النصر قادم


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى خلق الموت والحياة ليبلو الناس ويمتحنهم، ومن أشق الامتحانات التي امتحن الله بها عباده امتحان الإيمان بالغيب، وهذا الامتحان يقتضي من الإنسان أن يؤمن بما أخبر الله به وبما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما سيقع، وهو مقتض منه أن يؤمل وقوع ذلك الذي أخبر به الله وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لو لم ير شواهد ذلك في الواقع، ولو لم ير وسائله كذلك؛ ولذلك فإن حياة المسلم الطبيعية في هذه الحياة الدنيا أن يبقى دائماً بين الخوف والرجاء؛ فهو يرجو تحقق وعد الله عز وجل، ويخاف أن لا يكون هو قد حقق شروط ذلك ووسائله.

ولهذا فإن الوعد الرباني يأتي على أعلى الدرجات، والوعيد كذلك يأتي على أقصى الدرجات؛ فقد قال الله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى[الليل:14-18]، فإذا قرأ المؤمن ذلك أو سمع قول الله تعالى: لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى[الليل:15-16] فإنه يقول: الحمد لله! أنا لست كذلك، ثم يقرأ: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى[الليل:17-21]، فيقول: أنا أيضاً لست كذلك، فيبقى بين الرجاء والخوف دائماً.

ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى يحدث في هذا الكون من المشكلات التي يبتلي بها عباده المؤمنين ما يشاء، ثم بعد ذلك تكون العاقبة للمتقين، وهذه هي السنة الماضية التي سير الله عليها هذا الكون كله؛ فلا يمكن أن يأتي الفرج إلا بعد الشدة، ولا يمكن أن يأتي النصر إلا بعد الصبر؛ ولذلك فجميع الأنبياء عليهم السلام ما وجد أحد منهم في نذارته وبشارته النصر إلا بعد كثير من الصبر والمصابرة، ولا وجد أحد منهم التمكين إلا بعد كثير من الابتلاء؛ ولهذا قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ[يوسف:110-111].

استحضار سنة الابتلاء في الحياة

وهذه السنة الماضية لا بد أن يستحضرها المؤمنون في حياتهم، وأن يدركوا أنهم ليسوا أكرم على الله من الأنبياء، فما من نبي بعثه الله، فنال التمكين وتحققت أهدافه وآماله قبل الامتحان الشديد، فـنوح عليه السلام مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو صابر مجاهد حتى حقق الله له التمكين والنصر، وكذلك من دونه من الأنبياء؛ فأكرم الخلق على الله محمد صلى الله عليه وسلم مكث هو وأصحابه بمكة ثلاث عشرة سنة بعد البعثة، وهم في أشد ما يكون الحال من الضيق والمضايقة، ولكنهم صبروا وصمدوا واحتسبوا لله عز وجل، وقد خاطبهم الله بأمر بذلك إذ قال: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[الجاثية:14]، فلما صبروا على ذلك وعلم الله منهم الصدق أنزل عليهم رضوانه وحقق لهم موعوده؛ ولذلك قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا[الفتح:18-19].

عندما اشتد الحال بالمؤمنين في مكة واشتدت عليهم المضايقة من كل جانب لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشك في ما وعده الله؛ ولذلك أخرج البخاري في الصحيح من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، وكان من أولئك الذين أوذوا بمكة، قال: ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلت: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ ألا ترى إلى ما نحن فيه، فجلس وقال: إنه قد كان في من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على مفرقه فيفرق به فرقتين، ثم يؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها ما دون عظمه من جلد ولحم، لا يصده ذلك عن دينه، ووالذي نفس محمد بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون )، وهذا الحديث بين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك الشدة التي يعانونها قد سبق في هذه الأرض من الشدة ما هو أكثر منها؛ فلا يمكن أن ينال المؤمن اليوم أي أذىً إلا قد نال من هو خير منه في الماضي، وله أسوة صالحة في السابقين الذين أوذوا في الله عز وجل، وقد قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[آل عمران:186]، وخاطبنا نحن بعدهم كذلك بخطاب أبدي مستمر في قوله: بسم الله الرحمن الرحيم، الــم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3]، فلا بد إذاً من الفتنة على طريق الحق؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرج عنه البخاري في الصحيح وغيره: ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات )، وفي رواية: ( حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات )، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ( أن الله عز وجل لما خلق الجنة بارك فيها وجعل فيها من أنواع النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ قال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها. ثم خلق النار فجعل فيها من أنواع الأذى ما لا يخطر على قلب أحد فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ قال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها، ثم أمر بالجنة فحفت بالمكاره وأمر بالنار فحفت بالشهوات، فأمر جبريل فأطاف بالجنة، فلما رجع قال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد. ثم أمره فأطاف بالنار فلما رجع قال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد ).

