خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/122"> الشيخ عبد الرحيم الطحان . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/122?sub=8324"> سلسلة مقدمة في الفقه
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
ففي هذا الدرس سنتناول حلم أبي حنيفة وسعة صدره، وعفوه، وصفحه، وإحسانه، ورحمته لعباد الله وخلقه، استمعوا لبعض الأخبار التي رُويت في ترجمة إمام الأبرار سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه:
روى الإمام الصالحي في عقود الجمان، صفحة سبع وثمانين ومائتين، والأثر في الخيرات الحسان صفحة ثمانين، ورواه الذهبي في الجزء الذي ألفه في ترجمة سيدنا أبي حنيفة وصاحبيه، في صفحة خمس وعشرين، وهو في غير ذلك من الكتب، عن العبد الصالح يزيد بن هارون وتقدم معنا حاله، وأن حديثه في الكتب الستة, توفي سنة ست ومائتين، وهو إمام صالح ثقة مبارك. قال: ما رأيت أحلم من أبي حنيفة . حليم صدر واسع، لا يغضب، ولا يتأثر، ولا يمتعض، ولا يعاقب، ولا يطيش، رضي الله عنه وأرضاه، قال: له فضل دين، وورع، وحفظ لسان، وإقبال على نفسه.
استمع لحلمه ولورعه ولوقوفه عند حده وصفحه عن خلق الله:
كلمه مرة بعض الناس، فأغلظ هذا المتكلم مع سيدنا أبي حنيفة في الكلام، بحيث اشتط كحال السفهاء على الدوام، فقال لسيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه يا كافر يا زنديق! فأطرق أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه رأسه، ثم قال: غفر الله لك، الله يعلم مني خلاف ما تقول، أنت جهلت عليَّ وهو يعلم مني خلاف ما تقول، أنا مؤمن بالله سبحانه وتعالى، وأنت تقول: كافر زنديق! يغفر الله لك.
وكان رضي الله عنه وأرضاه يقول: ما جازيت أحداً بسوء، ولا لعنت شيئاً، ولا ظلمت مسلماً ولا معاهِداً -أو معاهَداً-، ولا غششت أحداً ولا خدعته.
هذا حال هذا العبد الصالح، إنها صلة قوية برب البرية، وإحسان بعد ذلك إلى الرعية.
ولذلك كان أئمتنا يعرفون هذا فيه، وإذا جرى من بعض الناس تطاول على هذا الإمام في غيبته يزجرونه ويذكرونه بحال هذا الإمام، وبالصفات التي ينبغي أن نقدره من أجلها رضي الله عنه وأرضاه.
روى الإمام الذهبي في الجزء الذي ألفه في ترجمة سيدنا أبي حنيفة وصاحبيه، في صفحة سبع عشرة: أن رجلاً ذكر سيدنا أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه أمام سفيان بن عيينة رضي الله عنهم أجمعين فانتقصه، وحط من قدره، وغض من شأنه، فصاح فيه أبو محمد سفيان بن عيينة : مه!! -انتبه واسكت- كان أبو حنيفة أكثر الناس صلاة، وأشدهم ورعاً، وأحفظهم للسانه، وأعظمهم أمانة، وأحسنهم مروءة.
فهل مثل هذا تقع في عرضه وتتكلم عليه؟ أما تستحي من الله؟! يعبد الله ويحسن إلى عباد الله، وأنت بعد ذلك تتطاول على هذا الولي من أولياء الله! إخوتي الكرام! كما قلت: صلة قوية بالله، وإحسان إلى عباد الله.
