شرح عقيدة أبي حاتم وأبي زرعة [5]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله: [ وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل ].

هنا ذكر أهل الكبائر ولم يذكر أهل الكفر؛ لما تقدم من أن أهل الكفر قضى الله عز وجل فيهم أمره، والله جل وعلا يوجب على نفسه ما شاء، ومما أوجب الله جل وعلا على نفسه ألا يغفر لمن أشرك معه شيئاً، إذاً شاء الله عز وجل ألا يغفر لهم وقضى ذلك الأمر، وأما أهل الكبائر الذين يقعون في الكبيرة من الذنوب من القول أو الفعل، فإن الله سبحانه وتعالى يجعل أمرهم إليه، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، وغفران الله جل وعلا لأهل الكبائر على نوعين:

غفران الله عز وجل لأهل الكبائر بموجب منهم، وذلك على ما تقدم بالحسنات التي تمحو السيئات, أو بالمصائب التي يلحقها الله عز وجل بالعباد فيتسبب ذلك بشيء قام فيهم, كفَّر الله عز وجل تلك الذنوب، وغفران من الله عز وجل بلا موجب من عباده، والموجب يجعله الله سبحانه وتعالى لا يجعله العبد، وذلك المشيئة المطلقة التي يعفو الله عز وجل بها عن عبد بعينه، لا لقيام شيء موجب منه، وذلك بإتيانه بحسنات أو صبره على مصيبة أو دعاء غيره له فاستجابه الله جل وعلا، فلله مشيئة خارجة عن الأسباب القائمة في ذات الإنسان، فمردها إلى الله سبحانه وتعالى.

[ ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم ونكل أسرارهم إلى الله عز وجل ].

وهنا ذكر أهل القبلة، يعني: أنه قد ثبت إسلامهم قبل ذلك، وتحققنا من كونهم من أهل القبلة، فمن تحققنا من دخول إسلامه وإيمانه فلا نخرجه منه إلا ببينة، وذلك لحقه بثباته على الإيمان وعدم جواز أن يخرج منه إلا بيقين، ولهذا قال المصنف: لا نكفر أهل القبلة بذنوبهم، والله سبحانه وتعالى جعل الكفر والإيمان اسمين, ليس لأحد أن ينزلهما إلا بأمر الله جل وعلا، فالله سبحانه وتعالى خلق العباد وجعلهم على صنفين: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2]، لا يوجد في الدنيا إلا هذين، إما كافر أو مؤمن، فمن كان كافراً لا يدخل في الإيمان إلا بيقين، ومن كان مؤمناً لا يدخل في الكفر إلا بيقين.

ويتكلم العلماء هنا على تكفير أهل القبلة؛ لأن إخراج المؤمن من الإيمان أعظم عند الله من إدخال الكافر إلى الإيمان، مع اختلاط الأمرين وشدتهما في الدين إلا أن هذا أشد من ذاك؛ وذلك لأن الثاني وهو إخراج الكافر إلى الإيمان يلزم منه نجاة، والنجاة يلزم منها أن تسبق رحمة الله لغضبه، وأما بالنسبة لإخراج المؤمن من إيمانه إلى الكفر يلزم من ذلك عقاب، وكلا الأمرين لا بد فيهما من الاحتياط؛ لأن الأمر إلى الله, هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2].

وأما بالنسبة للمنافق فهل هو اسم ثالث فنقول: مؤمن وكافر ومنافق؟ نقول: المنافق إما أن يكون مؤمناً وإما أن يكون كافراً، ولكننا مأمورون بأن نأخذ بالظاهر، فحكم المنافق في الظاهر حكم أهل الإسلام، وإذا ثبت كفره الباطن وعلم الله عز وجل ذلك منه أخذه الله عز وجل بباطنه كافراً، ونؤاخذه نحن على ما ظهر منه على الإسلام، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع المنافقين، ولهذا في قول المصنف: "ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم"، يعني: ما يقعون فيه من ذنوب.

