القرآن حجة لك أو عليك


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد:

فيا معشر الأبناء والإخوان! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

موضوع حديثنا الليلة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( القرآن حجة لك أو عليك ) وهذا أحد ألفاظ الحديث الجليل الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري رضي الله تعالى عنه، وقد سبق لنا أن تدارسنا منه أكثره، ولعلها الجملة الأخيرة في هذا الحديث: ( والقرآن حجة لك أو عليك )، ونص الحديث نتلوه تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين.

يقول صلى الله عليه وسلم: ( الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ) .

فقوله صلى الله عليه وسلم: (القرآن حجة لك أو عليك) تلاحظون أنه يخاطب أمة الإسلام، وقد جرد منها شخصاً واحداً فخاطبه، وهو في الواقع يخاطب أمة الإسلام جمعاء.

القرآن يا عبد الله يا مؤمن حجة لك أو حجة عليك، إنه يذكرنا بلقاء الله تعالى، إذ لقاء الله حق، والبعث الآخر هو جزء من معتقد المؤمنين.

للإيمان ستة أركان، أولها: الإيمان بالله. وما قبل آخرها: الإيمان بالبعث والجزاء، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بلقاء الله تعالى. وعليه فمتى يكون القرآن حجة لك يا عبد الله أو عليك؟ يكون يوم القيامة، أما في الدنيا فالغالب أن الناس لا يسألون، وقل من يمتحن أمام القضاء الشرعي فيكون القرآن حجة له أو يكون حجة عليه، ولكن الوقوف بين يدي الله في ساحة فصل القضاء، يوم يجمع الله الأولين والآخرين للحساب أولاً ثم الجزاء ثانياً هنا يكون القرآن حجة لعبد الله يدخل به دار السلام، أو يكون حجة عليك فيحرم من دار السلام ويدخل دار الهوان، إذ ليس هناك سوى دارين: دار للنعيم ودار للشقاء.

في هذا المعنى يروى: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه -وهو صاحب جليل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- جمع أهل القرآن في ولايته، جمعهم في المدينة التي كان هو والياً عليها، فكانوا قرابة الثلاثمائة من حفاظ القرآن، فخطبهم وعظّم من شأن القرآن، ثم قال: (إن هذا القرآن كائن لكم أجراً أو كائن عليكم وزراً). فهو يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ( والقرآن حجة لك أو عليك ).

إن هذا القرآن الحاضر بين أيديكم الذي حوته صدوركم وقد كتب في صدوركم، هذا القرآن العظيم كائن لكم يوم القيامة أجراً، أو كائن لكم يوم القيامة وزراً، والأجر المثوبة، والوزر التبعة والمسئولية وما يؤخذ به الإنسان ويعاقب عليه.

ثم يقول أبو موسى: (فاتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن). اتبعوه امشوا وراءه، وخذوا بهديه وهداه، استنيروا به في الحياة واستضيئوا به في دنياكم، ولا بد لمن أراد أن يستضيء بالنور أن يمشي وراءه، أن يجعل النور في يده أمامه فيضيء له ما بين يديه فيمشي إلى أن يصل إلى غايته، أما من وضعه وراءه فكيف يستنير به؟ ولهذا يجيء التعبير القرآني مشيراً إلى هذا المعنى حيث يقول: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة:101] يعني: أن بني إسرائيل نبذوا الكتاب وجعلوه وراء ظهورهم، فهم إذاً لا يستضيئون بنوره ولا يستهدون بما فيه من الهدى؛ لأنهم ما جعلوه أمامهم، فهذا المعنى يلاحظه أبو موسى رضي الله عنه ويقول: (اتبعوا القرآن). يعني: أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واعتقدوا ما جاء فيه من العقائد، واعملوا بما فيه من الصالحات تكونوا كمن يمشي وراء القرآن ويهتدي به.

(اتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة)، فإنه من اتبع القرآن، ومشى وراءه والقرآن يقوده إلى الكمالات الروحية، فإنه لا يهبط به إلا على رياض الجنة.

