طرائف من العصر المملوكي
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
عبرتان من عبر التاريخ
للأستاذ محمود رزق سليم
هاتان عبرتان من عبر التاريخ - وكم فيه من عبر - نسوقها إلى زعماء العرب وشعوبهما، في هذه الأزمة الخانقة والآونة الحاسمة التي يمرون بها أو تمر بهمز ولعل فيهما متعظاً ومعتبراً.
في كل عبرة منهما نزل خطب، وألمت شدة، وحزبت ضائقة ووقف عدو لدود بالمرصاد.
أما في الأولى فقد التأمت الصفوف وتنادت الأصوات وتصافت النفوس ولمت الأيدي واجتمع الهوى، حتى أصبح المسلمون - أو بعضهم - جبهة واحدة، فردوا العدوان ودفعوا الطغيان وكانت عاقبتهم نصراً مؤزراً وغلباً مظفراً.
أما في الثانية فقد تغيرت القلوب وانتثر الشمل وتفرقت الأيدي، وأضمر الغدر، وحيكت الخيانة، فكانت العاقبة خساراً ودماراً، وشقوة وبواراً.
هما موقفان من مواقف الأمة المصرية وقادتها، كان أولهما في مطالع العصر المملوكي، وكان ثانيهما في أخرياته. يتمثل في الأولى مزايا الإقدام والشجاعة، وعواقب الحزم والعزم، وفوائد الوحدة والتعاون، بما يحق الحق ويصون الكرامة، ويبقي العزة ويؤثل المجد، ويضفي المهابة.
ويتمثل في الثاني مثالب الخور والجبن، وعواقب التردد والضعف، وغرم التفرق والخلف.
بما يهدر الحق ويشيع الذل ويمكن للفساد، ويصوح به نبت الحياة. أقبل عام 656هـ يحمل في جعابه للأمم الإسلامية سهاماً مريشة، وعلى مناكبه رماحاً مشرعة، تنذر بالويل والثبور، والهلاك والدثور.
فهاهم أولاء التتار قد نسلوا من أواسط آسيا بعد أن خربوا الديار وأباحوا الدمار، بقلوب فاجرة، وأفواه فاغرة وحب السفك تغلى به دماؤهم، وتضطرب أعضاؤهم، وقد هيئوا العدة، وجمعوا الكيد، فتجهم بهم وجه الأفق، وارمدت بهم صفحة السماء، وأكفهر جو القدر وأرجف المسلمون في كل مصر أن حدثاً جللاً سيقع.
فتدافعت سيول التتار إلى بغداد والعراق، بعد أن خلفوا وراءهم أمماً باكية وشعوباً ممزقة وعروشاً مثلولة فأتموا ببغداد فصول روايتهم، وأزالوا من سمائها شمس الخلافة العباسية، واتخذوا في أهلها ما شاء لهم العوام والشراسة وحب السفك والفتك. تسامع الناس بأخبارهم في ديار حلب والشام ومصر، وأخذت الفرائص ترتعد هلعاً وفزعاً تترقب هبوط هذا الوباء التتري آونة وأخرى.
وكانت ديار حلب والشام مقسمة دولاً صغيرة متنابذة متمادية متواثبة يحكمها بقايا من أمراء بني أيوب.
بينما كانت مصر قد تأثل فيها المماليك دولة عتيدة وسلطنة مجيدة جهد مؤسسها عز الدين أيبك في توطيد دمائهما وتثبيت أركانها منذ عام 648هـ.
ثم خلفه ابنه المنصور، وكان حدثاً صغيراً، فأقيم الأمير (قطز) المعزي مملوك أبيه نائباً لسلطنته وفوضت أمور الدولة إليه.
وكان على دمشق أمير من الأيوبيين اسمه الناصر، ترددت الأطماع في نفسه أن يدهم مصر ويستأثر بملكها.
فلذلك كان بين سلطان مصر دخل وجفاء.
وبينما كان الناصر بين الخوف والطمع إذ وافته رسل (هولاكو) التتري تطالعه برسالته التي يهدده فيها ويتوعده، ويدعو إلى الدخول في طاعته.
وبين سطورها يخاطبه ويقرو.
(إذا وافقت على كتابي هذا، فسارع برجالك وأموالك وفرسانك إلى طاعة سلطان الأرض شاهنشاه روي زمين، تأمن شره وتغل خيره.
كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى).
ولا تعوق رسلنا عندك كما عوقت من قبل فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
وقد بلغنا أن تجار الشام وغيرهم انهزموا وحريمهم إلى (كروان سواي)، فإن كانوا في الجبال نسفناها، وإن كانوا في الأرض خسفناها. أين النجاة ولا مناص لهارب ...
ولى البسيطان الثرى والماء ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت ...
في قبضتي الأمراء والوزراء ففزعت أحشاء الناصر، وصكت ركبتاه، وسقط في يده ولم يدر ما يصنع.
فأرسل إلى (قطز) يستجديه معونة مصر، بعد أن كان طامعاً في ملكها وكان (قطز) قد شعر بالخطر القريب، وفطن إلى الشر المرتقب فأخذ يعد للأمر عدته، ويتخذ له أهبته.
وتحيل حتى خلع سلطانه (المنصور) وقفز بنفسه إلى سرير الملك، ليكون طلق اليد حر الإرادة في تدبير الأمور، في هذا الوقت الحرج والموقف الشائك.
غير أن وثوبه إلى العرش قد احقد بعض الأمراء عليه وأحنقهم، فتجهموا له، وهموا به فأخذ يترفق بالثائرين حتى هدأ من ثورتهم، ويتلطف بالحانقين الحاقدين حتى قلل من حنقهموثبط من حقدهم، واعتذر إليهم بأنه لا مأرب له في ملك أو سلطان، ولا مطمع في عرش أو تاج وإنما همه الأول أن يكونوا يداً على من سواهم، وأن يدافعوا عن أنفسهم وديارهم خطر التتار، الذين ما دخلوا قرية إلا أفسدوها، ولا مصراً إلا جعلوا أعزة أهله أذلة، ولا بلداً إلا عبثوا بتراثه، أولئك التتار الذين ضجت لهم الأرض وملئوا فجاجها بالدماء، وعرفوا بأنهم القوة التي تغلب، والوباء الذي لا يستطاع كفاحه. ويذكر بعض المؤرخين أن هذا السلطان (قطز) هو محمود ابن ممدود، وأنه ابن أخت جلال الدين شاه خوارزم الذي أباد التتار ملكه وعفوا أثره.
وقع محمود هذا في الإسار، وتنقل به ذله من دار إلى دار، حتى دفع به المقدار إلى مصر، فأبتاعه سلطانها (المعز أيبك) فاستأثر برقه.
وكان حبيباً إلى قلبه قريباً إلى مجلسه، أثيراً عند تدبيره.
فعلا نجمه، وزكت فيه مخايل الإمارة، ودوى في أعماقه صوت الثأر وصلصل جرس الانتقام فما هو إلا أن ملك الناصية وأخذ بالزمام، حتى قاد أمراءه وجنوده بمقاد الحزم وذكرهم بواجبهم المقدس حيال الإسلام، وإنهم إن أحجموا باد، وإن أقدموا ساد.
وهاهم أولاء يرون دولة تسقط فتبيد واحدة إثر أخرى.
فراعهم بهذا الخطاب، وملكهم بمنطقه الخلاب، فألقوا إليه السلم، وتوافدوا إلى حظيرته زمراً زمرا، بعد أن بث فيهم عزماً من عزمه، وحماساً مما يتقد في جسمه. تطايرت الأخبار منذ أوائل عام 658هـ إلى مصر ثوب التتار على حلب ودمشق وغيرهما من بلاد المسلمين، وما اجترحه أولئك الطغاة فيها من قتل وسبي، وسلب ونهب، وتخريب وتدمير وتشريد، وظلم وجور، وعجت التخوم والمسالك بالفارين واللاجئين من وجه البغي والعدوان. وجاء النذير إلى مصر، ووفدت إليها رسل هولاكو - بعد أن أسر الناصر وخرب دياره - ومعهم رسالة إلى سلطانها يقول فيها: (من ملك الملوك شرقاً وغرباً، القان الأعظم.
باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء.
يعلم الملك المظفر قطز، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك.
يعلم الملك المظفر قطز، وسائر أمراء دولته وأهل مملكته، بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ فنحن ما نرحم من بكي، ولا نرق لمن شكا.
وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد.
فعليكم بالهرب وعلينا بالطلب.
فأي ارض يؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال).
الخ. حزم (قطز) رأيه وشاور أمراءه، فأيقنوا جميعاً بالخطر الداهم والشر المستطير.
وأنهم إن لم يأخذوا الطريق على عدوهم بقلب شجاع ونفس مغامرة وروح فادية، دهمهم في عقر دارهم، وأزال ملكهم، وخرب ديارهم، وهم البقية القوية من جند الإسلام.
ولهم عبرة بما اجترح التتار في الشام والعراق والجزيرة وأواسط آسيا.
فقر رأيهم على قتل رسل (هولاكو) وعلقوا رؤوسهم على باب زويلة، وأعلنوا في الناس بالجهاد، والخروج في سبيل الله، دفاعاً عن النفس والعرض والدين.
وأعجل الجنود عن شئونهم، ودبر المال؛ ورأى السلطان تواكل بعض الأمراء، فقرعهم تقريعاً شديداً، وقال لهم.
(يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون.
وأنا متوجه فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته.
فإن الله مطلع عليه.
وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين) فأقبل الأمراء عليه يقسمون له يمين الطاعة والولاء. ففر جيش مصر بعدده وعدته، يتقد حماسة ويغيض رغبة في القتال وعلى رأسه سلطانه (قطز) الشجاع الباسل الصنديد.
يحف به أمراء باعوا نفوسهم لله، يحدوهم الولوع إلى لقاء التتار، فإما حياة كريمة ونصر مؤزر، وإما موت لا يقاس به موت. وهناك في عين (جالوت) بفلسطين، التقى الجمعان في معركة حامية سالت فيها أنهارالدماء، وتجمعت أكداس الأشلاء.
ولما أشتد وطيسها على المسلمين صرخ (قطز) من الأعماق قائلاً: (وا إسلاماه) فدوى صوته في آذان جنوده.
وكأنما كانت صرخته إشارة بالمكر، أقدموا لا هيبة ولا وجل، وأخذوا التتار من كل جانب حتى قتل قائدهم (كتيغا) وولت فلولهم لا تلوى على شيء.
فتبعهم المسلمون إلى (بيسان) فدارت بها رحى معركة جديدة، دحر فيها التتار وأسلموا للفرار، تاركين من ورائهم قتلى قد ضاق بها الفضاء. استطاع جيش مصر وجنده بهاتين الموقعتين أن يحمي بلاد الشام من شر التتار، وأن يقذف بهم إلى غير رجعة بعيداً عن أرض مصر، فلم تطأها لهم قدم.
وتعتبر أن نقطتي تحول حاسم في تاريخ مصر لا تقلان في أهميتهما عن موقعة (العلمين) في الحرب الأخيرة.
وبدت بهما قوة التتار خرافة لا سند لها، وأن التغلب عليها مستطاع، متى صدق الإيمان، واجتمع الصبر والتعاون، واتحدت القلوب وقد عاشت سلطنة المماليك بعدهما بفضل شجاعة (قطز) وموقفه الرائع، أكثر من قرنين ونصف. أما في الموقف الثاني فقد كان في عام 922هـ على عهد سلطان مصر قانصوه الفوري، الذي اقتيد إلى العرش بين بكائه ونحيبه رهبة وإشفاقاً من المصير.
فقد كانت البلاد مزقتها الفتن الداخلية والحروب الأهلية، ولج بين بنيها الخلف، وصنع بهم ما يصنع السيف.
وخوت خزائنها على عروشها.
ولم تعد بها إلا حثالات وشراذم من أمراء وجنود، تملأ كل شرذمة العصبية لنفسها، وحب الجهاد لمنفعتها، غير آبهة لسواها إلا مزاحمة ومجالدة، ولم يعد يعنيهم من شؤون البلاد شيء إلا استقلالها.
بينما كانت دولة العثمانيين في آسيا الصغرى تبسط سلطانها وتنشر طغيانها.
وما وافى عام 962هـ حتى أخذت تمهد لغزو الشام ومصر.
ووطئت أنباء استعدادها آذان البلاد.
فاضطر الغوري إلى الخروج عن البلهنية والطمأنينة، إلى العمل على اللقاء.
وشرع بجميع القادة والجند ويحثهم على التهيؤ للخروج إلى الجهاد، فكان كأنه يستجديهم شيئاً لنفسه، لا أنه يتقاضاهم للقيام بواجبهم.
لذلك اثاقلوا عنه ولم يخفوا إليه.
وكان كل ما حوله يخذل عن القتال ويثبط عن النفور إليه إلا بقية ممن لا تزال بهم بقية من ضمير، وقبس من إخلاص، وإثارة من كرامة. وكانت بالسلطان غفلة لا تنبغي لمثله في وقت شدة وضيق، وكلما وردت أخبار تومي إلى الصلح والتراضي بينه وبين العثمانيين هش ونش، وهلل وكبر، وفرح واستبشر.
ولعله كان يرمي من وراء ذلك إلى حسم العداء وحقن الدماء، ولا سيما أن العثمانيين إخوان في الدين.
ولكن اللهج بالصلح ضعف، واشتهاه الموادعة خور، والاستسلام للعافية جبن. وكانت تجيئه رسل السلطان سليم فيبهرونه باللسان المعسول، والهدية النفيسة، فيلقاهم لقاء الحافل، ويعاتبهم عتاب الخليل، وما كانوا إلا ليمهدوا للظفر بالغافلين.
وبث العثمانيون العيون لينقلوا إليهم أخبار مصر وجيشها الباسل وسلطانها المغوار، فلم يعمل أحد على قطع دابرهم والقضاء عليهم، وبعث نائب السلطان بالشام إليه يجأر بالشكوى مما بالشام من غلاء فاحش وجدب ضارب، وينكر إن للعثمانيين رغبة في القتال، ويدعو السلطان إلى القبوع والقعود. ومهما يكن من شيء فقد أنصف السلطان نفسه، وأعد العدة وأنفق المال، وجمع الجند وعين القادة ورتب أمر الخروج إلى الشام لملاقاة بني عثمان.
وهو لا يعلم أن العثمانيين قد اتصلوا ببعض أمرائه فوجدوا منهم نفوساً وقلوباً عليلة لا تكبر الأمانة، وتستعذب الخيانة في سبيل للطمع غير المشروع.
. خرجت مواكب الجيش تترى ناسلة إلى دمشق فحلب، وعليها طلاوة وبها خيلاء، ويحسب من يراها أنها إلى النصر تسير وإلى القلب تطير.
وهو لا يعلم أنها تجمع قوماً إن لم يمزقهم الضعف فقد فرقهم الخلف، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، عمادها فريقان من المماليك هما (الجلبان والقرانصة)، وبينهما عداء مستحكم اضطرمت ناره وتطاير شراره، وقد تمكن منهم الفساد وحب العناد. لا نريد أن نسهب إسهاباً تاريخياً في وصف مظاهر الضعف في الجيش المصري، ولا في أنباء قتاله حينذاك، فقد امتلأت بهذه الأنباء بطون الموسوعات. وحسبنا أن نذكر أن هذا الجيش - على علاته - لقي جيش العثمانيين على كثرة جنده ووفرة عدده، فكاد يذهبه بدداً ويفرقه طرائق قدداً، وذلك في موقعة (مرج دابق) لولا أن أطلت الخيانة بقرونها، وطلع الغدر عليه مطلع الشيطان.
فانحاز بعض القادة من سلطانهم بلا سبب، ودبت الوقيعة بين القراصنة والجلبان فشغلتهم أنفسهم عن واجبهم، فكر العثمانيون عليهم وطعنوا القلب، وفيه السلطان يدافع عن شرفه وكرامته، وقد أسفه تفوق الأنصار عنه، وفرار الأصحاب منه.
فاضطرب لبه، وامتلأ بالحسرة قلبه.
ولهج لوقته وتهاوى عن متن جواده وتناولته سنابك الخيل.
ودارت الدائرة على جيش مصر، ورجعت إليها فلوله باكية حزينة. وتعتبر موقعة (مرج دابق) المشئومة من المواقع الفاصلة في تاريخ مصر.
فتحت أمام العثمانيين الطريق إلى غزوها وتمام إخضاعها.
وهكذا جثت مصر والشام أمام الغزاة، ووقعتا فريستين سمينتين لهم، فلبثوا بهما زهاء ثلاثة قرون تعسة شقية، لم تسعدا فيها بيوم هناء. محمود رزق سليم مدرس الأدب بكلية اللغة العربية