مقدمة في الفقه - فقه الإمام الشافعي [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا في ترجمة إمامنا سيدنا أبي عبد الله الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقلت: سنتدارس ترجمته ضمن أربعة أمور عليها تدور تراجم أئمتنا الأربعة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، أولها: فيما يتعلق بنسبه وجده في طلبه، وثانيها: في ثناء العلماء عليه، وثالثها: في فقهه، ورابعها: في عبادته لربه سبحانه وتعالى.

كنا نتدارس الأمر الثالث من هذه الأمور الأربعة في ترجمة هذا الإمام الثالث المبارك من الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين، وقلت: لن أتكلم على طريقته الفقهية، فالطريقة بينهم مشتركة رضوان الله عليهم أجمعين، إنما سأذكر بعض أقواله الفقهية، وبعض توجيهاته العلية التي تدل على ثاقب رأيه، وحسن نظره، وقوة بصيرته رضي الله عنه وأرضاه، ذكرت شيئاً من ذلك فيما تقدم، ومما ذكرته يدل على وعيه، وتعظيمه لنبينا عليه صلوات الله وسلامه، أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقلت: هذا هو قول الفقهاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا -إخوتي الكرام- لابد من أن نعيه، وهذا الكلام ينبغي أن يُقيد بقيدين اثنين لئلا نخطئ في فهم كلام أئمتنا.

هذا الكلام وُجه إلى من عنده أهلية البحث والفهم والاستنباط، الأمر الثاني: لابد أن يكون من وُجدت فيه تلك الأهلية أنه قرأ كتب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، وكتب أصحابه، واطلع على أدلتهم، فإذا ظهر له بعد ذلك أن الحديث الذي وقف عليه ما تعرضوا له في كتبهم، فله أن يأخذ به، بل وله أن ينسبه إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، أي: أن ينسب القول به، وأما إذا تعرض له الإمام أو أصحابه، فلا يجوز أن ينسب إلى المذهب خلاف ما قرروه كما تقدم معنا إيضاح هذا حول حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم)، فلا يصح أن ينسب إلى الشافعي رضي الله عنه وأرضاه أنه يقول بهذا الحديث الشريف، وتقدم معنا أنه منسوخ.

إخوتي الكرام! عند هذا المبحث قبل أن أنتقل إلى بعض أقواله الجديدة التي لم يتقدم لها ذكر من أقواله الفقهية، وكما قلت نظراته العلية قبل هذا، حول هذا الأمر هناك أحكام كثيرة علَّق الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه القول بها على ثبوت الأحاديث عن نبينا عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، أحكام كثيرة تعرض لها وقال: إن ثبت حديث كذا فيها فأنا أقول به، وما بلغني هذا الحديث من وجه يثبت، هذا قاله في عدد من الأحكام، سأذكر في هذه الموعظة حكماً واحداً علق الإمام الشافعي القول به على ثبوت الحديث، فجاء أئمة الشافعية وقالوا: إن الحديث ثبت، وعليه فمذهب الشافعي هو ما علق عليه الإمام الشافعي القول به، أي: بهذا الحديث، والحديث ثابت.

والإمام ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه توالي التأسيس في مناقب سيدنا الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس في صفحة تسع ومائة، قال: جمعت كتاباً سميته المنحة فيما علق الإمام الشافعي القول فيه على الصحة، قال: أرجو من الله تيسير تكملته بعونه وقوته. وما عندي خبر عن الكتاب، هل أكمله الإمام ابن حجر؟ وهل إذا أكمله طُبع أو لا زال مخطوطاً أو مفقوداً؟ لا علم لي بهذا الكتاب على الإطلاق، لكنه كتاب مبارك لو وُجد، المنحة فيما علق الإمام الشافعي القول فيه على الصحة، إذا ثبت الحديث وصح فأنا أقول به.

تعليق الإمام الشافعي القول في مسألة المرأة إذا مات زوجها قبل الدخول وقبل تسمية المهر على ثبوت الحديث

كما قلت: سأذكر مثالاً واحداً لنرى ديانة أئمتنا وورعهم رضي الله عنهم وأرضاهم، مسألة: المرأة إذا عُقد عليها عقد النكاح، ومات عنها زوجها قبل أن يدخل بها، ولم يسم لها مهراً، عقد عليها الزوج عقداً شرعياً صحيحاً وما سمى لها مهراً، ثم مات قبل أن يبني بها أو يدخل بها، فما الحكم؟

قال الإمام الشافعي في الأم، كما في السنن الكبرى للإمام البيهقي وفي التلخيص الحبير في الجزء الثالث صفحة ست عشرة ومائتين، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: قد رُوي عن النبي عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي -هذا كلام سيدنا الإمام الشافعي - أنه قضى في بروع بنت واشق -وهي صحابية- وقد نُكحت بغير مهر فمات زوجها، قضى بمهر نسائها، أن لها مهراً مثل نسائها، وقضى لها بالميراث. هذا كلام الإمام الشافعي ، يقول: رُوي هذا الحديث عن النبي عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قضى في بروع بنت واشق التي عُقد عليها عقداً صحيحاً، وما دخل الزوج بها، ومات قبل أن يبني بها ولم يسم لها مهراً، قضى نبينا عليه الصلاة والسلام بأن لها مهر المثل وعليها العدة، قال الإمام الشافعي: فإن كان يثبت الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فهو أولى الأمور بنا، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كبُر. أي: هذا المخالف مهما كان شأنه، لا قيمة لقوله إذا خالف حديث النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، قال الشافعي : ولم أحفظه من وجه يثبت مثله. ما حفظت هذا الحديث من وجه ثابت لأقول به، ولأقول: إن المرأة إذا مات عنها زوجها ولم يسم لها مهراً وعقد عليها فلها مهر المثل، لم أحفظه من وجه يثبت مثله، فإن ثبت فلا حجة لقول أحد، الحجة لكلام نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن هذا الحديث ما صح عندي من وجه يثبت.

ثبوت حديث قضاء رسول الله في بروع بنت واشق بأن لها مهر المثل والميراث وقد مات عنها زوجها قبل الدخول وقبل تسمية المهر

قال الحاكم في المستدرك في الجزء الثاني صفحة ثمانين ومائة: سمعت شيخنا أبا عبد الله ، وهو الإمام محمد بن يعقوب أبو عبد الله الأخرم ، توفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة للهجرة، قال: لو أدركت الإمام الشافعي لقمت على رءوس الناس وناديت بأعلى صوتي: يا إمام! قد صح الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في بروع بنت واشق فقل به. يقول: أنا لو أدركت الإمام الشافعي لأخبرته أن الحديث مروي عندنا من طرق ثابتة صحيحة ثبوت الشمس في رابعة النهار، لو أدركته لقمت على رءوس الناس وهو في المجلس وقلت: يا إمام! قد صح الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فقل به.

الإمام أبو عبد الله الأخرم إمام مبارك من أهل الخير والهدى والرشاد، انظروا ترجمته العطرة الطيبة في السير في الجزء الخامس عشر صفحة ست وستين وأربعمائة، وقد ألَّف مستخرجاً على صحيح مسلم ، وبعد ذلك ندم، وقال: نحن ينبغي أن نكثر في عدد الصحيح لا أن نختصره، رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا.

هذا القول الذي علَّق الشافعي القول به على ثبوت الحديث وقال: إن ثبت فأنا أقول به، استمع ماذا يقول الإمام النووي في منهاج الطالبين، وكما في السراج الوهاج شرح المنهاج للإمام النووي ، والمنهاج متن للإمام النووي في الفقه الشافعي، والسراج الوهاج شرحه، وأنا سأنقل كلام الإمام النووي في متن المنهاج ومعه السراج الوهاج في شرح المنهاج صفحة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، يقول الإمام النووي في المنهاج: إن مات أحدهما -أحد الزوجين- قبلهما. أي: قبل الفرض وقبل الوطء؛ لأنه لو فُرض المهر ثم مات أحد الزوجين ثبت المهر بالإجماع، هذا لا إشكال فيه، يعني: لو سمى للزوجة مهراً ثم ماتت يجب أن يدفع هذا المهر لورثتها، وهو يرث منه النصف، لكن هذا مهر استُحق في ذمته، وإذا سمى لها مهراً ومات هو، وما اتصل بها ولا دخل بها، إنما العقد كُتب، فلها المهر كاملاً، وعليها العدة ولها الميراث، هذا متفق عليه، إذا سمى المهر، والأمر الثاني: إذا حصل الوطء الدخول، إذاً بأحد هذين الأمرين يُستحق المهر كاملاً، والصورة الثالثة إذا مات ولم يسم مهراً.