إدراك المسلم قبل الإقدام أنه مفتون

فلذلك لا بد قبل الإقدام على السير في الطريق أن يدرك المسلم أنه مفتون لا محالة على طريق الحق، وأن هذا الطريق محفوف بالمكاره، وسيجد الإنسان عليه كثيراً من المضايقات والحرج، ولكنه محمود العاقبة مأمون؛ فقد كتب الله النصرة والتمكين للمؤمنين السائرين على طريق الأنبياء؛ ولذلك قال في محكم التنزيل: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور:55]، وقال تعالى: كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة:21]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ[الأنبياء:105-106]، وقال تعالى في نذارة موسى عليه السلام: إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف:128]، وقال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج:40]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد:7]، فهذا الوعد لابد أن يتحقق، ويجب الإيمان بذلك.

الابتلاء والتأهيل للتمكين

لكن لا بد أيضاً أن يعرف الموعودون بأنه لا يمكن أن يتحقق لهم قبل كثير من الابتلاء والامتحان حتى يؤهلوا لأن يكونوا أهلاً لهذا التمكين والنصرة؛ ولذلك فما من نبي من الأنبياء إلا أوذي هو وأصحابه غاية الأذى، ولنتذكر قول بني إسرائيل لموسى: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ[الأعراف:129]، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نالوا حظهم من ذلك؛ فقد أوذوا غاية الأذى وبالأخص في حصار الشعب، ثلاث سنوات لا يباع إليهم ولا يشترى منهم، ولا يزوج منهم أحد ولا يتزوج إليهم ولا يرد عليهم السلام، ولا يهدى لهم ولا يتصدق عليهم، مقاطعة كاملة، لكن هذه المقاطعة كانت خيراً لهم؛ ولهذا يقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه: ( لقد رأيتنا في الشعب مع النبي صلى الله عليه وسلم وما منا أحد إلا وهو يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ثم لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار )، وأخبر أنه خرج ذات ليلة في الشعب لقضاء حاجته فوقعت يده على شيء قال: (فنفضته فإذا هو جبة، فأتيت بها أصحابي، فقسموها نصفين، فأعطوني نصفها فأتزرت به، وأعطوا نصفها سعد بن مالك فأتزر به).

وكذلك أخوه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يحدثنا عن وقت الشعب فيذكر أنه خرج لقضاء حاجته فوقعت يده على شيء؛ فإذا هو جلد فنفضه وأتى به أصحابه فشووه وأكلوه، وهو الذي يقول فيما أخرج عنه البخاري في الصحيح: ( والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، خبت إذاً وضل سعيي ). فأوذوا أذى شديداً، ثم كان لهم بعد ذلك النصر والتمكين وحقق الله لهم الوعد؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم عندما كانوا يحفرون الخندق وهم إذ ذاك في غاية الخوف، فأخبرهم أنه أوتي كنوز كسرى وقيصر، وأنها ستنفق في سبيل الله، وهم إذ ذاك لا يستطيع أحد منهم أن يخرج لقضاء حاجته من شدة الهول، وقد بين الله تلك الأهوال بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا[الأحزاب:9-15].

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه بعد الفتح بحالهم قبل الفتح فقال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[الأنفال:26].

فإذا تذكر المسلمون ذلك عرفوا أن سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه أن يبتليهم؛ فمن نجح منهم في الامتحان حقق له مراده بالتمكين، ولا يمكن أن يستحق أحد التمكين إلا إذا كان قد حقق صفات التمكين التي شرطها الله في كتابه؛ فالله تعالى يقول في كتابه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:39-41]، فأولئك المتصفون بهذه الصفات الحميدة هم الذين يمكن الله لهم في الأرض وينصرهم بما ينصر به من سبقهم من الأنبياء وأتباعهم.

وهذه السنة الماضية لا بد أن يستحضرها المؤمنون في حياتهم، وأن يدركوا أنهم ليسوا أكرم على الله من الأنبياء، فما من نبي بعثه الله، فنال التمكين وتحققت أهدافه وآماله قبل الامتحان الشديد، فـنوح عليه السلام مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو صابر مجاهد حتى حقق الله له التمكين والنصر، وكذلك من دونه من الأنبياء؛ فأكرم الخلق على الله محمد صلى الله عليه وسلم مكث هو وأصحابه بمكة ثلاث عشرة سنة بعد البعثة، وهم في أشد ما يكون الحال من الضيق والمضايقة، ولكنهم صبروا وصمدوا واحتسبوا لله عز وجل، وقد خاطبهم الله بأمر بذلك إذ قال: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[الجاثية:14]، فلما صبروا على ذلك وعلم الله منهم الصدق أنزل عليهم رضوانه وحقق لهم موعوده؛ ولذلك قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا[الفتح:18-19].

عندما اشتد الحال بالمؤمنين في مكة واشتدت عليهم المضايقة من كل جانب لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشك في ما وعده الله؛ ولذلك أخرج البخاري في الصحيح من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، وكان من أولئك الذين أوذوا بمكة، قال: ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلت: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ ألا ترى إلى ما نحن فيه، فجلس وقال: إنه قد كان في من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على مفرقه فيفرق به فرقتين، ثم يؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها ما دون عظمه من جلد ولحم، لا يصده ذلك عن دينه، ووالذي نفس محمد بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون )، وهذا الحديث بين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك الشدة التي يعانونها قد سبق في هذه الأرض من الشدة ما هو أكثر منها؛ فلا يمكن أن ينال المؤمن اليوم أي أذىً إلا قد نال من هو خير منه في الماضي، وله أسوة صالحة في السابقين الذين أوذوا في الله عز وجل، وقد قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[آل عمران:186]، وخاطبنا نحن بعدهم كذلك بخطاب أبدي مستمر في قوله: بسم الله الرحمن الرحيم، الــم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3]، فلا بد إذاً من الفتنة على طريق الحق؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرج عنه البخاري في الصحيح وغيره: ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات )، وفي رواية: ( حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات )، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ( أن الله عز وجل لما خلق الجنة بارك فيها وجعل فيها من أنواع النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ قال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها. ثم خلق النار فجعل فيها من أنواع الأذى ما لا يخطر على قلب أحد فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ قال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها، ثم أمر بالجنة فحفت بالمكاره وأمر بالنار فحفت بالشهوات، فأمر جبريل فأطاف بالجنة، فلما رجع قال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد. ثم أمره فأطاف بالنار فلما رجع قال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد ).

فلذلك لا بد قبل الإقدام على السير في الطريق أن يدرك المسلم أنه مفتون لا محالة على طريق الحق، وأن هذا الطريق محفوف بالمكاره، وسيجد الإنسان عليه كثيراً من المضايقات والحرج، ولكنه محمود العاقبة مأمون؛ فقد كتب الله النصرة والتمكين للمؤمنين السائرين على طريق الأنبياء؛ ولذلك قال في محكم التنزيل: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور:55]، وقال تعالى: كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة:21]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ[الأنبياء:105-106]، وقال تعالى في نذارة موسى عليه السلام: إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف:128]، وقال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج:40]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد:7]، فهذا الوعد لابد أن يتحقق، ويجب الإيمان بذلك.

لكن لا بد أيضاً أن يعرف الموعودون بأنه لا يمكن أن يتحقق لهم قبل كثير من الابتلاء والامتحان حتى يؤهلوا لأن يكونوا أهلاً لهذا التمكين والنصرة؛ ولذلك فما من نبي من الأنبياء إلا أوذي هو وأصحابه غاية الأذى، ولنتذكر قول بني إسرائيل لموسى: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ[الأعراف:129]، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نالوا حظهم من ذلك؛ فقد أوذوا غاية الأذى وبالأخص في حصار الشعب، ثلاث سنوات لا يباع إليهم ولا يشترى منهم، ولا يزوج منهم أحد ولا يتزوج إليهم ولا يرد عليهم السلام، ولا يهدى لهم ولا يتصدق عليهم، مقاطعة كاملة، لكن هذه المقاطعة كانت خيراً لهم؛ ولهذا يقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه: ( لقد رأيتنا في الشعب مع النبي صلى الله عليه وسلم وما منا أحد إلا وهو يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ثم لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار )، وأخبر أنه خرج ذات ليلة في الشعب لقضاء حاجته فوقعت يده على شيء قال: (فنفضته فإذا هو جبة، فأتيت بها أصحابي، فقسموها نصفين، فأعطوني نصفها فأتزرت به، وأعطوا نصفها سعد بن مالك فأتزر به).