قوله: (ولا يتبعنكم القرآن)، لا تسمحوا لأنفسكم أن يأتي القرآن وراءكم يسوقكم، يطالبكم بحقه.

وقوله: (إنه من يتبعه القرآن زج به في قفاه ثم قذفه في النار) أي: من يتبعه القرآن يقذف به في جهنم.

هذه الكلمات من خطبة لـأبي موسى الأشعري رضي الله عنه قالها في جمع من حفظة القرآن يقدرون بثلاثمائة، وما زاد على أن أخذ معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( والقرآن حجة لك أو عليك ).

بيان متى يكون القرآن حجة لك أو عليك

متى يكون القرآن حجة لنا يا أبنائي؟ يكون حجة لنا إذا نحن أخذنا بالهدى الذي جاء فيه، فالقرآن فصل العقائد أيما تفصيل، القرآن بين العبادات وضروب الطاعات من سائر أنواع البر والخيرات بما لا مزيد عليه، القرآن بين المحرمات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمراكب والمساكن، القرآن بيّن الآداب التي ينبغي أن يعيش عليها عبد الله المسلم، آداب كل شيء، وإن شئتم في أسطر فقط تتجلى لنا هذه الحقيقة فيما قصه تعالى في هذا الكتاب عن عبد من عباده الصالحين وهو لقمان الحكيم، وقد وضع ولده بين يديه وأخذ يوصيه، فقال: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:17-19].

يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، هل تعرفون عن هذا العبد، عن لقمان ؟ تقول الأخبار: ما زال يوصي ولده ويعظه بما سمعتم حتى انفضت كبد الولد، ومات خوفاً من الله.

والشاهد من هذا: أن القرآن حوى واشتمل على فنون المعرفة وضروب الحكمة، الأمر الذي لا يمكن أن يكون قد حواه كتاب سواه.

ومن سورة بني إسرائيل (سبحان) ذكر تعالى ثماني عشرة حكمة في سلسلة من النور ابتدأها بقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] فتطرق للعقيدة، ثم تطرق لصلة الرحم، لحقوق الوالدين أولاً، فالأقارب ثانياً، تعرض للاقتصاد وكسب المال وإنفاق المال، تعرض لكرامة الآدمي وحرمة دمه وروحه، تعرض للفواحش فندد بها ونفر منها، وختم ذلك بقوله: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء:39]، من الحكمة التي أوحى الله على رسوله وما في هذا الكتاب الكريم، فحقاً من جعل القرآن أمامه وأخذ يبصر في الحياة بنوره فإنه سوف يكون شاهداً له، ويشق طريقه بين الصفوف المتراصة في عرصات القيامة، ويجتاز العقبة الكئود والصراط المضروب على متن جهنم ويدخل الجنة مع الداخلين.

أما من جعل القرآن وراءه فنبذه وراء ظهره، واستقبل الحياة يتخبط فيها وفي ظلماتها، يعتقد بالباطل ويقول الهجر وينطق بالسوء ويعمل الفاسد ويفكر في الشر، ويعيش عيشة البهائم المقطوعة الرجاء، الآيسة من رحمة الله، فإن هذا القرآن العظيم قطعاً سوف يكون شاهداً عليه، وسوف يقذف به في جهنم، إذ يا معاشر الأبناء! ليس هناك إلا داران فقط: دار نعيم ودار جحيم، أما هذه السماوات وهذه الأرضون فإن الله كتب أن تكون كما كانت سديماً وبخاراً، فلا يبقى كوكب يسير ولا فلك يدور، واقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:48-52].

معاشر الأبناء! سنحت فرصة لكلمة ذهبية، قرأنا للشيخ محمد البشير الإبراهيمي -قد توفي غفر الله لنا وله، وكان أحد علماء جمعية العلماء في الجزائر- يقول: لو اخترنا عنواناً للقرآن الكريم، والقرآن كتاب، والكتاب يقرأ بعنوانه، فلا نجد أبداً كلمة تصلح عنواناً للقرآن إلا هذه الآية من خاتمة سورة إبراهيم، ونصها كما تلوناها: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:52] فسبحان الله! الذي ألهم هذا الرجل فوقع في باله أن لكل كتاب عنواناً، فما عنوان القرآن الكريم؟ قال: هذه الآية تصلح أن تكون عنواناً لهذا الكلام الإلهي هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:52].

