما ذكرنا- وعوائد النفس المحمودة تستبشع وتستبعد ألا يقوم الزوج بحق زوجته في تكفينها، إلا إذا كان عليه ضرر وكلفة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
[ويستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض].
بعد أن بين لنا رحمه الله حكم الكفن، وأنه يجب عليك أن تكفن أخاك المسلم إذا مات، شرع في بيان ما يحصل به الكفن، وهذا يختلف باختلاف الجنسين، فالرجال لهم حكم والنساء لهن حكم.
فالرجال لهم حكم يختص بهم لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قدر ما يكفن به المسلم، والنساء لهن حكم فيما يكفَّن به، فابتدأ بالرجال، فقال رحمه الله: (ويستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض)، وهذه الجملة مبنية على ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام، كما جاء في حديث أم المؤمنين في الصحيحين: (كُفّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة) .
والثلاثة الأثواب لها صور:
إما أن تمد لفائف ويوضع الميت عليها، ويكون القميص والعمامة فضلٌ عن الثلاث في الأصل، فحينئذٍ تكون مجموع ما يكفن به خمسة في الحقيقة وثلاثة في الصورة، وذلك لأن القميص والإزار كانا عليه عليه الصلاة والسلام؛ ولم يجرد عليه الصلاة والسلام منهما، وبالنسبة للأكفان الثلاثة تبسط بالصورة التي سنذكرها، فيكون المجموع: القميص ثوب، والإزار ثوب، والثلاث لفائف ثلاثة أثواب؛ فأصبح المجموع خمسةً، هذا بالنسبة للأكمل والأفضل في تكفين الرجل.
قال بعض العلماء: إنه يكفن في ثلاثة أثواب، ويكون منها القميص والإزار، فيكون القميص لأعلى البدن، والإزار لأسفل البدن، فحينئذٍ يكون كل منهما يعتد به ثوباً، فيصبح المجموع ثوبين، والثوب الثالث هو اللفافة التي تلف عليه، فتكفين الميت في ثلاثة أثواب له هاتان الصورتان:
إما أن يكفن بقميصٍ وإزارٍ ولفافة، فالمجموع ثلاثة، أو يكفن بثلاثة أثواب فضلاً عن القميص والعمامة.
وهذا التكفين على سبيل الاستحباب، وإلا فالأصل أنه لو تعذر تكفين الميت بحيث لم نجد إلا ثوباً واحداً يستر عورته فإنه يجزئ، ويكون محصلاً للواجب وموجباً لبراءة الذمة، فلو أنه كفن في ثوبٍ واحد يستر بدنه ويستر عورته أو يستر أغلب بدنه ومنه العورة؛ فإنه يجزئه.
فلو أن قوماً مات عليهم رجل في صحراء، وليس عندهم ما يكفنونه به، ولكن هذا الرجل عليه قميصه وإزاره وثوبه الذي فوقه، فغسل ثم لبس ثوبه وصار كفناً له، قالوا: يعتد بذلك ويجزئ؛ لأن المقصود هو ستره.
والدليل على أن العدد لا يشترط، وأن المقصود هو ستر الميت: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه قُتِلَ يوم أحد وليست له إلا شملةٌ واحدة، إن غطوا بها قدمه بدا وجهه، وإن غطوا بها وجهه بدت قدماه، فقال صلى الله عليه وسلم: (غطوا بها وجهه، واجعلوا على قدميه شيئاً من الإذخر) فكونه عليه الصلاة والسلام يكتفي بثوب واحد يدل على أن مقصود الشرع هو ستر الميت وستر عورته، فإذا ضاق الحال ولم يتيسر إلا ثوب واحد كفاه.
ولذلك كان عتبة بن غزوان رضي الله عنه إذا أراد أن يضرب المثل بفقر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من الشدة في عهده صلى الله عليه وسلم، ذكر قصة مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وقال: (فمنا من مات ولم يهدب ثمرته، منهم
فهذا يدل عل أن الثوب الواحد يكفي، ولذلك قال المصنف: (يستحب) فدل على أن الثلاثة ليست بواجبة، وإنما هي السنة والأفضل.
تجمير اللفائف وجعل الحنوط فيما بينها
تجمر هذه الثلاثة الأثواب بالند والعود أو بأي طيب، وذلك مبني على أمره عليه الصلاة والسلام بإحسان كفن المسلم، وقد أمر من ولي تكفين أخاه المسلم أن يحسن في كفنه.