انظروا لإحسانه إلى خلق الله وعباد الله وإلى نفعه لهم: روى الإمام ابن حجر في الخيرات الحسان، صفحة ثلاث وثمانين، والأدق من الرواة قال: قال الحافظ ابن حجر في الخيرات الحسان: تواتر أن أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه كان يتجر في الخز -في الملابس والثياب- وكان مسعوداً محظوظاً في التجارة، يُبارك له في رزقه كما بُورك له في علمه، والخيرات مفتوحة عليه من جميع الجهات رضي الله عنه وأرضاه، وكان له دكان في الكوفة، وله شركاء يسافرون ويتاجرون، انظروا لبعض الأخبار في تجارته وأمانته وورعه ونفعه وإحسانه:
الخبر الأول: يرويه الإمام الصيمري وهو من شيوخ الخطيب البغدادي، في صفحة أربع وثلاثين، وعنه يروي الخبر الخطيب في تاريخ بغداد، والذهبي في الجزء الذي أشرت إليه صفحة إحدى وأربعين، والسيوطي في تبييض الصحيفة في مناقب سيدنا أبي حنيفة ، والأثر في غير ذلك من الكتب: أن سيدنا أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه كان له شريك يعمل في دكانه، وهو حفص بن عبد الرحمن، هذا كان شريكاً لسيدنا أبي حنيفة النعمان، توفي سنة تسع وتسعين ومائة، وهو من أبناء الثمانين، عاش بعد سيدنا أبي حنيفة تسعاً وأربعين سنة، ولما توفي سيدنا أبو حنيفة كان عمره في حدود إحدى وثلاثين سنة، شاب في أول حياته، يعمل في دكان سيدنا أبي حنيفة شريكاً مضارباً، المال من أبي حنيفة، وهذا يعمل مضاربة في دكانه.
روى له النسائي في سننه، وروى له أبو داود في كتاب القدر، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في التقريب: حفص بن عبد الرحمن الفقيه، ولي قضاء نيسابور، صدوق عابد، بعد وفاة سيدنا أبي حنيفة صار قاضياً، حقيقة الذي سيعمل مع سيدنا أبي حنيفة ويجالسه سيتفقه ويحصل خير الدنيا والآخرة، فبعد وفاة أبي حنيفة أصبح هذا التاجر قاضياً، وقاضياً في أي عصر؟ لا ينبغي أن نزن ذلك الوقت بهذا الوقت، إنه عسر أئمة الإسلام، عصر الرواية، عصر الفقه، فقد توفي سنة تسع وتسعين ومائة، أي أنه ما دخل القرن الثالث، وهذا أزهى عصور الإسلام، يكون فيه شريك أبي حنيفة قاضياً، فكم رفعة درجة الإمام وقدر الإمام رضي الله عنه وأرضاه، إذا كان أجيره صار قاضياً فكيف حال الإمام؟
ولذلك سيأتينا في ختام ترجمة سيدنا أبي حنيفة عندما عرض عليه أبو جعفر القضاء وما قبل، اعتبر أبو جعفر هذه أكبر إهانة؛ لأن هذا أكبر علماء الأمة الإسلامية، فمن أجل ضمان ولايته للخلافة العباسية، وأنه يقرها، ينبغي أن يسند إليه الإشراف على القضاة، فامتنع، وذلك دليل على أنك لا توافقني، وأنك ترتاب نحو بعض تصرفاتنا، وحقيقة أبو جعفر وغيره دخلوا في كثير من أمور الظلم كما سيأتينا، وأبو حنيفة لا يريد أن يشارك في هذا رضي الله عنه وأرضاه، دينه أغلى عليه من كل شيء، فـأبو جعفر اعتبر هذه منقصة في حقه، فبعد أن عمل به ما عمل، سقاه السم، وقتله في السجن، وسيئولون إلى رب العالمين ليوفي كلاً بما عمل.
فتلميذه وشريكه يصبح قاضياً، ويخرج له الإمام النسائي في السنن وأبو داود في كتاب القدر، وهو صدوق عابد، بعد أن ولي قضاء نيسابور جلس فترة ثم استقال وندم، وقال: إمامي ما قبل القضاء، وأنا بعد ذلك آخذ القضاء، لو كان أبو حنيفة حياً لما راق له ذلك، فاستقال وتركه.
حفص بن عبد الرحمن كان يعمل في الدكان، وسيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه هو الذي يجهز له الأمتعة والملابس، وهذا يبيع، ذاك يجهز في بيته في المستودع وهذا يبيع، فمرة أحضر الملابس إلى الدكان وقال له: فيها ثوبان فيهما عيب، فلا تبعهما إلا بعد بيان هذا العيب، هذا مثلاً مائة ثوب من الخز فيها ثوبان فيهما عيب، فذاك لا من باب الغش والتدليس فأحياناً يذهل الإنسان، بتقدير الله بيعت جميع الملابس وما فطن لهذين الثوبين ووجود العيب فيهما لبيانه، فبعد أن باع تذكر وقال لأبي حنيفة: بعت الثوبين ونسيت، وما أعلم من الذي اشتراهما، الثياب كلها بيعت، وما بقي شيء، ولا أعرف من الذي اشترى الثوبين، فماذا ترى؟
قال: نتصدق بجميع الثمن، كل هذه السلعة من أولها لآخرها لا نأخذ من ثمنها، ولا يدخل مالنا درهم فيه شبهة, فهو هنا لم يتصدق بثمن الثوبين، بل تصدق بجميع السلعة من أولها لآخرها، كم ثمنها؟ سبعون ألف درهم، قال: كلها صدقة والله سوف يعوضنا.
