شرح عقيدة أبي حاتم وأبي زرعة [3]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله: [وأن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف, أحاط بكل شيء علماً لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ].

انتقل المصنف رحمه الله إلى مسائل الأسماء والصفات, فبدأ بمسألة الاستواء على العرش؛ وذلك لأن هذه المسألة من المسائل التي وقع فيها ضلال عند أهل البدع, بل هي من أوائل المسائل التي وقع فيها الخطأ والابتداع بعد الاستقرار على المعنى الصحيح.

الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه, والأدلة في ذلك مستفيضة متواترة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5], والله سبحانه وتعالى في استوائه نثبته من غير أن نكيف أو نشبه أو نعطل, فالله عز وجل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير, من اختل لديه باب علو الله سبحانه وتعالى فيختل لديه تبعاً مسألة الاستواء على العرش, ولهذا نقول: كل من نفى علو الله سبحانه وتعالى على خلقه فيلزم من ذلك أن ينفي استواء الله عز وجل على عرشه على الحقيقة, وعلو الله سبحانه وتعالى على خلقه على نوعين:

النوع الأول: علو ذات, وذلك لأن الله عز وجل فوق السماء السابعة على عرشه مستو سبحانه وتعالى, وهذا هو المقصود بعلو الذات.

وأما النوع الثاني فهو: علو القدر وعلو والمنزلة, وذلك لكمال المعاني فيه سبحانه وتعالى, وذلك بكمال الرحمة واللطف والقدرة والعزة التمكين وغير ذلك, فالله سبحانه وتعالى عالم في كل هذا على خلقه سبحانه وتعالى, الله جل وعلا مستو على عرشه بائن من خلقه.

قوله: "بائن", أي: يريدون بذلك نفي الممازجة بين الخالق والمخلوق, وهي عقيدة الاتحاد والحلول, الذين يقولون بأن الخالق هو المخلوق, وهذا شيء من تناسخ الابتداع الذي يكون عند أهل الضلال, وذلك أن البدعة تولد بدعة, فتبدأ البدعة يسيرة ثم تغلظ حتى تكون كفراً, ولهذا نقول: إن البدعة التي تولدت عند بعض الطوائف من الاتحادية الحلولية الذين لم يفرقوا بين خالق ومخلوق أن هذه نشأت لديهم بشيء من اللوازم لها من أصل الابتداع؛ وذلك كالذين يقولون بأن الإنسان مجبور, ثم يأتي بعد ذلك إجبار على المعصية, هل ما يقع من الإنسان معصية, ثم كيف يكون جنة أو نار أو نحو ذلك, فأخذوا يتسلسلون في باب النفي, حتى دعاهم ذلك إلى عدم التفريق بين الخالق والمخلوق, إذا جبر الإنسان غيره وتصرف به تصرفاً كاملاً ولا اختيار له في ذلك, فيلزم من ذلك أن الخطأ الذي يقع منه ينسب للجابر له, وعلى هذا ينبغي أن ينظر إليه إلى أنه ليس بخطأ, وإنما هو صواب, فتأول النصوص الواردة في ذلك, وطائفة تقابل هؤلاء الذين على ما تقدم ينفون صلة الخالق بالمخلوق إلا في أمر الخلق والإيجاد, قالوا: فأوجد ثم ترك, وهؤلاء هم المعتزلة, والذين توسعوا في هذا الباب من العقلانيين, وأصبحت مدرسة موجودة عند الفلاسفة, بدأت من أرسطو وأفلاطون وسقراط ثم استمرت عند هؤلاء, أخذها بعض المنتسبين إلى الإسلام وذلك ممن يسيرون على منهج أرسطو في هذا الباب, وذلك ممن يسمون بالمشائين من الإسلاميين؛ وذلك كـابن سينا وابن رشد والكندي والفارابي وغيرهم من الذين يسيرون على هذا المعنى, يسمون بالمشائين الإسلاميين, يعني: منتسبين للإسلام جروا على طريقة المشائين من أصحاب أرسطو , وذلك أن أرسطو إنما يعلم أصحابه وهو يمشي, فمن يمشي معه وهو يعلمه في ذهابه ومجيئه يقال لهم بأنهم المشاءون, يجري على طريقتهم هؤلاء الذين جروا على باب الفلاسفة ممن يسمون بالعقلانيين, المدرسة العقلية, وهذه المدرسة لما وجدت أصلاً حديثاً يعضدها في هذا الجانب وهي المدرسة العقلية الغربية من العلمانية واللبرالية وما ينتج عنها, أصبح ثمة تزاوج بين هؤلاء المشائين وبين المدرسة العقلية, فوجدت المدرسة العقلية الغربية لها توافقاً مع هذه المدرسة المنتسبة للإسلام, فاتفقت معها فأصبح ثمة تزاوج, وذلك بتهجين وتدجين تلك العقليات الغربية في بلدان المسلمين ما يتعلق بأصول العقيدة وتطبيقها أيضاً في أبواب الفروع, فأحدث ذلك رقة في التسليم للشريعة, فأخذوا ينقضون كثيراً من الأمور باعتبار أن الإنسان أدرى بمصلحته وهو أعلم بذلك, وينقضون هذه الأشياء باعتبار عدم تدخل الخالق فيها, ثم وجد عند هذه المدرسة ابتداء من يأخذ التوسع في هذا الباب في جانب بعد الدين عن السياسة, لا علاقة له باعتبار أن الدين إنما هو قائم معنوي في ذاته, لا علاقة له في كيان الدولة, يقوم في بعض الأفراد, فيبدءون بفك هذه الأشياء ما يبقي روح الإسلام في الفرد, هؤلاء أشد بعداً من الجهمية في هذا الباب.

