وقتك عمرك
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
وقتك عمركإن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فقد خلق الله تعالى الإنسان في هذه الدنيا لعبادته وإعداد العدة للآخرة، ولا يملك الإنسان لتحقيق هذه الغاية إلا استغلال وقته والعناية به أشد العناية، ذلك أن وقته هو عمره، فمن ضيَّع وقته ضيع دنياه وآخرته؛ قال ابن القيم: (ما مضى من الدنيا أحلام، وما بقى منها أماني، والوقت ضائع بينهما)[1].
والملاحظ اليوم في عالم كثُرت فيه الملهيات وعظُمت فيه فتن الشهوات والشبهات - هو إضاعة الوقت، حتى إن هذا الأمر أصبح مطلوبًا عند الناس، فتجد الرجل منغمسًا في اللهو سادرًا، فإذا عوتب على ذلك يجيب بقوله مثلا: أقتل الوقت، وقد بيَّن كتاب الله تعالى سرعة زوال الدنيا وقلة أيامنا فيها؛ حتى يتنبه اللبيب الفطن، فيُشمر عن ساعد الجد؛ ليغتنم عمره في طاعة الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [المؤمنون: 114].
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على استغلال الصحة والفراغ من أجل الاستفادة من الوقت، خاصة أن كثيرًا من الناس لا يحسنون رعاية هاتين النعمتين العظيمتين، فقال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)[2]؛ قال ابن بطال رحمه الله: (قال بعض العلماء: إنما أراد صلى الله عليه وسلم بقوله: (الصحة والفراغ نعمتان...) تنبيه أُمَّته على مقدار عظيم نعمة الله على عباده في الصحة والكفاية، وجعل مدة طاعتهم في الدنيا منقضية بانقضاء أعمارهم، فمن أنعم النظر في هذا كان حريًّا ألا يذهب عنه وقت من صحته وفراغه إلا وينفقه في طاعة ربه، ويشكره على عظيم مواهبه، والاعتراف بالتقصير عن بلوغ كُنه تأدية ذلك، فمن لم يكن هكذا وغفل وسها عن التزام ما ذكرنا، ومرت أيامه عنه في سهو ولهو وعجز عن القيام بما لزمه لربه تعالى، فقد غبَن أيامه، وسوف يندم حيث لا ينفعه الندم)[3].
بل لو تأمَّل العاقل في هلاك كثير من الناس ورجوعهم بالغبن الفاحش، واستحقاقهم للعذاب، لوجد أن سبب ذلك يؤول إلى إضاعة الوقت في غير طائل، فسبحان الله! كم من قتيل لهذا الوقت كان منغمسًا في المعاصي والآثام قد تمرَّس بها، وكان يُمنِّي نفسه بالتوبة في ثنايا ذلك، فلم يشعر إلا وقد كان الموت أسبق إليه من تلك الأماني؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 25]؛ قال الحسن البصري رحمه الله: (أي زيَّن لهم الشيطانُ الخطايا، ومدَّ لهم في الأمل)[4].
لهذا كان من أعظم مفاسد إضاعة الوقت: الانقطاع عن السعي إلى الآخرة بالأعمال الصالحة والتمادي في طلب متاع الدنيا، وهو ما يسوق المرء إلى شدَّة الغفلة وطول الأمل، والخِذلان من الله تعالى، وضياع النفس وتعريضها للعذاب؛ قال تعالى: ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الحشر: 19]، لذلك قال ابن القيم: (إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها)[5]، فكلما أضاع المرء وقتًا للتوبة طمع في وقت آخر وهكذا، حتى يحول الموت بينه وبين ذلك، فيكون من الهالكين.
وقد تؤدي به إضاعة الوقت إلى التكاسل والفتور، فيطمع في رحمة الله تعالى من غير أخد بالأسباب، فيقع في الأمن الذي حذَّر الله منه بقوله: ﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99].
وفي المقابل قد يؤدي به ذلك إلى القنوط من رحمة الله تعالى، لما قد يتوهم من عجز عن التوبة بسبب الإدمان على المعاصي، فيقع في اليأس من قدرته على التوبة، فيسخط على نفسه وعلى القدر، ولله در القائل:
وَعاجزُ الرَّأيِ مِضياعٌ لفرصته *** حَتى إِذا فات أمرٌ عاتب القَدَرا
وقد أرشد الشرع إلى بعض الطرق لعلاج هذه الآفة، ومن ذلك إرشاده إلى ضرورة اغتنام الوقت قبل فواته، فقد روى الحاكم في المستدرك من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اغتنم خمسًا قبل خمس، ذكر منها: وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك)[6].
وقال عليه السلام ناصحًا أمته ومحذرًا من العجز بقوله: (احرص على ما ينفعك ولا تعجز)[7]، فالعجز يحث على إضاعة الوقت وترك ما ينفع، كما حثنا ديننا الحنيف على تذكُّر الموت والحساب، من أجل أن يكون المؤمن شديد الحرص على وقته؛ قال عليه الصلاة والسلام: (أكثروا من ذكر هادم اللَّذات)[8]، وقال أيضًا: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه...)[9].
وليحرص المؤمن على الصحبة الصالحة، ففي ذلك خير كثير، كالتذاكر والتناصح، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عصمته يأمره سبحانه بأن يصبر نفسه مع المؤمنين، وأن يجانب الغافلين عن ذكره بقوله: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
وعلى المؤمن أن يلاحظ المفاسد الحاصلة والمصالح التالفة بسبب إضاعة الوقت، وليتفقه في الدين، وليقرأ في سير السلف الصالح وشدة عنايتهم بحفظ الوقت، وسيجد العجب العجاب في هذا الباب، ومما يدل على ذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخُذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك)[10].
بل كانوا لا يتركون وقتًا إلا ويصرفونه في طاعة الله تعالى، قال معاذ رضي الله عنه: (أما أنا، فأنام وأقوم فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي)[11]، وهذا الحسن البصري يقول: (أدركتُ أقوامًا كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه وديناره)[12].
وقال ابن الجوزي رحمه الله: (ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل)[13].
قال الشاعر:
وَالوقت أنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحفظه *** وَأراه أسهلُ ما عليك يضيعُ
وقال الآخر:
وما ماضي الشبابِ بمستردٍّ *** ولا يوم يمرُّ بِمُستعادِ
فما أحوجَ الأمة اليوم إلى إدراك قيمة الوقت، فإن ذلك باعث إن شاء الله على الجد والاجتهاد، والسير حثيثًا نحو الفلاح في الدنيا والآخرة!
[1] الفوائد، ص 48، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الثانية، 1393 هـ.
[2] أخرجه البخاري، باب لا عيش إلا عيش الآخرة، برقم 6412.
[3] شرح صحيح البخاري لابن بطال 10/ 146 و147، مكتبة الرشد الطبعة الثانية 1423هـ.
[4] الجامع لأحكام القرآن: 16/ 249.
[5] الفوائد ص31
[6] أخرجه الحاكم في المستدرك (5/ 435)، وصحَّحه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 244) برقم (1077).
[7] أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز، رقم 2664.
[8] رواه الترمذي برقم 2307 والنسائي برقم 1824، وقال النووي في المجموع (105/5): رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة كلها على شرط البخاري ومسلم، وقال الألباني في صحيح ابن ماجه: حسن صحيح.
[9] أخرجه الترمذي، باب في القيامة، رقم 2417، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[10] أخرجه البخاري، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، رقم 6416.
[11] أخرجه البخاري، برقم 4344
[12] أخرجه ابن أبي الدنيا في العمر والشيب، ص 81، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1412
[13] صيد الخاطر، ص 31، دار القلم - دمشق، الطبعة الأولى، 1425هـ.