فيبدأ بتطييب هذه الثلاثة الأثواب، ثم يبسط الأولى ويكون أجملها وأفضلها مما يلي الناس؛ لأن حال الإنسان أنه يجعل الزينة في الظاهر، فيجعل أجمل الثلاث اللفائف مما يلي الناس، وهي الأولى تبسط على الأرض، ثم بعد أن يجمرها يجعل حنوطاً فوقها، ثم يأتي بالثانية ويبسطها فوق الأولى، ويجعل الحنوط فيها.
والحنوط: هو أخلاطٌ من الأطياب التي توضع في الكفن لدفع الهوام وطردها عن جسد الميت، ولإبقاء الجسد مدة أطول، فيوضع الحنوط على الثوب الأول، ثم يوضع على الثوب الثاني، ثم تبسط اللفافة الثالثة ولا يوضع عليها شيء؛ ولذلك كره الصحابة رضي الله عنهم وضع الحنوط على اللفافة الثالثة، فاللفافة الثالثة لا يوضع عليها حنوط، وإنما تبقى على ما هي عليه، ثم بعد ذلك ينقل الميت إليها بعد الغسل.
استخدام القطن للميت في عدة مواضع
أي: ثم يوضع الميت على هذه الثلاث اللفائف مستلقياً، وجهه إلى السماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أُدرج فيها إدراجاً، فهذه هي السنة: أن يوضع في وسطها، ويكون نصفها عن يمينيه ونصف اللفافة عن يساره، والثلاث كلها مبسوطة إلى الأرض.
وقوله: [ويجعل منه في قطنٍ بين إليتيه].
أي: ويجعل من الحنوط في قطن، ويكون القطن هذا لسد المنافذ إذا خرج شيء من النجاسة أو القذر فإنه يعالجه، ويكون أيضاً أنفع لدفع النتن إذا حُمِل أو أُريد وضعه في قبره، فيجعل الحنوط في قطنة وتكون بين الإليتين.
[ ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان تجمع إليتيه ومثانته ].
هذه الصفة يذكرها العلماء من باب الكمال، وليست تشريعية توقيفية يلزم فعلها، وذكر العلماء رحمة الله عليهم لها مندرج تحت أصل عام وهو إحسان الكفن، وليس بأمر متعين بحيث إن الإنسان لو تركه يأثم، إنما ذكره العلماء رحمة الله عليهم على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض.
وتجعل كالتبان، التبان: السروال القصير الذي يصنع للملاحين ونحوهم، والمعنى: أنه تشق على صورة السراويل القصيرة تشد ما بين الفخذين وتمنع خروج الخارج، وذلك لتمنع النتن والرائحة أن تؤذي من يقترب من الميت فيتضرر بذلك إذا حمله أو أراد أن ينزله في قبره، فهذا كله -كما ذكرنا- على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض، وهذه الأمور لا يقصد منها سوى الإحسان إلى الميت، فمن تيسر له فِعْلُها فعَلَها، ومن صعب عليه ذلك أو لم يجد الحنوط فله أن يستبدل بطيب آخر يطيب به الميت، ولا يشترط أن يوضع بين الفخذين بالصورة التي ذُكِرت، وإنما هو على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض كما ذكرنا.
وقوله: [ويجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده، وإن طيب كله فحسن].
أي: ويجعل الباقي من الحنوط والطيب على منافذ جسده، مثل الأنف، والمنفذ: هي الفتحة الذي ينفذ منها إلى البدن، ويشمل ذلك: الأنف والفم وجهة العيون ونحوها، فيجعل الحنوط عليها حتى يكون أدعى لدفع الهوام عن الدخول إلى البدن؛ لأن الهوام لا تقوى على رائحة الطيب؛ فيكون ذلك أدعى لبقاء البدن أو الجسد أكثر مدة وأطول، وهذا من الإحسان إلى الميت.
فيجعل في منافذ بدنه، ومواضع سجوده، وإن طيب كله فلا حرج، وقد أثر عن بعض السلف الصالح أنه لما حضرت أنس الوفاة أوصى أن يغسله الإمام الجليل محمد بن سيرين، وكان محمد رحمه الله عليه دين ومسجوناً في دين، فأُخرج من سجنه للقيام بتغسيل أنس ، فطيب أنساً كله. وهذا قد فعله بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
لكن لو كان الطيب قليلاً أو لم يتيسر من الحنوط إلا اليسير، فإنه يوضع في أشرف المواضع، وهي مواضع السجود؛ تكريماً لها، وكذلك أيضاً المغابن، وهي مواضع النتن من الإنسان كالإبطين؛ وكذلك أيضاً المغابن التي تكون في أسفل باطن الركبتين، فهذه يوضع فيها الحنوط لأن الفساد يسرع إليها أكثر من غيرها.
