سلسلة العقيدة - شرح عقيدة أبي حاتم وأبي زرعة [6]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله: [ والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم ولا ندري ما هم عند الله عز وجل ].

وهذا هو الأصل، أن الناس ممن يخالطون في بلدان المسلمين أن الأصل فيهم الإيمان، فلا نتتبع كل واحد منهم لنثبت إيمانه، لا، وإنما نحمله على الأصل ولا ننقله منه إلا بدليل.

قال: "والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم"، يعني: لا نسأل إذا جاءت قضية عند أحد أو نحو ذلك، هلك هالك، ولا نبحث وراء ذلك، هل ارتفع الإيمان عنه أو لم يرتفع، حتى يؤثر ذلك بقسمة التركة ولوازمها لا, نحمله على الإسلام، ولا نتتبع في أمره؛ لأن السرائر في ذلك إلى الله سبحانه وتعالى فنعمل في ذلك في الظاهر، ولهذا نقول: إن البلدان على نوعين: بلدان إسلام وبلدان كفر، بلدان الإسلام الأصل فيها الإسلام على الأعيان, وبلدان الكفر الأصل فيها الكفر على الأعيان، ويكون دخول الإسلام في ذلك استثناء، ثمة صور نادرة في هذا، أن يكون مثلاً في بلد من بلدان المسلمين من حمل اسم كذا فليس بمسلم، فإذا جاء عند قاض أو جاء عند أحد يريد قسمة تركة الأصل أنه يقسمها على قسمة المسلمين ما قامت قرينة، فإذا رأى اسمه يقول هل هو كافر أو مسلم؟ يقوم بالتثبت؛ لماذا؟ لوجود القرينة، وذلك كالاسم أو وجود عائلة أو نحو ذلك لا تنتمي للإسلام، فهذه أشياء استثناء.

قال: "والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم"، لدينا في أبواب الإيمان والكفر أسماء وأحكام، الأحكام لازمة للأسماء, والأسماء لا يلزم منها أحكام بكل حال، وذلك أنه إذا حكمت على أحد بالكفر لا يلزم من ذلك أن تقوم بقتله أو أن تستبيح دمه أو عرضه أو غير ذلك، فهذا حكم زائد عن الاسم، ولكن ليس لك أن تقول: إن فلاناً مسلم ثم تقوم باستباحة دمه؛ لأن الأصل أن الحكم لا بد من ورود الاسم معه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث )، كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود وغيره، ولهذا نقول: نثبت الأسماء على من ظهر منه موجبها, ونُتْبِع الحكم إذا قامت الحجة عليه؛ وذلك إذا كان مثلاً هناك شخص تلبس بالكفر، طرأ, هذا كافر لتلبسه بالكفر, لكن قد تقوم قرينة تحتاج في ذلك أن تنزل الحكم عليه، تقيم الحجة عليه، الذين يطوفون على القبور والأضرحة وغير ذلك في بلدان المسلمين ويسجدون لها من دون الله وينذرون ويسألونها من دون الله سبحانه وتعالى هؤلاء مشركون، لكن هل للإنسان أن ينزل عليهم حكم الله لمجرد نزول الاسم؟ لا، لا يلزم من ورود الاسم ورود الحكم حتى يكون موجب الحكم أيضاً, وهذه مسألة تحتاج إلى تفصيل.

[ فمن قال إنه مؤمن حقاً فهو مبتدع, ومن قال هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين, ومن قال هو مؤمن بالله حقاً فهو مصيب ].

وهنا في قوله: "فمن قال إنه مؤمن حقاً فهو مبتدع"، وذلك لأمرين: أن الإيمان حقيقة لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى, كذلك أيضاً فإن مقياس الإيمان هو مقياس الشريعة, لا مقياس ذات الإنسان وتقييمه له، لأنه لو وكل الناس إلى نفوسهم وإلى آرائهم وأهوائهم لكان كل أحد يقول: أنا مؤمن وانتهى الأمر، ولهذا اليهود والنصارى كل طائفة منهم تقول عن الطائفة الأخرى: ليست على شيء، وهم يتلون الكتاب، يعني: يقرءون، لكن يتأولون ذلك، ولكن نقول: إن كل دعوة في ذلك لا اعتبار بها لأن مردها إلى الله سبحانه وتعالى, وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113].

وفي قول المصنف رحمه الله: "ومن قال هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين"، وهنا أراد التنبيه على معنى؛ لأنه لا يعلم الإنسان منزلته لأسباب: منها أن الإنسان ينسى سيئته ويذكر حسنته فلا يعلم مقياس إيمانه، فإن الإيمان له منزلة ومرتبة وهي أعلى من الإسلام، والشيطان له مداخل على الإنسان أن يستحضر العمل الصالح في ذهنه وأمام عينيه؛ حتى يعظم ويتواكل وينسى سيئاته، ولهذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في مواضع كثيرة في أحاديث ( أن الإنسان يفاجأ يوم القيامة بعدد السيئات التي نسيها )، يفعلها ونسيها وأحصاها الله سبحانه وتعالى، ما الذي يذكر؟ يذكره الشيطان بالحسنات؛ حتى يسكن ويرتاح ويتمادى في السيئات ويطمئن حتى لا يأمن من مكر الله سبحانه وتعالى عليه، ولهذا قال: "من قال هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين"؛ لأنه ما يدري حاله، قيمته عند الله؛ لماذا؟ هل السبب في عمل الإنسان؟ الله عز وجل عدل, يعطيك على عملك, ولكن الخلل في ذلك أنك تجهل نفسك وتنسى أمرك، من جهة ماذا؟ من جهات: منها: أن تنسى العمل كله، الماضي منك, ومنها أيضاً: أن تجهل قيمة العمل الذي فعلته أنت، ربما تؤدي الصلاة، أديتها لكن هل خشعت فيها؟ هل حضر قلبك فيها؟ ما هو مقدار القبول عشرها، ربعها، ثلثها، نصفها، ثلثيها أكثر من ذلك أم أقل، ما مقدار هذا الأمر؟ الإنسان غالباً ينظر إلى الأمور الظاهرة, والله عز وجل كما جاء في حديث أبي هريرة ( لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى القلوب التي في الصدور )، هذه القلوب هي موضع الخداع والغرر عند الإنسان، لهذا الإنسان يجهل تقييم نفسه بنسيانه لما مضى من عمله، وتقييمه لعمله الحاضر؛ لأنه ما يدري أمره، كذلك أيضاً: أن الإنسان ربما يغلب عليه هواه فيظلم ويظن أنه ليس بظالم، ولهذا يقول الله جل وعلا عن بعض الظالمين الذي يقع منه ظلم ويظن أنه على خير: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104]، يظن أنه على خير، هذا الظن هو الذي يجعل بعض الناس يقول: أنا مؤمن عند الله، أنت لا تعلم ما حالك عند الله، ربما كابرت لأجل الهوى فتظن أنك على حق وأنت على باطل، ولهذا قال: ومن قال هو مؤمن بالله حقاً فهو مصيب, يعني: يكل أمره على ما علم من أمره لا عند الله، لا من أمر الله، لأنه لا يعلم أمر الله سبحانه وتعالى إلا هو، يعني كقول الإنسان: لا أعلم عن فلان إلا خيراً، أو أحسبه كذلك، فهو يرجع إلى حسبانه، فإذا جاز شهادة الإنسان لغيره ممن خارج عنه، فشهادته لنفسه عند نفسه فيما يعلمها منها لا عند الله، فهذا جائز من باب أولى؛ لأن غيره أخفى عليه.

فرقة المرجئة

[ والمرجئة والمبتدعة ضلال ].

وهذا على ما تقدم في مسائل الإرجاء، تقدم معنا بسط ذلك في مسألة الإيمان ومراتبهم والإشكال في مسألة العمل.

والإرجاء اشتق من إنساء العمل وإرجائه وعدم إعطائه وزنه الحقيقي؛ كإرجاء الدين وإرجاء الأجل فيه، كذلك أيضاً يرجئ العمل ويفك عن القول والاعتقاد.

فرقة القدرية

[ والقدرية المبتدعة ضلال ].

يقول: "والقدرية المبتدعة ضلال"، تقدم معنا أيضاً الكلام عن القدرية, ونفيهم للقدر, والخلل أيضاً في هذا الباب هو علة هذا النفي، تقدم معنا الإشارة إليه.

[ فمن أنكر منهم أن الله عز وجل لا يعلم ما لم يكن قبل أن يكون فهو كافر ].

وهذا إشارة إلى ما تقدم إلى أن من نفى القدر يلزم منه أن ينفي العلم، ولهذا يقول الإمام الشافعي وكذلك الإمام أحمد أن القدرية يخاصمون بالعلم، فإذا نفوا العلم كفروا، وإن أثبتوه خوصموا, كيف يعلم دقائق الأشياء وهو لم يقدرها، إلا الذي رسمها سبحانه وتعالى، وذلك أنه يُعلم في الماديات في نظر الإنسان أنه لا يعلم دقائق الأشياء إلا من وقف عليها ابتداء ولله المثل الأعلى، ولهذا الإنسان أو الطبيب يجهل حال الإنسان في تركيبته؛ لماذا؟ لأنه ما خلقه، ولهذا الله عز وجل يقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، يعلمه لأنه هو الذي خلقه, وهو الذي قدره سبحانه وتعالى، وجعل أيضاً له مقاديره وأحواله، ولهذا يخاصم القدرية في أمر العلم.

فرقة الجهمية

[ وأن الجهمية كفار ].

يقول: وأن الجهمية كفار, وهم أتباع الجهم بن صفوان , تقدم أيضاً معنا الإشارة إلى الجهمية, وضلالهم أيضاً في أبواب الأسماء والصفات, وضلالهم في جانب القدر، وأيضاً في مسألة الحلول والاتحاد ونفي التمايز بين الخالق والمخلوق.

فرقة الرافضة

[ وأن الرافضة رفضوا الإسلام ].

والرافضة نشأت ابتداء تشيعاً وموالاة لأهل البيت، ثم بعد ذلك غلوا على ما تقدم الكلام عليه، أول ما بدأ التشيع في حب علي وتقديمه على عثمان , ثم أخذوا يقدمونه مرتبة وعتبة حتى وصلوا إلى تأليهه، ولهذا نقول: من إحكام الله عز وجل للشريعة أن الشيء الصحيح لا يمكن أن ينتقض إلى قيام الساعة، والشيء الباطل لا بد أن يصطدم بشيء باطل ولو بعد قرن أو قرنين، ولهذا العقيدة الضالة يتناسخ فيها الضلال، والعقيدة الحق ثابتة لا تتغير، لهذا الرافضة لما نشأ لديهم عقيدة الإمامة وهي عصمة الأئمة؛ أرادوا من ذلك لأنهم كانوا يطعنون في الصحابة، من أين يأتيك التشريع وأنت تطعن في الصحابة؟ كيف تصلي وتصوم وتتصدق؟ أوجدوا الأئمة المعصومين، يعني: لا بد من وسيط، أوجدوا الأئمة، هؤلاء الأئمة لما جاءوا الإمام الحادي عشر لم يولد له، أغلق الباب، إذاً ماذا يفعلون بعد ذلك، أوجدوا السرداب، دخلوا في متاهات، في مسألة السرداب، من الوسيط بينهم وبين السرداب، أصبح كل شخص يقول: أنا وسيط بينه وبين السرداب، وأصبحوا يأتون بمتناقضات، ولهذا الجهالات تتناسخ والحق الثابت، ولهذا ترون عقيدة السلف الصالح من الصحابة الذين يجرون على الكتاب والسنة ومن جاء بعدهم، يجرون على عقيدة واحدة لا يمكن أن تولد باطلاً، أما أهل الضلال فإن الضلال يتراكم في ذلك كالبناء حتى يصبح في ذلك هرماً عظيماً، ولهذا ينغمس الرافضة في أبواب الجهالة، قيل أنهم سموا بالرافضة؛ لرفضهم الحق ورفضهم الإسلام وهذا قول لجماعة من السلف، نشأ الرفض في زمن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى, في خلافة علي بن أبي طالب عليه رضوان الله، وأول من قال به عبد الله بن سبأ ثم تبع على هذا القول, وغلوا في هذا الجانب، يقول: "وأن الرافضة رفضوا الإسلام"، وذلك أن من رفض أصلاً من أصوله رفضه كله، ولو آمن ببعض شعائره أو ظواهره العامة فإن هذا لا ينفعه.

فرقة الخوارج

[ والخوارج مراق ].

وهنا تقدم الكلام معنا فيما يتعلق في مسألة الخوارج، وذلك أنهم مراق من الحق، لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث قال: ( يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية )، يعني: أنهم يدخلون في الإسلام ثم يخرجون منه ثم يرجعون إليه بسلاسة وسهولة؛ لجهالة وطمأنية بال فيه، ولهذا من أعظم مكر الله عز وجل على أهل الضلال أنه يتبع الضلال وهو سعيد بضلاله، ويتبع الغي وهو سعيد بغيه، ولهذا يخرج منه ويعود إليه بسرعة بلا تردد، الإنسان الوجل قلق لا يسرع، ولهذا تجدون في طبائع الناس أن الإنسان إذا أراد أن يذهب في سفر ونحو ذلك وهو لا يعرف الطريق، لا يدري كم المسافة التي يقطعها، ربما يتجاوز البلدة التي يريدها، يمشي الهوينى؛ لماذا؟ لأنه ينتظر أحد يسأل، شك لديه، أما الذي في ضلال ويسرع دليل على ماذا؟ دليل على غاية في الجهل، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية )، يعني: سراعاً.

وفي هذا إشارة أيضاً إلى معنى آخر أن السهم هو الذي رمى بنفسه أو رمي به؟ رمي به, أنهم يعيشون في التقليد أكثر من التحرر، يعيشون في دائرة التقليد ويرمى بهم لا يرموا بأنفسهم، ولهذا أعظم بلية العقول التقليد، هي التي تضلها، ولهذا أكثر صراع أهل النار حجة الذين اتبعوا للذين اتبعوا، أنَّا اتبعناكم في هذا الباطل، لهذا ينبغي للإنسان أن يسأل عن الحجج، يسأل عن البينات، يقف عندها, فإذا سمع قولاً؛ ما دليله من الكتاب والسنة، لأن الله عز وجل أوجد لك عقلاً، وأنزل كتاباً بلسانك تفهمه لو أردت أن تفهم، وما ألزمك بأن تتبع الناس، وقد يتبع الإنسان إماماً ويقلده لكن لا بد من أصل يتكئ عليه أن هذا الرجل صادق؛ لأن الشريعة فيها جزء عظيم تسليم، ولكن تسليم لله سبحانه وتعالى، فتجعل هذا الإمام وهذا العالم بعد اختباره وسبر لحاله أنه من أهل الصدق وأنه لا يفتري على الله ولا يقول إلا الحق في مسائل عريضة، لا حرج عليك أن تقلده في مسائل أخرى من غير اتباع؛ لماذا؟ لأنه تمحض لديك صدقاً فيما عداها، فلم تسلم له تسليماً تماماً ولم تنقد له انقياداً تاماً.

والخوارج هم الذين يكفرون بالكبيرة، ويلزم من ذلك أنهم يقاتلون أئمة الجور لأنهم كفروا بجورهم، فعظم أمرهم في الإسلام؛ لعظم أثرهم في هذا، فلا يقرون ببيعة, ولا يقرون بجماعة، لأنه ما من أحد إلا ويبلى بكبيرة، إلا ويبلى بكبيرة حتى أن عند بعض المتأخرين ممن يدون في الفقه أن من حلق لحيته كافر؛ لأن حلق اللحية يرون أنه كبيرة فيلزم من ذلك الكفر، على هذا يتبعها من شروط من مسائل النكاح، ومسائل التوريث، ومسائل الولاية كل هذا يدخل في هذه الدائرة, وهذا ضلال مبين، ولهذا هذه المسألة في التكفير بالكبيرة لشدة لوازمه العامة والخاصة على الدين وعلى الدنيا عظم فساد الخوارج على الإسلام وعلى دنيا المسلمين.

[ والمرجئة والمبتدعة ضلال ].

وهذا على ما تقدم في مسائل الإرجاء، تقدم معنا بسط ذلك في مسألة الإيمان ومراتبهم والإشكال في مسألة العمل.

والإرجاء اشتق من إنساء العمل وإرجائه وعدم إعطائه وزنه الحقيقي؛ كإرجاء الدين وإرجاء الأجل فيه، كذلك أيضاً يرجئ العمل ويفك عن القول والاعتقاد.

[ والقدرية المبتدعة ضلال ].

يقول: "والقدرية المبتدعة ضلال"، تقدم معنا أيضاً الكلام عن القدرية, ونفيهم للقدر, والخلل أيضاً في هذا الباب هو علة هذا النفي، تقدم معنا الإشارة إليه.

[ فمن أنكر منهم أن الله عز وجل لا يعلم ما لم يكن قبل أن يكون فهو كافر ].

وهذا إشارة إلى ما تقدم إلى أن من نفى القدر يلزم منه أن ينفي العلم، ولهذا يقول الإمام الشافعي وكذلك الإمام أحمد أن القدرية يخاصمون بالعلم، فإذا نفوا العلم كفروا، وإن أثبتوه خوصموا, كيف يعلم دقائق الأشياء وهو لم يقدرها، إلا الذي رسمها سبحانه وتعالى، وذلك أنه يُعلم في الماديات في نظر الإنسان أنه لا يعلم دقائق الأشياء إلا من وقف عليها ابتداء ولله المثل الأعلى، ولهذا الإنسان أو الطبيب يجهل حال الإنسان في تركيبته؛ لماذا؟ لأنه ما خلقه، ولهذا الله عز وجل يقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، يعلمه لأنه هو الذي خلقه, وهو الذي قدره سبحانه وتعالى، وجعل أيضاً له مقاديره وأحواله، ولهذا يخاصم القدرية في أمر العلم.

[ وأن الجهمية كفار ].

يقول: وأن الجهمية كفار, وهم أتباع الجهم بن صفوان , تقدم أيضاً معنا الإشارة إلى الجهمية, وضلالهم أيضاً في أبواب الأسماء والصفات, وضلالهم في جانب القدر، وأيضاً في مسألة الحلول والاتحاد ونفي التمايز بين الخالق والمخلوق.

[ وأن الرافضة رفضوا الإسلام ].

والرافضة نشأت ابتداء تشيعاً وموالاة لأهل البيت، ثم بعد ذلك غلوا على ما تقدم الكلام عليه، أول ما بدأ التشيع في حب علي وتقديمه على عثمان , ثم أخذوا يقدمونه مرتبة وعتبة حتى وصلوا إلى تأليهه، ولهذا نقول: من إحكام الله عز وجل للشريعة أن الشيء الصحيح لا يمكن أن ينتقض إلى قيام الساعة، والشيء الباطل لا بد أن يصطدم بشيء باطل ولو بعد قرن أو قرنين، ولهذا العقيدة الضالة يتناسخ فيها الضلال، والعقيدة الحق ثابتة لا تتغير، لهذا الرافضة لما نشأ لديهم عقيدة الإمامة وهي عصمة الأئمة؛ أرادوا من ذلك لأنهم كانوا يطعنون في الصحابة، من أين يأتيك التشريع وأنت تطعن في الصحابة؟ كيف تصلي وتصوم وتتصدق؟ أوجدوا الأئمة المعصومين، يعني: لا بد من وسيط، أوجدوا الأئمة، هؤلاء الأئمة لما جاءوا الإمام الحادي عشر لم يولد له، أغلق الباب، إذاً ماذا يفعلون بعد ذلك، أوجدوا السرداب، دخلوا في متاهات، في مسألة السرداب، من الوسيط بينهم وبين السرداب، أصبح كل شخص يقول: أنا وسيط بينه وبين السرداب، وأصبحوا يأتون بمتناقضات، ولهذا الجهالات تتناسخ والحق الثابت، ولهذا ترون عقيدة السلف الصالح من الصحابة الذين يجرون على الكتاب والسنة ومن جاء بعدهم، يجرون على عقيدة واحدة لا يمكن أن تولد باطلاً، أما أهل الضلال فإن الضلال يتراكم في ذلك كالبناء حتى يصبح في ذلك هرماً عظيماً، ولهذا ينغمس الرافضة في أبواب الجهالة، قيل أنهم سموا بالرافضة؛ لرفضهم الحق ورفضهم الإسلام وهذا قول لجماعة من السلف، نشأ الرفض في زمن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى, في خلافة علي بن أبي طالب عليه رضوان الله، وأول من قال به عبد الله بن سبأ ثم تبع على هذا القول, وغلوا في هذا الجانب، يقول: "وأن الرافضة رفضوا الإسلام"، وذلك أن من رفض أصلاً من أصوله رفضه كله، ولو آمن ببعض شعائره أو ظواهره العامة فإن هذا لا ينفعه.

[ والخوارج مراق ].

وهنا تقدم الكلام معنا فيما يتعلق في مسألة الخوارج، وذلك أنهم مراق من الحق، لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث قال: ( يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية )، يعني: أنهم يدخلون في الإسلام ثم يخرجون منه ثم يرجعون إليه بسلاسة وسهولة؛ لجهالة وطمأنية بال فيه، ولهذا من أعظم مكر الله عز وجل على أهل الضلال أنه يتبع الضلال وهو سعيد بضلاله، ويتبع الغي وهو سعيد بغيه، ولهذا يخرج منه ويعود إليه بسرعة بلا تردد، الإنسان الوجل قلق لا يسرع، ولهذا تجدون في طبائع الناس أن الإنسان إذا أراد أن يذهب في سفر ونحو ذلك وهو لا يعرف الطريق، لا يدري كم المسافة التي يقطعها، ربما يتجاوز البلدة التي يريدها، يمشي الهوينى؛ لماذا؟ لأنه ينتظر أحد يسأل، شك لديه، أما الذي في ضلال ويسرع دليل على ماذا؟ دليل على غاية في الجهل، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية )، يعني: سراعاً.

وفي هذا إشارة أيضاً إلى معنى آخر أن السهم هو الذي رمى بنفسه أو رمي به؟ رمي به, أنهم يعيشون في التقليد أكثر من التحرر، يعيشون في دائرة التقليد ويرمى بهم لا يرموا بأنفسهم، ولهذا أعظم بلية العقول التقليد، هي التي تضلها، ولهذا أكثر صراع أهل النار حجة الذين اتبعوا للذين اتبعوا، أنَّا اتبعناكم في هذا الباطل، لهذا ينبغي للإنسان أن يسأل عن الحجج، يسأل عن البينات، يقف عندها, فإذا سمع قولاً؛ ما دليله من الكتاب والسنة، لأن الله عز وجل أوجد لك عقلاً، وأنزل كتاباً بلسانك تفهمه لو أردت أن تفهم، وما ألزمك بأن تتبع الناس، وقد يتبع الإنسان إماماً ويقلده لكن لا بد من أصل يتكئ عليه أن هذا الرجل صادق؛ لأن الشريعة فيها جزء عظيم تسليم، ولكن تسليم لله سبحانه وتعالى، فتجعل هذا الإمام وهذا العالم بعد اختباره وسبر لحاله أنه من أهل الصدق وأنه لا يفتري على الله ولا يقول إلا الحق في مسائل عريضة، لا حرج عليك أن تقلده في مسائل أخرى من غير اتباع؛ لماذا؟ لأنه تمحض لديك صدقاً فيما عداها، فلم تسلم له تسليماً تماماً ولم تنقد له انقياداً تاماً.

والخوارج هم الذين يكفرون بالكبيرة، ويلزم من ذلك أنهم يقاتلون أئمة الجور لأنهم كفروا بجورهم، فعظم أمرهم في الإسلام؛ لعظم أثرهم في هذا، فلا يقرون ببيعة, ولا يقرون بجماعة، لأنه ما من أحد إلا ويبلى بكبيرة، إلا ويبلى بكبيرة حتى أن عند بعض المتأخرين ممن يدون في الفقه أن من حلق لحيته كافر؛ لأن حلق اللحية يرون أنه كبيرة فيلزم من ذلك الكفر، على هذا يتبعها من شروط من مسائل النكاح، ومسائل التوريث، ومسائل الولاية كل هذا يدخل في هذه الدائرة, وهذا ضلال مبين، ولهذا هذه المسألة في التكفير بالكبيرة لشدة لوازمه العامة والخاصة على الدين وعلى الدنيا عظم فساد الخوارج على الإسلام وعلى دنيا المسلمين.

[ ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفراً ينقل عن الملة, ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر ].

وهنا بعد أن ذكر المصنف في ابتداء هذه الرسالة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ذكر في هذا الموضع حكم من قال بأن القرآن مخلوق وليس بكلام الله سبحانه وتعالى، وأئمة السلف من التابعين وأتباعهم وأتباعهم وأتباعهم على أن من قال أن حرفاً من القرآن مخلوق فهو كافر؛ لأن القرآن كلام الله، وكلامه صفة من صفاته، والقول بخلق الصفة يؤدي إلى القول بخلق الخالق جل وعلا، وهذا ضلال مبين، إضافة إلى تكذيب ما تصمنه كلام الله سبحانه وتعالى من نسبة الأمر إليه، ولهذا نقول: إن ما يزعمه بعض العقلانيين من أن هذه المسألة ينبغي ألا تعظم؛ لأنها من الخلاف اللفظي، قال: نحن نؤمن بما في كتاب الله من معاني وأحكام فلماذا نعظم هذا الأمر ما فيه من أحكام نعمل به سواء قلنا هو كلام أو كان مخلوق أو خلقه الله عز وجل أوجده في الأرض، هذا يسلسل كثيراً من الباطل، منها نفي علو الله، نحن نعبد الله سواء أثبتنا علوه أو جعلناه بغيره من الأرض، ونحن نعبد الله عز وجل سواء قلنا سميعاً أو بصيراً أو لم نثبت السمع والبصر، نعبده ونؤدي له هذه الصلوات، يلزم من ذلك أن ننقض الدين كله ما دمنا نتفق على أداء الرسالة، لمن تؤديها؟ لأن الضلالة في ذات الله أعظم من الضلال في العبادة التي تصرف لله، الضلال في ذات الله أعظم من الضلال في العبادة التي تصرف لذات الله؛ لأن ذلك الأمر يتعلق في ذات الله سبحانه وتعالى وهو أعظم في التعدي، ولهذا ولله المثل الأعلى نجد في الناس أن الإنسان إذا طعن في شخصه وفي ذاته أعظم عنده من إذا طعن في عمله، لأن العمل منفك عنه، لكن لا تطعن في ذاته، من جهة ما خلقني الله عز وجل عليه, من صفتي أو لوني أو طولي أو قوامي يجد في ذلك أثراً عظيماً في نفسه، أما ما كان منفكاً عنه من فعل, لم يتقن العمل ونحو ذلك دون ذلك مرتبة، هذا في ذات الناس، لله المثل الأعلى، الضلال في هذا الجانب ضلال عظيم، مع أن الله سبحانه وتعالى لن يبلغه أحد بضر فيضره، ولا يبلغ أحد أيضاً بأذية فيضره سبحانه وتعالى، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت:46]، ولكن الله جل وعلا قد جعل الذنوب والشرك على مراتب، جعل الشرك على مراتب، فكفر الوثنيين يختلف عن كفر اليهود والنصارى، كفر الملاحدة الذين ينفون وجود رب يختلف عن كفر المشركين الذين يثبتون وجود رب ولكن يجعلون واسطة, ولهذا نقول: إن الضلال في ذلك على مراتب، وبهذا نعلم فساد من يقول بأن القول بخلق القرآن هو من المسائل التي لا أثر لها في العمل، ويغيب عنهم أن هذا يتعلق بذات الله سبحانه وتعالى، ولو انتهوا إلى ما انتهى إليه السالفون من الصحابة والتابعين أن أمضَوا ما هذا؟ هذا كلام الله، وما تطرقوا لشيء من التعليلات والتفصيلات وغير ذلك لكان أسلم من قولهم ذلك، ولهذا يقول المصنف رحمه الله: "من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر"، وقد كفر من قال بخلق القرآن مئات من السلف، وقد أُحصوا أنهم نحو خمسمائة، ومنهم من يقول: ألف إمام الذين نصوا على كفر من قال بخلق القرآن أو حرف من القرآن مخلوق, وهنا يريد أن يبين حقيقة الكفر, فقال: "فهو كافر بالله العظيم كفراً ينقل عن الملة"، هذا هو قول أبي حاتم وأبي زرعة أو من أدركنا من علماء الحجاز وعلماء الشام وعلماء العراق وعلماء اليمن, هم من أدركوا من هؤلاء العلماء.

وينبغي أيضاً أن نعلم أن المسائل البدعية والضلالية إذا تقادم عليها الزمن رقت في قلوب الناس، ولكن ميزانها من جهة الحقيقة واحد ولو توطن عليها الناس.

قال: "ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر"، هنا أحال الأمر إلى الفهم؛ لأن الذي شك في كفره لم يقل بقوله وإلا لدخل في حكمه وما سئل عنه، ولكنه يقول بخلاف قوله وما أدرك شناعة قوله، إذا كان يدرك قوله وحقيقته فهو كافر.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة العقيدة - شرح عقيدة أبي حاتم وأبي زرعة [4] 1865 استماع
شرح عقيدة أبي حاتم وأبي زرعة [1] 1772 استماع
شرح عقيدة أبي حاتم وأبي زرعة [5] 1737 استماع
شرح عقيدة أبي حاتم وأبي زرعة [3] 814 استماع
شرح عقيدة أبي حاتم وأبي زرعة [2] 761 استماع