يا إخوتي الكرام! هذا الورع، وهذه العبادة، وهذه الأمانة، وهذه الديانة، يا إخوتي! ينبغي أن نعرف قدر أئمتنا، ولعلكم لا يخفى عليكم المشاكل التي تقع بيننا, يختصم اثنان في هذه الأيام حول طباعة كتب حديث نبينا عليه الصلاة والسلام فيقول: لي حق تأليفها، أنت سرقت الكتب، وأنت بعت، يقول: نحتكم للشرع، يقول الشيخ المحدث: لا, نحتكم إلى المحكمة المدنية! الله أكبر! تتاجرون بحديث نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام، ثم لا تحتكمون إلى الشريعة الإسلامية، ثم بعد ذلك سلفية!! الله أكبر على هذا العصر الذي نعيش فيه وعلى أحوالنا.
والله الذي لا إله إلا هو لو قيل للشيطان: تصبح مكاننا، لقال: لا، لعلكم أشطن مني في هذه الأيام، ثم بعد ذلك سلفية، والتزام، وهذيان لا مثيل له في هذه الأيام! هذه أحوالنا.
يا إخوتي! هذه النماذج التي كان عليها أئمتنا ينبغي أن تذكر وأن تعطر بها المجالس، يبيع بالتدليس من غير قصد، كان بإمكانه أن يخرج قيمة الثوبين فقط، أو قيمة النقص الذي في الثوبين، ويقول: هذا نتحلل منه، ولنفرض أن ثمن الثوب عشرة دراهم وفيه عيب بمقدار درهمين، إذاً: أخرج أربعة دراهم من الثوبين وخلاص، أما السلعة بكاملها فهذه أحوال أولياء الله.
والآن كما قلت: حقوق كتب وتأليف، وخصومة، وبعد ذلك كل واحد يتكلم على الآخر بكلام لا يمكن أن يصدر من السكران، والاحتكام إلى المحاكم المدنية، نقول: نحكِّم بعض أهل الخير في مسألتنا، فيقول: لا، المحكمة الوضعية تحكم بيننا، هذه أحوالنا في هذه الأيام إخوتي الكرام، وانظروا لهذا الإمام المبارك رضي الله عنه وأرضاه في هذه القصة.
قصة ثانية يرويها الصيمري أيضاً رضي الله عنه وأرضاه، صفحة تسع وثلاثين، والذهبي في صفحة اثنتين وأربعين: أنه جاءت امرأة تبيع ثوباً، فنشرت الثوب أمام أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، عرضته عليه لأجل أن يشتريه، فقال: بكم تبيعينه؟ قالت: بمائة درهم، قال: يا أمة الله! إنه يسوى أكثر من ذلك، زيدي. فقالت: بمائتين، قال: يسوى أكثر من ذلك، قالت: بثلاثمائة، قال: يسوى أكثر من ذلك، قالت: بأربعمائة، قال: يسوى أكثر من ذلك، قالت: كم؟ قال: ثوبك يسوى خمسمائة درهم، هذه قيمته، تبيعينه بهذا السعر أنا أشتريه منكِ، من مائة إلى خمسمائة!!
يا إخوتي الكرام! هذه هي الأمانة، وهذه هي الديانة، وهذا حال أئمتنا رضي الله عنهم وأرضاهم.
جاءت إليه امرأة أخرى فقالت: يا أبا حنيفة ! إني امرأة مسكينة، ما لها معين مقطوعة، وأريد أن تعطيني ثوباً برأس المال، لا تربح عليَّ اعتبرها مساعدة.. يا أمة الله ليس هو مساعدة هو سوف يعطيك ثيابه التي يلبسها من باب المساعدة، فخففي على نفسك، قالت: أعطني برأس المال، قال: كما تريدين، فنشر لها الثوب الذي تريده وكان من أجمل الثياب، قالت: كم قيمته؟ قال: أربعة دراهم، قالت: أنت تهزأ بي وأنت أبو حنيفة تسخر بي! قال: يا أمة الله! لا أسخر منك، إنما أنا اشتريت هذا مع ثياب بمبلغ كذا، ثم بعت تلك الثياب بما تيسر، وما بقي من رأس المال إلا أربعة دراهم فقط، يعني تلك بعتها وربحت فيها، بقي لأصل إلى رأس المال أربعة دراهم، فهذا الثوب الآن ادفعي أربعة دراهم حتى نصل إلى رأس المال، فتكون الثياب كلها هذا الثوب وما قبله برأس المال، خذيه بأربعة دراهم ثم بيعيه بعد ذلك بما تريدينه.