وكذلك أخوه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يحدثنا عن وقت الشعب فيذكر أنه خرج لقضاء حاجته فوقعت يده على شيء؛ فإذا هو جلد فنفضه وأتى به أصحابه فشووه وأكلوه، وهو الذي يقول فيما أخرج عنه البخاري في الصحيح: ( والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، خبت إذاً وضل سعيي ). فأوذوا أذى شديداً، ثم كان لهم بعد ذلك النصر والتمكين وحقق الله لهم الوعد؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم عندما كانوا يحفرون الخندق وهم إذ ذاك في غاية الخوف، فأخبرهم أنه أوتي كنوز كسرى وقيصر، وأنها ستنفق في سبيل الله، وهم إذ ذاك لا يستطيع أحد منهم أن يخرج لقضاء حاجته من شدة الهول، وقد بين الله تلك الأهوال بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا[الأحزاب:9-15].

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه بعد الفتح بحالهم قبل الفتح فقال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[الأنفال:26].

فإذا تذكر المسلمون ذلك عرفوا أن سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه أن يبتليهم؛ فمن نجح منهم في الامتحان حقق له مراده بالتمكين، ولا يمكن أن يستحق أحد التمكين إلا إذا كان قد حقق صفات التمكين التي شرطها الله في كتابه؛ فالله تعالى يقول في كتابه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:39-41]، فأولئك المتصفون بهذه الصفات الحميدة هم الذين يمكن الله لهم في الأرض وينصرهم بما ينصر به من سبقهم من الأنبياء وأتباعهم.

ولا يمكن أن تختل هذه القاعدة؛ فهي سنة الله الماضية، ولذلك فمن سنن الله أن الامتحانات تتوالى منها ثلاث شديدة؛ فيتساقط بها جمهور الناس، ثم بعد ذلك يأتي مثبت من عند الله عز وجل؛ فيرجع الناس بعده إلى الدين، ثم يبدأ مسلسل الامتحانات من جديد أيضاً.

الامتحان الأول

ومن أمثلة ذلك ما قص الله علينا في قصة بني إسرائيل؛ فقد قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ[البقرة:246]؛ فكان أول امتحان يأتيهم هذا الامتحان، قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]، فرسبوا في هذا الامتحان جميعاً، قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]؛ فلم يكن القتال في سبيل الله وإنما كان من أجل الديار والأبناء.

الامتحان الثاني

الامتحان الثاني: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ[البقرة:246]، فرسب جمهورهم، والقليل منهم هم الذين ثبتوا وصمدوا، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:246].

وَقَالَ لَهمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا[البقرة:247]، هذا الامتحان الثالث، أن يولي عليهم من لا يرونه أهلاً لذلك، قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[البقرة:247]، حينئذ حان وقت التثبيت، فجاء المثبت من عند الله: وَقَالَ لَهمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ[البقرة:248]؛ فرأوا الملائكة يحملون تابوتاً منزلاً من السماء فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون وفيه السكينة، فلما نزل هذا التابوت ورآه الناس عادوا جميعاً للانقياد لأمر الله والاستسلام للحق بعد أن كانوا ينكرونه ويجادلون فيه؛ لأنهم رأوا معجزة خارقة للعادة، لا يمكن أن ينازع فيها أحد، ثم بعد ذلك بدأ مسلسل الامتحانات من جديد؛ فكان أول امتحان واجههم بعد هذا المثبت هو ما بينه الله في قوله: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ[البقرة:249]، وهذا الامتحان رسب فيه جمهورهم أيضاً كما قال: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ[البقرة:249]؛ فجمهورهم رسبوا في هذا الامتحان، وهو امتحان تطبيقي ليس كالامتحان النظري السابق.

الامتحان الثالث

ثم بعد هذا جاء امتحان آخر وهو قوله: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ[البقرة:249]، تذكروا المواجهة قبل وقتها؛ فقالوا: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ[البقرة:249]؛ فرسبوا جميعاً في الامتحان.

