خطب ومحاضرات
سلسلة فلسطين أمة لن تموت
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا أعداءً ولا حاسدين، اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك، ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك، اللهم اغفر لنا خطيئتنا وجهلنا وإسرافنا في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. آمين آمين. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.
أما بعد:
فمع المحاضرة التاسعة من المحاضرات الخاصة بقضية فلسطين، وكنا قد ذكرنا في المحاضرة الأولى بعضاً من الوسائل الإيجابية والتي من الممكن أن نساعد بها إخواننا في فلسطين، ونسهم بها في رد كيد اليهود ومن عاونهم، تذكرون أن الوسيلة الأولى التي ذكرناها في هذا المضمار كانت: تحريك قضية فلسطين بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة، وأفردنا لذلك ثمان محاضرات تحدثنا فيها عن بعض هذه المفاهيم.
واليوم نتحدث عن وسيلة أخرى من الوسائل الهامة جداً في حل قضية فلسطين وما شابهها، بل وفي حل قضية المسلمين في العالم أجمع، الناظر إلى بلاد المسلمين يجد أن كثيراً من أبناء المسلمين قد أصابهم الإحباط من واقع المسلمين، ويئسوا من أن تقوم لأمة الإسلام قائمة من جديد، وقنطوا من أن يواجهوا عدواً صارخ العداء مثل اليهود ومن معهم.
كثير من أبناء المسلمين يعتقدون أن سيادة المسلمين للعالم كانت تاريخاً، وأن المستقبل قد يكون للشرق أو للغرب، ولكن حتماً أو غالباً ليس للمسلمين، وأكثر هذه الطائفة تفاؤلاً يعتقد أنه لو كان الإسلام سيعود من جديد لصدارة الأمم فإن هذا سيكون بعد عمر مديد وأجل بعيد لا نراه نحن ولا أبناؤنا ولا حتى أحفادنا.
في هذا الجو من الإحباط واليأس يستحيل على المسلمين أن يفكروا في قضية فلسطين فضلاً عن أن يسهموا في حلها، ومن ثم فإن حديثنا اليوم يتناول الوسيلة الثانية من وسائل حل قضية فلسطين ألا وهي: قتل الانهزامية والإحباط في نفوس المسلمين.
وإنه لمن العجب حقاً أن تحبط أمة تملك كتاباً مثل القرآن! وسنة مثل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وإنه لمن العجب حقاً أن ييأس شعب له تاريخ مثل تاريخ المسلمين! وله رجال أمثال رجال المسلمين! وإنه لمن العجب حقاً أن قوماً يمتلكون مقدرات كمقدرات المسلمين! وكنوزاً مثل كنوز المسلمين! عجيب حقاً أن تقنط هذه الأمة، وقد قال ربها في كتابه: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، لكنها حقيقة مشاهدة وواقع لا ينكر، والواقع أن غياب الأمل وضياع الحلم وانحطاط الهدف كارثة مروّعة حلّت على المسلمين، ومصيبة مهولة لا يرجى في وجودها نجاة، لا بد أن الذي زرع اليأس في قلوب بعض المسلمين هو أمر تعاظم في النفوس الواهنة، وحدث أكبرته القلوب الضعيفة فخضعت حصول خضوعاً مذلاً، وركعت حين كان يرجى لها القيام.
لا بد أن نقف وقفات ووقفات لنحلل وندرس ونفقه لماذا صرنا إلى ما صرنا إليه؟ وكيف السبيل لقيام وسيادة وصدارة ومجد، أما لماذا صرنا إلى هذا الوضع؟ فهذا يرجع إلى عوامل عديدة وتراكمات مختلفة:
الواقع الذي يعيشه المسلمون من هزائم متكررة
الواقع الذي يعيشه المسلمون من هزائم متكررة بدءاً من سقوط الخلافة العثمانية، ومن سقوط فلسطين وإعلان إسرائيل في (1948م)، ومن هزيمة مرة في عام (1956م) لولا أيزنهاور الأمريكي الذي جعل المسلمين يصورون الحدث وكأنه نصر، بل ويحتفلون به بعد ذلك.