كان رضي الله عنه جميع غلة التجارة ينفقها على طلبة العلم، يقول: لا تشكروا إلا الله، هو الذي أطعمكم، فهذا مال الله ونتاجر به والرزق من الله، لا تظنوا أن هذا لي منة فيه عليكم، هذا مال أُرسل الأجراء والشركاء يتاجروا فتأتي الأرباح توزع عليكم.
لما حفظ ابنه حماد سورة الفاتحة على مَن يعلمه وكان صغيراً في أول عمره، أعطى معلمه خمسمائة درهم, ذاك ما يأخذها ولا في خمسة أشهر، حفظه سورة الفاتحة فقط، وقد ثبت في ترجمته في سائر الكتب التي ترجمته قوله: خذوا لهذا الأدب واستمعوا له، ولعله ما كان يفعل بها إلا قلة قليلة من أئمة الإسلام الكبار.
ثبت في ترجمته رضي الله عنه: أنه ما اشترى لأهله شيئاً إلا تصدق بمثله، صدقة تطوع، لا يشتري لأهله شيئاً، أي نفقة ينفقها على أهله يتصدق بمثلها، من طعام من ثياب من من أي شيء يجلب إلى البيت، وما لبس ثوباً إلا كسى شيوخ العلم كما لبس رضي الله عنه وأرضاه، وما أكل شيئاً هو إلا تصدق أيضاً بمقداره، ما يأكل يتصدق بمثله، وما يجلب لأهله يتصدق بمثله، وما لبس يفعل أيضاً مع الشيوخ كذلك، هذا حاله رضي الله عنه وأرضاه.
إخوتي الكرام! تدل هذه القصص على نفس متعلقة بالله، وأن هذه الدنيا من أولها لآخرها ما تسوى قشرة بصلة، ينبغي أن نعرف قدر أئمتنا رضي الله عنهم وأرضاهم.
وأما فيما يتعلق بعفته وعدم تطلعه إلى مال غيره، فحدث ولا حرج, يذكر الإمام الصيمري في أخبار سيدنا أبي حنيفة وأصحابه، صفحة ثلاث وستين، والأثر في الانتقاء صفحة تسع وستين ومائة: أن أبا جعفر المنصور أمر بعشرة آلاف درهم لأبي حنيفة مكافأة وصلة كما كان يفعل الأمراء مع العلماء، فأُخبر أبو حنيفة رضي الله عنه أنه جائزة ومكافأة وعطية عشرة آلاف درهم ستأتيك في هذا اليوم، حُدد له يوم، يعني يوم كذا ستوزع العطايا، ففي اليوم الذي ستأتي فيه الصلة صلى الفجر وتقنع بثوبه وجلس في حجرته يذكر الله، فجاء رسول الحسن بن قحطبة وهو أمير الأمراء، وقائد الجيوش لـأبي جعفر المنصور، توفي سنة واحد وثمانين ومائة، وهو الذي يقسم المال ويوزع الصلات بأمر أبي جعفر، فجاء رسول الحسن بن قحطبة، وقال: أين أبو حنيفة؟ قالوا: أبو حنيفة متدثر بكسائه منذ أن صلى الفجر لا يكلم أحداً منا، قال: ما الحيلة؟ معي صلة من أمير المؤمنين، قالوا: إنه لا يكلم أحداً هذه عادته لا يكلم أحداً.. لو جاء الخليفة بنفسه لا يكلمه.