يقول: "بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا كيف".

الله جل وعلا في استوائه على عرشه على ما تقدم, استوائه لازم لعلوه جل وعلا في ذاته, والله سبحانه وتعالى في السماء, والنبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الجارية السوداء, قال: ( أين الله؟ قالت: في السماء, قال عليه الصلاة والسلام: اعتقها فإنها مؤمنة ), فجعل إثبات العلو لله إثبات لربوبية الله وحقه في العبودية, وأن الرب الذي ليس في السماء ليس برب محمد صلى الله عليه وسلم, ولا يكون أيضاً من أهل الإيمان من لم يثبت أن الله عز وجل عال على خلقه, وضل في مسألة العلو طوائف, منهم الغلاة الذين لم يفرقوا بين علو وسفول, وهؤلاء هم غلاة الجهمية الذين خلطوا بين الخالق والمخلوق, ولم يفرقوا بين علو وغيره, وهذا دفعهم إلى ذلك شيء من اللوازم أيضاً بإثبات العلو, قالوا: إذا أثبتنا العلو لله سبحانه وتعالى فيلزم من ذلك خلو معيته لعباده, وجرى على هذا طوائف, ومنهم من غلا في هذا؛ كـبشر المريسي , حتى كان إذا سجد يقول: سبحان ربي الأسفل, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً, يعني: أنه يرى أن هذا هو الحق, فكما أنَّا نصف الله بالعلو وكذلك أيضاً الأسفل على سبيل المكان لا على سبيل المعنى, فهو في ظاهر حاله أنهم يرون تنزيهاً لله سبحانه وتعالى أن يخلو منه مكان أو معية أو تصرف أو غير ذلك, ولا شك أن هذا من الجهل، وسبب ذلك هو ما أشار إليه المصنف بإيراد هذا الدليل, قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11], وذلك أن الإنسان إذا عرف عقله وحدوده في الإدراك أدرك أن عقل الإنسان هو أداة لحمل ما يرى وما يسمع, فما يصل إلى الإنسان يضعه في عقله, العقل لا يوجد شيئاً لديه من غير الخارج منه, ولكن يورد المعلومات من خارجه ثم يضعها, يوردها عن طريق حواس الإنسان الخمسة والحاسة السادسة, وذلك بالسمع أو البصر أو بالشم أو بالذوق أو بالحس, وذلك أن الإنسان برؤيته يرى الأجرام, يرى الكبير والصغير والألوان ويميزها, العالي والمنخفض وغير ذلك, فهذا من منافذ الإدراك التي تصل إلى العقل, السمع يعرف الأصوات وتنوعها, وكذلك أيضاً يعرف أصنافها وقويها من ضعيفها وغير ذلك, فالسمع حاسة توصل إلى العقل, كذلك أيضاً شم الإنسان يعرف الروائح, ويدرك القوي من الضعيف ومن غيرها, والمحبوب من غيره, فيميز الروائح بشمه, وكذلك أيضاً بالذوق وهي الحاسة الرابعة, بذوقه يعرف الحلاوة من المرورة, ويعرف هذه الأشياء بذوقه, الحاسة الخامسة في الإحساس, يعرف الإنسان أن هذا حار أو بارد, الحاسة السادسة هي: المعنى القائم في النفس, يعني: أن الإنسان يعرف أنه حزين أو فرح من داخله, يعرف الحزن والفرح من داخله, وإن كان السبب