فالقرآن الكريم يكون حجة للعبد أو حجة عليه، يكون حجة له متى قدمه بين يديه، وجعله كالمصباح اليدوي، ومشى وراءه يعتقد عقائده، يتأدب بآدابه، يتخلق بأخلاقه، يحل حلاله، يحرم حرامه، ينهض بواجباته، يقوم بفرائضه، ويستمر على ذلك، فإنه لن ينتهي به إلا إلى دار السلام.

أما إذا جعله وراءه فلم يلتفت إليه، ولم يسمع إلى النداءات المتكررة، ولم يشأ حتى أن يتعرف إلى ما فيه، الناس يقرءون وهو لا يقرأ، الناس يستمعون إلى تلاوته وهو لا يستمع، الناس يتعلمون ما فيه وهو لا يتعلم، فمثل هذا سوف يزج به أو يضربه بزج في رأسه، ثم يقذف به في النار.

متى يكون القرآن حجة لنا يا أبنائي؟ يكون حجة لنا إذا نحن أخذنا بالهدى الذي جاء فيه، فالقرآن فصل العقائد أيما تفصيل، القرآن بين العبادات وضروب الطاعات من سائر أنواع البر والخيرات بما لا مزيد عليه، القرآن بين المحرمات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمراكب والمساكن، القرآن بيّن الآداب التي ينبغي أن يعيش عليها عبد الله المسلم، آداب كل شيء، وإن شئتم في أسطر فقط تتجلى لنا هذه الحقيقة فيما قصه تعالى في هذا الكتاب عن عبد من عباده الصالحين وهو لقمان الحكيم، وقد وضع ولده بين يديه وأخذ يوصيه، فقال: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:17-19].

يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، هل تعرفون عن هذا العبد، عن لقمان ؟ تقول الأخبار: ما زال يوصي ولده ويعظه بما سمعتم حتى انفضت كبد الولد، ومات خوفاً من الله.

والشاهد من هذا: أن القرآن حوى واشتمل على فنون المعرفة وضروب الحكمة، الأمر الذي لا يمكن أن يكون قد حواه كتاب سواه.

ومن سورة بني إسرائيل (سبحان) ذكر تعالى ثماني عشرة حكمة في سلسلة من النور ابتدأها بقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] فتطرق للعقيدة، ثم تطرق لصلة الرحم، لحقوق الوالدين أولاً، فالأقارب ثانياً، تعرض للاقتصاد وكسب المال وإنفاق المال، تعرض لكرامة الآدمي وحرمة دمه وروحه، تعرض للفواحش فندد بها ونفر منها، وختم ذلك بقوله: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء:39]، من الحكمة التي أوحى الله على رسوله وما في هذا الكتاب الكريم، فحقاً من جعل القرآن أمامه وأخذ يبصر في الحياة بنوره فإنه سوف يكون شاهداً له، ويشق طريقه بين الصفوف المتراصة في عرصات القيامة، ويجتاز العقبة الكئود والصراط المضروب على متن جهنم ويدخل الجنة مع الداخلين.

أما من جعل القرآن وراءه فنبذه وراء ظهره، واستقبل الحياة يتخبط فيها وفي ظلماتها، يعتقد بالباطل ويقول الهجر وينطق بالسوء ويعمل الفاسد ويفكر في الشر، ويعيش عيشة البهائم المقطوعة الرجاء، الآيسة من رحمة الله، فإن هذا القرآن العظيم قطعاً سوف يكون شاهداً عليه، وسوف يقذف به في جهنم، إذ يا معاشر الأبناء! ليس هناك إلا داران فقط: دار نعيم ودار جحيم، أما هذه السماوات وهذه الأرضون فإن الله كتب أن تكون كما كانت سديماً وبخاراً، فلا يبقى كوكب يسير ولا فلك يدور، واقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:48-52].

معاشر الأبناء! سنحت فرصة لكلمة ذهبية، قرأنا للشيخ محمد البشير الإبراهيمي -قد توفي غفر الله لنا وله، وكان أحد علماء جمعية العلماء في الجزائر- يقول: لو اخترنا عنواناً للقرآن الكريم، والقرآن كتاب، والكتاب يقرأ بعنوانه، فلا نجد أبداً كلمة تصلح عنواناً للقرآن إلا هذه الآية من خاتمة سورة إبراهيم، ونصها كما تلوناها: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:52] فسبحان الله! الذي ألهم هذا الرجل فوقع في باله أن لكل كتاب عنواناً، فما عنوان القرآن الكريم؟ قال: هذه الآية تصلح أن تكون عنواناً لهذا الكلام الإلهي هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:52].

فالقرآن الكريم يكون حجة للعبد أو حجة عليه، يكون حجة له متى قدمه بين يديه، وجعله كالمصباح اليدوي، ومشى وراءه يعتقد عقائده، يتأدب بآدابه، يتخلق بأخلاقه، يحل حلاله، يحرم حرامه، ينهض بواجباته، يقوم بفرائضه، ويستمر على ذلك، فإنه لن ينتهي به إلا إلى دار السلام.

أما إذا جعله وراءه فلم يلتفت إليه، ولم يسمع إلى النداءات المتكررة، ولم يشأ حتى أن يتعرف إلى ما فيه، الناس يقرءون وهو لا يقرأ، الناس يستمعون إلى تلاوته وهو لا يستمع، الناس يتعلمون ما فيه وهو لا يتعلم، فمثل هذا سوف يزج به أو يضربه بزج في رأسه، ثم يقذف به في النار.

اسمعوا ما يروي لنا مسلم في صحيحه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شافعاً لأهله ) هذا الحديث من مرويات الإمام مسلم، والأمر فيه ليس للإرشاد فقط، بل هو للوجوب: (اقرءوا القرآن) سواء من أجل حفظ آية أو سورة، أو تتعبدون به الله، وتتملقون به إليه، وما ورد لفظ التملق إلى الله إلا بكتابه، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ما معناه: أن جماعة مسافرة، حتى إذا عرسوا بالليل وناموا قام أحدهم يقرأ القرآن يتملق الله تعالى به، فهذا خير تلك الرفقة، وهذا سيد تلك الجماعة.

ناموا واستيقظ؛ ليتملق الله عز وجل بكلامه، فإن الله يحب من يقرأ كلامه، يقول صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن) سواء بنية حفظه أو بنية التعبد والتقرب به إلى الله.

وقد ذكر لنا وعيداً شديداً وهو: أن عبداً يبيت ويصبح ولا يقرأ ولو عشر آيات في تلك الليلة يخشى أن يكتب من الغافلين، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قول: ( من قرأ في كل ليلة عشر آيات لم يكن من الغافلين ) فمفهومه: أن الذي لا يقرأ على الأقل بعشر آيات يكون من الغافلين والعياذ بالله تعالى.

( وأن من قرأ في كل ليلة بمائة آية كتب عند الله من القانتين ) هذه بشرى لكل مسلم، الذي يقرأ في الليلة مائة آية سواء يصلي بها نافلته ووتره، أو يقرؤها تلاوة من المصحف، أو يتلوها عن ظهر قلب، المطلوب أن يكون أقل ورد العبد الذي يرده كل ليلة من حياض القرآن مائة آية.

( من قرأ في ليلة بمائة آية كتب من القانتين ) وأنتم تعرفون منزلة القانتين، هم المطيعون لله الصادقون.

بيان حقيقة أهل القرآن

قوله: ( اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شافعاً لأهله ) من هم أهل القرآن الذين ينسبون إليه؟ أنت أهلك الذين تظل وتبيت معهم، فالأهلية لها معنى، فأهل القرآن: هم أولئك الذين لا يفارقونه، يتلونه ويعملون، يتعلمون ويعلمون، فبالقرآن يذكرون وبالقرآن يعرفون، فهم بذلك أهل القرآن، أما الذي لا ينزل عليك إلا ليلة من الدهر ليس من أهله، فأهل الرجل الذين يجالسونه، يجاورونه، يقيمون معه، يرحلون معه أولئك أهله، فأهل القرآن الذين لا يزال القرآن على شفاههم، لا يزال القرآن مطبوعاً في مخيلاتهم، يقرءونه الليل والنهار: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113].

أهل القرآن يأتي يوم القيامة القرآن شافعاً لهم، يشفع لهم عند الله بأن يدخلهم الجنة بغير حساب، نعم، يأتي الصيام يشفع وتأتي الصلاة تشفع للذين عرفوا بها ويأتي القرآن يشفع لأهله العاملين به، الحافظين له، التالين القارئين له، الذين أصبحوا أهلاً للقرآن، عظموه، أَجَلُّوه، أكبروه، أما الذين حين يقرأ القرآن وهم يصفرون وهم يضحكون فهؤلاء ليسوا بأهل القرآن، وإنما هم خصوم القرآن، ويا ويل عبد كان القرآن خصمه: ( والقرآن حجة لك أو عليك )، فإذا جاء شاهداً عليك أنك ما قرأته، ما تلوته، ما تعلمته، ما استمعت إليه، ما أجللته ولا عظمته، ما عملت بما فيه، ما استجبت لنداءاته، فهذه الشهادة التي سوف يشهدها، ومن شهد عليه كلام الله لم يحتج بعد إلى شاهد آخر.

فهذا الحديث: حديث مسلم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه يدعونا فيه رسول الله -يا أبناءنا- إلى أن نقرأ القرآن، فمن استطاع أن يحفظ جزءاً فليحفظ، ومن استطاع أن يحفظ جزءين فليحفظ، ومن استطاع أن يحفظ ربع القرآن فليحفظ، أما أن يعيش عبد الله أربعين أو خمسين سنة وإذا قرأ الفاتحة لا يحسن قراءتها فوالله لشقي هذا والعياذ بالله.

قوله: ( اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شافعاً لأهله ) من هم أهل القرآن الذين ينسبون إليه؟ أنت أهلك الذين تظل وتبيت معهم، فالأهلية لها معنى، فأهل القرآن: هم أولئك الذين لا يفارقونه، يتلونه ويعملون، يتعلمون ويعلمون، فبالقرآن يذكرون وبالقرآن يعرفون، فهم بذلك أهل القرآن، أما الذي لا ينزل عليك إلا ليلة من الدهر ليس من أهله، فأهل الرجل الذين يجالسونه، يجاورونه، يقيمون معه، يرحلون معه أولئك أهله، فأهل القرآن الذين لا يزال القرآن على شفاههم، لا يزال القرآن مطبوعاً في مخيلاتهم، يقرءونه الليل والنهار: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113].

أهل القرآن يأتي يوم القيامة القرآن شافعاً لهم، يشفع لهم عند الله بأن يدخلهم الجنة بغير حساب، نعم، يأتي الصيام يشفع وتأتي الصلاة تشفع للذين عرفوا بها ويأتي القرآن يشفع لأهله العاملين به، الحافظين له، التالين القارئين له، الذين أصبحوا أهلاً للقرآن، عظموه، أَجَلُّوه، أكبروه، أما الذين حين يقرأ القرآن وهم يصفرون وهم يضحكون فهؤلاء ليسوا بأهل القرآن، وإنما هم خصوم القرآن، ويا ويل عبد كان القرآن خصمه: ( والقرآن حجة لك أو عليك )، فإذا جاء شاهداً عليك أنك ما قرأته، ما تلوته، ما تعلمته، ما استمعت إليه، ما أجللته ولا عظمته، ما عملت بما فيه، ما استجبت لنداءاته، فهذه الشهادة التي سوف يشهدها، ومن شهد عليه كلام الله لم يحتج بعد إلى شاهد آخر.

فهذا الحديث: حديث مسلم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه يدعونا فيه رسول الله -يا أبناءنا- إلى أن نقرأ القرآن، فمن استطاع أن يحفظ جزءاً فليحفظ، ومن استطاع أن يحفظ جزءين فليحفظ، ومن استطاع أن يحفظ ربع القرآن فليحفظ، أما أن يعيش عبد الله أربعين أو خمسين سنة وإذا قرأ الفاتحة لا يحسن قراءتها فوالله لشقي هذا والعياذ بالله.

جاء في الحديث: ( إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب ) وجوفه صدره وباطنه، وجوف الشيء باطنه، ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب، من يسكن البيت الخرب؟ تسكنه البوم والغربان والحشرات والحيات.

فالصدر الذي يخلو من النور الإلهي، من القرآن ماذا ينزل فيه؟ الكبر، الشح، النفاق، الوساوس، الشكوك، الأوهام، سوء الظن، العجب؛ لأن البيت الخرب -أسألكم بالله- ما الذي يوجد فيه عادة؟ كلاب، حيات، حشرات. أما الصدر الذي فيه النور فالحيات لا تستطيع مجابهة النور، والصدر معمور بكلام الله مملوء بتلك الأنوار، حتى الشيطان لا يجد مكاناً في قلبه، ولا يستطيع أن يبيت أو يظل في مكان تغمره أنوار القرآن.

( إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب ) فلهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون ومن بعدهم يتنافسون في حفظ القرآن، يسأل بعضهم: إلى أين وصلت فيقول: وصلت إلى يونس، وآخر يقول: إلى بني إسرائيل، وثالث يقول: أنا في سورة الروم .. وهكذا إذا التقوا يسأل بعضهم بعضاً: أين وصلت في حفظ كلام الله؟ وسيدهم ذاك الذي يقول: ختمته وحفظته وفرغت منه والحمد لله، وعندما يحفظونه يحفظون كذلك معانيه؛ إذ ليس من المعقول أبداً أن يأتيك كتاب من سيدك ثم تقرأه ولا تفهمه وتنام، المعروف منا وفينا إذا وردنا كتاب بلغة غير لغتنا نبحث عن ترجمه يقرأ لنا هذا الكتاب الذي كتب بلسان غير لساننا، ولا نستطيع أن نرميه أبداً، ونحن نعلم أنه يحمل لنا تعاليم وأخباراً ضرورية، أوامر ونواهي تتوقف عليها سعادتنا في الدنيا والآخرة، فلهذا يروى عن عيسى عليه السلام هذا المعنى فيقول: كنت أهون عليك من صديقك أو قريبك يبعث إليك بكتاب فتبحث عمن يقرأ لك كتابه وتقول: أعد عليَّ، فهمني ماذا يقول، وأما كتابي فتنبذه وراء ظهرك ولا تلتفت إليه؛ بحجة أنك لا تعرف القراءة أو أنك لا تفهم.

يروي لنا الترمذي أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في شأن القرآن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ) انبذوا الحياة وراء ظهوركم، وانظروا إلى أحدكم وهو في دار السلام وقد دخل من أبوابها الثمانية، فيتلقاه المسئولون عن الجنة ونعيمها، الموكلون بها، فيقال: أي عبد الله! تعال، أنت من أهل القرآن، أنت من حفظة القرآن، أنت ممن كان يتلو القرآن، يقول: نعم. فيقال له: (اقرأ وارق)، في أي درجة؟ الطابق العاشر، العشرين، الثلاثين، الواحد بعد المائة، لا نعرف الطابق الذي أعد له ويعبر عنه بالدرجة، ودرجات الجنة درجات تتفاوت تفاوت الأرض والسماوات، فيقال لصاحب القرآن: ( اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل ) لا تستعجل بل رتل، والمعراج أو المصعد طالع به، وكلما طالت مدة الصعود ارتفعت الدرجات وعلت، فلهذا قيل له: (رتل) لا تهذ بالتلاوة هذّاً، رتلها ولو بقيت ساعات.

( فإن منزلتك عند آخر آية ) يوم ما ينتهي محفوظه من آخر آية يقف المعراج ويقال له: ادخل، فهو إذاً في علو منزلته بحسب مقدار حفظه، إن حفظ الكثير ارتقى إلى درجات أكثر، وإن حفظ القليل كانت درجته بحسب قليله، وهذا لا يقال لمن لم يحفظ كتاب الله، الذي ما يقرأ كتاب الله ولا يحفظه فهو لا يخاطب بهذا، وإنما أنت تحفظ القرآن أو من القرآن فيقال لك: (اقرأ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها). فيقرأ عبد الله ويرتل ويترنم إلى أن ينتهي من جوفه ما كان قد حفظه من كلام ربه، وحينئذ يقف المعرج أو المصعد ويدخل الدار التي أعدت له.

يروي لنا الحاكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ويقول فيه: إنه صحيح الإسناد، وعليه مسحة النبوة وطابعها، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه )، من قرأ القرآن وحفظه، واكتمل له حفظه، وأصبح في صدره محفوظاً فقد جعل النبوة بين جنبيه؛ لأن القرآن في الصدر، المكان الذي بين جنبي الإنسان هو الصدر، والقرآن في الصدر.

( فقد استدرج النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه ) إذ لو كان يوحى إليه لكان نبياً، لكن النبوة أهلها معدودون، ومضى قضاء الله وقدره بتعيينهم وختموا بأكملهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا مطمع للحصول على نبوة مهما كان الاجتهاد في الطاعة والعبادة، لكن الذي يحفظ القرآن عن ظهر قلب استدرج النبوة بين جنبيه، فأصبح شبيهاً بالنبي، ولكنه لا يوحى إليه؛ لأن الذي أوحاه الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل في خلال ثلاث وعشرين من السنين هو قد جمعه كله واستدرجه بين جنبيه، لكنه غير نبي.

أهل القرآن -يا أبنائي- لهم منزلة ما نستطيع أبداً أن نقدرها، تذكرون مما يفتح الله به علينا ويأتي خواطر في الدرس فنقول: تريد أن تعرف قيمة حافظ القرآن؟ قلت: نعم. نقول: ما بالك برجل استودعه الله كتابه، وقال: عبدي! احفظ لي كتابي، فهو يحفظ للرب تعالى كتابه.

يقولون في الدولة البريطانية أو المملكة المتحدة: فلان كان حامل أختام الملكة التي توقع بها الرسائل وتختم، فهذا منزلته فوق الوزير والرئيس والجنرال؛ لأنه يحمل أختام الملكة، يكتب الكتاب ويختم بالخاتم، إلى الآن -والحمد لله- عندنا القضاة يستعملون الخاتم، وفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز خاتمه معروف، ويحمله خواصه.

إذاً: إذا كان حامل أختام الملكة من القداسة بهذه الصورة فالذي يحفظ كتاب الملك جل جلاله وقد استودعه في صدره وحافظ عليه يتلوه الليل والنهار، والله ما نستطيع أن نتصور علو منزلته ولا سمو مقامه أبداً، فلهذا يقول: ( من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه، لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد، ولا يجهل مع من جهل )، من أراد أن يعرف منزلته منكم يا أهل القرآن فليذكر هذا القول النبوي الكريم: ( لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد ) ما معنى (أن يجد مع من وجد)؟ معناه: أن يغضب مع من غضب، يكون كالجبل الراسي، لا تثيره الكلمة أبداً، ولا تزعجه، ولا يحركه الجوع ويدفعه للباطل والشر.

(ولا يجهل مع من جهل) أي: ارتكبوا الباطل وفعلوا المنكر، لأن المعصية معاشر الأبناء! غشيان الذنب، وارتكاب المخالفة، اعلموا أنها نتيجة ظلمة يصاب بها القلب، فلا تتصورون أبداً أن عبداً يذكر الله وهو مع الله يقع على معصية الله، لن يكون هذا أبداً، وإنما قبل أن يقع العبد على الجريمة يعلوه دخان متراكم أسود فلا يرى فيه نوراً، فلا يرى قبح الجريمة ولا آثارها حتى يقع عليها، ويشهد لهذا قصة أبي ذر مع بلال رضي الله عنهما وهي: ( أن أبا ذر الغفاري عير بلالاً بأمه فقال: يا ابن السوداء، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا عيرني بأمي وقال لي: يا ابن السوداء، فقال صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر : إنك امرؤ فيك جاهلية ) إنك إنسان فيك جاهلية.

أريد أن يفهم الأبناء أن صاحب النور لا يقع في المعصية، وإنما يأتي العبد معصية الله ورسوله عندما يغشى على قلبه، عندما يغطى، فيصبح كالأعمى فيقع في المعصية، ويشهد لهذه الحقيقة العلمية قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فهل يا ترى تسمع لها نهياً صريحاً: عبد الله! لا تقل، عبد الله! لا تزنِ، عبد الله! لا تكذب؟ لا، وكيف تنهانا؟

قال العلماء: إذا أقام عبد الله الصلاة أكسبته نوراً، فيشرق به قلبه، وأصبح يعيش على نور، فالذي يمشي في النور ما يقع في بئر، لا يقع على حية، لا يرمي بنفسه في حوض أو بركة من القذر والأوساخ؛ لأنه على بصيرة، ولكن الذي يمشي في الظلام من يؤمنه ألا يقع على حية أو يقع في حفرة؛ فلهذا الصلاة نور، لأنها تحدث النور وتكسبه، فمن هنا معاشر الأبناء! قال له صلى الله عليه وسلم: ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) كيف ظهر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لأنه قال لأخيه عبد الله وولي الله من صالح عباد الله يا ابن السوداء! ينتقصه في كون أمه أمة وليست بحرة، ويشهد لهذا المعنى حديث الصحيحين ونصه: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) لم؟ قال: ( إن الإيمان يفارقه فيصبح كالظلة فوق رأسه ) حمامة طارت فوقعت فوقه، فأصبح في ظلمة كاملة نسي الله، وحينئذ يرتكب جريمته، أما والإيمان في القلب يشع له بالنور فيذكر الله ولقاء الله فمثل هذا يستحيل أن يعصي الله.

وحديث الإسرائيلي مع بنت عمه معروف، لما وقع بين شعبها الأربع نظرت إليه وقالت: أما تخاف الله؟ تفتض الخاتم بغير حقه؟ كيف كان وقع هذا الكلام في قلب هذا الإسرائيلي؟ قام ينتفض، يرتعد، وترك لها ما أعطاها؛ لأنها قالت: أما تخاف الله رب العالمين؟ فذكرته بالله فذكر، كان في ظلام، ودخان الشهوة ودخان الهوى حجبا عنه كل شيء، لم ير إلا فاحشته أو شهوته، لما أرسلت عليه ذاك النور وقالت: أما تخاف الله رب العالمين؛ قام ترتعد فرائصه، ذكرته فذكر.

وكونه ذكر معاشر الأبناء! يدل على أن القلب سليم، وأن المعتقد صحيح، وأن الإيمان يقين، وإنما اعتراه بخار الشهوة ودخانها أو الفطرة والطبيعة البشرية غشي عليه، فلما أشعل أدنى نور انكشفت الحقيقة، فقد يخرج مغشياً عليه، وكم وكم من عابد يذكُّر بالله في حال غفلته فيغمى عليه، فلهذا يقول صلى الله عليه وسلم: ( لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد، ولا أن يجهل مع من جهل، وفي جوفه كلام الله ) كلام الله طاقات، طاقات من أنوار لا توزن بميزان، فكيف -إذاً- تستهويه الشهوة وتستميله الفتنة أو تهزه الكلمة فيغضب مع من يغضب، أو يفسق مع من يفسق وهو يحمل النور، ومصدر الطاقة كامن في جوفه؟ إذاً: فلا يأتي هذا الأمر ممن في جوفه كلام الله.