وقوله هنا: "ونكل سرائرهم إلى الله"، السرائر: هي الأمور الباطنة، فثمة سر وثمة جهر، نحن مؤاخذون بما نعلم ونرى، وأما البواطن فهي إلى الله سبحانه وتعالى، وجعْلنا السرائر إلى الله؛ لعدم علمنا وعدم إحاطتنا بها، وعقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يفرقون بينما ظهر من الكفر وبينما ظهر من الذنوب والمعاصي، فهنا ذكر الذنوب، فكفر الظاهر لازم لكفر الباطن، هذا الأصل, فمن ظهر منه كفر ظاهر فنعامله بالكفر الظاهر والباطن، ومن ظهر منه إيمان ظاهر فنعامله بالإيمان ظاهراً وباطناً؛ لماذا قلنا باطناً مع أننا نكل السرائر إلى الله؟ لأن الإيمان واحد, ظاهر وباطن، فهذا هو اللازم، وأما أن نكل السرائر إلى الله لعدم علمنا بها؛ فلا يؤاخذنا الله عز وجل بما لا نعلم، ونرجو لمن آمن ظاهراً وظهر لنا ذلك سلامة الباطن، ونكل أمره إلى الله، ولهذا جعل الله عز وجل للنفاق علامات يعرف بها المنافق؛ وذلك بكراهة بعض الشعائر؛ كالجهاد, وعدم القيام للصلاة إلا كسالى, وعدم ذكر الله إلا قليلاً، وغير ذلك من صفات المنافقين، يعرف بها، ولكن لا نخرجه من الإيمان بهذه القرائن؛ لأن ثبوت الإيمان في ذلك آكد, وعقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يلزم من فعل المحرم بغض تحريمه، ولا من ترك الواجب بغض إيجابه، إلا على طريقة الخوارج، الذين يجعلون لازم فعل المحرم أن الإنسان يكره شريعة التحريم, وأن ترك الواجب لازم منه كراهة شريعة الإيجاب، وكراهة شريعة التحريم كفر أو ليس بكفر؟ كفر، وأما بالنسبة لمجرد الفعل أهل السنة يفصلون بين هذا وهذا؛ وذلك لأن الله عز وجل أوجد في الإنسان نزوة تجعله يقع في الحرام مع إقراره بتحريمه، ولهذا يسرق المؤمن وهو يعلم أن السرقة حرام، ويزني الزاني ويعلم أن الزنا حرام، ويشرب الخمر ويعلم أن الخمر حرام، لا يلزم من هذا, حتى يصرح بكراهته للتشريع، هل الإنسان ممكن أن يقع منه كره النفس لبعض الشعائر والشرائع؟ نعم، ولهذا الله جل وعلا يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، يعني: أن الإنسان يقع في نفسه كره؛ لأنه يحب الحياة، لا يحب فقد المال, ولا مغادرة الوطن والبلد وغيرها, فيحب الحياة, فيكره الإنسان هذا كره النفس، هل يؤاخذ عليه الإنسان؟ لا يؤاخذ الإنسان على كرهه النفسي لوجوده فيه, لكن يؤاخذ إذا اعتقده وباح به، إذا اعتقده أخذه الله عز وجل عليه ولو باطناً، وإذا باح به تكلم فقال: نكره شريعة الجهاد ولا نريده، والقتال في سبيل الله، فهذا تكلم بالكفر؛ مثل ذلك كراهة المرأة أن يعدد عليها زوجها، هذا نفسي, ولكن لا تؤاخذ على ذلك؛ لماذا؟ لأنه لا يلزم من هذا الكره النفسي كره التشريع، وذلك أن المرأة تسمع بأن زوج جارتها تزوج عليها ثانية ولا تتألم، لكن لو وقع عليها تألمت؛ لماذا؟ لأن الأمر نفسي، إذا كان الكره للتشريع وقع على أي أحد هو يكره ذات التشريع، وهذا أيضاً في حال الإنسان، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في بيان فضائل الأعمال قال: ( وإسباغ الوضوء على المكاره )، الإنسان يكره أن يتوضأ في الشتاء البارد؛ لماذا؟ لأن فيه كلفة، قال: ( على المكاره ), يعني: يتوضأ الإنسان وهو كاره، لا يستوي وضوء الشتاء عن وضوء الصيف، الإنسان يحب أن يتبرد ويتشوق وربما يتحين وقت الصلاة حتى يتبرد من الحر بالوضوء، وعند المكاره يكره في قيامه مع البرودة عند الفجر أن يتوضأ بماء بارد، هذا كره نفسي لا يؤاخذ عليه، ولهذا عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يفرقون بين فعل المحرم وترك الواجب وبين كره تشريع الواجب والمحرم، أما الخوارج فيجعلون هذا لازم لهذا.

[ ونقيم فرض الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان ].