ومروراً بعام (1967م) وتدمير الجيش المصري والسوري، وضرب كل المطارات حتى المطارات الداخلية جداً: المنيا الأقصر الغردقة كانت هزيمة كبيرة، حتى نصر أكتوبر عام (1973م) والذي كان نصراً مجيداً حقاً أتبع بثغرة مرة وبوقف لإطلاق النار، وبخسارة سريعة لمكاسب هائلة.
أما الواقع الذي يعيشه المسلمون من خيانات مستمرة شاهدنا طرفاً منها في تاريخ فلسطين، ونشاهد أطرافاً أخرى في أماكن متفرقة من العالم الإسلامي.
الواقع الذي يعيشه المسلمون من إباحية في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، ومن سرقات واحتيالات، ومن هروب بمليارات من أموال المسلمين بينما يتضور بعضهم جوعاً، ومن انهيار للاقتصاد وديون متراكمة وإفلاسات مشهورة.
الواقع الذي يعيشه المسلمون من فرقة وتناحر وتشاحن، بين المسلمين وأحياناً بين الملتزمين من المسلمين، هذا الواقع يورث في نفوس كثير من المسلمين إحباطاً ويأساً، يشعرون معه أن القيام من جديد إن لم يكن صعباً فهو من دروب المستحيل.
هؤلاء الذين قنطوا لم يدركوا طبيعة هذا الدين، ولم يدركوا طبيعة هذه الأمة، ولم يدركوا طبيعة سنن الله في الأرض، فالله سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن يجعل الأيام دولاً بين الناس: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، فكما تعاني أمة المسلمين من القرح اليوم فقد كان هناك أيام عانى فيها الآخرون من القرح، بينما كانت أمة المسلمين في سلامة وعافية، كل الأمم تسود فترة وتتبع غيرها فترات، كل الأمم تقود زمناً وتنقاد لغيرها أزماناً، بل إن كل الأمم تعيش مرة وتموت وتندثر وتختفي مرات، إلا أمة واحدة قد تنقاد فترة من الفترات، وقد تتبع غيرها زماناً من الأزمان، لكنها لا تموت أبداً، تلك هي أمة الإسلام.
أين حضارة الرومان؟ لم يبق منها إلا أطلال وأبنية، أين حضارة الإغريق؟ لم يبق منها إلا فلسفة فارغة ومعابد وثنية، أين حضارة الفرس؟ ماتت ولم تترك ميراثاً، أين حضارة الفراعنة؟ بقيت منها جمادات وديار كديار عاد وثمود، وبقيت جثث محنطة وأوراق بالية، لكن أين الفراعنة؟ إما في بطون القبور، أو في جوف البحر حيث ينتظر جنود فرعون الساعة، أين التتار وجيوشهم؟ أين الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس؟ إنجلترا الآن تابع ذليل، أين الإمبراطورية الروسية القيصرية ثم الشيوعية؟ سقوط مروع وسيأخذ غيرهم دورات ثم يسقطون، وسيعلو نجمهم فترة ثم يحبطون: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان:29].
إلا أمة واحدة ما سقطت إلا وكان بعد السقوط قيام، وما ضعفت إلا وكان بعد الضعف قوة، وما ذلت إلا وكان بعد الذل عزاً، تلك هي أمة الإسلام.
طبيعة هذه الأمة أنها أمة شاهدة على غيرها من الأمم: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، حتى الأمم الغابرة قبل أمة الإسلام نشهد عليها بما جاء في كتابنا القرآن، والأمم المعاصرة نشهد عليها بما رأيناه بأعيننا، وقومناه بمنهجنا وأحكامنا وشرعنا، وسنظل نشهد على الأمم إلى يوم القيامة، فنحن باقون ما دامت الحياة، وغيرنا لا شك مندثر وذاهب.
طبيعة هذه الأمة أنها تحمل الرسالة الخاتمة والكلمة الأخيرة من الله إلى خلقه، وليس هناك رسول بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم، وليست هناك رسالة بعد الإسلام، فلا بد أن يحفظ الله المسلمين لأجل أهل الأرض جميعاً.