قال: إن مات أحدهما قبلهما -قبل الفرض والوطء- لم يجب مهر مثل في الأظهر، قلت -القائل هو شيخ الإسلام الإمام النووي عليه رحمة الله-: الأظهر وجوبه والله أعلم. وسيأتينا أن هذا هو المعتمد عند السادة الشافعية، أنه يجب مهر المثل لحديث بروع بنت واشق .

والحديث -إخوتي الكرام- صحيح رواه الإمام أحمد في المسند، وأهل السنن الأربعة، ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وصححه وأقره عليه الذهبي ، وانظروه في المستدرك في المكان الذي حددته آنفاً في الجزء الثاني صفحة ثمانين ومائة، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، والإمام ابن أبي شيبة في مصنفه، ورواه الإمام ابن حزم بسنده في المحلى وقال: هذا حديث لا مغنز فيه لصحة إسناده، وانظروا الكلام عليه في قرابة صفحة ونصف في التلخيص الحبير لشيخ الإسلام الإمام ابن حجر عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه في الجزء الثالث صفحة ست عشرة ومائتين.

والحديث عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، أنه عندما كان في بلاد الكوفة عُرضت عليه هذه المسألة، امرأة عُقد عليها العقد ولم يسمَّ لها المهر، ومات زوجها قبل أن يدخل بها، فما الحكم في ذلك؟ من ناحية المهر، ومن ناحية العدة، ومن ناحية الميراث؟ فقال: ما عُرضت علي مسألة أشد من هذه المسألة بعد أن فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه مسألة صعبة شديدة، ما قابلني أشد منها ولا أصعب، فأمهلوني وأنظروني حتى أتأمل، فأمهلوه، ثم راجعوه بعد فترة، فقال: سلوا غيري، قالوا: من نسأل وأنت صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذا المكان، ولا يوجد أحد أعلم منك؟ قال: أمهلوني، حتى مضى شهر كامل، فقال سيدنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: أجتهد فيها برأيي، أنا ليس عندي نص عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة، لكن عندنا نحن أصول عامة وضوابط شرعية للتفقه في دين رب البرية، فأنا أقول حسب الأصول الشرعية، أجتهد فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله من ذلك بريئان، ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: لها مهر مثلها لا وَكْسَ ولا شطط، لا وكس يعني: لا نقص، مهر مثلها عشرة آلاف ما تعطوها تسعة آلاف، ولا شطط: ولا زيادة، فانظروا مثيلاتها من أقاربها ممن هم في سنها وجمالها ونسبها، لها مهر مثلها، لا وَكْسَ (نقص)، ولا شطط (زيادة) وعليها العدة، ولها الميراث.

فلما قضى بهذا القضاء قام بعض الصحابة الكرام، وكان حاضراً عند قضاء سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين بعد المحاورة التي استمرت شهراً، وهو معقل بن سنان الأشجعي ، قال: يا أبا عبد الرحمن ! حضرت النبي عليه الصلاة والسلام وقد قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت، فما فرح عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بشيء كفرحه بإصابة قضائه لقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: لها مهر مثلها، وعليها العدة، ولها الميراث، قضى نبينا عليه الصلاة والسلام في بروع بنت واشق بذلك، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قضى بذلك اجتهاداً، ووافق اجتهاده حديث نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

ذكر الخلاف في حكم المرأة إذا مات عنها زوجها قبل الدخول بها وقبل تسمية المهر

المذاهب الأربعة في هذه المسألة على ثلاثة أقوال، أسعدهم بالإصابة رضي الله عنهم وأرضاهم مذهب السادة الحنفية، عندهم هذا القول هو المقرر، قالوا: إذا عقد عليها ولم يدخل بها ومات عنها فلها ما في حديث بروع بنت واشق ، لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، قالوا: هذا نص لا يقدم عليه شيء، ومن ناحية القياس قالوا أيضاً: القياس يدل على هذا، ووجه ذلك عندهم بأن قالوا: نقيس الموت على الوطء في تقرير المسمى، فكذا في إيجاب مهر المثل.

إخوتي الكرام! لو سُمي المهر فحكم الموت كحكم الوطء، إذا سُمي المهر ووطأها فلها المهر المسمى، وإذا سُمي المهر ومات عنها فلها المهر المسمى، هذه صور متفق عليها، إذا سُمي المهر ومات عنها فلها المهر المسمى قل أو كثر، ما لنا علاقة الآن بأمثالها، لو سمى لها مائة ألف، ومهر مثيلاتها عشرة آلاف ثم مات فلها مائة ألف، فكما أن الموت كالوطء إذا كان المهر مسمى، فكذلك الموت كالوطء في تقرير مهر المثل، امرأة لم يسمَّ لها مهر ودخل بها زوجها، فلها مهر المثل، كذلك امرأة لم يسمَّ لها مهر ومات عنها زوجها فلها مهر المثل.

فقالوا: نقيس الموت على الوطء، كما أن الموت مثل الوطء في تقرير المسمى، فالموت يساوي الوطء في إيجاب مهر المثل إذا لم يكن هناك مهر مسمى، وما أسد هذا القياس وما أجمله! إذاً عندهم نص وقياس.

وقال المالكية: لا يجب لها شيء مطلقاً، إن مات عنها زوجها قبل أن يسمي لها مهراً وعقد عليها فليس لها شيء، قالوا: لأنها فُرقة على تفويض صحيح قبل فرض ومسيس، فلم يجب لها مهر، قالوا: لأنها كفرقة الطلاق، فإذا طلقها قبل أن يسمي لها مهراً، وقبل أن يدخل بها، فليس لها شيء، قال تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:236-237].

الشاهد: إن طلق قبل أن يسمي لها مهراً، وقبل أن يدخل بها فلا شيء لها، وإن طلق قبل أن يدخل بها وقد سمى لها مهراً، فلها نصف المسمى، هذا بالاتفاق أيضاً بين المذاهب الأربعة، فقالوا: هنا فرقة وقعت من غير مسيس، فتقاس على فرقة الطلاق؛ لأنها مفوضة لم يسمَّ لها مهر، فكما أنه لا يجب لها بالطلاق نصف مهر المثل، لا يجب لها بالموت شيء على الإطلاق، هذا قول المالكية.

وقولهم -إخوتي الكرام- مع قوته بالقياس أيضاً سديد، لكنه مقابل بقياس الحنفية، فهما قياسان كل منهما قوي، أولئك قالوا: نقيس الموت على الوطء في إيجاب مهر المثل كما استويا في تقرير المسمى، وهؤلاء قالوا: نقيس الموت على الطلاق قبل الوطء، فكما أنه إن طلق قبل الدخول ليس لها شيء لأنه لم يسم لها مهراً، فكذلك إن مات عنها قبل الدخول فليس لها شيء؛ لأنه لم يسم لها مهراً، كل من القياسين سديد، فنقول: تقابلا فدعونا الآن من القياس، هذا يعارض هذا، عندنا نص، والحنفية أسعد بالنص منكم، هذه ناحية، ناحية ثانية: لا قياس مع وجود النص، المالكية عندهم عذر في عدم الأخذ بهذا الحديث يغفر الله لنا ولهم، قالوا: هذا الحديث ليس له أصل في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، والحديث إذا لم يكن له أصل في المدينة فلا يُؤخذ به عندهم.

قال الإمام الواقدي : هذا الحديث حُمل من الكوفة إلى المدينة، وأخبار أهل الكوفة كأخبار أهل الكتاب! هكذا يقول يغفر الله لنا وله، والإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه النافع رفع الملام عن الأئمة الأعلام في صفحة تسع وعشرين، ذكر أن أكثر أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه لا يحتجون بالحديث إذا لم يكن له أصل في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

والإمام الشافعي هو الذي جاء بعد ذلك وحث المسلمين على الاستدلال بالحديث كيفما كان مخرجه، شامياً أو بصرياً أو كوفياً أو مدنياً أو مكياً، حديث النبي عليه الصلاة والسلام يستدل به كيفما كان مخرجه؛ لأن الصحابة تفرقوا في الأمصار، فالذين ذهبوا إلى بلاد الشام رووا أحاديث قد تخفى بعض تلك الأحاديث على من استوطن المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

إذاً هذا القول الثاني، ولا يخفى عليكم -إخوتي الكرام- أنه قول مرجوح مع وجاهة علة من قال به من ناحية القياس، لأن الحديث إذا ثبت فهو حجة بنفسه.