قال: الأمر سهل، هذه توضع جائزة له، إذا انتهى من خلوته من هذه الحالة التي هو فيها يأخذها، فتركها، فلما ذهب وتأكد أبو حنيفة من ذهابه رضي الله عنه وأرضاه، كلمهم، فقالوا له: أحضرها رسول الحسن بن قحطبة، فقال: لولده حماد : ضعها في زاوية البيت يا بني، ثم لما توفي أبو حنيفة رضي الله عنه كتب كتاباً وقال لولده: خذها إلى الحسن بن قحطبة، وقل: هذه الأمانة التي أحضرتها لوالدي حفظها عنده وما طلبتها، وأبو حنيفة قد توفي فخذ أمانتك، فأتى حماد بهذه الأمانة إلى الحسن بن قحطبة، وهو توفي كما قلت سنة واحدة وثمانين ومائة، بعد سيدنا أبي حنيفة بفترة، فجاء حماد بهذا المال، فقال: هذا ليس بأمانة، هذا أُعطي صلة لأبيك ومكافأة من بيت المال عطية، لا دخل لنا فيه وليس لنا منة فيه، هذا من بيت مال المسلمين، وهذا شيخ مسلم، قال: والدي توفي، وهذه الأمانة وأنا رددتها، الابن كأبيه، لا يأخذ منها شيئاً، فبكى الحسن بن قحطبة، وقال: رحمة الله على أبيك، كان شحيحاً على دينه، يشح لكن في دينه لا في دنياه، كان شحيحاً على دينه رضي الله عنه وأرضاه.
إخوتي الكرام! عشرة آلاف درهم، وهي التي تسمى في اللغة: بالبَدْرَة، إذا كان المال عشرة آلاف درهم يقال له: بدرة, قال: خذ هذه البدرة بعد موتي واذهب بها إلى الحسن بن قحطبة، وقل له: هذه أمانتك، فقال: رحمة الله على أبيك كان شحيحاً على دينه.
الحسن بن قحطبة إخوتي الكرام له مزايا ومناقب في حرب الروم، دوخهم وأذلهم، وكان الروم يسمونه تنيناً، وهذا تنين المسلمين، وهو الحية العظيمة والثعبان الكبير، وكما قلت كان قائد الجيوش لـأبي جعفر في الفتوحات الإسلامية.
إخوتي الكرام! لما تقدم من صفات في سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، أنطق الله لسانه بالحكمة، وثبت قلبه، ورزقه العلم والفهم والصواب والسداد، أذكر خبرين أو ثلاثة في ذلك، ثم أختم بعد ذلك بوفاة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، وسبب وفاته أنه عرض القضاء عليه فأباه، فتسبب له ذلك بحصول الوفاة رحمة الله ورضوانه عليه.
قوله: إن لم يكن العلماء أولياء لله فليس لله ولي
كان هذا العبد الصالح يقول، كما في التبيان في آداب حملة القرآن، صفحة إحدى وعشرين، والأثر في الخيرات الحسان وعقود الجمان: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي. وهذا الكلام مأثور أيضاً عن الإمام الشافعي رضي الله عنهم وأرضاهم.
وأي علماء الذين نعتهم هذا العالم المبارك رضي الله عنه وأرضاه؟ وأما بعد ذلك أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها، هذا موضوع آخر، إنما العلماء الذين هذا نعتهم: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي.
قوله: من قال فيَّ شيئاً ليس فيَّ وهو من أهل الجهل فهو في حل ..
وكما قلت: هذا لا ينافي الحلم والصفح وسعة الصدر، بل هو من باب وضع الشيء في موضعه، لئلا يتمادى الناس في الضلال، ولئلا توسع رقعة الكلام الباطل، فطالب العلم والعالم عندما يتكلم يُتناقل الكلام، وهذا هو السداد والرشاد الذي يقوله هذا الإمام المبارك رضي الله عنه وأرضاه.
وقد قال هذا الكلام لأجل أن يفطم طلبة العلم من الوقوع في أعراض العلماء، فكلام طالب العلم يقيد ويسجل ويُتناقل، ولذلك إذا بَهت عالم وتكلم عليه بما ليس فيه، فحاله ليس كحال الجاهل الذي قال كلمة عابرة ذهبت أدراج الرياح، فقد قال الإمام هذه المقولة من أجل تحذير طلبة العلم من الوقوع في أعراض العلماء، فلحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالسب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.
إخوتي الكرام! إمام مبارك رضي الله عنه وأرضاه أنطق الله لسانه بالحكمة، كيف لا وقد قال في حقه العبد الصالح علي بن عاصم الواسطي، وهو صدوق يخطئ أحياناً، توفي سنة إحدى ومائتين للهجرة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، كان من العلماء الربانيين القانتين، يقول: لو وُزن عقل أبي حنيفة النعمان رضي الله عنهم أجمعين بعقول نصف أهل الأرض لرجح عقله عليهم.