طبيعة هذه الأمة أنها الأمة الوحيدة التي كان من همها أن تعلم غيرها دون ثمن ولا أجر، بل قد يدفع المعلمون المسلمون مالاً ويبذلون جهداً وعرقاً ووقتاً بل ونفساً حتى يعلموا غيرهم، هل من الأمم من يفعل ذلك غير أمة الإسلام؟ ألم تكن الشعوب تغير على الشعوب لتأخذ خيرها، وتنهب أرضها وتقتل أهلها؟ بينما كان المسلمون يضحون بأرواحهم؛ ليستنقذوا الناس من جحيم الكفر والضلال إلى جنة الإيمان والهدى.
ألم يقل ربعي بن عامر قولاً ما تكرر في التاريخ على ألسنة المتحضرين من الأمم غير أمة الإسلام يوضح فيه الرسالة الإسلامية بإيجاز فيقول: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة؟
لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:9] هذه طبيعة الأمة الإسلامية، بقاؤها هو خير الأرض، وذهابها فناء الأرض: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
دراسة الأعداء علوم الإسلام للتلبيس على المسلمين في دينهم
إذا كانت هذه هي طبيعة الأمة الإسلامية فلماذا الإحباط واليأس؟! يبدو لي أنه ليس الواقع فقط هو المسئول عن هذه الحالة من الإحباط، ولكن يبدو أن وراء الأمور أمور، يبدو أن هناك من يدبّر ويخطط ويكيد، حتى يزرع بذور اليأس في قلوب المسلمين، جزء من المؤامرة الفكرية التي تحدثنا عنها في أول محاضرة، من هم المتآمرون؟ وما هي وسائلهم؟ الحق أن هذه المؤامرة اشترك فيها الكثيرون، اشترك فيها المستشرقون: وهم طائفة من العلماء الأوربيين، أكل الغل قلوب معظمهم، وحرق الحقد صدور غالبيتهم، وأعمى الحسد بصائر جلهم، فجاءوا يتعلمون الإسلام ويدرسون تاريخه ورجاله ومناهجه لا ليهتدوا بهداه؛ ولكن ليطعنوا فيه وليلبسوا على المسلمين دينهم، انتشرت كتبهم وعمت أفكارهم وطغى تحليلهم، وباتوا شوكة حامية في حلق المسلمين.
افتتان المسلمين بالغرب وتتبعهم سننه
تبع هؤلاء المستشرقين طائفة أخرى يحلو لي أن أسميها طائفة المستغربين: وهم من أبناء المسلمين الذين فتنوا بالغرب وتاقت نفوسهم إليهم، واستغل الغرب الفرصة، ومدوا إليهم أيديهم وصنعوهم على أعينهم، ودسوا في عقولهم أفكارهم، ثم أعادوهم إلى أوطانهم يحبطون أبناءهم ويشككونهم في دينهم، ويقنطونهم من القيام إلا باتباع الغرب، حتى إن بعضهم كان يقول: إن بلادنا لن تتقدم إلا إذا نقلت ما في لندن وباريس بحلوه ومره، وبحسنه وسيئه وبمعروفه ومنكره، هكذا هو، عالم ويلبس لباس العلماء، ثم يطعن في الدين طعناً.
ألم يذهب أحدهم -وهو من أبناء الأزهر الحافظين للقرآن- إلى فرنسا فتعلم هناك، ثم عاد إلى بلاد المسلمين يعلم تلامذته أن ينقدوا القرآن الكريم، فهذه آية قوية وهذه آية ضعيفة؟! كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:5]، وكان يقول لتلامذته: ليس معنى أن القرآن ذكر وجود إبراهيم وإسماعيل أن هذا أمراً حقيقياً، لا بد من برهان مادي. وكان يقول لتلامذته: إن الآيات المدنية أكثر نضجاً من المكية، وكأن هذا من تراكم الخبرة تعالى الله عما يصفون، وكان يكتب كتباً عن الصحابة وبالذات في زمن الفتنة، فيطعن في كل من استطاع بلا خجل ولا تورع، ثم إذا به يترقى في المناصب حتى يصبح وزيراً للتعليم يربي ويعلم ملايين التلاميذ، وهكذا أصبح الشيخ الأزهري من دعاة العلمانية والإحباط، والأزهر منه براء.