أما المذهبان الآخران: مذهب الإمام الشافعي وتلميذه الإمام أحمد رضوان الله عليهم أجمعين فلهما قولان في هذه المسألة:

القول الأول كقول أبي حنيفة ، وهو المعتمد في المذهبين عند الحنابلة وعند الشافعية، أن لها مهر المثل في هذه القضية، وقول ثانٍ في منتهى الغرابة، قالوا: لها نصف مهر المثل! وانظروا تفصيل المسألة في كتاب المغني للإمام ابن قدامة في الجزء الثامن صفحة ثمان وخمسين.

إخوتي الكرام! الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه كما قلت: علق القول بهذا الحديث على ثبوته، قال: إن ثبت أقول به، وإذا ثبت الحديث فليس لأحد كلام مع النبي عليه الصلاة والسلام، وقلت: إن الحافظ ابن حجر رضي الله عنه ألف كتابه العظيم المنحة فيما علق الشافعي القول فيه على الصحة، رضي الله عنهم وأرضاهم.

هذا -إخوتي الكرام- من باب صلة هذا المبحث بما سبق: إذا صح الحديث فهو مذهبي، أحياناً كان الإمام الشافعي تبلغه بعض الأحاديث من وجه لا يثبت، فيعلق القول بها على صحته، وجاء حتماً محققو المذهب بعد ذلك وقالوا: ثبتت عندنا، وتقدم معنا كلام محقق المذهب وشيخ الشافعية في زمنه الإمام النووي رضي الله عنهم أجمعين: قلت: الأظهر وجوبه، أي: وجوب مهر المثل، وهو المعتمد عند الحنابلة أيضاً، وعليه فلا خلاف في هذه المسألة إلا للسادة المالكية رضوان الله عليهم أجمعين.

كما قلت: سأذكر مثالاً واحداً لنرى ديانة أئمتنا وورعهم رضي الله عنهم وأرضاهم، مسألة: المرأة إذا عُقد عليها عقد النكاح، ومات عنها زوجها قبل أن يدخل بها، ولم يسم لها مهراً، عقد عليها الزوج عقداً شرعياً صحيحاً وما سمى لها مهراً، ثم مات قبل أن يبني بها أو يدخل بها، فما الحكم؟

قال الإمام الشافعي في الأم، كما في السنن الكبرى للإمام البيهقي وفي التلخيص الحبير في الجزء الثالث صفحة ست عشرة ومائتين، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: قد رُوي عن النبي عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي -هذا كلام سيدنا الإمام الشافعي - أنه قضى في بروع بنت واشق -وهي صحابية- وقد نُكحت بغير مهر فمات زوجها، قضى بمهر نسائها، أن لها مهراً مثل نسائها، وقضى لها بالميراث. هذا كلام الإمام الشافعي ، يقول: رُوي هذا الحديث عن النبي عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قضى في بروع بنت واشق التي عُقد عليها عقداً صحيحاً، وما دخل الزوج بها، ومات قبل أن يبني بها ولم يسم لها مهراً، قضى نبينا عليه الصلاة والسلام بأن لها مهر المثل وعليها العدة، قال الإمام الشافعي: فإن كان يثبت الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فهو أولى الأمور بنا، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كبُر. أي: هذا المخالف مهما كان شأنه، لا قيمة لقوله إذا خالف حديث النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، قال الشافعي : ولم أحفظه من وجه يثبت مثله. ما حفظت هذا الحديث من وجه ثابت لأقول به، ولأقول: إن المرأة إذا مات عنها زوجها ولم يسم لها مهراً وعقد عليها فلها مهر المثل، لم أحفظه من وجه يثبت مثله، فإن ثبت فلا حجة لقول أحد، الحجة لكلام نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن هذا الحديث ما صح عندي من وجه يثبت.

قال الحاكم في المستدرك في الجزء الثاني صفحة ثمانين ومائة: سمعت شيخنا أبا عبد الله ، وهو الإمام محمد بن يعقوب أبو عبد الله الأخرم ، توفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة للهجرة، قال: لو أدركت الإمام الشافعي لقمت على رءوس الناس وناديت بأعلى صوتي: يا إمام! قد صح الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في بروع بنت واشق فقل به. يقول: أنا لو أدركت الإمام الشافعي لأخبرته أن الحديث مروي عندنا من طرق ثابتة صحيحة ثبوت الشمس في رابعة النهار، لو أدركته لقمت على رءوس الناس وهو في المجلس وقلت: يا إمام! قد صح الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فقل به.

الإمام أبو عبد الله الأخرم إمام مبارك من أهل الخير والهدى والرشاد، انظروا ترجمته العطرة الطيبة في السير في الجزء الخامس عشر صفحة ست وستين وأربعمائة، وقد ألَّف مستخرجاً على صحيح مسلم ، وبعد ذلك ندم، وقال: نحن ينبغي أن نكثر في عدد الصحيح لا أن نختصره، رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا.

هذا القول الذي علَّق الشافعي القول به على ثبوت الحديث وقال: إن ثبت فأنا أقول به، استمع ماذا يقول الإمام النووي في منهاج الطالبين، وكما في السراج الوهاج شرح المنهاج للإمام النووي ، والمنهاج متن للإمام النووي في الفقه الشافعي، والسراج الوهاج شرحه، وأنا سأنقل كلام الإمام النووي في متن المنهاج ومعه السراج الوهاج في شرح المنهاج صفحة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، يقول الإمام النووي في المنهاج: إن مات أحدهما -أحد الزوجين- قبلهما. أي: قبل الفرض وقبل الوطء؛ لأنه لو فُرض المهر ثم مات أحد الزوجين ثبت المهر بالإجماع، هذا لا إشكال فيه، يعني: لو سمى للزوجة مهراً ثم ماتت يجب أن يدفع هذا المهر لورثتها، وهو يرث منه النصف، لكن هذا مهر استُحق في ذمته، وإذا سمى لها مهراً ومات هو، وما اتصل بها ولا دخل بها، إنما العقد كُتب، فلها المهر كاملاً، وعليها العدة ولها الميراث، هذا متفق عليه، إذا سمى المهر، والأمر الثاني: إذا حصل الوطء الدخول، إذاً بأحد هذين الأمرين يُستحق المهر كاملاً، والصورة الثالثة إذا مات ولم يسم مهراً.

قال: إن مات أحدهما قبلهما -قبل الفرض والوطء- لم يجب مهر مثل في الأظهر، قلت -القائل هو شيخ الإسلام الإمام النووي عليه رحمة الله-: الأظهر وجوبه والله أعلم. وسيأتينا أن هذا هو المعتمد عند السادة الشافعية، أنه يجب مهر المثل لحديث بروع بنت واشق .

والحديث -إخوتي الكرام- صحيح رواه الإمام أحمد في المسند، وأهل السنن الأربعة، ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وصححه وأقره عليه الذهبي ، وانظروه في المستدرك في المكان الذي حددته آنفاً في الجزء الثاني صفحة ثمانين ومائة، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، والإمام ابن أبي شيبة في مصنفه، ورواه الإمام ابن حزم بسنده في المحلى وقال: هذا حديث لا مغنز فيه لصحة إسناده، وانظروا الكلام عليه في قرابة صفحة ونصف في التلخيص الحبير لشيخ الإسلام الإمام ابن حجر عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه في الجزء الثالث صفحة ست عشرة ومائتين.