كيفية لف اللفائف على الميت
بعد أن يوضع الميت على الثلاث اللفائف في وسطها كما ذكرنا، يرد طرف اللفافة على شقه الأيمن تشريفاً وتكريماً لليمين، لأنه إذا لبس الإنسان يشرع له أن يقدم اليمين، فيفعل به كما كان يفعل حياً، وقد قال عليه الصلاة والسلام في تغسيل بنته: (ابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها) فشرف اليمين وشرف أعضاء الوضوء؛ ولذلك لما ذكروا عن مواضع السجود أنها تطيب فذلك لشرفها شرعاً.
فحينئذٍ يبدأ بشقه الأيمن ويقلب طرف اللفافة العليا، فإذا غطى شقه الأيمن قلب من شقه الأيسر بعد ذلك على لفافة الأيمن ويردها عليه؛ ثم اللفافة الثانية يبتدئ بجهتها اليمنى بالنسبة للميت ويقلبها على شقه الأيمن، ثم يأخذ يسراها ويقلبها على يساره، ثم الثالثة كذلك، فهذا من إدراج الميت في الكفن وهو سنة، ولما فيه من التيمن الذي فضله الشرع وثبتت به النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال المصنف رحمه الله:
[ويرد طرفها الآخر من فوقه، ثم بالثانية والثالثة كذلك، ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه]:
وقوله: (ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه) وذلك لكونه أبلغ في ستره وتشريفاً له؛ أما الدليل على أننا نجعل الفاضل جهة الرأس: فعندنا جهتان: إما أن نجعل الفاضل من جهة القدم أو جهة الرأس، فلما قال عليه الصلاة والسلام في الشملة: (غطوا بها وجهه، واجعلوا على قدميه شيئاً من الإذخر) دل على تشريف أعلى البدن وتفضيله على أسفله، ومن هنا قالوا: إنه يجعل الفاضل من جهة الرأس ولا يجعل من جهة القدم، ويتفرع على ذلك فوائد، منها أنه لو وجدت لفافة، ولكن هذه اللفافة تسع أكثر البدن، ولا تسع البدن كله، فإنها تلف عليه ويجعل النقص من جهة الأقدام لا من جهة أعلى البدن؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حديث مصعب رضي الله عنه وأرضاه.
وقوله: [ثم يعقدها وتحل في القبر].
(ثم يعقدها): أي يربطها، والضمير عائد إلى اللفافة، فيعقد من رأسه ويعقد من وسطه؛ وكذلك من جهة قدميه على حسب ما يقتضيه الحال، والسبب في هذا هو خوف انتشار الثياب وانكشاف عورة الميت، خاصةً إذا دُلي في قبره، فإنه في هذه الحالة يحتاج إلى أن تكون اللفافة مربوطة، فلربما انسل من اللفائف إذا لم يكن مربوطاً فانكشفت العورة وحصل ما لا يحمد خاصة مع النساء؛ فلذلك جاءت الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم بهذه الأربطة، وأنها تحل في القبر.
وقوله: [وإن كُفِّن في قميص ومئزر ولفافة جاز].
(وإن كُفن في قميص): القميص يكون لأعلى البدن، كـ(الفنيلة) فهذه أشبه بالقميص، وفي حكمها الصدرية، وهكذا الجبة ونحو ذلك، كل ذلك يعتبر من ستر أعالي البدن ويعتد به ثوباً.
ثم يجعل لأسفل البدن ثوباً أو إزاراً؛ لأن العرب تسمي ما يغطي الأعلى دون أن يكون مستحكماً رداءً، والذي للأسفل يسمونه إزاراً، وأوضح ما يكون هو يلبسه الإنسان في حجه وعمرته من ثوبي النسك، الأسفل منهما يسمى إزاراً والأعلى منهما يسمى رداءً.
فلو أن إنساناً وجد له قميصاً وإزاراً ولفافة، فلا حرج، ويكون القميص ثوباً والإزار ثوباً، وتكون اللفافة ثوباً ثالثاً.
وقوله: [تجمر ثم تبسط بعضها فوق بعض، ويجعل الحنوط فيما بينها].