دور المستعمرين وبعض حكام المسلمين في إشاعة الإحباط في نفوس المسلمين
اشترك أيضاً في مؤامرة الإحباط المستعمرون الذين جثموا على صدر الأمة عشرات السنين، أذاقوها من العذاب ألواناً، في مصر وفلسطين وسوريا ولبنان وليبيا والجزائر وتونس والمغرب واليمن والسودان والعراق والكويت.
واشترك في المؤامرة أيضاً بعض الحكام الذين أقنعوا شعوبهم أنهم لا طاقة لهم اليوم بجالوت وجنوده.
ماذا فعلت هذه الطوائف المختلفة من المتآمرين؟ فعلوا جرائم عدة:
أولاً: جريمة تزوير التاريخ، وهي جريمة بشعة لا يتسع المجال للخوض في تفصيلاتها، وسأفرد لها إن شاء الله محاضرة خاصة، كذبوا وزوروا والتقطوا الضعيف والموضوع، وأعرضوا عن الصحيح والحسن، ونقبوا عن المصائب، ولا بد أن في تاريخ كل أمة مصائب، وتركوا الأمجاد والفضائل، وركزوا على الجوانب السياسية لمشكلاتها، وأغفلوا الجوانب الأخلاقية والعلمية والمعمارية والعسكرية والاقتصادية والفكرية والأدبية، أساءوا التأويل عن عمد، وطعنوا في الشرفاء عن قصد، فخرج التاريخ إلينا ممسوحاً مشوهاً يستحي منه الكثير، ويتناساه الأكثر، واقتنع معظم المسلمين بأنه إذا كان السابقون الأولون على هذه الشاكلة فكيف يرجى خير ممن لحق؟!
إن جريمة تزوير التاريخ جريمة كبرى، وهناك جريمة أخرى ألا وهي تشويه الواقع، فكما طمسوا تاريخ المسلمين المشرق فليطمسوا واقعهم وحاضرهم، فليشترك المربون والإعلاميون من المستغربين في تغييب الأمة، وتحبيط الشعب، وليساعد الإعلام الغربي في هذه المهمة، فيسمي الأشياء بغير أسمائها، فليكن الالتزام بالإسلام مرادفاً للإرهاب، وليكن الحجاب مرادفاً للتزمت، وليكن تطبيق الشرع مرادفاً للرجعية والجمود والتخلف.
إذا أجرم مسلم في الغرب قالوا: أجرم مسلم، وإذا أجرم نصراني ذكروه باسمه لا بدينه، كما في حادث تفجير أوكلاهوما المشهور في أمريكا قالوا: فعلها المسلمون، فلما تبيّن أن الذي فعلها نصراني قالوا: فعلها فلان باسمه.
إذا أساء مسلم قالوا: أساء مسلم، وإذا نبغ مسلم في علمه قالوا: نبغ مصري أو سوري أو باكستاني ووصفوه بقوميته.
وآه من تصوير الملتزمين بالإسلام في وسائل الإعلام، كم من المرات يأتون بالشيخ أو (المأذون) في صورة هزلية مضحكة، كم من المرات يأتون بالمسلمين في الأفلام التي يطلقون عليها إسلامية في صورة عجيبة، ينظرون نظرات حالمة وأبصارهم معلقة في السماء، ويبتسمون في بلاهة ويتحركون ببطء شديد، سبحان الله! وكأن الإنسان إذا أسلم لا بد أن يتخلف عقلياً بهذه الصورة، كم من المرات يأتون بمن التزم طريق الإسلام ينقلب من الحديث بالعامية إلى الحديث بالعربية الفصحى ولكن في تنطع وتقعر شديدين، ومن حوله من الناس لا يفهمونه وينظرون إليه مستنكرين، سبحان الله! مع أن اللغة العربية هي أرقى لغات العالم أجمع. جريمة كبرى إلى جانب جريمة تزوير التاريخ، تلك هي جريمة تشويه الواقع.