الامتحان الرابع وتحقق النصر

ثم بعد هذا جاء الامتحان الرابع في المواجهة، وقد نجحت فيه طائفة قليلة يسيرة: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ[البقرة:249]، وهم قليل من قليل من قليل، ويظنون معناه: يوقنون أنهم ملاقو الله، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ[البقرة:249-251]، وقد بين الله سبحانه وتعالى نتيجة هذه الامتحانات بقوله: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251]، أي: لولا سنة التدافع بين الحق والباطل لفسدت الأرض؛ لأن هذه الدنيا دار عمل ولا جزاء، وبعدها الآخرة دار جزاء ولا عمل؛ فلو تمحض الحق على هذه الأرض ولم يبق للباطل أي دفع؛ لاستحق أهل الأرض أن يذهبوا إلى الجنة وأن ينالوا جزاءهم فقد نجحوا في الامتحان، ولو تمحض الباطل على الأرض فلم يبق للحق أي وجود؛ كذلك لاستحق أهل الأرض سخط الله ومقته؛ ( إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله )، وذلك إذا لم يبق على الأرض إلا حثالة كحثالة الشعير، لا يباليهم الله بالة.

فلهذا كان لابد من تكرر الامتحان وتكرر التثبيت بعده بما يريده الله سبحانه وتعالى من المثبتات التي ترد الناس إلى الالتزام بالدين.

ومن أمثلة ذلك ما قص الله علينا في قصة بني إسرائيل؛ فقد قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ[البقرة:246]؛ فكان أول امتحان يأتيهم هذا الامتحان، قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]، فرسبوا في هذا الامتحان جميعاً، قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]؛ فلم يكن القتال في سبيل الله وإنما كان من أجل الديار والأبناء.

الامتحان الثاني: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ[البقرة:246]، فرسب جمهورهم، والقليل منهم هم الذين ثبتوا وصمدوا، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:246].

وَقَالَ لَهمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا[البقرة:247]، هذا الامتحان الثالث، أن يولي عليهم من لا يرونه أهلاً لذلك، قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[البقرة:247]، حينئذ حان وقت التثبيت، فجاء المثبت من عند الله: وَقَالَ لَهمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ[البقرة:248]؛ فرأوا الملائكة يحملون تابوتاً منزلاً من السماء فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون وفيه السكينة، فلما نزل هذا التابوت ورآه الناس عادوا جميعاً للانقياد لأمر الله والاستسلام للحق بعد أن كانوا ينكرونه ويجادلون فيه؛ لأنهم رأوا معجزة خارقة للعادة، لا يمكن أن ينازع فيها أحد، ثم بعد ذلك بدأ مسلسل الامتحانات من جديد؛ فكان أول امتحان واجههم بعد هذا المثبت هو ما بينه الله في قوله: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ[البقرة:249]، وهذا الامتحان رسب فيه جمهورهم أيضاً كما قال: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ[البقرة:249]؛ فجمهورهم رسبوا في هذا الامتحان، وهو امتحان تطبيقي ليس كالامتحان النظري السابق.

ثم بعد هذا جاء امتحان آخر وهو قوله: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ[البقرة:249]، تذكروا المواجهة قبل وقتها؛ فقالوا: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ[البقرة:249]؛ فرسبوا جميعاً في الامتحان.

ثم بعد هذا جاء الامتحان الرابع في المواجهة، وقد نجحت فيه طائفة قليلة يسيرة: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ[البقرة:249]، وهم قليل من قليل من قليل، ويظنون معناه: يوقنون أنهم ملاقو الله، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ[البقرة:249-251]، وقد بين الله سبحانه وتعالى نتيجة هذه الامتحانات بقوله: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251]، أي: لولا سنة التدافع بين الحق والباطل لفسدت الأرض؛ لأن هذه الدنيا دار عمل ولا جزاء، وبعدها الآخرة دار جزاء ولا عمل؛ فلو تمحض الحق على هذه الأرض ولم يبق للباطل أي دفع؛ لاستحق أهل الأرض أن يذهبوا إلى الجنة وأن ينالوا جزاءهم فقد نجحوا في الامتحان، ولو تمحض الباطل على الأرض فلم يبق للحق أي وجود؛ كذلك لاستحق أهل الأرض سخط الله ومقته؛ ( إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله )، وذلك إذا لم يبق على الأرض إلا حثالة كحثالة الشعير، لا يباليهم الله بالة.

فلهذا كان لابد من تكرر الامتحان وتكرر التثبيت بعده بما يريده الله سبحانه وتعالى من المثبتات التي ترد الناس إلى الالتزام بالدين.