والحديث عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، أنه عندما كان في بلاد الكوفة عُرضت عليه هذه المسألة، امرأة عُقد عليها العقد ولم يسمَّ لها المهر، ومات زوجها قبل أن يدخل بها، فما الحكم في ذلك؟ من ناحية المهر، ومن ناحية العدة، ومن ناحية الميراث؟ فقال: ما عُرضت علي مسألة أشد من هذه المسألة بعد أن فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه مسألة صعبة شديدة، ما قابلني أشد منها ولا أصعب، فأمهلوني وأنظروني حتى أتأمل، فأمهلوه، ثم راجعوه بعد فترة، فقال: سلوا غيري، قالوا: من نسأل وأنت صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذا المكان، ولا يوجد أحد أعلم منك؟ قال: أمهلوني، حتى مضى شهر كامل، فقال سيدنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: أجتهد فيها برأيي، أنا ليس عندي نص عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة، لكن عندنا نحن أصول عامة وضوابط شرعية للتفقه في دين رب البرية، فأنا أقول حسب الأصول الشرعية، أجتهد فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله من ذلك بريئان، ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: لها مهر مثلها لا وَكْسَ ولا شطط، لا وكس يعني: لا نقص، مهر مثلها عشرة آلاف ما تعطوها تسعة آلاف، ولا شطط: ولا زيادة، فانظروا مثيلاتها من أقاربها ممن هم في سنها وجمالها ونسبها، لها مهر مثلها، لا وَكْسَ (نقص)، ولا شطط (زيادة) وعليها العدة، ولها الميراث.

فلما قضى بهذا القضاء قام بعض الصحابة الكرام، وكان حاضراً عند قضاء سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين بعد المحاورة التي استمرت شهراً، وهو معقل بن سنان الأشجعي ، قال: يا أبا عبد الرحمن ! حضرت النبي عليه الصلاة والسلام وقد قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت، فما فرح عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بشيء كفرحه بإصابة قضائه لقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: لها مهر مثلها، وعليها العدة، ولها الميراث، قضى نبينا عليه الصلاة والسلام في بروع بنت واشق بذلك، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قضى بذلك اجتهاداً، ووافق اجتهاده حديث نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

المذاهب الأربعة في هذه المسألة على ثلاثة أقوال، أسعدهم بالإصابة رضي الله عنهم وأرضاهم مذهب السادة الحنفية، عندهم هذا القول هو المقرر، قالوا: إذا عقد عليها ولم يدخل بها ومات عنها فلها ما في حديث بروع بنت واشق ، لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، قالوا: هذا نص لا يقدم عليه شيء، ومن ناحية القياس قالوا أيضاً: القياس يدل على هذا، ووجه ذلك عندهم بأن قالوا: نقيس الموت على الوطء في تقرير المسمى، فكذا في إيجاب مهر المثل.

إخوتي الكرام! لو سُمي المهر فحكم الموت كحكم الوطء، إذا سُمي المهر ووطأها فلها المهر المسمى، وإذا سُمي المهر ومات عنها فلها المهر المسمى، هذه صور متفق عليها، إذا سُمي المهر ومات عنها فلها المهر المسمى قل أو كثر، ما لنا علاقة الآن بأمثالها، لو سمى لها مائة ألف، ومهر مثيلاتها عشرة آلاف ثم مات فلها مائة ألف، فكما أن الموت كالوطء إذا كان المهر مسمى، فكذلك الموت كالوطء في تقرير مهر المثل، امرأة لم يسمَّ لها مهر ودخل بها زوجها، فلها مهر المثل، كذلك امرأة لم يسمَّ لها مهر ومات عنها زوجها فلها مهر المثل.

فقالوا: نقيس الموت على الوطء، كما أن الموت مثل الوطء في تقرير المسمى، فالموت يساوي الوطء في إيجاب مهر المثل إذا لم يكن هناك مهر مسمى، وما أسد هذا القياس وما أجمله! إذاً عندهم نص وقياس.

وقال المالكية: لا يجب لها شيء مطلقاً، إن مات عنها زوجها قبل أن يسمي لها مهراً وعقد عليها فليس لها شيء، قالوا: لأنها فُرقة على تفويض صحيح قبل فرض ومسيس، فلم يجب لها مهر، قالوا: لأنها كفرقة الطلاق، فإذا طلقها قبل أن يسمي لها مهراً، وقبل أن يدخل بها، فليس لها شيء، قال تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:236-237].

الشاهد: إن طلق قبل أن يسمي لها مهراً، وقبل أن يدخل بها فلا شيء لها، وإن طلق قبل أن يدخل بها وقد سمى لها مهراً، فلها نصف المسمى، هذا بالاتفاق أيضاً بين المذاهب الأربعة، فقالوا: هنا فرقة وقعت من غير مسيس، فتقاس على فرقة الطلاق؛ لأنها مفوضة لم يسمَّ لها مهر، فكما أنه لا يجب لها بالطلاق نصف مهر المثل، لا يجب لها بالموت شيء على الإطلاق، هذا قول المالكية.

وقولهم -إخوتي الكرام- مع قوته بالقياس أيضاً سديد، لكنه مقابل بقياس الحنفية، فهما قياسان كل منهما قوي، أولئك قالوا: نقيس الموت على الوطء في إيجاب مهر المثل كما استويا في تقرير المسمى، وهؤلاء قالوا: نقيس الموت على الطلاق قبل الوطء، فكما أنه إن طلق قبل الدخول ليس لها شيء لأنه لم يسم لها مهراً، فكذلك إن مات عنها قبل الدخول فليس لها شيء؛ لأنه لم يسم لها مهراً، كل من القياسين سديد، فنقول: تقابلا فدعونا الآن من القياس، هذا يعارض هذا، عندنا نص، والحنفية أسعد بالنص منكم، هذه ناحية، ناحية ثانية: لا قياس مع وجود النص، المالكية عندهم عذر في عدم الأخذ بهذا الحديث يغفر الله لنا ولهم، قالوا: هذا الحديث ليس له أصل في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، والحديث إذا لم يكن له أصل في المدينة فلا يُؤخذ به عندهم.

قال الإمام الواقدي : هذا الحديث حُمل من الكوفة إلى المدينة، وأخبار أهل الكوفة كأخبار أهل الكتاب! هكذا يقول يغفر الله لنا وله، والإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه النافع رفع الملام عن الأئمة الأعلام في صفحة تسع وعشرين، ذكر أن أكثر أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه لا يحتجون بالحديث إذا لم يكن له أصل في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

والإمام الشافعي هو الذي جاء بعد ذلك وحث المسلمين على الاستدلال بالحديث كيفما كان مخرجه، شامياً أو بصرياً أو كوفياً أو مدنياً أو مكياً، حديث النبي عليه الصلاة والسلام يستدل به كيفما كان مخرجه؛ لأن الصحابة تفرقوا في الأمصار، فالذين ذهبوا إلى بلاد الشام رووا أحاديث قد تخفى بعض تلك الأحاديث على من استوطن المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

إذاً هذا القول الثاني، ولا يخفى عليكم -إخوتي الكرام- أنه قول مرجوح مع وجاهة علة من قال به من ناحية القياس، لأن الحديث إذا ثبت فهو حجة بنفسه.

أما المذهبان الآخران: مذهب الإمام الشافعي وتلميذه الإمام أحمد رضوان الله عليهم أجمعين فلهما قولان في هذه المسألة:

القول الأول كقول أبي حنيفة ، وهو المعتمد في المذهبين عند الحنابلة وعند الشافعية، أن لها مهر المثل في هذه القضية، وقول ثانٍ في منتهى الغرابة، قالوا: لها نصف مهر المثل! وانظروا تفصيل المسألة في كتاب المغني للإمام ابن قدامة في الجزء الثامن صفحة ثمان وخمسين.

إخوتي الكرام! الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه كما قلت: علق القول بهذا الحديث على ثبوته، قال: إن ثبت أقول به، وإذا ثبت الحديث فليس لأحد كلام مع النبي عليه الصلاة والسلام، وقلت: إن الحافظ ابن حجر رضي الله عنه ألف كتابه العظيم المنحة فيما علق الشافعي القول فيه على الصحة، رضي الله عنهم وأرضاهم.

هذا -إخوتي الكرام- من باب صلة هذا المبحث بما سبق: إذا صح الحديث فهو مذهبي، أحياناً كان الإمام الشافعي تبلغه بعض الأحاديث من وجه لا يثبت، فيعلق القول بها على صحته، وجاء حتماً محققو المذهب بعد ذلك وقالوا: ثبتت عندنا، وتقدم معنا كلام محقق المذهب وشيخ الشافعية في زمنه الإمام النووي رضي الله عنهم أجمعين: قلت: الأظهر وجوبه، أي: وجوب مهر المثل، وهو المعتمد عند الحنابلة أيضاً، وعليه فلا خلاف في هذه المسألة إلا للسادة المالكية رضوان الله عليهم أجمعين.

أعود إخوتي الكرام إلى شيء من أقوال هذا الإمام المبارك، قلت لكم: له كلام سديد في المُحدث، في المستحدث، في الجديد، فيما يُبتدع ويُخترع، قسمه إلى قسمين، وسائر أئمتنا على هذا التقسيم رضوان الله عليهم أجمعين، يقول كما في الحلية في ترجمته في الجزء التاسع صفحة ثلاث عشرة ومائة، وفي المدخل إلى السنن في صفحة ست ومائتين، وهو مجلد في حدود ثلاثمائة وخمسين صفحة، المدخل إلى السنن الكبرى، وفي مناقب الإمام الشافعي للإمام البيهقي ، كلاهما للإمام البيهقي ، وهذا القول نقله الحافظ في الفتح في الجزء الثالث عشر صفحة ثلاث وخمسين ومائتين، وهو في غير ذلك من الكتب، يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: المُحدَث ضربان:

محدث يخالف الكتاب والسنة. يخالف كتاباً وسنة، يخالف أثراً، يخالف إجماعاً، إذاً خالف واحداً من هذه الأمور الأربعة، قال: فهذا بدعة وضلالة، هذا المحدث بدعة، وهو ضلالة وزيغ وانحراف؛ لأنه عارض الكتاب السنة وآثار الصحابة وخالف الإجماع، قال: وهناك محدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، أمور خير لا خلاف فيها لواحد من هذا، لا لكتاب ولا لسنة ولا لإجماع ولا لآثار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، قال: فهذه بدعة غير مذمومة، كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه، وأثره في صحيح البخاري وموطأ الإمام مالك رضي الله عنهم أجمعين: (نعمت البدعة هذه)، في صلاة التراويح عندما جمع المسلمين على إمام واحد، فسماها بدعة لأنها شيء حادث جديد؛ لأنه لم يكن الهدي كذلك في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا في زمن خليفته سيدنا أبي بكر الصديق ، ولا في صدر خلافة سيدنا عمر رضي الله عنهم أجمعين، لكن لما كان الناس يصلون في زمنه أوزاعاً، وبعد ذلك كل جماعة يصلي بهم إمام، ويشوش بعضهم على بعض، قال: لو جمعناهم على قارئ.

صلاة الليل -إخوتي الكرام- قيام الليل قيام رمضان على وجه الخصوص مشروع في الإسلام، وحضنا عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وعليه لو صلوا فرادى أو صلوا جماعة، الأمر لا حرج فيه، فجمعهم هذا الخليفة الراشد رضي الله عنهم أجمعين على إمام واحد، فهذه كما قلت سُميت بدعة، لكنه أمر من أمور الخير تشهد له نصوص الشريعة، لا يخالف نصاً من كتاب أو سنة أو أثراً من آثار الصحابة أو إجماعاً، وهو خير وطاعة فلا حرج فيه.

ومثل هذا لا يحصى كما تقدم معنا: لو أن الإنسان أراد أن يقرأ القرآن في الطواف حول بيت الله الحرام، ما أُثر هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهل في ذلك حرج؟ هل خالف القرآن؟ هل خالف سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟ هل خالف آثار الصحابة؟ هل خالف الإجماع؟ هل أحد نهى عن قراءة القرآن في الطواف؟ لو ورد لقلنا: هذا محدث بدعة.

ذكر أمثلة على أشياء مستحدثة ولا تسمى بدعة

وكنت ذكرت -إخوتي الكرام- في تقرير هذه القاعدة أمثلة كثيرة ضمن مواعظ الجمعة، قلت: قراءة القرآن عند المقابر، بِغضِّ النظر عن وجود آثار فيها عن الصحابة الكرام، آثار بالجواز، وأنه نُقل هذا عن سيدنا عبد الله بن عمر كما هو في السنن الكبرى للإمام البيهقي بسند جيد: أنه أوصى، وكان يستحب أن يُقرأ عند الميت بفاتحة البقرة وخاتمتها، هذا ثابت كما قلت بسند جيد في السنن الكبرى للإمام البيهقي ، وبوَّب عليه في كتاب الجنائز: باب القراءة عند القبر، قلت: لو لم يرد أثر من الآثار بالجواز، فإن الأصل هو الجواز، إلا أن يقيم الإنسان دليلاً على المنع، نهيت أن تقرأ القرآن راكعاً ساجداً، نهيت أن تقرأ القرآن في الحمام، ما عدا هذا اقرأه في أي مكان إلا ما نهيت عنه، لو أن الإنسان أراد أن يقرأ القرآن في بستانه تحت الشجرة في طريقه، ما أحد يجرؤ على منعه، وإذا أراد أن يمنع فقد شرَّع، فهذا أمر من الخير يدخل فيه عمومات الأدلة، فأنت إذا كان عندك نص صريح صحيح ينهى عن هذه العبادة في هذا الوقت، فأنت على هدى، وإلا فأنت متعدٍ تريد أن تنصب نفسك مشرعاً، قراءة القرآن تُطلب من الإنسان، ولا يُمنع منها أحد من عباد الرحمن في أي وقت كان، إلا ما نُهي عنها في ذلك الوقت، وما عدا ذلك لا يُمنع.

وتقدم معنا كلام الإمام الشافعي ، يقول في الأم: لو قرءوا القرآن كله كان حسناً، يقول: لو قرءوا القرآن ختمة بكاملها بعد الدفن كان حسناً. وجاء بعض الناس بعد ذلك عندما نقل الإمام النووي رضي الله عنه وأرضاه هذا عن الإمام الشافعي في الأذكار، وفي المجموع وفي رياض الصالحين، علق على ذلك وقال: أين قال هذا الإمام الشافعي؟ قاله في الأم كما حددت سابقاً المصدر من الجزء والصفحة إذاً أنت ما اطلعت على كتابه، بعد ذلك تريد أن تعترض على من هو حجة في نقل أقوال الإمام الشافعي بلا نزاع! وأهل مكة أدرى بشعابها، إذا كان الإمام النووي رضي الله عنه وأرضاه لا يميز بين صحة وبطلان ما ينسب إلى الإمام الشافعي ، فمن الذي سيميز؟!

فعندما يقول الإمام النووي هذا، نحن لو لم يكن عندنا مصدر يؤكد كلامه، فمن السفاهة أن نعترض على قوله، فكيف وهناك كتب الإمام الشافعي تنص على هذا؟!

إذاً: النوع الأول: محدث يخالف كتاباً وسنة وأثراً وإجماعاً، فهذا بدعة ضلالة، وهو محرم ومذموم، والنوع الثاني: محدث من الخير لا يخالف شيئاً من ذلك فلا حرج فيه، وهو الذي يقول عنه أئمتنا: بدعة حسنة، أي: بدعة لغوية، تسمى بدعة في اللغة لا في الشرع، ففي الشرع عندنا تعريف البدعة: ما يعارض السنة، ويخالف الآثار، ويضادها، هذا مذموم في جميع الأحوال والأوقات، أما هذه فتسمى بدعة؛ لأنها شيء حادث، ما فُعل على هذه الكيفية في العصر الأول، فلا حرج فيه.

وتقدم معنا في موعظة الجمعة الماضية قول الإمام ابن حجر رضي الله عنه وأرضاه عند حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه وأرضاه: أنه لا مانع من إحداث ذكر في الصلاة وإن كان غير مشروع إذا لم يخالف المشروع، يعني لم يخالف الوارد، والصحابة كانوا يفعلون هذا في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وما قال لهم: هذا الفعل بدعة، وهذا خطأ، عندما أثنى أحدهم على الله: ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، في رواية الترمذي هذه الزيادة، فهذا أحدثها في الصلاة، ثم قال نبينا عليه الصلاة والسلام: من المتكلم؟ ثم لما كرر ثلاثاً قال: أنا، قال: ( لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً كلهم يبتدرونها أيهم يكتبها ).

إخوتي الكرام! هذا لابد من وعيه، المحدث على قسمين: محدث يضاد ويخالف ويعارض كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والآثار الثابتة الحسان عن الصحابة الكرام، وإجماع أهل الإسلام، هذا هو بدعة ضلالة، وعليه ما خرج عن ذلك فلا يقال: إنه بدعة ضلالة، وقلت مراراً: ما احتمله الدليل وقال به إمام جليل خرج عن كونه بدعة، مجتهد قال: لا حرج، أو استحب أن يختم القرآن عند الدفن، صحابي رضي الله عنه وأرضاه يوصي بذلك، يأتينا بعد ذلك واحد ويقول: وإن فعله الصحابي، فعل الصحابة ليس بحجة! يا عبد الله! دعك الآن من هذا الهذيان، لو لم يرد -كما قلت- في هذه المسألة أي أثر بالجواز، فكيف ستمنع؟ ما هو دليلك في المنع؟ كما قلت لكم دليله: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:70]، ولما صارت المناظرة قال: القرآن نزل للإنذار للأحياء، ما نزل للقراءة على الأموات.

إخوتي! هذا دليل أو هذا من الأباطيل؟! يا عبد الله! كلام الله الجليل لا دلالة فيه على هذا، وستحمل كلام الله ما لا يدل عليه، ستتلاعب بكلام الله، ينذر من كان حياً، قلت له: هل نبشر بالقرآن أم لا؟ ورد أيضاً أنه نزل القرآن للبشارة وللنذارة، هذه واحدة، أمر ثانٍ قلت له: أما يجوز أن نقرأه على المرضى لأجل أن يشفوا بإذن الله؟ قال: لا يجوز! قلت: يا عبد الله! أنت الآن خالفت القرآن وخالفت السنة: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وبعد ذلك الأحاديث المتواترة في الرقية الشرعية، فقال بعد ذلك.. بعد المناقشة والمناظرة والكلام، وهذا -كما قلت لكم- جرى في البقيع، قال: هذه بلادنا نفعل بها ما شئنا، ما أعجبك اذهب بعيداً، اخرج عني! قلت: يا عبد الله! كنا نتكلم في أدلة شرعية، ما بين سنة وبدعة، الآن أخرجتنا إلى الخصومة والمعاداة، وقد تدخل في دائرة الكفر، بلادنا وبلادكم اخرج عني، يا عبد الله! بيننا عقد الإخاء، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، كنا في مسألة نختلف هل هي جائزة أو بدعة؟ أخذتنا إلى ديوان آخر، فرفقاً بنفسك، واتق ربك.

فهذا -إخوتي الكرام- لابد من وعيه، كما أن الذي يقول بإباحة الشيء عليه أن يأتي بدليل يدخل في الأدلة العامة، وأمور الخير، فالذي يمنع ينبغي أن يأتي بدليل، هات دليلاً على المنع، وإلا ينبغي أن تسكت إذا كان هذا الفعل أمراً من أمور الخير، وهذا ما قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه.

مثال على البدعة المذمومة: الضرب بالطبول وآلات الملاهي عند الذكر

استمع للبدعة الضلالة بعد هذا مباشرة لتعلم أن أئمتنا يدرون ما يخرج من رءوسهم، في زمن الإمام أبي عبد الله الشافعي رضي الله عنه وأرضاه حدث ما حدث من مجون، وهذا المجون قام به أناس مختلفون منهم أهل العشق والفسق والهُيام الحرام، ومنهم صوفية يزعمون أنهم يعبدون الرحمن، فيغنون وينشدون ويرقصون، هل هذا الآن مباح؟ هل هو بدعة حسنة؟ هل هو أمر من أمور الخير؟

استمع ماذا سيقول الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، وأثره في الحلية، وفي مناقب الإمام الشافعي للبيهقي ، وفي آداب الشافعي ومناقبه أيضاً للإمام ابن أبي حاتم ، والأثر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإمام الخلاد ، وفي تلبيس إبليس، وغير ذلك من الكتب، وانظروه في السير في الجزء العاشر صفحة إحدى وتسعين، قال: خرجت من بغداد وخلَّفتُ فيها شيئاً أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن كلام الله الجليل. والتغبير: آلة يُغبِّرون بها يطبلون ويطرِّبون ويدقون ويزمرون، آلة أحدثوها، ينغمون فيها ويجتمعون على فسقهم، وهؤلاء على ذكرهم، وهذا ما يفعله الصوفية حتى في هذه الأيام، آلات لا تحصى من آلات الملاهي والحرام، يستعلمونها حتى في بيوت الرحمن باسم الذكر، وكل واحد على تعبيره سيذكر الله على مزاجه! لا يا عبد الله! وهذا يذكره بالناي وهذا بالدربكة وهذا بالمزيكا! لا يا عبد الله هذا ضلال، هذا الآن عارض الآثار في كيفية ذكر العزيز الغفار؛ لأن هذا صار شهوة وعبثاً ولعباً وباطلاً واستخفافاً بذكر الله عز وجل، يصدون به الناس عن القرآن.

خرجت من بغداد وخلَّفتُ فيها ورائي شيئاً أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن كلام الله الجليل، ويذكرون قصائد فيها ما فيها، ويقولون بعد ذلك: نحن نقصد الحضرة الإلهية في بلاد الشام، في هذه الأيام في المنارات حتى السحر يقوم المنشد لينشد، أما تستحي من الله تقول هذا الكلام؟ هذا يسمعه الإنسان بأذنيه!

فرشت لها خدي وطاء على الثرى فقالت لك البشرى بلثم لسانى

وهو حتماً ما يقصد معشوقة ولا أمراً محرماً على حسب تعبيره، يقول: نقصد الحضرة الإلهية، وأننا إذا تذللنا له وصلنا إليه! يا عبد الله! من الذي أذن لك أن تخاطب رب العالمين بهذه الألفاظ التي فيها منتهي قلة الأدب! ألفاظ الأنوثة، ثم بعد ذلك تلثم اللسان، وهل يجوز أن تخاطب الرحمن ذا الجلال والإكرام بهذا؟! ويقولون في مجالس الذكر وهذا سمعته بأذني:

سلبت ليلى وليلى مني العقل

وخذ إلى تكملة القصيدة، أناس يقولون: الله الله! يا عباد الله تقولون: سلبت ليلى وليلى ويقولون: نقصد بليلى رب العالمين! يا إخوتي! هذا حرام، هذا إجرام في الدين، كما قلت لابد من وضع الأمر في موضعه، هذه بدعة ضلالة.

أما قراءة الفاتحة فما أعلم كتاباً من كتب الفقه إلا ونص فيه على جواز قراءة القرآن عند القبور، وانظروا أي كتاب شئتم، في المغني فمن قبله ومن بعده.

يا إخوتي! لابد من نعي هذا الأمر، إذا قرأ الإنسان كلام الرحمن الذي عند قراءته تنزل السكينة والرحمة والخير والبركة، ودعا لهؤلاء، أي حرج في ذلك؟ أنت تقول بدعة؟ على رِسلك يا عبد الله! هل هذا كهذا؟ هذا محدث وهذا محدث؟ هذا محدث من أمر الخير، نُقل أو لم ينقل، هذا لا داعي لإقامة دليل على فعله بعينه، دخل في أمور الخير العامة، وأما ذاك فشر وينبغي أن نحذر منه، وأن نبتعد عنه.

وكنت ذكرت -إخوتي الكرام- في تقرير هذه القاعدة أمثلة كثيرة ضمن مواعظ الجمعة، قلت: قراءة القرآن عند المقابر، بِغضِّ النظر عن وجود آثار فيها عن الصحابة الكرام، آثار بالجواز، وأنه نُقل هذا عن سيدنا عبد الله بن عمر كما هو في السنن الكبرى للإمام البيهقي بسند جيد: أنه أوصى، وكان يستحب أن يُقرأ عند الميت بفاتحة البقرة وخاتمتها، هذا ثابت كما قلت بسند جيد في السنن الكبرى للإمام البيهقي ، وبوَّب عليه في كتاب الجنائز: باب القراءة عند القبر، قلت: لو لم يرد أثر من الآثار بالجواز، فإن الأصل هو الجواز، إلا أن يقيم الإنسان دليلاً على المنع، نهيت أن تقرأ القرآن راكعاً ساجداً، نهيت أن تقرأ القرآن في الحمام، ما عدا هذا اقرأه في أي مكان إلا ما نهيت عنه، لو أن الإنسان أراد أن يقرأ القرآن في بستانه تحت الشجرة في طريقه، ما أحد يجرؤ على منعه، وإذا أراد أن يمنع فقد شرَّع، فهذا أمر من الخير يدخل فيه عمومات الأدلة، فأنت إذا كان عندك نص صريح صحيح ينهى عن هذه العبادة في هذا الوقت، فأنت على هدى، وإلا فأنت متعدٍ تريد أن تنصب نفسك مشرعاً، قراءة القرآن تُطلب من الإنسان، ولا يُمنع منها أحد من عباد الرحمن في أي وقت كان، إلا ما نُهي عنها في ذلك الوقت، وما عدا ذلك لا يُمنع.

وتقدم معنا كلام الإمام الشافعي ، يقول في الأم: لو قرءوا القرآن كله كان حسناً، يقول: لو قرءوا القرآن ختمة بكاملها بعد الدفن كان حسناً. وجاء بعض الناس بعد ذلك عندما نقل الإمام النووي رضي الله عنه وأرضاه هذا عن الإمام الشافعي في الأذكار، وفي المجموع وفي رياض الصالحين، علق على ذلك وقال: أين قال هذا الإمام الشافعي؟ قاله في الأم كما حددت سابقاً المصدر من الجزء والصفحة إذاً أنت ما اطلعت على كتابه، بعد ذلك تريد أن تعترض على من هو حجة في نقل أقوال الإمام الشافعي بلا نزاع! وأهل مكة أدرى بشعابها، إذا كان الإمام النووي رضي الله عنه وأرضاه لا يميز بين صحة وبطلان ما ينسب إلى الإمام الشافعي ، فمن الذي سيميز؟!

فعندما يقول الإمام النووي هذا، نحن لو لم يكن عندنا مصدر يؤكد كلامه، فمن السفاهة أن نعترض على قوله، فكيف وهناك كتب الإمام الشافعي تنص على هذا؟!

إذاً: النوع الأول: محدث يخالف كتاباً وسنة وأثراً وإجماعاً، فهذا بدعة ضلالة، وهو محرم ومذموم، والنوع الثاني: محدث من الخير لا يخالف شيئاً من ذلك فلا حرج فيه، وهو الذي يقول عنه أئمتنا: بدعة حسنة، أي: بدعة لغوية، تسمى بدعة في اللغة لا في الشرع، ففي الشرع عندنا تعريف البدعة: ما يعارض السنة، ويخالف الآثار، ويضادها، هذا مذموم في جميع الأحوال والأوقات، أما هذه فتسمى بدعة؛ لأنها شيء حادث، ما فُعل على هذه الكيفية في العصر الأول، فلا حرج فيه.

وتقدم معنا في موعظة الجمعة الماضية قول الإمام ابن حجر رضي الله عنه وأرضاه عند حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه وأرضاه: أنه لا مانع من إحداث ذكر في الصلاة وإن كان غير مشروع إذا لم يخالف المشروع، يعني لم يخالف الوارد، والصحابة كانوا يفعلون هذا في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وما قال لهم: هذا الفعل بدعة، وهذا خطأ، عندما أثنى أحدهم على الله: ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، في رواية الترمذي هذه الزيادة، فهذا أحدثها في الصلاة، ثم قال نبينا عليه الصلاة والسلام: من المتكلم؟ ثم لما كرر ثلاثاً قال: أنا، قال: ( لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً كلهم يبتدرونها أيهم يكتبها ).

إخوتي الكرام! هذا لابد من وعيه، المحدث على قسمين: محدث يضاد ويخالف ويعارض كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والآثار الثابتة الحسان عن الصحابة الكرام، وإجماع أهل الإسلام، هذا هو بدعة ضلالة، وعليه ما خرج عن ذلك فلا يقال: إنه بدعة ضلالة، وقلت مراراً: ما احتمله الدليل وقال به إمام جليل خرج عن كونه بدعة، مجتهد قال: لا حرج، أو استحب أن يختم القرآن عند الدفن، صحابي رضي الله عنه وأرضاه يوصي بذلك، يأتينا بعد ذلك واحد ويقول: وإن فعله الصحابي، فعل الصحابة ليس بحجة! يا عبد الله! دعك الآن من هذا الهذيان، لو لم يرد -كما قلت- في هذه المسألة أي أثر بالجواز، فكيف ستمنع؟ ما هو دليلك في المنع؟ كما قلت لكم دليله: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:70]، ولما صارت المناظرة قال: القرآن نزل للإنذار للأحياء، ما نزل للقراءة على الأموات.

إخوتي! هذا دليل أو هذا من الأباطيل؟! يا عبد الله! كلام الله الجليل لا دلالة فيه على هذا، وستحمل كلام الله ما لا يدل عليه، ستتلاعب بكلام الله، ينذر من كان حياً، قلت له: هل نبشر بالقرآن أم لا؟ ورد أيضاً أنه نزل القرآن للبشارة وللنذارة، هذه واحدة، أمر ثانٍ قلت له: أما يجوز أن نقرأه على المرضى لأجل أن يشفوا بإذن الله؟ قال: لا يجوز! قلت: يا عبد الله! أنت الآن خالفت القرآن وخالفت السنة: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وبعد ذلك الأحاديث المتواترة في الرقية الشرعية، فقال بعد ذلك.. بعد المناقشة والمناظرة والكلام، وهذا -كما قلت لكم- جرى في البقيع، قال: هذه بلادنا نفعل بها ما شئنا، ما أعجبك اذهب بعيداً، اخرج عني! قلت: يا عبد الله! كنا نتكلم في أدلة شرعية، ما بين سنة وبدعة، الآن أخرجتنا إلى الخصومة والمعاداة، وقد تدخل في دائرة الكفر، بلادنا وبلادكم اخرج عني، يا عبد الله! بيننا عقد الإخاء، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، كنا في مسألة نختلف هل هي جائزة أو بدعة؟ أخذتنا إلى ديوان آخر، فرفقاً بنفسك، واتق ربك.

فهذا -إخوتي الكرام- لابد من وعيه، كما أن الذي يقول بإباحة الشيء عليه أن يأتي بدليل يدخل في الأدلة العامة، وأمور الخير، فالذي يمنع ينبغي أن يأتي بدليل، هات دليلاً على المنع، وإلا ينبغي أن تسكت إذا كان هذا الفعل أمراً من أمور الخير، وهذا ما قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه.

استمع للبدعة الضلالة بعد هذا مباشرة لتعلم أن أئمتنا يدرون ما يخرج من رءوسهم، في زمن الإمام أبي عبد الله الشافعي رضي الله عنه وأرضاه حدث ما حدث من مجون، وهذا المجون قام به أناس مختلفون منهم أهل العشق والفسق والهُيام الحرام، ومنهم صوفية يزعمون أنهم يعبدون الرحمن، فيغنون وينشدون ويرقصون، هل هذا الآن مباح؟ هل هو بدعة حسنة؟ هل هو أمر من أمور الخير؟

استمع ماذا سيقول الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، وأثره في الحلية، وفي مناقب الإمام الشافعي للبيهقي ، وفي آداب الشافعي ومناقبه أيضاً للإمام ابن أبي حاتم ، والأثر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإمام الخلاد ، وفي تلبيس إبليس، وغير ذلك من الكتب، وانظروه في السير في الجزء العاشر صفحة إحدى وتسعين، قال: خرجت من بغداد وخلَّفتُ فيها شيئاً أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن كلام الله الجليل. والتغبير: آلة يُغبِّرون بها يطبلون ويطرِّبون ويدقون ويزمرون، آلة أحدثوها، ينغمون فيها ويجتمعون على فسقهم، وهؤلاء على ذكرهم، وهذا ما يفعله الصوفية حتى في هذه الأيام، آلات لا تحصى من آلات الملاهي والحرام، يستعلمونها حتى في بيوت الرحمن باسم الذكر، وكل واحد على تعبيره سيذكر الله على مزاجه! لا يا عبد الله! وهذا يذكره بالناي وهذا بالدربكة وهذا بالمزيكا! لا يا عبد الله هذا ضلال، هذا الآن عارض الآثار في كيفية ذكر العزيز الغفار؛ لأن هذا صار شهوة وعبثاً ولعباً وباطلاً واستخفافاً بذكر الله عز وجل، يصدون به الناس عن القرآن.

خرجت من بغداد وخلَّفتُ فيها ورائي شيئاً أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن كلام الله الجليل، ويذكرون قصائد فيها ما فيها، ويقولون بعد ذلك: نحن نقصد الحضرة الإلهية في بلاد الشام، في هذه الأيام في المنارات حتى السحر يقوم المنشد لينشد، أما تستحي من الله تقول هذا الكلام؟ هذا يسمعه الإنسان بأذنيه!

فرشت لها خدي وطاء على الثرى فقالت لك البشرى بلثم لسانى

وهو حتماً ما يقصد معشوقة ولا أمراً محرماً على حسب تعبيره، يقول: نقصد الحضرة الإلهية، وأننا إذا تذللنا له وصلنا إليه! يا عبد الله! من الذي أذن لك أن تخاطب رب العالمين بهذه الألفاظ التي فيها منتهي قلة الأدب! ألفاظ الأنوثة، ثم بعد ذلك تلثم اللسان، وهل يجوز أن تخاطب الرحمن ذا الجلال والإكرام بهذا؟! ويقولون في مجالس الذكر وهذا سمعته بأذني:

سلبت ليلى وليلى مني العقل

وخذ إلى تكملة القصيدة، أناس يقولون: الله الله! يا عباد الله تقولون: سلبت ليلى وليلى ويقولون: نقصد بليلى رب العالمين! يا إخوتي! هذا حرام، هذا إجرام في الدين، كما قلت لابد من وضع الأمر في موضعه، هذه بدعة ضلالة.

أما قراءة الفاتحة فما أعلم كتاباً من كتب الفقه إلا ونص فيه على جواز قراءة القرآن عند القبور، وانظروا أي كتاب شئتم، في المغني فمن قبله ومن بعده.

يا إخوتي! لابد من نعي هذا الأمر، إذا قرأ الإنسان كلام الرحمن الذي عند قراءته تنزل السكينة والرحمة والخير والبركة، ودعا لهؤلاء، أي حرج في ذلك؟ أنت تقول بدعة؟ على رِسلك يا عبد الله! هل هذا كهذا؟ هذا محدث وهذا محدث؟ هذا محدث من أمر الخير، نُقل أو لم ينقل، هذا لا داعي لإقامة دليل على فعله بعينه، دخل في أمور الخير العامة، وأما ذاك فشر وينبغي أن نحذر منه، وأن نبتعد عنه.

إخوتي الكرام! ومن الأقوال التي تدل على نصحه ووعيه وعلى رشده وفهمه رضي الله عنه وأرضاه، كان يقول كما في كتاب مناقب الإمام الشافعي للإمام البيهقي ، وللإمام ابن أبي حاتم ، وانظروا الأثر في توالي التأسيس أيضاً وفي السير في الجزء العاشر صفحة ثمان وتسعين، قال: سياسة الناس أشد وأشق من سياسة الدواب! وحقيقة هذا هو الذي يعرف طبيعة الناس وطبيعة الدواب، وكثير من الناس لا يعرف نفسه ولا طبيعة بني جنسه ولا طبيعة الحيوان.

يا إخوتي الكرام! الدواب ما أسهل سياستها! عصا تزجرها وتجمعها، وألف من الغنم تجمعها بعصا، أما الناس عواطف ومشاعر وأفئدة وعقول تتعامل معها.

إذا ملكت القلوب فابغ رضاها فلها ثورة وفيها مضاء

ولو كان بين الإنسان وبين الناس شعرة وعنده حكمة لما انقطعت، فإذا شدوا أرخى هو بعض الشيء، وإذا أرخوا شد لئلا يحصل تفلت بينه وبين الناس، وهنا كذلك أنت تتعامل مع عقول وأفئدة وأفكار ومشاعر، فلابد لك من حكمة تامة وحلم وصبر، ولذلك يقول الله تعالى لنبيه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، ثم فاعْفُ عَنْهُمْ ، والعفو لا يكون إلا بعد جناية وجرم، وإذا عفوت زد على العفو استغفار، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، فإذا عفوت وتنازلت عن حقك عندما يخطئ بعضهم في جنابك عليه صلوات الله وسلامه، واستغفرت له، فهذا تأهل الآن للمشورة، وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ، صار الآن هذا من الخلَّص، لكن إذا جفوتهم، وما طلبت من الله أن يغفر لهم، صار بينك وبينهم بُعد، ولا يتأهلون لمناجاتك ولا لمشورتك.

السياسة -إخوتي الكرام- كما يقول أئمتنا في تعريفها وضبطها كما في اللسان في الجزء صفحة ثلاث عشرة وأربعمائة: القيام على الشيء بما يصلحه، تعهد الشيء برفق وعناية وحكمة تامة، هذا يقال له: سياسة.

وقد ثبت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود ، والأثر في السنن الكبرى للإمام البيهقي وفي شرح السنة للإمام البغوي، وهو في أعلى درجات الصحة، من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء )، ما معنى تسوسهم؟ أي: تتعهدهم، تقوم على شئونهم بالتربية والتوجيه بما يصلحهم من سياسة، ( تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه آخر )، وهذه الأمة قال: ( وإنه لا نبي بعدي، وسيكون عليكم خلفاء، وسيكثرون، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: أوفوا بيعة الأول، وأعطوهم حقهم، واسألوا الله حقكم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم ).

جرى حديث مرة بيني وبين بعض الناس حول موضوع السياسة، وقال: ما عندنا في الدين شيء اسمه السياسة، كما قال بعض الشياطين: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة! وهذا قال: هل في الدين شيء اسمه السياسة؟ قلت: يا عبد الله! دين الإسلام من أوله لآخره سياسة، ستقر بأن دين الله ينبغي أن يُحكم في الحياة، وله نظام ينبغي أن يلتزم به عباد الرحمن؟ قال: نعم، قلت: طيب، الحكم سياسة أم لا؟ ماذا عندك في السياسة على الحكم؟ ماذا تفهم من السياسة؟ يا عبد الله! قف عند حدك، لكنه قال: هل ورد في القرآن والسنة لفظ السياسة؟ قلت: إن كنت تقصد اللفظ بعينه فقد ورد في الحديث: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء )، هذا في الصحيحين، وإن كنت تقصد بما يدل على المعنى فما أكثر هذا في القرآن، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:49]، هذه سياسة، والسياسة هي القيام على شيء بما يصلحه، تعهد الشيء وتربيته سياسة، ولذلك سياسة الناس أشد وأشق من سياسة الدواب، حتى الدواب تحتاج إلى سياسة، وحقيقة إلى حكمة، وإلا إذا كان الراعي عنده فظاظة وغلظة ولا يتحملها، وكل واحدة سيضربها بحجر أو عصا، فلن يبقى معه ولا شاة واحدة، فلابد من سياسة من تعهد، سياسة الناس أشد وأشق من سياسة الدواب.

ومن كلامه المحكم الذي يدل على نصحه ووعيه ورشده وفهمه، كما في توالى التأسيس صفحة أربع وثلاثين ومائة، قال: للعقل حد ينتهي إليه كما أن للبصر حداً ينتهي إليه. ونِعم ما قال، للعقل حد تفكير محدد ينتهي إليه، كما أن للبصر حداً ينتهي إليه، ولذلك قال أئمتنا: عقولنا مع شرع ربنا كالشمس مع الأعين، العقل بمنزلة العين، والشرع بمنزلة الشمس، فلابد من أن يهتدي العقل بالوحي، ولابد من شمس لتبصر العين، فبدون نور لا ترى العين، وبدون نور رباني وهو وحى الله الإلهي لا يهتدي العقل، وما عبادة الأحجار والأشجار والأبقار إلا من جراء التعويل على العقول، فللعقل حد ينتهي إليه، كما أن للبصر حداً ينتهي إليه.

ولذلك -إخوتي الكرام- قرر أئمتنا أن العقل مع النقل كالعامي مع العالم تماماً، العامي يستفسر العالم، وكالمريض مع الطبيب، أما عقل ليعترض على شرع الرب ما بعد هذا الضلال ضلال، للعقل حد ينتهي إليه كما أن للبصر حداً ينتهي إليه، ترى إلى مسافة معينة وما وراءها لا تعلمه، وهنا تفكر ضمن محيط وما وراءه لا تعلمه، ولا يوجد أحد أحاط بكل شيء علماً إلا الله جل وعلا.

العلم للرحمن جل جلاله وسواه في جهلانه يتغمغم

ما للتراب وللعلوم وإنما يسعى ليعلم أنه لا يعلم