ربما يطرأ عليه شيء خارج منه أو ربما تولد من داخله, فهو يعرف الفرح والحزن, هذه يأخذها العقل من خارجه ثم يقوم العقل بجمع بعضها مما يرى الإنسان من مرئيات ثم يقوم بالخلط بينها, لا يوجد العقل جديداً؛ وذلك كالقدر بالنسبة للماديات, تضع فيه من الماديات, من تراكيب مثل المادة, ثم تقوم بخلطها وتخرج مادة, هذه المادة ليست جديدة, وإنما هي الأجزاء المنفردة منفكة خارجه جمعت في داخله ثم خرج هذا الشيء؛ كذلك عقل الإنسان, الحروف موزعة ثم جمعها فأخرج كلمة, الألوان مفرقة ثم تجمع في قدر ثم تخرج لوناً جديداً إذا دمجت اللونين والثلاثة لم تخرج هذا اللون الجديد في قدرك وإنما هو في الخارج وإنما قمت بالجمع, ولهذا العقل لا يوجد المعلومات من العدم, وإنما هو يقيس, وبمقدار قياسه وتوغله في أبواب الجزئيات يوجد الإبداع حتى يظن أنه جدد, وتجديده في ذلك يختلف الناس فيه، فمن عرف قيمة العقل الحقيقية أدرك أنه لا يمكن يدرك الغائب عنه؛ كالقدر لا يمكن أن يوجد مادة لم تدخل إليه, ولا يصح له في ذلك القياس, لهذا الله سبحانه وتعالى يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11], يعني: لا يوجد شيء دخل إلى ذهن الإنسان بحواسه هذه يستطيع به أن يحيط بالله جل وعلا أيضاً, ولهذا نقول: إن كل ما يخطر في بال الإنسان أن الله كذلك فالله غير ذلك؛ لأنك لم تر الله, وليس كمثله شيء, لهذا تجد الإنسان يقيس على ما رأى, لو وجد شخص في بلد, أتيت بعشرة أشخاص كل واحد من قارة أو من بلدة كبيرة, ثم أخذت تحدثهم عن حكاية, تقول: دخل علي فلان أو دخلت على فلان وفلان وهما يأكلان طعاماً, هذا يتصور أنه يأكل على طاولة ومعه الملعقة, ويأكل طعاماً معيناً اعتاد عليه أهل بلده, وذلك يتخيل أنه يأكل على الأرض لأن بلده يأكلون على الأرض, ويأكل بيده لأنهم لا يأكلون بالملعقة, وهكذا, ومنهم من يتصور حالة معينة؛ لأنه يرى الأمر على ما استقر في ذهنه, ولو حدثت رجلاً من أهل زماننا, ورجلاً من أهل القرنين الماضيين, وقلت له: قدم إلينا فلان من بلدة كذا وكذا, لكان صاحب القرن الماضي يتخيل رجلاً على ناقة قدم إلى هذا البلد في ذهنه, وإذا حدثت أحد من أهل زماننا قلت: قدم إلينا فلان, لاستحضر أنه على مركبة, من السيارات أو غير ذلك, فهذا الأمر لماذا اختلف القياس مع أن العقل واحد؟ لأن ما فيه من مادة اختلفت, ذاك وضع الإتيان على الإبل فقاس أي خبر يسمع إليه لم يره على ما استقر لديه, ولهذا الله سبحانه وتعالى أخبر العباد بأنه السميع وبأنه البصير وبأنه القوي وبأنه العزيز وبأنه الجبار وبأن له صفات سبحانه وتعالى؛ من العين والسمع, واليد, والقدم, والساق, وغير ذلك من الصفات, فإذا جاء عند أحد ذكر لهذه الأشياء سيستحضر معنى استقر في ذاته مما يراه.

الله سبحانه وتعالى أخبر الإنسان بهذه الأشياء وذكره بأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11], ليس في عقلك شيء تستطيع أن تقيس عليه فتصل إلى الصواب, إذاً ما الواجب على الإنسان في هذا؟ الواجب على الإنسان أن يثبت ما أخبر الله عز وجل به في أمور أسمائه وصفاته وما عدا ذلك يتوقف عنه؛ لأن الذي أخبرك بذلك هو الذي أمرك بالتوقف, ولو لم يخبرك بالتوقف وعلمت أن الله عز وجل ليس له مثال لوجب عليك في باب العدل أن تتوقف عن خلق مثال وإيجاد مثال لشيء لا مثال له؛ لأنك إذا أوجدته فإنك كاذب, ولهذا نقول: إن الإنسان لا يمكن أن يأتي بجديد لم يره من قبل إلا وقد ركبه مع غيره, ولهذا لو أعطي أحدكم قلماً وورقة وأقول له: ارسم شكلاً لم تره من قبل, هل يستطيع؟ لا يستطيع أن يولد, إما يرسم أشياء أخذها من قرص الشمس والقمر, أو مثلاً مثلث أو غير ذلك يأخذها من النجوم, أو شيء من حصى الأرض رآه أو غير ذلك, فلا بد من أن يراه, إما أن يراه باليقظة أو رآه حلماً, أراه الله عز وجل إياه مناماً, فرآه من الأشباح وغير ذلك, أو ركب بين شيئين, فالتركيب بين هذين الشيئين هو بنهاية المطاف تشبيه لمثالين, فإذا جاء بثلاثة هو تشبيه لثلاثة وجمع بينهما, وإن قاس كل واحد من هذه الأمثلة سلبه شيء حتى اكتمل شيء من ثلاثة أشياء وأربعة وخمسة وستة, ولهذا نقول: إن الناس يبدعون في العقليات بتركيبها لا بإيجادها, كما يبدع الناس في الماديات بتركيبها لا بإيجادها, الإنسان في الماديات هل يوجد المادة من عدم؟ لا يوجد المادة من عدم, وإنما يمزج بينها حتى يخرج صناعة جديدة.

كذلك أيضاً في أمور العقليات, لا يوجد الإنسان إلا ما علمه الله سبحانه وتعالى إياه, ولهذا نقول: إننا نثبت ما أثبته الله جل وعلا لنفسه, ونتوقف عما عدا ذلك, لهذا في قول الله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11], هذه الآية تضمنت نفياً وإثباتاً, نفياً للشبيه والمثيل, لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11], وتضمنت إثباتاً في قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11], يعني: مع أنه ليس كمثله شيء ليس لك أن تنفي أصل الصفة لعدم وجود مثال عندك لقصور علمك, ولهذا قال الله جل وعلا بعد ذلك أيضاً: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11], مع أنه ليس كمثله شيء, ولهذا نقول: إنه يجب على الإنسان أن يثبت صفات الله سبحانه وتعالى كما أثبتها الله ولا يزيد في ذلك.

وثمة قواعد في هذا الباب في مسائل الأسماء والصفات, يتكلم عليها العلماء, ثمة كلام حسن في هذا الباب لـابن تيمية رحمه الله في التدمرية, وثمة أيضاً كلام في القواعد المثلى في أسماء الله الحسنى, قواعد جيدة في هذا الباب ينبغي لطالب العلم أن يرجع إليها, فهي حسنة في إدراك تلك القواعد المتعلقة بأسماء الله سبحانه وتعالى.

خلاصة ذلك: أنه لا يجوز للإنسان أن يصف الله عز وجل بما لم يصف به نفسه سبحانه وتعالى, كذلك فإنه يجب عليه أن ينفي عن الله عز وجل النقائص إجمالاً لا تفصيلاً, إلا عند الحاجة للتفصيل عند من يثبت النقيصة تنفى بعينها؛ لأن النقيصة إذا أثبتت ولم تنف بعينها كان ذريعة لبقائها فربما لم يقصدها عيناً, فبقي ذلك على ما هي عليه؛ كاليهود الذين يقولون: يد الله مغلولة, ماذا قال الله عز وجل؟ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64], أي: يثبت ما ينفيه أهل الباطل من نقائص, ولهذا نقول: إن الإنسان يثبت صفات الكمال لله ويفصل, وينفي النقائص ويجمل؛ لأن نفي النقيصة على سبيل التفصيل ذم, إلا إذا أثبتت النقيصة نصاً فتنفى بعينها, وذلك حتى لو كان الإنسان في النفي صادق, لأنه معروف في رواية العرب إذا أتاك رجل وسألك عن فلان: ماذا تعرف عنه؟ تقول: فلان لا يشرب الخمر, ولا يزني, فهذا ذم وليس بمدح، هو يريدك أن تأتي بصفات المدح والخير تفصيلاً وتنفي عنه الشر إجمالاً, ولهذا ليس للإنسان أن يقول: ليس الله بكذا ولا كذا ولا كذا ثم يقوم بعد الصفات النقائص, إلا إذا جاء من يصف الله عز وجل بشيء ينفيه عنه عيناً, لهذا إذا سئلت عن أحد فمن مواضع المدح أن تقول: هو كريم, ورحيم, وأيضاً يؤدي الصلاة, وصاحب خلق وديانة, وإكرام ضيف وغير ذلك, هذه المحامد, أما نفي النقائص فهذا لا ينفى إلا عند وجود من يثبتها, إذا خرجت إشاعة على شخص أنه يشرب الخمر, تقول: لا يشرب الخمر, لكن لا تنفيها من غير داع عليها, ولهذا نقول: إن الإنسان في أبواب أسماء الله عز وجل وصفاته يثبتها كما أخبر الله عز وجل عنها ويثبت لله عز وجل صفات الكمال تفصيلاً, ولا ينفي النقائص تفصيلاً إلا عند ورود من يثبتها مفصلة, وإنما ننفي صفات النقائص عن الله عز وجل بسبيل الإجمال, ونقول: يعز الله عز وجل عن كل صفة نقص أو عيب, ولهذا امتلأ القرآن وامتلأت السنة بإثبات صفات الكمال, وما جاء النفي إلا عند ورود من يصف الله عز وجل به لدفع ذلك.

كذلك أيضاً ليس للإنسان أن يولد أو يوجد صفة لله وذلك للزوم صفة لصفة, وذلك أن الأصل في إثبات اللزوم أن هذا يلزم منه إثبات التشبيه؛ وذلك كالذي يثبت لله سبحانه وتعالى صفة الضرس, أو اللسان, وذلك لأن الله يتكلم, فهل للإنسان أن يقول: نثبت صفة اللسان لأن الله يتكلم؟ لا, كذلك أيضاً في هذا المعنى في مسألة صفة الشم, ( أطيب عند الله من رائحة المسك ), هل نثبت صفة الشم لهذا؟ لا؛ لماذا؟ لأنه ما الذي جعلك تثبت صفة الشم؟ لأنك أنت لا تعلم الروائح الطيبة إلا بالشم, فقمت بتوليد شيء من هذا, وهذا ما جعل غلاة المثبتة يتوسعون في هذا الباب, فجاء عندهم من يغلو في هذا الباب فيثبت صفة الفم, ويثبت صفة اللسان, وكذلك صفة الأضراس, وكذلك أيضاً في الشفتين وغير ذلك لله سبحانه وتعالى, ومردنا في ذلك إلى الدليل لا إلى التعليل, فذلك الواجب علينا أن نتوقف عند ما أخبر الله سبحانه وتعالى به, وهذا ما يجعل بعض الطوائف تصف فيه أهل الحديث والسنة أنهم مجسمة؛ لأنهم يرون أنهم إذا أثبتوا صفة اليد يلزم من ذلك إثبات صفة الجسم, ثم صفة الظل لهذا الجسم وغير ذلك, لهذا نثبت هذا الأمر لله سبحانه وتعالى ولا نزيد على ذلك, هم استحضروا هذا المعنى أنه يلزم له معاني, إذا لزمت له معاني قاموا بنفيه, قالوا: نعطل هذه الصفات؛ لماذا؟ حتى لا نثبت لله جسماً, فإذا أثبتنا لله جسماً أثبتنا له محيطاً وأثبتنا له جهة, وأنه يحد سبحانه وتعالى, فمن الذي يحد الله سبحانه وتعالى؟ أخذوا بتعليلات تصوروها في ذات الإنسان.

كذلك أيضاً تولد لديهم جملة من المسائل حتى في استواء الله عز وجل على عرشه, إذا نزل إلى السماء الدنيا؛ هل يبقى مستوياً أو لا يبقى مستوياً؟ إذا نزل الله إلى السماء الدنيا هل يخلو عرشه منه أو لا يخلو منه؟ وهل يبقى على السماء الدنيا في اختلاف الثلث الأخير من الليل أم لا يبقى؟ هذه اللوازم الذي ولدوها ناشئة عن تشبيه؛ لأن الإنسان يرى في ذهنه أنه إذا خرج من داره إلى عمله خلت داره منه وانشغل عمله, إذا خرج إلى المسجد خلت داره وبقي في المسجد, وكذلك أيضاً العكس, فنشأ ذلك عن تشبيه فوقعوا في هذا التوسع, ولهذا نقول: إن الإنسان يثبت ما أثبته الله عز وجل لنفسه ولا يتعداه, ولا يسأل عما عداه؛ لأن الإنسان لا يخرج عن الخبر السمعي إلا للتحليل العقلي, وهو في حق الله سبحانه وتعالى يجب التوقف عند خبر السماء؛ حتى لا يتوسع الإنسان في ذلك, وأهل الحديث والسنة ظلموا من طوائف في هذا الباب, سواء كان الغلاة أو الجفاة, الغلاة في هذا الباب الذين يقولون: أنتم تثبتون هذا الشيء فيلزم منه هذا الشيء وأنتم تتناقضون ولا تثبتونه, لماذا لا تثبتونه؟ والجفاة الذين يقولون: أنتم تسبون الله سبحانه وتعالى بإثبات وصفه بأشياء يلزم منها أخطاء, ويلزم منها نقائص, وهؤلاء دفعهم ذلك إلى التعطيل, ولهذا يقول العلماء: إن كل معطل مشبه, وذلك أن الإنسان لا يمكن أن يعطل صفة لله إلا وقد انقدح في ذهنه تشبيهاً نفر منه, فاستقر في قلبه التشبيه ثم هرب منه إلى التعطيل.