جريمة ثالثة: تعظيم الغرب، فبعد أن كسر رموزك الإسلامية في التاريخ والواقع؛ رفع لك من قيمة الغرب حتى لا يبقى أمامك خيار إلا الاتباع الذليل والتقليد الأعمى، عظموا سلاح الغرب، ومدنية الغرب، وأخلاق الغرب، وعقل الغرب، وأدب الغرب، وفن الغرب، بل وعظّموا لغة الغرب حتى افتتن المسلمون، وأصبح الرجل يحرص على تعليم الإنجليزية لابنه أكثر من حرصه على العربية، وحتى ابتلينا بما أطلقوا عليه مدارس إسلامية للغات بحجة أننا يجب أن نعلم أبناءنا لغة الغرب لندعوهم إلى الإسلام، أتتعلمها على حساب لغتك؟ وبحجة أن الأعمال المرموقة لا بد لها من لغة أجنبيه جيدة، هل على حساب لغة القرآن؟! وحتى لو أتيت لابنك بمعلم للعربية في البيت سيظل الطفل معظماً للغة الأولى في مدرسته.
ففي فرنسا لو خاطبت رجلاً بالإنجليزية ما رد عليك إلا متأسفاً لاعتزازه بلغته، في ألمانيا كذلك إذا أردت أن تعيش هناك فلا حديث إلا بالألمانية، ولقد ذهبت إلى المركز الثقافي الأسباني أبحث عن بعض الصور الخاصة بتاريخ المسلمين في الأندلس فما وجدت عندهم كتاباً واحداً بالإنجليزية فضلاً عن العربية، وعندما قلت لهم: إن اللغة الأسبانية محدودة جداً في مصر فعليهم أن يأتوا بكتب مترجمة حتى نفهمها، قالوا: من أراد أن يعرف عنا شيئاً فليتعلم لغتنا، هكذا يعتزون بلغتهم المحدودة، جريمة تعظيم الغرب أدت إلى صد الطموح عند الشباب، وضعف الهمم وهوان العزم، فيصبح أمل الشاب المسلم في الحياة أن يلقي بوطنه وأهله وراء ظهره، وينطلق إلى بلاد الغرب إلى أمريكا وأوروبا؛ ليعيش في جنة الله في أرضه.
الواقع الذي يعيشه المسلمون من هزائم متكررة بدءاً من سقوط الخلافة العثمانية، ومن سقوط فلسطين وإعلان إسرائيل في (1948م)، ومن هزيمة مرة في عام (1956م) لولا أيزنهاور الأمريكي الذي جعل المسلمين يصورون الحدث وكأنه نصر، بل ويحتفلون به بعد ذلك.
ومروراً بعام (1967م) وتدمير الجيش المصري والسوري، وضرب كل المطارات حتى المطارات الداخلية جداً: المنيا الأقصر الغردقة كانت هزيمة كبيرة، حتى نصر أكتوبر عام (1973م) والذي كان نصراً مجيداً حقاً أتبع بثغرة مرة وبوقف لإطلاق النار، وبخسارة سريعة لمكاسب هائلة.
أما الواقع الذي يعيشه المسلمون من خيانات مستمرة شاهدنا طرفاً منها في تاريخ فلسطين، ونشاهد أطرافاً أخرى في أماكن متفرقة من العالم الإسلامي.
الواقع الذي يعيشه المسلمون من إباحية في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، ومن سرقات واحتيالات، ومن هروب بمليارات من أموال المسلمين بينما يتضور بعضهم جوعاً، ومن انهيار للاقتصاد وديون متراكمة وإفلاسات مشهورة.
الواقع الذي يعيشه المسلمون من فرقة وتناحر وتشاحن، بين المسلمين وأحياناً بين الملتزمين من المسلمين، هذا الواقع يورث في نفوس كثير من المسلمين إحباطاً ويأساً، يشعرون معه أن القيام من جديد إن لم يكن صعباً فهو من دروب المستحيل.