يقول: "ونقيم فرض الجهاد"، هنا توجه بخطاب الجمع، ونقيم فرض الجهاد؛ لأن الجهاد يقوم بالجماعة، ولهذا قال: مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، الجهاد باق إلى قيام الساعة لا يرفع من الأرض, ولكن يختلف مكانه وأرضه، فهو باق إلى قيام الساعة، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث جابر وغيره كما في الصحيح: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، يقاتلون في سبيل الله, لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)، يعني: إشارة إلى الديمومة، كذلك أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، ومعلوم أن أهل الأرض لا يشهدون بلا إله إلا الله جميعاً، فالكفر باق، إذاً الأمر باق، إذاً الشريعة قائمة, والتقصير يقوم في الخلق، والجهاد في ذلك على نوعين:

جهاد عيني, وجهاد كفائي، الجهاد العيني: هو الذي يجب على الإنسان عيناً، وذلك إذا داهم أهل البلد عدو فوجب عليهم أن يجتمعوا لمناهضتهم، فيجب على أهل البلد عيناً، والأصل أنه لا يشترط لجهاد الدفع شرط، هذا هو الأصل، يستثنى من ذلك من الأمور والقواعد الأصل والأصول العامة، مما ينهى عنه، وإنما يقولون: لا يشترط له شرط، باعتبار عدم وجود راية, وعدم وجود أيضاً إذن حاكم أو والي أو جماعة أو غير ذلك؛ لأن الإنسان يدفع لا يطلب، والدافع يدفع بما استطاع، وأعظم مراتب دفع الصائل هو جهاد الدفع، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول في أدنى مراتب دفع الصائل كما جاء في حديث مخارق كما رواه النسائي وغيره (قال رجل لرسول الله صلى عليه وسلم: يا رسول الله, الرجل يأتيني يريد مالي, قال: لا تعطيه مالك، قال: فإن غلبني؟ قال: فاستعن به على من حولك من المسلمين، قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال: استعن بالسلطان عليه، قال: فإن نأى السلطان عني؟ قال عليه الصلاة والسلام: فقاتل دون مالك حتى تكون من شهداء الآخرة أو تمنع مالك)، وهذا دفع الصائل على المال لا على العرض والنفس، ولا على الدين, وإنما على المال، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في السنن من حديث سعيد بن زيد قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد)، فهذا إشارة إلى أن جهاد الدفع لا يشترط له شرط حتى النية، لا تشترط لجهاد الدفع، لا يلزم من ذلك أن الإنسان ينوي أنه يريد بذلك أجراً أو إعلاء كلمة الله، لا يلزم في جهاد الدفع؛ لأنه يدفع عن ماله وعرضه، لهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد)، لكن ليس له أن يطلب المال, يقاتل لأجل المال، في جهاد الطلب، كما جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي موسى وغيره، (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل, قال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل ليرى مكانه، والرجل يقاتل شجاعة, فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، يعني: هؤلاء ليسوا في سبيل الله، أما إذا كان يدافع، من قتل دون ماله فهو شهيد، إذا صال عليك صائل في دارك فدافعت عن دمك وعرضك ومالك ولم تستحضر نية وقُتلت فأنت شهيد.

كذلك أيضاً حتى في باب الانتصار، إذا صال أحد على كافر ولو كان الصائل مسلماً وجب عليك أن تنصره؛ كأن يكون لك جار نصراني استنصر لمن داهمه على عرضه من مسلم دخل داره فأراد أن ينتهك عرضه أو ماله أو دمه، فهذا يجب عليك أن تنتصر له، لا أن تقول له: أنت مسلم أو لست بمسلم حتى تذود عن عرضه, أو يُقتل أو غير ذلك لوجود ساط أو سارق أو مغتصب أو غير ذلك، لهذا يقول العلماء -لأن جهاد الدفع هو أعلى مراتب دفع الصائل-: بعدم ورود شروط فيه، ولا يعنون من ذلك سلبه من جميع الشروط بالإطلاق ولكن ما تشترط عادة في جهاد الطلب.

النوع الثاني: هو جهاد الطلب, وهو: أن يطلب المسلمون عدواً لإضعافه أو لإدخاله في الإسلام أو دفع الجزية وغير ذلك من المقاصد الشرعية، وهذا له شروط وضوابط ليس هذا محل بسطها.

ويكون الجهاد فرض عين في أحوال: منها إذا داهم أهل البلد عدواً, أو دوهم الإنسان بعينه, أو استنفر أهل الإسلام، استنفر أمير المسلمين المسلمين بأن ينفروا للقتال فوجب عليهم أن ينفروا, وإذا خص أحداً بعينه وجب عليه أن ينفر؛ لأنه مأمور عيناً في هذا.