يقول هذا -إخوتي الكرام- من باب بيان قدر هذا الإمام المبارك الهمام رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد كان ذا عقل زكي ذكي.
قوله: تركت المعاصي مروءة فصارت ديانة
كلامه العظيم لأبي جعفر المنصور حين طلب منه مجالسته
حقيقة هذا هو الكلام المحكم الذي يخرج من القلب الطاهر الحكيم، وتقدم معنا إخوتي الكرام كلام سيدنا سعيد بن المسيب رضي الله عنه وأرضاه: الذباب على العذِرة أجمل من قارئ على باب أمير، وإذا رأيت العالم يغشى أبواب السلاطين فاعلم أنه لص، وإذا رأيت العالم يغشى أبواب السلاطين فاتهمه على الدين.
فسيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه لا يعقل أن يغشى باب أبي جعفر، ولا يخفى عليكم حال السلاطين المتقدمين، فهم على ما فيهم من جور وظلم، وما سلم أحد من ذلك بعد الخلافة الراشدة إلا ما رحم ربك وقليل ما هم، ما سلم، لكن مع ذلك فيهم دين عظيم، وخشية من رب العالمين، وحكم بهذا الشرع القويم، مع ما فيهم من ظلم، لكن هم على خير كبير، ومع ذلك يبتعد أئمتنا رضوان الله عنهم عن مجالسة السلاطين والأمراء.
قوله: إذا قعدت امرأة وقامت فلا تقعد في ذلك المكان حتى يبرد
وهذا الكلام الذي يقوله هذا الإمام الهمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه وأرضاه مأثور -إخوتي الكرام- عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وسبحان من أنطقه بالحكمة! فقد روى الإمام الدارقطني في كتاب الأفراد عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (جاءت امرأة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فكلمته في حاجة، فلما قامت جاء بعض الصحابة ليجلس مكانها ليسأل نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال: لا تجلس حتى يبرد هذا المكان)، اصبر فترة من أجل أن يزول الأثر.
والحديث -إخوتي الكرام- كما قلت رواه الإمام الدارقطني في كتابه الأفراد، والإمام ابن الجوزي على عادته في التشدد أورد هذا الحديث في كتاب الموضوعات في الجزء الثاني صفحة خمس وخمسين ومائتين، وزعم رضي الله عنه وأرضاه أنه موضوع، مع أنه ليس في إسناد الحديث من تُكلم فيه إلا شعيب بن مبشر الكلبي، قال الإمام ابن حبان كما في كتاب المجروحين والضعفاء في الجزء الأول صفحة ثلاث وستين وثلاثمائة: ينفرد عن الثقات بما يخالفه الأثبات، فلما وُجد هذا منه استحق الترك، ولا يحتج بحديثه.
هذا ما قاله الإمام ابن حبان فيه، ولكن نوزع في ذلك، وهو من الرواة عن سيدنا الإمام أبي عمرو الأوزاعي رضي الله عنهم أجمعين، فـالذهبي في المغني في الضعفاء يقول: إنه صُليح، وفي الميزان يقول: إنه حسن الحديث، شعيب بن مبشر، انظروا المغني الجزء الأول صفحة ثلاث وتسعين ومائتين، والميزان الجزء الثاني صفحة سبع وسبعين ومائتين.