تجمر هذه الثلاثة الأثواب بالند والعود أو بأي طيب، وذلك مبني على أمره عليه الصلاة والسلام بإحسان كفن المسلم، وقد أمر من ولي تكفين أخاه المسلم أن يحسن في كفنه.
فيبدأ بتطييب هذه الثلاثة الأثواب، ثم يبسط الأولى ويكون أجملها وأفضلها مما يلي الناس؛ لأن حال الإنسان أنه يجعل الزينة في الظاهر، فيجعل أجمل الثلاث اللفائف مما يلي الناس، وهي الأولى تبسط على الأرض، ثم بعد أن يجمرها يجعل حنوطاً فوقها، ثم يأتي بالثانية ويبسطها فوق الأولى، ويجعل الحنوط فيها.
والحنوط: هو أخلاطٌ من الأطياب التي توضع في الكفن لدفع الهوام وطردها عن جسد الميت، ولإبقاء الجسد مدة أطول، فيوضع الحنوط على الثوب الأول، ثم يوضع على الثوب الثاني، ثم تبسط اللفافة الثالثة ولا يوضع عليها شيء؛ ولذلك كره الصحابة رضي الله عنهم وضع الحنوط على اللفافة الثالثة، فاللفافة الثالثة لا يوضع عليها حنوط، وإنما تبقى على ما هي عليه، ثم بعد ذلك ينقل الميت إليها بعد الغسل.
وقوله: [ثم يوضع عليها مستلقياً].
أي: ثم يوضع الميت على هذه الثلاث اللفائف مستلقياً، وجهه إلى السماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أُدرج فيها إدراجاً، فهذه هي السنة: أن يوضع في وسطها، ويكون نصفها عن يمينيه ونصف اللفافة عن يساره، والثلاث كلها مبسوطة إلى الأرض.
وقوله: [ويجعل منه في قطنٍ بين إليتيه].
أي: ويجعل من الحنوط في قطن، ويكون القطن هذا لسد المنافذ إذا خرج شيء من النجاسة أو القذر فإنه يعالجه، ويكون أيضاً أنفع لدفع النتن إذا حُمِل أو أُريد وضعه في قبره، فيجعل الحنوط في قطنة وتكون بين الإليتين.
[ ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان تجمع إليتيه ومثانته ].
هذه الصفة يذكرها العلماء من باب الكمال، وليست تشريعية توقيفية يلزم فعلها، وذكر العلماء رحمة الله عليهم لها مندرج تحت أصل عام وهو إحسان الكفن، وليس بأمر متعين بحيث إن الإنسان لو تركه يأثم، إنما ذكره العلماء رحمة الله عليهم على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض.
وتجعل كالتبان، التبان: السروال القصير الذي يصنع للملاحين ونحوهم، والمعنى: أنه تشق على صورة السراويل القصيرة تشد ما بين الفخذين وتمنع خروج الخارج، وذلك لتمنع النتن والرائحة أن تؤذي من يقترب من الميت فيتضرر بذلك إذا حمله أو أراد أن ينزله في قبره، فهذا كله -كما ذكرنا- على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض، وهذه الأمور لا يقصد منها سوى الإحسان إلى الميت، فمن تيسر له فِعْلُها فعَلَها، ومن صعب عليه ذلك أو لم يجد الحنوط فله أن يستبدل بطيب آخر يطيب به الميت، ولا يشترط أن يوضع بين الفخذين بالصورة التي ذُكِرت، وإنما هو على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض كما ذكرنا.
وقوله: [ويجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده، وإن طيب كله فحسن].
أي: ويجعل الباقي من الحنوط والطيب على منافذ جسده، مثل الأنف، والمنفذ: هي الفتحة الذي ينفذ منها إلى البدن، ويشمل ذلك: الأنف والفم وجهة العيون ونحوها، فيجعل الحنوط عليها حتى يكون أدعى لدفع الهوام عن الدخول إلى البدن؛ لأن الهوام لا تقوى على رائحة الطيب؛ فيكون ذلك أدعى لبقاء البدن أو الجسد أكثر مدة وأطول، وهذا من الإحسان إلى الميت.
فيجعل في منافذ بدنه، ومواضع سجوده، وإن طيب كله فلا حرج، وقد أثر عن بعض السلف الصالح أنه لما حضرت أنس الوفاة أوصى أن يغسله الإمام الجليل محمد بن سيرين، وكان محمد رحمه الله عليه دين ومسجوناً في دين، فأُخرج من سجنه للقيام بتغسيل أنس ، فطيب أنساً كله. وهذا قد فعله بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
لكن لو كان الطيب قليلاً أو لم يتيسر من الحنوط إلا اليسير، فإنه يوضع في أشرف المواضع، وهي مواضع السجود؛ تكريماً لها، وكذلك أيضاً المغابن، وهي مواضع النتن من الإنسان كالإبطين؛ وكذلك أيضاً المغابن التي تكون في أسفل باطن الركبتين، فهذه يوضع فيها الحنوط لأن الفساد يسرع إليها أكثر من غيرها.