هؤلاء الذين قنطوا لم يدركوا طبيعة هذا الدين، ولم يدركوا طبيعة هذه الأمة، ولم يدركوا طبيعة سنن الله في الأرض، فالله سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن يجعل الأيام دولاً بين الناس: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، فكما تعاني أمة المسلمين من القرح اليوم فقد كان هناك أيام عانى فيها الآخرون من القرح، بينما كانت أمة المسلمين في سلامة وعافية، كل الأمم تسود فترة وتتبع غيرها فترات، كل الأمم تقود زمناً وتنقاد لغيرها أزماناً، بل إن كل الأمم تعيش مرة وتموت وتندثر وتختفي مرات، إلا أمة واحدة قد تنقاد فترة من الفترات، وقد تتبع غيرها زماناً من الأزمان، لكنها لا تموت أبداً، تلك هي أمة الإسلام.
أين حضارة الرومان؟ لم يبق منها إلا أطلال وأبنية، أين حضارة الإغريق؟ لم يبق منها إلا فلسفة فارغة ومعابد وثنية، أين حضارة الفرس؟ ماتت ولم تترك ميراثاً، أين حضارة الفراعنة؟ بقيت منها جمادات وديار كديار عاد وثمود، وبقيت جثث محنطة وأوراق بالية، لكن أين الفراعنة؟ إما في بطون القبور، أو في جوف البحر حيث ينتظر جنود فرعون الساعة، أين التتار وجيوشهم؟ أين الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس؟ إنجلترا الآن تابع ذليل، أين الإمبراطورية الروسية القيصرية ثم الشيوعية؟ سقوط مروع وسيأخذ غيرهم دورات ثم يسقطون، وسيعلو نجمهم فترة ثم يحبطون: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان:29].
إلا أمة واحدة ما سقطت إلا وكان بعد السقوط قيام، وما ضعفت إلا وكان بعد الضعف قوة، وما ذلت إلا وكان بعد الذل عزاً، تلك هي أمة الإسلام.
طبيعة هذه الأمة أنها أمة شاهدة على غيرها من الأمم: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، حتى الأمم الغابرة قبل أمة الإسلام نشهد عليها بما جاء في كتابنا القرآن، والأمم المعاصرة نشهد عليها بما رأيناه بأعيننا، وقومناه بمنهجنا وأحكامنا وشرعنا، وسنظل نشهد على الأمم إلى يوم القيامة، فنحن باقون ما دامت الحياة، وغيرنا لا شك مندثر وذاهب.
طبيعة هذه الأمة أنها تحمل الرسالة الخاتمة والكلمة الأخيرة من الله إلى خلقه، وليس هناك رسول بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم، وليست هناك رسالة بعد الإسلام، فلا بد أن يحفظ الله المسلمين لأجل أهل الأرض جميعاً.
طبيعة هذه الأمة أنها الأمة الوحيدة التي كان من همها أن تعلم غيرها دون ثمن ولا أجر، بل قد يدفع المعلمون المسلمون مالاً ويبذلون جهداً وعرقاً ووقتاً بل ونفساً حتى يعلموا غيرهم، هل من الأمم من يفعل ذلك غير أمة الإسلام؟ ألم تكن الشعوب تغير على الشعوب لتأخذ خيرها، وتنهب أرضها وتقتل أهلها؟ بينما كان المسلمون يضحون بأرواحهم؛ ليستنقذوا الناس من جحيم الكفر والضلال إلى جنة الإيمان والهدى.
ألم يقل ربعي بن عامر قولاً ما تكرر في التاريخ على ألسنة المتحضرين من الأمم غير أمة الإسلام يوضح فيه الرسالة الإسلامية بإيجاز فيقول: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة؟
لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:9] هذه طبيعة الأمة الإسلامية، بقاؤها هو خير الأرض، وذهابها فناء الأرض: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة فلسطين المؤامرة | 2872 استماع |
سلسلة فلسطين اغتيال الخلافة | 2764 استماع |
سلسلة فلسطين مفاهيم خاطئة | 2739 استماع |
سلسلة فلسطين جريمة التقسيم | 2366 استماع |
سلسلة فلسطين الجهاد بالمال | 2337 استماع |
سلسلة فلسطين إسرائيل الكبرى | 2300 استماع |
سلسلة فلسطين فلسطين إسلامية | 2288 استماع |
سلسلة فلسطين تهويد فلسطين | 2128 استماع |
سلسلة فلسطين الدعاء | 2026 استماع |