ولذلك تعقب السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الجزء الثاني صفحة تسع وخمسين ومائة، وابن عراق الكناني في تنزيه الشريعة في الجزء الثاني صفحة أربع ومائتين، تعقبا الإمام ابن الجوزي في حكمه على الحديث بالوضع وقالوا: إن شعيب بن مبشر لا يصل حديثه إلى درجة الترك، ومن باب أولى إلى درجة الوضع، فهو حسن الحديث كما قال الإمام الذهبي في الميزان، ونقلا كلام الذهبي في الميزان، وكما قلت أنه قال في المغني: إنه صليح، فقالا: إنه حسن الحديث، فكيف يُحكم على الحديث بعدم الصحة والوضع لوجود هذا فقط في إسناده وهو شعيب بن مبشر؟
والحديث إخوتي الكرام! ذكره الإمام ابن حجر في اللسان في ترجمته، والذهبي لم يورد هذا الحديث، إنما أورد له حديثاً آخر، وذكر كلام ابن حبان وقال: إن شعيب بن مبشر حسن الحديث، ولم يذكر هذا الحديث، والإمام ابن حجر قال: له حديث آخر، وهو هذا الحديث، حديث سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، (أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى الرجل أن يجلس مكان المرأة حتى يبرد موضعها)، هذا جلوس، فكيف بمصاحبة ومصافحة ومحادثة ومخالطة؟! نسأل الله أن يلهمنا رشدنا بفضله ورحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
حكمته وذكاؤه في مسألة في الفرائض
وتقدم معنا عندما كان في مجلس سيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه وأرضاه، فكان يتكلم وبعد ذلك زاد، فمد يده على بعض أصحابه يلوح أنه يهدده، فقال له: يا داود! طال لسانك وطالت يدك، فجلس سنة كاملة لا يتكلم في مجلس سيدنا أبي حنيفة النعمان، ثم صار من العباد الأولياء الأتقياء، مع أنه من المحدثين الكبار والفقهاء الأبرار رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال لها: مَن قضى لكم بذلك؟ قالت: داود بن نصير الطائي، قال: يا أمة الله! لعل أخاك ترك أماً وزوجة وبنتين واثني عشر أخاً وأنتِ؟ قالت: نعم ما ترك إلا هذا، صدقت، قال: يا أمة الله! إن كان كذلك فليس لك إلا دينار من الستمائة.
ووجه ذلك إخوتي كما هو معروف في الفرائض: البنتان لهما ثلثان، والأم لها السدس، والزوجة لها الثمن، والإخوة عصبة للذكر مثل حظ الأنثيين، ستكون المسألة من أربعة وعشرين لوجود السدس مع الثمن، تعطى البنتان الثلثين، ستة عشر سهماً، والأم السدس أربعة سهام، فهذه عشرون سهماً من أربعة وعشرين، وتعطى الزوجة ثلاثة، صارت السهام ثلاثة وعشرين سهماً من أربعة وعشرين، بقي سهم واحد، ويأخذه اثنا عشر أخاً وأخت، وهو لا ينقسم عليهم وعدد رءوسهم خمسة وعشرون؛ لأن للذكر مثل حظ الأنثيين، فنضرب خمسة وعشرين في أربعة وعشرين، فيكون الناتج ستمائة، ستمائة على ستمائة منقسمة، فيصير كل أخ له ديناران، والأخت لها دينار واحد، وأولئك كل واحد نصيبه يضرب في خمسة وعشرين، قال: ليس لكِ إلا ذلك، إذا كان داود تلميذي قضى في هذه القضية، وقسم هذه المسألة، فهذه قسمة سوية، ليس لك إلا دينار.
سبحان من علمه العلم، وأعطاه الحكمة، بحيث يستحضر الورثة، ويوزع بعد ذلك التركة عليهم، ويقسم ويصحح ويوزع في سؤال ارتجالي شفوي دون أن يمسك ورقة وقلماً، ويعلم ربي لما قرأتها ما استطعت أن أضبطها إلا بعد أن كتبتها، كتبت الورثة وقسمت التركة، وأخذت ما أخذت حتى وصلت إلى قضاء سيدنا أبي حنيفة النعمان، وهو يجيبها هكذا كما يقال: على الطائر.
إخوتي الكرام! هذا هو العلم، وهذه هي الحكمة، وهذا هو الفهم، وهؤلاء أولياء الله، وهؤلاء هم عباد الله، نسأل الله أن يرزقنا اتباعهم بفضله ورحمته، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
من أقواله التي أذكرها الآن في آخر هذه الموعظة، وقد أترك شيئاً منها لأول الموعظة الآتية، هي يسيرة لا تأخذ دقائق، لأصل بها بعد ذلك لترجمة سيدنا الإمام مالك رضي الله عنهم وأرضاهم.
كان هذا العبد الصالح يقول، كما في التبيان في آداب حملة القرآن، صفحة إحدى وعشرين، والأثر في الخيرات الحسان وعقود الجمان: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي. وهذا الكلام مأثور أيضاً عن الإمام الشافعي رضي الله عنهم وأرضاهم.
وأي علماء الذين نعتهم هذا العالم المبارك رضي الله عنه وأرضاه؟ وأما بعد ذلك أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها، هذا موضوع آخر، إنما العلماء الذين هذا نعتهم: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي.