أرشيف المقالات

لا نريد تماثيل - علي الطنطاوي

مدة قراءة المادة : دقيقتان .
قرأت أن التمثال الذي صنع في أميركا ليوسف العظمة قد وصل وأنه سينصب في إحدى ساحات دمشق.
فذكرت مصر والتماثيل الضخمة القائمة في ميادينها: تمثال النهضة، وتمثال إبراهيم وسعد ومصطفى كامل وأحمد ماهر، وما أنفق على نحت هذه الحجارة وتسويتها بشراً سوياً من ملايين الجنيهات التي يحتاج إلى بعضها هؤلاء «البشر» ليعيشوا مثل عيش البشر، فيجدوا الطعام الذي يشبع البطن، والكساء الذي يدفع البرد، والدواء الذي يمنع المرض ، وليستعيدوا «اعتبارهم الإنساني» ويشعروا بأنهم آدميون وليسوا قططاً جائعة تحوم على المائدة الشهية التي يتمتع بها (هناك) الأغنياء.


وكددت ذهني فلم أذكر أني رفعت رأسي مرة واحدة لأنظر إلى جمال واحد من هذه التماثيل ولا إلى فنه ولا إلى ملامح صاحبه، لأنها قد استأثرت بنظري هذه الهياكل البشرية التي نصبها الظلم الاجتماعي تماثيل حية للجوع والجهل والبؤس والحرمان.
وعجبت من هذه العقول التي تحسب تخليد العظماء إنما يكون بهذا الأثر الذي ينصب ليكون حظنا منه النظر، لا بالآثار الباقيات التي تمكث في الأرض، وتنفع الناس.

وخفت أن يسري هذا الداء إلينا فنقيم التماثيل قبل أن نفتح المدارس وننشئ المشافي ونوسع الطرق وننظف الأرض، وأن ننسى أن الضروريات قبل الكماليات وأن من كان يمشي بلا بنطلون لا يتخذ ربطة عنق من الحرير، وأن الجائع الذي لا يملك إلا (فرنكاً) لا يشتري به كف شكلاتة وإنما يشتري به رغيف خبز.
وأن تخليد العظماء يكون بإنشاء المشافي بأسمائهم والمدارس والملاجئ قبل إقامة التماثيل التي لا تشفي المريض، ولا تعلم الجاهل، ولا تؤوي المشرد المسكين.
وأنه ليس في الدنيا تمثال خلد اسم صاحبه كما خلد الوقفُ اسمَ نوبل والمعهدُ اسمَ باستور والأمويُّ اسمَ الوليد والمستشفى اسمَ نور الدين والتكيةُ اسمَ سليمان.
أفهذه الآثار التي تنفع البشر خيرٌ أم نحت تمثال من الحجر.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