بين الحقيقة والخيال:
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
صديق.!
للأستاذ محمد محمد الأبشيهي
خلوت إلى نفسي أسائلها: (أين هو الصديق الذي يسكن إليه قلبي، وتهدأ خياله بنفسي، فيصفيني وده، ويمنعني مما يمنع منه نفسه؟ فقد بلوت من خير الناس وشرهم، ما يوشك أن يزهدني في عشرتهم، ويجنح بي إلى العزلة عن هذا المجتمع الصاخب، وحاولت أن اصطفي من الأصحاب من يفرج أمري، ويكشف لي وجه الصواب في هذه المشكلة العاصية، فإذا يداي تصفران، وإذا أنا اخلد إلى الراحة في ظلال اليأس، وإلى الهدوء على بساط الشوك. .
وساءلت نفسي.
ربما كانت النفسية الجامحة والمادية اللاهية، هما أس العناء، وأصل البلاء، حين ينظر الصديق من زاويتا إلى الصديق، فكلما تحدر إليه خيره هش له وبش، ولقيه باسم الثغر، مشرق المحيا، فهو صديق العمر، وشقيق الروح، وإلا أنكره، فغاضت الابتسامة، وفتر اللقاء وتقطع بينهما، وحال الأمر إلى عداوة، وأشباه هذا هم الكثرة الكاثرة فيمن يلاقونني، حتى الذين ينالهم رفدي، لا أحس لما يبدونه نحوي بحرارة، ولا لما ينسجونه حولي بصدق، وانظر يوما فإذا بي انشد: إني لأفتح عيني حين أفتحها ...
على كثير ولكن لا أرى أحدا أتناول بيدي مصباح (ديوجين) أفتش به في ثنايا الزمن، عن بغيتي من الحياة، لكن.
.
هيهات!.
ولبثت كذلك حينا من الدهر، يمر بي في طوافي أشتات من الناس تباينت طباعهم، وتلونت مذاهبهم، لا يحسون بي ولا أحس بهم، لبعد ما بيني وبينهم، فما جامعة تجمعنا، في الرأي والفكر والذوق، أراهم من غير جنس وإن كانوا بشرا، وألمح على معارفهم لؤم الطباع في ثنايا الإشراق، سعار الطمع في مخابل الرضى، فلويت عنقي، وأشحت بطرفي، وطويت عنهم كشحا، وفزت من الغنيمة بالإياب، بعد رحلة لاغبة، وجهاد واصب، و.
.
وشعرت بيد تربت على كتفي، وأنفاس حانية، ترف على قلبي، فأحسست برد الراحة يسري في أوصالي، وتمثلت النعيم يغمر جوانحي.
قال - وقد مثل حيالي قائما - أنا إذا ضالتك المنشودة.
وأملك المفقود، ولعلك أن تجد العوض في شخصي عن أحلامك الذاهبة.
فأفثأ حاجتك، وانكأ جرحك، فتنأى بنفسك عن مواطن اليأس، وتعلم أنه ما زال ف الدنيا صديق، وترتاح له، وتبلو من سجاياه ما تقر به عينك، ويثلج به صدرك ستقودني إلى حيث تريد، وستلقاني مطواعا ذلولا، لا أبعثك على غضب، واشرف بك على بأس.
.
فصدقته حين لمحت في حديثه دلائل الصدق، وشمت من لهجته علائم الجد، وأنست به وسكنت إليه، وجلت به في ميادين الحياة جولات موفقة، وعشت به زمنا ليس بالكثير، حدثت نفسي في خلاله أن اعفي كل اثر لحكمي السابق على الصديق ما دام في الناس أمثال هذا الذي فني في شخصي، وكان لي أطوع من بناني، والزم من ظلي، إذا فلقد تجنيت على الإنسانية، أجرمت في حق الإخاء، فهذا صديقي يهفو إلى الخير لوجه الخير، ويطرب بالوفاء لأجل الوفاء، وإذا فلتهدا بلابلي، ولتمضي الحياة قدما في كنف الصداقة الصادقة، وظل العيش الرغيد!.
ورأيته يوما - على غير عادة - عابس الوجه، ترمي عيناه بالشرر، ومنتفخ الأوداج، يكاد يتميز من الغيظ، فابتدرته: (ما بالك).
فأجاب - في غير تحفظ ولا استحياء - لقد خاب أملي فيك، وصوح عود الصلة بيني وبينك، فما أنا بالذي يستمسك بك، وقد نهشت عرضي، وجحدت فضلي، أذعت في الناس بأحاديث السوء عن خدنك الذي غره فيك حسن السمت، واصطناع الوقار، فقاطعته قائلا: (على رسلك يا صديقي، فلعلها أن تكون سعيا حاسد، أو زراية جاهل.
وما حسن أن تجبهني بالثورة، وتطلع علي بالعنف، قبل أن تتبين) فأصم أذنيه، وولى مدبرا ولم يعقب وحمدت لنفسي أنني لم أتزحزح قيد أنملة عما رسب في أغوار نفسي عن الصداقة والأصدقاء.
وإذا فالمشكلة مازالت قائمة، ولا أبرح أتلمس الصديق الصدوق.
بين الحقيقة والخيال، فباليت شعري من يدلني عليه، فينقذني من ألم مرمض، وآسى لا يريم، إن بين اليأس والأمل صراعا، وفي النفس من هذا المجتمع المريض لوعة وحيرة محمد محمد الابشيهي