[ وأنه تبارك وتعالى يرى في الآخرة, يراه أهل الجنة بأبصارهم, ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء ].

هنا ذكر في رؤية الله سبحانه وتعالى وقيدها في الآخرة, وعقيدة أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل لا يرى في الدنيا, واختلف العلماء في مسألة رؤية الله جل وعلا في موضعين:

الموضع الأول: في رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه, وهل رآه حقيقة أو رآه مناماً؟

الثاني: في رؤية سائر المؤمنين لربهم في المنام, هل يرى المؤمن ربه وهل يمكن ذلك أم لا؟ ويتفق أهل السنة على أن الله سبحانه وتعالى لا يراه المؤمنون في الدنيا على الحقيقة, وإنما جعل الله عز وجل ذلك في الآخرة لأهل الإيمان, قالوا: وأنه تبارك وتعالى يرى في الآخرة, يراه أهل الجنة بأبصارهم, وقوله هنا: بأبصارهم, أراد دفعاً لمن ينفي رؤية الله سبحانه وتعالى فأراد أن يبين أن الرؤية حقيقية لله سبحانه وتعالى؛ كما في قول الله سبحانه وتعالى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23], وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر, هل تضامون في رؤيته ), فالنبي صلى الله عليه وسلم شبه الرؤيا بالرؤيا لا المرئي بالمرئي, فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لا يتزاحمون على رؤية الله سبحانه وتعالى فيضر بعضهم ببعض, فأراد أن يشبه حال الناس في رؤية الله سبحانه وتعالى.

قال هنا: يراه أهل الجنة بأبصارهم, ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء.

وذلك أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بكلام يوم القيامة ويسمعه الخاص ويسمعه العام, يكلم عبده وكلامه في الآخرة على نوعين: خطاب خاصة, وخطاب عامة. خطاب الخاصة أن الله عز وجل يخاطب بعض عباده في الآخرة بفضله, وذلك كإقرار الله عز وجل لعباده بالذنوب والمعاصي وغير ذلك, فهذا خطاب خاصة, وخطاب العامة: النداء الذي يخاطب الله عز وجل به الناس كافة؛ كما جاء في حديث عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلاً فيناديهم الله عز وجل بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب, فيقول: أنا الملك, أنا الديان, لا ينبغي لأحد من أهل الجنة وعليه لأحد من أهل النار حق, ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقص منه حتى اللطمة ), وهذا دليل على الخطاب العام في ذلك, وهذا على اعتبار, وثمة خطاب آخر له اعتبارات عدة كالعلماء, ولكن الله سبحانه وتعالى يخاطب عباده في الآخرة.

وقوله: "يراه أهل الجنة بأبصارهم", أراد هنا أن يبين أن أهل الكفر وأهل النار لا يرون الله سبحانه وتعالى, وينبغي أن نقول: أن رؤية الله سبحانه وتعالى تكون لأهل الجنة, ويتفق العلماء على أن من دخل النار لا يرى الله سبحانه وتعالى؛ لأن رؤيته نعيم, وأما الكلام فيمن لم يدخل النار قبل دخوله لها ممن استحق النار هل يرى الله جل وعلا ثم يحجب عنها تشديداً في العذاب, وذلك يستدلون بقول الله سبحانه وتعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15], أي: أنهم رأوه ثم حجبوا عنه, والصحيح في ذلك أن المشركين قبل دخول النار وبعد دخول النار لا يرون الله؛ لأن رؤيته نعيم.

وفي قوله: "ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء", لأن الخالق يتصرف بالمخلوق ولا يتصرف المخلوق بالخالق, فجعل المشيئة لله لا لعباده, فهو الذي ينعم على عباده كيفما شاء سبحانه وتعالى, ولهذا قال: يراه أهل الجنة بأبصارهم, ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء وحده سبحانه وتعالى.