وقوله: [ثم يُرَد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن].
بعد أن يوضع الميت على الثلاث اللفائف في وسطها كما ذكرنا، يرد طرف اللفافة على شقه الأيمن تشريفاً وتكريماً لليمين، لأنه إذا لبس الإنسان يشرع له أن يقدم اليمين، فيفعل به كما كان يفعل حياً، وقد قال عليه الصلاة والسلام في تغسيل بنته: (ابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها) فشرف اليمين وشرف أعضاء الوضوء؛ ولذلك لما ذكروا عن مواضع السجود أنها تطيب فذلك لشرفها شرعاً.
فحينئذٍ يبدأ بشقه الأيمن ويقلب طرف اللفافة العليا، فإذا غطى شقه الأيمن قلب من شقه الأيسر بعد ذلك على لفافة الأيمن ويردها عليه؛ ثم اللفافة الثانية يبتدئ بجهتها اليمنى بالنسبة للميت ويقلبها على شقه الأيمن، ثم يأخذ يسراها ويقلبها على يساره، ثم الثالثة كذلك، فهذا من إدراج الميت في الكفن وهو سنة، ولما فيه من التيمن الذي فضله الشرع وثبتت به النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال المصنف رحمه الله:
[ويرد طرفها الآخر من فوقه، ثم بالثانية والثالثة كذلك، ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه]:
وقوله: (ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه) وذلك لكونه أبلغ في ستره وتشريفاً له؛ أما الدليل على أننا نجعل الفاضل جهة الرأس: فعندنا جهتان: إما أن نجعل الفاضل من جهة القدم أو جهة الرأس، فلما قال عليه الصلاة والسلام في الشملة: (غطوا بها وجهه، واجعلوا على قدميه شيئاً من الإذخر) دل على تشريف أعلى البدن وتفضيله على أسفله، ومن هنا قالوا: إنه يجعل الفاضل من جهة الرأس ولا يجعل من جهة القدم، ويتفرع على ذلك فوائد، منها أنه لو وجدت لفافة، ولكن هذه اللفافة تسع أكثر البدن، ولا تسع البدن كله، فإنها تلف عليه ويجعل النقص من جهة الأقدام لا من جهة أعلى البدن؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حديث مصعب رضي الله عنه وأرضاه.
وقوله: [ثم يعقدها وتحل في القبر].
(ثم يعقدها): أي يربطها، والضمير عائد إلى اللفافة، فيعقد من رأسه ويعقد من وسطه؛ وكذلك من جهة قدميه على حسب ما يقتضيه الحال، والسبب في هذا هو خوف انتشار الثياب وانكشاف عورة الميت، خاصةً إذا دُلي في قبره، فإنه في هذه الحالة يحتاج إلى أن تكون اللفافة مربوطة، فلربما انسل من اللفائف إذا لم يكن مربوطاً فانكشفت العورة وحصل ما لا يحمد خاصة مع النساء؛ فلذلك جاءت الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم بهذه الأربطة، وأنها تحل في القبر.
وقوله: [وإن كُفِّن في قميص ومئزر ولفافة جاز].
(وإن كُفن في قميص): القميص يكون لأعلى البدن، كـ(الفنيلة) فهذه أشبه بالقميص، وفي حكمها الصدرية، وهكذا الجبة ونحو ذلك، كل ذلك يعتبر من ستر أعالي البدن ويعتد به ثوباً.
ثم يجعل لأسفل البدن ثوباً أو إزاراً؛ لأن العرب تسمي ما يغطي الأعلى دون أن يكون مستحكماً رداءً، والذي للأسفل يسمونه إزاراً، وأوضح ما يكون هو يلبسه الإنسان في حجه وعمرته من ثوبي النسك، الأسفل منهما يسمى إزاراً والأعلى منهما يسمى رداءً.
فلو أن إنساناً وجد له قميصاً وإزاراً ولفافة، فلا حرج، ويكون القميص ثوباً والإزار ثوباً، وتكون اللفافة ثوباً ثالثاً.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3704 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3186 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |