وصايا لقمان كما وردت في القرآن


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والعاقبة الحسنى لمن اتقى الله، والصلاة والسلام على خاتم أنبياء الله محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وجميع من آمن به واستن بسنته واهتدى بهداه.

أما بعد:

فيا معشر الأبناء والإخوان! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اختار الأبناء عنوان هذه الكلمة: وصايا لقمان لابنه، على الأب والابن السلام، وعليكم أنتم أيضاً السلام.

من هو لقمان ؟ لقمان : عبد سوداني من نوبة السودان، هاجر من السودان إلى فلسطين، وقد كان في زمن نبي الله داود عليه السلام، وسماه نبينا: بالعبد الصالح، في حديث معروف؛ سببه لما نزل قول الله تعالى من سورة الأنعام: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فضج أصحاب رسول الله، وهالهم مثل هذا الحكم الإلهي، فقالوا: ( أينا لم يخلط إيمانه بظلم يا رسول الله؟ فقال لهم: ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؟ )، فأعلمهم أن هذا الذي في الآية: هو خلط الإيمان بالشرك، لا بمجرد المعصية والإثم.

والشاهد منه في قوله: (ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح)، فمن هنا ليس لأحدنا أن يقول بنبوة لقمان ، ولا أن يقول بعدمها، ونكتفي بهذا الذي اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقول: لقمان العبد الصالح، فإن كان نبياً فهو العبد الصالح، وإن كان غير نبي فهو العبد الصالح؛ لأن إثبات النبوة بدون علم كنفيها خطر، إنه الكفر، فهو العبد الصالح.

مما يؤثر: أنه وقف على داود عليه السلام وهو ينسج درعاً، وقد علمه الله صنعة الدروع ونسجها، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء:80].. الآية فوقف ينظر، فهمّ أن يسأل داود: لماذا هذا؟ فأدركته الحكمة فصمت، وبقي ينتظر حتى فرغ داود عليه السلام من نسج درعه، ثم أخذ يقيسه على جسمه، وأثناء ما يدخلها في جسمه قال: نعم لبوس الحرب أنت، فعرف لقمان أنها من أجل الحرب، وأنها آلة من آلات الحرب، فقال الكلمة التالية وهي من حكمه عليه السلام: الصمت حكمة، وقليل فاعله.

لقمان الحكيم لما بدأت تظهر عليه أحوال الحكماء ومدارك الحكمة على لسانه وفي عمله، فأحس قومه وشعروا بأن هذا العبد لا يستحق أبداً أن يبقى في العبودية مع هذا الكمال الذي يشاهد فيه، فكأنهم شكوا ذلك إلى سيده ومالكه، فقال: أختبره، فإن تبين أنه كما تقولون أعتقناه، فأجرى عليه الامتحان التالي:

أي لقمان ! اذبح شاة وائتني بأطيب مضغة فيها؟ فعمد لقمان إلى الشاة فذبحها وسلخها وجزرها، وجاء بقلبها ولسانها في طست، وقدمهما لسيده، فحمده وأثنى عليه خيراً وسكت، وتمضي أيام، وجدد الامتحان: أي لقمان ! اذبح شاة وائتني بأخبث مضغة فيها؟ فذبح لقمان الشاة وسلخها وجزرها وجاء بلسانها وقلبها في طست آخر، وقال: تفضل مولاي، فقال السيد: أي لقمان ! طلبت منك أن تأتيني بأطيب مضغة في الشاة فأتيتني بالقلب واللسان، ثم طلبت منك مرة أخرى أن تأتي بأخبث مضغة في الشاة فأتيتني بالقلب واللسان، ماذا تعني بهذا؟ فقال: إنهما إن طابا فقد طاب كل شيء في الحيوان، وإن خبثا فقد خبث كل شيء في الحيوان، هذه هي الحكمة.

القلب واللسان يا سامعي الكريم! اجتهد أن تغسل قلبك وتنظفه وتطهره، فإذا طاب لك وطهر وصلح انتقل إلى لسانك، استعمل الحكمة، وحاول أن تطيبها، فلا يتلوث بالخبث، فإذا طاب منك القلب واللسان فقد طبت، وسوف تحشر مع الطيبين، وإن عجزت وخبث القلب منك فلا ينفعك طيب اللسان، وإن خبث اللسان، فالقلب لا يلبث أن يخبث، إذ السبيل إليه من طريق اللسان.

ولا تنسوا هاديكم محمداً صلى الله عليه وسلم، إذ قال لـمعاذ : ( يا معاذ ! كف عنك هذا، وأخذ بطرف لسانه، فقال معاذ : أوإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! قال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟! ).

فهيا بنا أيها المستمعون! وقد أتيحت الفرصة أن نجدد المسير، ونعمل على أن تطيب قلوبنا وألسنتنا، فإن كل الأسقام والأوجاع، وكل الشرور والمفاسد التي قد نشكوها أو نتبرم منها ناتجة عن قلوب خبيثة وألسن خبيثة.

هذا لقمان عليه السلام امتن الله تعالى عليه بالحكمة، فقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان:12]، وأنتم أهل لأن تكونوا -أيضاً- حكماء، وليست الحكمة حُكراً على أحد، فإن الله بعث فينا رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم؛ بعثه فينا معلماً للحكمة، وهي دعوة الجد الكريم إبراهيم: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، واستجاب الله دعوة إبراهيم وإسماعيل، وبعث في هذه الأمة العربية مصطفاه محمداً صلى الله عليه وسلم، وامتن علينا بذلك في قوله من سورة الجمعة: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، يعلمهم الكتاب والحكمة.

إذاً: فما منا أحد يجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلم هداه إلا وسيصبح حكيماً بإذن الله، ومن ترك مجالس السنة، وينابيع الحكمة في صحاحها ومسانيدها، وعاش غريباً عنها لا يسمع بها فأنى له أن يكون حكيماً، أستاذ الحكمة ومعلمها في دنيا الناس محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لِمَ لا نكون حكماء؟ فلنطلب الحكمة.

هل تريدون صورة للحكمة؟

الحكمة: مأخوذة من حكمة الدابة؛ حديدة توضع في فمها تمنعها من العبث في سيرها، فالحكمة نور في قلب العبد، هذا النور يحول بينه وبين أن ينغمس في الرذائل، أن يتخبط في المفاسد، أن يتهاوى في الشرور والخبائث؛ لأنه ذو نور يمشي به.

ورأس الحكمة مخافة الله، يا من يريد أن يظفر بالحكمة عليك برأسها، فإن ملكت الرأس ملكت اللسان والكل، ما رأس الحكمة؟ مخافة الله، من عاش يخاف الله خوفاً يصبح لا ينظر إلا بإذن مولاه، ولا يسمع إلا بإذن مولاه، ولا ينطق إلا بإذن مولاه، ولا يأخذ ولا يعطي إلا بإذن مولاه؛ خوفاً منه، لا يزال يترقى حتى يصبح حكيماً، رأس الحكمة مخافة الله.

أما الحكمة وإن فسرت بتفاسير عديدة، وكلها صالحة ونافعة، ولكن حسبنا ما بينه تعالى فيها، بقوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان:12]، ما هي؟ أَنِ [لقمان:12] أي: اشْكُرْ لِلَّهِ [لقمان:12]، من سيد الحكماء؟ هو الشاكر لله، من الحمقى في دنيا البشر؟ هم الكافرون بالله.

وتأملوا! يفتح الله عليكم، من هم الحكماء؟ هم الشاكرون لله إفضاله وإنعامه، الذين التزموا مبدأ الشكر، والشكر هنا هو كما يلي:

أولاً: اعترافك الباطن، أن تعترف بقلبك بأن كل نعمة الله مسديها، من يقوى على هذا؟ يقوى على هذا الذاكرون، ويحرم منه ويعجز عنه الغافلون، كل نعمة تقر في داخل نفسك معترفاً بأن الله هو موليها، هذه الخطوة الأولى، تناولت كأس ماء بارد، أجرِ على خاطرك أنها نعمة، وأن الله هو مسديها، لبست ثوبك، ركبت دابتك، نظرت ببصرك، سمعت بأذنك، اذكر أن هذه نعمة والله واهبها.

ثانياً: ترجم ذلك بلسانك معلناً عما علمت وأقررت، فقل: الحمد لله، فيتواطأ القلب واللسان، القلب أولاً اعترف، وترجم ذلك الاعتراف اللسان، بكلمة: الحمد لله؛ ولهذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأس الشكر، جعل الشكر هيكلاً له رأس، ما رأس الشكر؟ الحمد لله.

إذاً: ما رأس الشكر؟ الحمد لله، هذه الكلمة تزن الدنيا وما فيها.

ثالثاً: أن تصرف النعمة، أن تنفقها، أن تضعها، أن تستعملها فيما يحب المنعم، فيما يحب من أنعم بها عليك، فإن أنت أنفقتها؛ صرفتها؛ استعملتها في غير ما نحب، فقد كفرتها، ويا ويل الكافرين لنعم الله، فإنهم عرضة في عشية أو ضحاها لأن يسلبها من أعطاها، وكان السلف يكثرون من هذه الجملة: اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء.

والله تعالى يقول: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ [إبراهيم:7]، والقائل موسى نبي بني إسرائيل، وذكر تعالى هذا لنا موعظة: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، لم يذكر جواب هذا الشرط؛ لأنه فوق ما نتصور، يكفي فيه أن تعرف أن عذاب الله شديد.

معشر المستمعين! يقول تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان:12]، وقد عرفنا من لقمان ، وعرفنا ما هي الحكمة؟ بينها تعالى بقوله: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [لقمان:12]، شكر الله هو الحكمة، رأسها مخافته تعالى، وقوله تعالى: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان:12]، هذا صالح أن يكون كلام الله، وهو كلام الله.

بعد أن عرفنا من هو لقمان ؟ وعرفنا ما هي الحكمة؟ وما رأسها؟ وكيف نحصل عليها؟ والآن مع وصايا لقمان الذي عرفناه:

قال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ [لقمان:13]، أي: اذكر يا رسولنا والمبلغ عنا، اذكر لهؤلاء الذين يحاربون دعوتنا، الذين أفزعهم وهالهم توحيدنا فيما من أجله خلقنا الدنيا والآخرة معاً، هؤلاء الذين يبيعون الأغاني ويشترونها، يتشاغلون ويشغلون بها عن سماع ذكرنا وكتابنا وكلامنا؛ لأن السياق في الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لقمان:6]، كان النضر بن الحارث عليه ألف لعنة ولعنة يحارب هذه الدعوة، فيأتي بالقينات، ويدعو الناس إلى سماع الأغاني؛ ليصرفهم عن سماع القرآن، وابتلينا نحن اليوم وقبل اليوم بذلك، وأصبح الغافلون أمواتاً وهم لا يشعرون، يفتح دكاناً من سقفه إلى أرضه لا يبيع فيه مجوهرات ولا فواكه ولا خضراً ولا ثمراً، إنما يبيع فيه الأغاني، هذا هو النضر بن الحارث في آخر الزمن.

والشاهد من هذا: يقول الله تعالى لرسوله: اذكر لهؤلاء الغافلين، اذكر لهم ما يأتي؛ ليعلموا أنك لست أول من دعا إلى لا إله إلا الله، إلى أن يعبد الله وحده، لست أول من دعا إلى الفضائل والكمالات، لست أول من حارب الرذائل والخسائس والخبائث في الحياة، بل سبقك رسل وعباد صالحون، ذكِّرهم بـلقمان هذا السوداني، إذ قال لابنه: وَهُوَ يَعِظُهُ [لقمان:13].

والوعظ: هو الأمر والنهي مقرونان بالتبشير والتنذير، إذا أمرك بأمر فاذكر ثماره ونتاجه الطيب؛ ليرغب من تأمره ويفعل المأمور، وإذا نهيت عن خبيث أو عن خسيس فاذكر عواقبه السيئة؛ لينزجر من تنهاه، ويترك ذلك.

وضع لقمان ابنه بين يديه، وهل فينا الآن من يضع ولده بين يديه؟ هذا نادر، إلا من بعض الأفراد نعرفهم يجمعون أطفالهم ونساءهم بعد صلاة الصبح ويذكرونهم وهم أقلية، يجمعون نساءهم وأطفالهم ويجلسون إليهم ويعلمونهم ما شاء الله أن يعلموهم كقصار المفصل، وآداب الطعام والشراب واللباس والمعاملة، انقطع هذا، وإن كان السلف الصالح قد عاشوا عليه.

وإليكم القصة التالية: أُثر عن عمر بن عبد العزيز الأموي الخليفة الراشد بعد الراشدين وصح الأثر: أنه كان إذا صلى الصبح بالمؤمنين -وهو خليفة الله في عباده- عاد إلى بيته وجمع أطفاله ونساءه فيقرأ أحدهم القرآن وهم يتدبرون ويبكون، لقد قال من يعرفهم: والله لو دخلت عليهم ووجدتهم كما هم عليه يبكون لقلت: بين أيديهم جنازة، وما ذاك إلا أنهم يقرءون القرآن فيتأثرون فيبكون، ولا تتعجبوا من هذا، فقد حصل لنا مرة، وإني لصادق ولا داعي للاتهام، جلسنا في بيت أحد الإخوان في المغرب، ووضعوا مذياعاً يقرأ فيه أحد القراء المعروفين المشهورين، والله لو دخلت علينا لقلت بين أيدينا جنازة، ما من واحد إلا يبكي ويتمرغ وينتفض.

وصية لقمان لابنه بعدم الشرك بالله

الشاهد من هذا: أن لقمان يضع ولده بين يديه، ويأخذ في وعظه، وابتدأه بما بدأ به رسول الله قومه بكلمة لا إله إلا الله، هذا لقمان بدأ ولده بقوله: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

كلمة لا إله إلا الله، أولها كفر، وآخرها إيمان، أولها نفي، وآخرها إثبات، وهو معنى (لا تشرك بالله)، أي: اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، يا أهل مكة استأتم وأصابكم همٌ وغم من كلمة لا إله إلا الله، هذا عبد حبشي اسمه لقمان آتاه الله الحكمة، اسمعوا بما بدأ ابنه، هل بدأ بقوله: اغسل ثيابك؟ حسن طعامك؟ بدأه بقوله: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13]، وعلل بذلك بقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

معاشر المستمعين! مسألتان ضروريتان ينبغي أن نعرفهما: ما الشرك؟ وما الظلم؟

الشرك: هو مأخوذ من شرك فلان فلاناً في ماله، في عمله، جعل له نصيباً أو شركاً، والشركات معروفة، وفلان شريك لفلان في المنزل أو في الدكان أو البستان، ونحن شركاء في كذا.

فالشرك أيها المستمعون! يتناول:

أولاً: ربوبية الله، فمن اعتقد أو رأى أو ظن أو زعم أن هناك من يخلق ولو بعوضة أو يرزق ولو بإيجاد جرام واحد من غذاء لمخلوق من المخلوقات، أو يدبر ولو زاوية من زوايا الحياة، من اعتقد أن هناك من هذا وصفه فقد أشركه مع الله عز وجل، وجعله شريكاً في ربوبية الله تعالى.

أما مشركو الجاهلية، مشركو العرب، فكانوا لا يشركون بالله في ربوبيته، بل كانوا موحدين، وهذا القرآن شاهد وكفى به شهيداً: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9]، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31].

فهم موحدون في ربوبية الله غير مشركين، ولما تسلط علينا الثالوث الأسود: المجوس، والنصارى، واليهود، أفسدوا عقائد المسلمين، وأصبح بين المسلمين من يشرك بالله في ربوبيته، الشرك الذي ما عرفه عرب الجاهلية عرفه المسلمون، هل تسمعون عن ديوان الصالحين؟ ديوان الصالحين يتكون من: أقطاب، ونجباء، وبدلاء، وأولياء، وهو مؤسسة كمؤسسة الأمم المتحدة أو الجامعة العربية، ويعقد كل عام، إما في بغداد أو الشام، أو في المغرب أو الحجاز، ورجاله الذين يديرون دفة هذا المجلس، ديوان الصالحين!

وإليكم هذه القصة حفظناها ورويناها عن مشايخ العلم، لتروحوا على أنفسكم قليلاً، اجتمع رجال الديوان ينظرون في قضايا العام؛ مات القطب الفلاني من يخلفه؟! من يكون بديلاً عنه؟ يتداولون القضية.

وإذا بلص وما أشهر اللصوص يومئذ؛ إذ هبطنا نهائياً، ها هو لص يمشي في الليل فيسمع المداولات فظن أن تجاراً من البصرة أو الكوفة يتحدثون عن الأموال التي اكتسبوها في السوق.

فقال اللص: لأبيتنهم غداً إن شاء الله، وآخذ أموالهم، فجاء في المساء بعد صلاة العشاء ودخل المسجد الذي يجتمعون فيه، وأدار الحصير عليه ووقف فيه، تعرفون الحصر؟ لفه على نفسه وبقي واقفاً على الجدار، وجاء رجال الديوان، وأخذوا يتعاطون ويتبادلون الآراء، السيد الفلاني مات في القاهرة من يخلفه، آخر قال: فلان في بغداد، وآخر قال: فلان في حمص، قال آخر: لا، هذا الملفوف في الحصير هو الذي يكون خليفة للقطب الفلاني الذي مات، تعال يا رجل! فخرج، تقول الرواية: سبحان الله! دخل لصاً فخرج قطباً، ويبكون! لما تقص هذه القصة يبكي السامعون والسامعات، انظر عناية الأولياء وبركة الصالحين، دخل لصاً وخرج قطباً.

هذه صورة من المجتمع بعد القرن الرابع، يوم أن هدّ أركان بنائنا الثالوث الأسود: المجوس، واليهود، والصليبيون.

وإن قلت: هذا الشيخ بهلول. ماذا يقول؟ أقول: أتريد برهاناً؟ لقد استعمرنا الشرق والغرب من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، ووضعونا تحت أقدامهم، حتى هولندا العجوز، استعمرت إندونيسيا مائتي عام، خلفت عشرة ملايين هولندي يسوسون ويحكمون مائتي مليون مسلم! حصل أو لا؟ كيف يتم هذا؟ لأن العقيدة انتهت، والأخلاق ذهبت، والمعرفة ارتفعت، وأصبحت أمة أهلاً لأن يسودها الأبيض والأسود، حصل أو لم يحصل؟

إذاً: هل عرفتم الشرك في الربوبية؟ ما عرفه العرب في الجاهلية وعرفه المسلمون في القرآن.

أما شرك الألوهية والعبادة، فلا تسأل فقد أصمّ، الدنيا الرجل في يده المسبحة، يذكر لا إله إلا الله، لا إله إلا الله ألف مرة، ولما تسقط المسبحة من يده: يا سيدي فلان! ينسى الله تعالى، أنت تذكره: لا إله إلا الله، أفضل موجود ذكري: لا إله إلا الله، ولما تسقط المسبحة من يده بدل أن يقول: يا ألله، مستعيناً به سبحانه يقول: يا سيدي عبد القادر ! تصوروا الهبوط!!

المريض عندنا نضع عند رأسه دليل الخيرات، نستشفي به، كتبوا أسماء أهل بدر ثلاثمائة وأربعة عشر صاحباً، ونظموها قصيدة، وأخذوا يتوسلون بهذه الأسماء إلى الله!

أما الذبائح؛ ذبائح النذور، ذبائح النشرة للجان، ذبائح الخوف من العفاريت، ذبائح الموالد والمآتم، كأننا نمثل الجاهلية قبل بزوغ شمس الإسلام.

دعاء غير الله، النذر لغير الله، الحلف بغير الله، حلفوا بكل شيء إلا بالله، حتى القاضي يصدر حكمه في المحكمة الإسلامية بأن يحلف فلان بن فلان بسيده فلان، لم؟ قال: لا يخاف الله، يحلفون ألف مرة بالله ولا يستطيع أن يحلف بالولي!! أرأيتم أين وصلنا؟

ولهذا نمضي مع السياق الكريم، فنقول: الشرك: أن تلتفت بقلبك إلى غير ربك، كل من تلتفت إليه فتهابه وترهبه؛ تخشاه وتطمع فيه، تعبر عن ذلك بندائه وذكر اسمه، أو التقرب إليه بأي نوع من القربى ناسياً الله تعالى ذلكم الشرك.

إذاً: دعاء غير الله، الذبح لغير لله، النذر لغير الله، التوكل على غير الله، الرهبة والخوف والفزع من غير الله هذه مظاهر الشرك في عبادة الله.

يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، لم كان ظلماً عظيماً؟

الجواب: اسمعوا! لو سألتم وقلتم: يا رب! لم خلقت الجنة والنار؟ لم خلقت الحياة الأولى والثانية؟ لم خلقت السماوات والأرضين؟ لم خلقت؟ لم خلقت..؟ الجواب واحد: أراد أن يُذكر ويُشكر، فأوجد العوالم من أجل ذلك، واقرءوا: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [الجاثية:13]، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

فمن هنا الذي يشرك بالله يكون قد ظلم أعظم ظلم وأفظعه، أخذ حق المولى الذي استحقه بربوبيته، حيث خلق فسوى، وقدر فهدى، ومنع وأعطى، وأدار الكون كله بقدرته وعلمه وحكمته من أجل أن يذكر ويشكر، فإذا بك تذكر غيره وتشكر سواه، أي ظلم أعظم من هذا الظلم؟!

إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

معاشر المستمعين! من لم يعرف الشرك يجب أن يتعلمه، لا ليشرك، ولكن ليتجنبه، فإن من لم يعرف الشر يقع فيه، ولهذا الذين كانوا يحاربون دعوة التوحيد -والعياذ بالله تعالى- ماتوا على ضلال، يمرون بالحلقة فيغلقون آذانهم، ويقولون: هؤلاء لا يعرفون إلا الشرك، يتهمون الأمة بالشرك، ماتوا وهم لا يعلمون، تعلّم الشرك ما هو؟ من أجل أن ترهبه وتتخلص منه.

وصية عامة تحض على شكر الله وشكر الوالدين

تأتي جمل اعتراضية، وهي قول الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، وصيناه بماذا؟ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، هذه وصية الله غرزها في الفطر، وأنزل بها الكتب، ونبأ بها الأنبياء والرسل، وصية لا ينكرها أبيض ولا أسود، وهي أن على العبد أن يشكر لله ولوالديه؛ الله أولاً؛ لأنه واهب النعمة الأولى؛ خلق ورزق، والوالدان بعد ذلك؛ لأنهما وهبا وأسديا معروفاً وإحساناً لهذا الولد، فمن لم يشكر الله ووالديه، أي: من لم يشكر الله إنعامه، ولوالديه إحسانهما، فهو عبد ساقط، لا وزن له ولا قيمة، كالميت.

وصية لقمان لابنه بأن يراقب الله

عاد السياق إلى وصايا لقمان التسع، ولعلها عشر بالتفصيل، نوجز القول، قال: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [لقمان:15-16]، وفي قراءة سبعية: (يا بني إنها إن تكن مثقالُ حبةٍ من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله)، هذا ناتج عن سؤال طرحه الولد على والده، فقال: يا أبتاه! أرأيت لو عملت الحسنة أو السيئة فأخفيتها عن أعين الناس، هل الله يعلمها ويجزيني بها؟

قال في الجواب: يا ولدي! إِنَّهَا إِنْ تَكُ [لقمان:16]، أي: سيئتك، مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [لقمان:16]، تعرفون بذر الخردل؟ الخردل معروف، بذره أخف من بذر الكُسبُرة.

إذاً: يقول: إن تك سيئتك في خفتها وقلتها وحقارتها مثقال حبة من خردل، وزن حبة من خردل فتكن في صخرة صماء، إن قدر لك أن تدخل فيها وتعصي الله فيها، أو تكن معصيتك في العالم العلوي، وما أوسعه؛ الشمس وحدها أكبر من الأرض، وتأتي تلك المعصية في السماوات، أو تأتي بها في الأرض على سعتها وجبالها وأصحارها يعلمها الله عز وجل.

قال: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان:16]، لم؟ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، لا يخفى عن الله شيء، لا تخفي السيئة جبال الأرض، ولا بحارها، ولا ظلمات السماء ولا أنوارها، لا أبعاد عند الله؛ للطفه وخبرته.

ومعنى هذا يا معشر المستمعين! أنه أراد أن يغرس في نفس ولده مبدأ المراقبة، ليعيش مراقباً لله تعالى، فلا يقدم على شيء إلا وقد ذكر أن الله يعلمه، أن الله يراه، وسوف يحاسبه ويجزيه، فمن رزق هذه المراقبة والتي جاءت في قول الله تعالى: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، والذين لا يعطون هذه المراقبة، ولا تكون ملكة لهم، هم الذين يقعون في المعاصي والذنوب والآثام، كوّن فيه هذه الحسنة، حيث علّمه أنه لا يخفى على الله من أمره شيء.

إذاً: احذر، واحتط لنفسك يا ولدي! لا ترتكب سيئة، فإنك لا تستطيع أن تجحدها أو تكتمها أو تخفيها عن الله تعالى، وهنا انتقل به إلى الوصايا، بعد ما ركز على مراقبة الله.

وصية لقمان لابنه بإقامة الصلاة

بعد التوحيد بالله، قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17]، وهذا الذي جاء به رسول الله، أول ما أمر الناس أمرهم بالتوحيد، لا إله إلا الله، عشر سنين ما نزلت فريضة، فنزلت أول فريضة الصلاة، فـلقمان مثل رسول الله: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، ثم قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17].

معاشر المستمعين! تذكرون دائماً آية الحج، نذكرها في كل مناسبة، الدولة الإسلامية أركانها كم؟ أربعة، أيما دولة لا تقوم على هذه الأركان الأربعة، فهي دولة هاوية بالفعل، وسلطانها وإن طال المدى إلى المنتهى، وقد أنشأنا أكثر من أربع وثلاثين دولة بدعائنا وجهادنا، لم يعز الإسلام فيها، ولم تتجل رحمات الله وبركاته فيها، ولم يعز فيها أهلها، من إندونيسيا إلى المغرب؛ نتيجة أنها ما أقيمت على الدعائم الأربع، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، أعطيناهم الدولة والسلطان، ماذا فعلوا؟ فتحوا بيرة؟ أقاموا حفلات؟ ماذا فعلوا؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].