وقوله: "نقيم فرض الجهاد والحج مع أئمة المسلمين"، هنا ذكر فرض الجهاد، هل الذي يقام مع أئمة المسلمين مهما كان هو الفريضة أم نافلة الجهاد أيضاً، نقول: أراد بالفرض هنا ليس هو قسيم المستحب مندوب وغير ذلك, ولكن أراد بذلك الشريعة، قال: ونقيم فرض الجهاد والحج مع أئمة المسلمين، يعني: أنه إذا كان أمير المقاتلين كافراً لا يقاتل معه، ومهما بلغ في الفجور والكبائر إذا كان من أهل الإسلام فإنه يقاتل معه. وقوله هنا في ذكر الحج مع الجهاد؛ لأن الحج يرتبط بالجماعة أيضاً, وذلك بمواضع الوقوف ومعرفة أحكامها, وكذلك أيضاً معرفة زمانها، الناس ربما يختلفون في رؤية الهلال، في هلال ذي الحجة، ويختلفون حينئذ في الوقوف بعرفة، منهم من يقول: هذا اليوم التاسع، ومنهم من يقول: لا, هذا اليوم الثامن, أو يقول: هذا اليوم العاشر, على اختلاف في التقديم والتأخير، يقفون مع من؟ مع أمير المسلمين, ولو تيقن الإنسان أنه رأى الهلال، وقوفه حينئذ صحيح ويؤتى أجره.

وقوله هنا: في كل دهر وزمان, إشارة إلى بقاء الجهاد وديمومته إلى قيام الساعة وإلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها.

[ ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة, ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا, ولا ننزع يداً من طاعة, ونتتبع السنة والجماعة, ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة ].

هنا يقول: "ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة".

ذكر الخروج على الأئمة والمراد بذلك هم أئمة الإسلام، أئمة المسلمين مهما بلغوا في الكبائر والمعاصي والذنوب والظلم لا يخرج عليهم ولا يجوز؛ لأن الإنسان إذا خرج على إمام مسلم يريد من ذلك أن يزيل ظلماً لا أن يزيل كفراً، إذا كان الحاكم مسلماً، وهو بفعله هذا يحقق مفسدة أعظم مما يريد أن يزيل؛ كالذي يريد رفع مظلمة في الدماء أو مظلمة في الأموال أو في الأعراض، ويريد أن ينازع حاكماً متسلطاً ظالماً وهو مسلم، فإنه بتسلطه ذلك يتسبب باستباحة دماء أعظم من العدد الذي يريد أن يعصم، وأعظم من الأموال التي يريد أيضاً أن يحمي، وكذلك أيضاً الأعراض، ولهذا جاءت الشريعة بمنع الخروج عن أئمة الجور ما كانوا مسلمين؛ وذلك لأن المفاسد التي تتحقق في ذلك أعظم من المقاصد التي يريد الإنسان أن يحققها، ولهذا جاءت الشريعة بالنظر إلى المقاصد بعيداً عن الجزئيات، والشريعة إنما نهت عن الخروج عن أئمة الجور من المسلمين لا حباً في الحاكم ولا تمكيناً له وإنما دفعاً لمفسدته؛ لأن الحاكم إذا تسلط وتمكن لا يزول إلا بمفاسد عظيمة وبتأليب على الناس وانتهاك لحرماتهم؛ انتصاراً لنفسه واعتزازاً أيضاً وتكبراً على من بغى عليه، فيبطش ويبغي ويظلم، ولهذا مرد ذلك إلى العدل والإنصاف لا إلى حظوظ النفس، فربما يتمنى الإنسان زوال حاكم وتمنيه ذلك لا يعني أن يزيله وأن يخرج عليه؛ لأن الخروج على أئمة الجور من المسلمين محرم لمفاسده، ولو كان الأمر يرجع إلى الإنسان في ذاته نظراً ونحو ذلك, فيضع الحاكم الأفضل بدون نزاع ونحو ذلك، فلو كان الأمر كذلك ما كانت هذه المسألة من مسائل البحث.

وأما الحاكم إذا كان كافراً فالأصل في الخروج عليه الجواز ما لم يكن ثمة مفسدة أعظم، وذلك إذا أراد الناس أن يخرجوا على حاكم ليس بمسلم، وذلك لأنه ليس للمسلمين عليه بيعة، فالله عز وجل لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيل، وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، من المؤمنين, لا من غيرهم، ولهذا ذكر منكم, ما قال أولي الأمر فقط، وإنما ضبطهم وحدهم أن يكونوا من المسلمين، فإذا تولى حاكم على المسلمين ليس بمسلم فليس للإنسان أن يبايعه حاكماً، ولكن ثمة مسائل:

أولها: الخروج على الحاكم غير المسلم، نقول: الأصل فيه الجواز ما لم يكن ثمة مفسدة أعظم من ذلك, المفسدة التي هي أعظم أن تستأصل شوكة الذين ينازعونه، حينئذ لا أبقوا أنفسهم ولا أزالوه، وأيها أعظم وأولى أن يبقوا على خير وصلاح وتدرج في إصلاح مع وجود حاكم كافر أم يزولوا مع وجوده؟ أن يبقوا مع وجوده، ولهذا جاءت الشريعة بتحقيق المصالح وتتميمها وتكميلها ودفع المفاسد وتقليلها، وألا يرجع ذلك إلى رغبة الإنسان وهواه, بل يرجع في ذلك إلى الحق والعدل والإنصاف ولو خالف رغبة الإنسان وطمعه ومراده، ولهذا كما أننا نقول: ليس على المسلمين له بيعة كذلك أيضاً نقول: لا يجوز الخروج عليه إذا كانت الحالة تلك، وما حال الإنسان مع أمره ونهيه؟ نقول: حال الإنسان مع أمره ونهيه يأتمر وينتهي بما يصلح أحوال الناس لا بما يصلح حال الحاكم؛ كيف هذا؟ نقول: أمر الحاكم الكافر على المسلمين على نوعين:

الأول: نوع تستقيم به حياة الناس، ويستقيم به أمره، يجب على الإنسان أن ينضبط بذلك وأن يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، لا بيعة وإنما إصلاحاً لأحوال الناس، وذلك كالانتظام بأنظمة المرور, والشرط, والعقود التجارية, وأحوال البلديات وغير ذلك؛ لأنه لا تستقيم أحوال الأمة إلا بهذا.

الثاني: لا يأتمر بأمره ولا نهيه إذا كان الأمر يرجع إلى خاصة نفسه، يعني: الحاكم، وذلك أنه يثبت بهذا الأمر منفرداً، وليس هذا لمصالح الناس، لهذا نقول: لا عقد بيعة بين الحاكم والمحكوم أصلاً، وأما انضباطه في ذلك فهو لصالح الناس، فلهذا يسأل كثير من المسلمين الذين يعيشون في بلدان الحكام فيها كفار أصليون؛ مثلاً بلدان أوروبا وغير ذلك يوجد فيها أقليات, مئات الآلاف فيها، هؤلاء ليس في عنقهم بيعة للحكام؛ لأن من يتولى هذه البلدان ليسوا من أهل الإسلام، ولا نجيز مثلاً لأمثالهم لقلة عددهم أن تقوم أقلية مائة ألف مائتين ألف في قتال حاكم في بلد فيه خمسين مليون أو ستين مليون، ألا تستأصل شوكتهم ويزالون؟ يزالون ويبقى الحاكم على ما هو عليه، ولهذا يقال المفسدة في ذلك ظاهرة، وأما بالنسبة لانتظامهم بما يصلح أحوال الناس فإنه يجب عليهم أن ينتظموا بذلك، وليس في عنقهم له بيعة، بل لا يجوز مبايعة الحاكم إذا كان كافراً.

يقول هنا: ولا نرى الخروج على الأئمة، ذكر الأئمة, أي: الأئمة السابقين، في قوله هنا: مع أئمة المسلمين، يعني: مع الأئمة من المسلمين، فلا يخرج عليهم، فقيدهم هنا بالإسلام، ويظهر الإسلام، بإقامة شريعة الإسلام، شريعة الإسلام بتحليل الحلال الذي أحله الله وتحريم الحرام الذي حرمه الله، ومن شرَّع شيئاً فحرم الحلال وأحل الحرام القطعي فهذا جعل نفسه نداً من دون الله، ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64]، المراد بهذا تعالوا يا أهل الكتاب إلينا أن لا نجعل واحداً منا يملك التشريع، وإنما يملكه الله سبحانه وتعالى، ولهذا جعل الله عز وجل التشريع إليه.

وينبغي أن أنبه إلى مسألة تتعلق بجانب التشريع والحكم، أنه ينبغي أن ننتبه إلى صورتين:

الصورة الأولى: -ويخلط فيها الطوائف في هذا- صورة التشريع وهو سن القوانين، هذا تشريع، ما قضى الله عز وجل فيه فهو إلى الله، وما تركه الله عز وجل وأذن للناس أن يشرعوا لأنفسهم ما يشاءون، من أحوال ونظم, من نظم الحياة, والبلديات, والصحة، والوظائف، وتقسيم المدن، والمحافظات، والمدارس، وسلالم التدريس، وسلالم ومراتب الطلاب وغير ذلك, والرواتب, وغير هذا من نظام الحياة، هذا مرده إلى أحوال الناس، يجتمعون عليه ويضعون ما يشاءون ما لم يخالف في ذلك أصلاً مستقراً في الشريعة، وإذا قضى الله عز وجل في شيء أمراً، ليس للإنسان حاكماً أو محكوماً أن يتناوله بتشريع فما حرم الله هو الحرام, فإذا أحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله فقد وقع في التشريع من دون الله، وهذا الذي وصف الله عز وجل به اليهود والنصارى في قوله جل وعلا: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، وبعض الناس يرى أن التشريع ليس شيئاً في هذا الباب، إنما المراد بالعبودية هي نوع من التعبد وهو السجود والركوع والعبادة من الصلاة وغير ذلك، لا, أيضاً التشريع عبادة، ولهذا يقول الله جل وعلى في كتابه العظيم: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40]، جعل الحكم عبادة.

الصورة الثانية: العمل بالتشريع، يعني: أنه شرع في بلد من البلدان شريعة الله عز وجل, ما أحله الله عز وجل فهو الحلال وما حرمه فهو الحرام، ثم وقع الإنسان في تقصير في التطبيق، لم يحرم حلالاً ولم يحل حراماً، لكنه أخل في التطبيق، أسقط الحد عن شارب خمر، تجاوز عن زان، قبل رشوة فأسقط الحد عن سارق وغير ذلك, مع ثبوت هذا الحكم في قانونه ونظامه، فهذه هي المسألة التي جاء عن السلف فيها الكفر دون كفر.

وأما المسألة الأولى فليست هي موضع بحث في هذا الباب، وإنما هي كفر بإجماع المسلمين، وبعض الناس يجعل مسألة الكفر دون كفر في المسألة الأولى، مسألة التشريع، هل هذا سائغ أو ليس بسائغ؟ ليس بسائغ عند أي أحد من المسلمين، ولهذا ربط الله سبحانه وتعالى السمع والطاعة بمن شرَّع بتشريعه، كما في قوله عليه الصلاة والسلام قال: (اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي يقوم بينكم بكتاب الله)، فقيد الأمر بكتاب الله سبحانه وتعالى, ولم يطلق السمع والطاعة لكل آمر أو ناهي.

وقوله: "ولا القتال في الفتنة"، المراد بالفتنة هي الالتباس، التباس الحق بالباطل وعدم تمييز ذلك، فالإنسان يمتنع عن هذا، وهل إذا دعاه حاكم إلى القتال ورأى أن هذا القتال فتنة له أن يمتنع أو يطيع؟ نقول: يمتنع، كما كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى فيما وقع وشجر بينهم عليهم رضوان الله تعالى، امتنع فئام من الصحابة، وكانوا يدعون ويمتنعوا؛ لماذا؟ لأنهم يرونه قتال فتنة. فيؤخذ بقوله فيما يراه إذا كان عالماً، وإلا يستفتي أهل العلم ويقلد من يثق بعلمه ودينه، الأصل في الفتنة في لغة العرب هو: الإحراق, إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [البروج:10]، يعني: أحرقوهم في النار؛ كأصحاب الأخدود، فيفتن الذهب والفضة إذا أحرق ثم تغير معدنهما، كذلك إذا أحرق الإنسان أو هدد بالحرق يظهر معدنه، هل هو صاحب إيمان صحيح كما فعل بأصحاب الأخدود، دخلوا النار لشدة إيمانهم أم لا, فيظهر حينئذ قوة التصديق الموجود لديه في هذا الباب، إذاً كل شدة تحدث تغيراً في الإنسان فهي فتنة، وإذا امتاز الحق من الباطل ليست بفتنة، لهذا كثر استعمال الفتنة في لغة العرب، وكذلك أيضاً في اصطلاح الشارع على أحوال متنوعة: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28]، وفي قول حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة)، المراد بالفتنة أن الولد والزوجة تغيرك، تؤخرك عن الصلاة، تجبن عن الإنفاق والصدقة خوفاً عليهم أو احتياطاً لهم، تمتنع عن بر الوالدين إرضاء للزوجة أو غير ذلك، هذا نوع من الفتنة التي تحدث فيك تغير، فكل شيء أحدث تغيراً في الإنسان فهو فتنة، ولهذا يقول حذيفة بن اليمان فيما رواه الحاكم في كتابه المستدرك قال: إذا كنت تريد أن تعلم أصابتك الفتنة أم لا؟ فإن كنت ترى شيئاً حراماً فرأيته حلالاً والشيء الذي تراه حلالاً ثم رأيته حراماً فقد وقعت في الفتنة، ما الذي جعلك تتردد؟ إما شك وريب، عدم ثقة في دينك, أو شبهات انطلت عليك, أو ابتلاء تخافه، فقمت بالتغير في هذا الباب.

قال: "ولا القتال في الفتنة" ومن باب أولى في غير القتال، إذا القتال الإنسان لا يقاتل مع وجوبه وتأكيده ودعي إليه، كذلك أيضاً في الشبهة التي تنطلي مثلاً على حزب, على تيار, أو نحو ذلك فإن الإنسان ينأى بنفسه إذا قامت الشبهة في هذا الباب.

قال: "ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا"، هنا قال: نسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا؛ لأن ولاية الأمر إلى الله، فالوالي خليفة الله سبحانه وتعالى في الأرض، هو الذي ينصبه ويذكر أوصافه, وهو الذي ينزع منه أوصافه ويعزله سبحانه وتعالى لمن ولاه الله عز وجل أمرنا، وذلك لأنه تولى بشرعة الله سبحانه وتعالى.

قال: "ولا ننزع يداً من طاعة"، وإنما تذكر اليد في أمور الطاعة والبيعة؛ لأنه يتبايع المحكوم مع الحاكم بالمصافحة كما كان النبي عليه الصلاة والسلام بايع أصحابه كما في حديث جرير وغيره (مصافحة وكان يبايع الناس بالكلام)، كما جاء في حديث عائشة عليها رضوان تعالى في الصحيح.

قال: "ولا ننزع يداً من طاعة, ونتبع السنة والجماعة"، ومراده بالسنة يعني: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار وأحوال، والسنة: هي الطريقة والهدي، وهذا في قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في المسند والسنن من حديث العرباض: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، قال: والجماعة، جماعة المسلمين وجاء التأكيد في ذلك في كلام الله عز وجل في مواضع عديدة، في قول الله سبحانه وتعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالجماعة)، وغير ذلك من الأخبار.

قال: "ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة" لأن الجماعة آكد من الاختلاف على أمر مرجوح، الجماعة مقصودة في ذاتها، ولكن إذا تمحض الحق وضوحاً فرأى أن غيره باطل متمحض البطلان، فنقول: هل للإنسان أن يفرق الأمة على ذلك أم لا؟ نقول: لا بد أن يُنظر إلى نوع الحق ونوع الباطل، هل هو من الأصول العظيمة أو الجزئيات أو غير ذلك, لهذا الإنسان مثلاً قد يثبت لديه قطعاً حديث مثلاً في بلد من البلدان لا تعمل به ويخشى أن يشوش على الناس؛ كالذي مثلاً يؤذن في أذان أبي محذورة في بلد لا يؤذنون بذلك، أو عوام هذا تمحض لديه وضوحاً وثبوت الدليل في ذلك هل له أن يقيم وأن يؤذن في الناس على مثل هذا ويفرق الناس ويعجبون من هذا؟ لا، الناس مثلاً في بلد من البلدان يقرءون مثلاً قراءة حفص عن عاصم ويريد أن يقرأ في هذا البلد بقراءة غيره وربما تغير وظنوا أن هذا يعبث بالقرآن أو يلعب أو يزيد أو ينقص لعامة الناس وبعدهم عن معرفة هذه الأمور، وهو يتمحض لديه وذلك أن القراءات متواترة، فهل له أن يفعل ذلك أم لا؟ نقول: لا يفعل ذلك ولو تمحض؛ لأن هذه المسائل من المسائل اليسيرة, لا يلزم من تمحضها أن يقوم الإنسان بشق الصف فيها، وماذا يفعل؟ يقوم بتعليم الناس قبل العمل، تعليم الناس في هذا العمل حتى تتوطن وتقبل نفوسهم بمثل هذا الأمر، وإذا تأكد الأمر فهل جمع الناس في الباطل من الأمور الأصول على خلاف الحق أولى من تفريقهم عن الحق؟ نقول: لا، تفريقهم على الحق أولى من اجتماعهم على الباطل، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى كفار قريش وهم مجتمعون، ففرقهم بالحق، صالح جاء إلى قومه وهم مجتمعون فجعلهم فريقان يختصمون، جعلهم فريقين، ولهذا نقول: إن الاختلاف على الحق أولى من الاجتماع على الباطل، هذا في الأصول، ما يتعلق في أمور الفروع ينظر فيه، ولهذا من الحكمة لطالب العلم ألا يثير مسائل عند العامة تحدث شق صف أو صدع أو غير ذلك بينهم, وإنما يتدرج بأسلوب التعليم حتى تتوطن النفوس على ذلك.

قال: "ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة"، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)، وهذا جاء أيضاً في هذا خبر قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن شذ شذ في النار), وذلك من خالف أمر الجماعة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في السنن من حديث أبي الدرداء قال عليه الصلاة والسلام: (عليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، تحذيراً من الشذوذ عن أمر جماعة المسلمين.

[ فإن الجهاد ماض مذ بعث الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة مع أولي الأمر من أئمة المسلمين لا يبطله شيء ].

وهذا على ما تقدم معنا في حديث جابر بن عبد الله في الصحيح، وحديث أبي هريرة تقدم معنا في مسألة ديمومة الجهاد، كذلك أيضاً في حديث يزيد عن أنس بن مالك وحديث عبد الرحمن بن زيد عن أبيه مرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الجهاد حلواً خضراً ما نزل القطر من السماء)، وغير ذلك من الأحاديث العاضدة لهذا الأصل، ومع أولي الأمر من أئمة المسلمين لا يبطله شيء، لا يبطل ديمومته، وقد يكون بين المسلمين قتال فتنة ولكن يريد بذلك هو أصل الجهاد لا يبطله شيء من الأهواء, ولهذا نقول: من قال بأن الجهاد لا يمضي إلى قيام الساعة أو يرتفع من الأرض فإنه ضال، ولكن يقبل في الشبهة إذا استدل الإنسان بشيء بأمر واضح أو أخذ بقرائن أو نحو ذلك على أن في قتال فلان لفلان أو قتال آل فلان في بلدة كذا أن هذا ليس جهاداً، لكنه لا يرفع الجهاد من الأرض، أما من رفعه ولم يثبته في موضع من الأرض فلا شك أن هذا ضال يخشى عليه من الكفر بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه أنكر شيئا معلوماً من دين الإسلام بالضرورة.

[ والحج كذلك, ودفع الصدقات من السوائم إلى أولي الأمر من أئمة المسلمين ].

يعني: إذا طلبوها، وقوله: "الحج كذلك", تقدم الإشارة إلى مسألة الحج وربطه بإمام المسلمين على ما تقدم الإشارة إليه، ولهذا كان عبد الله بن عمر عليه رضوان الله يسأل: متى ندفع؟ قال: إذا دفع أميرك، متى أرمي؟ قال: إذا رمى أميرك، فربط ذلك بالأمير اجتماعاً لكلمة الناس؛ حتى لا يشذوا؛ لماذا؟ لأن عمل المناسك في الظاهر واحد، والشريعة قد حرصت على الجماعة والائتلاف وعدم الفرقة، وكان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أيضاً يقربون مع جماعة المسلمين وإن اختلفوا, ويعملون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولو تنازعوا، ولهذا نقول: ما اجتمعوا على الإسلام واجتمعوا في ذلك على أصول الدين فإنهم يبتعدون عن الاختلاف والتنازع والافتراق على فروعه، ولهذا قاتل الصحابة عليهم رضوان الله مع أئمة الجور والظلم، منهم من يقاتل مع الحجاج تحت سراياه ويحج كذلك معه ويدفعون الزكاة إليه كما كان عبد الله بن عمرو عليه رضوان الله تعالى وغيره، يدفعون الزكاة إليه إذا طلبها, وكان له جاب يدفع إليه وتسقط, ولو أنفقها في غير وجهها؛ لماذا؟ جمعاً لكلمة المسلمين؛ لأن إنفاقه في غير وجهها ليس كفراً وإنما هوى وإسراف على النفس.