أرشيف المقالات

عائشة رضي الله عنها وحديث الإفك

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
عائشة رضي الله عنها
وحديث الإفك

عشرُ آياتٍ من سورة النورِ نزلت في حق عائشة - رضي الله عنها - تُبرِّئها من التهمة التي أشاعها الذين خاضوا مع الخائضين.
 
فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرُجَ للغزوِ في سبيلِ الله، أقرع بين نسائه؛ أي: جعل قرعة، فيأخذ معه التي وقعت عليها القرعة، قالت: فأقرع بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرج فيها سهمي، وخرجتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك بعد ما أنزل الله آيةَ الحجاب، فكنتُ أُحمَل في هَوْدَجِي فوق جمل، فسِرْنا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك، أذِن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرجوع، وقبيل بَدْءِ رجوعنا إلى المدينة ابتعدتُ عن أنظار الجيش لأقضي حاجتي بعيدًا عنهم، فلمَّا عدتُ إلى الموضع الذي كنا فيه فوضعتُ يدي في صدري فلم أجد قلادتي التي كنتُ أرتَدِيها، فرجعتُ إلى الموضع الذي قضيتُ حاجتي فيه ألتمس القلادة، أبحث عنها، فتأخَّرتُ عن اللحاق بالرَّكْب، فحين شرع الرَّكْب بالرجوع أقبل نفر من الجيش إلى هودجي فاحتملوه ووضعوه على بعيري الذي كنتُ أركبه وهم يحسبون أنني فيه، وكانت عائشة - رضي الله عنها - خفيفةَ الوزن، فلم يحسوا أنها ليست في الهودج، قالت: فساروا بجملي، ووجدتُ عقدي (قلادتي) بعدما ارتحل الجيش، فجئتُ إلى منازلِهم فلم أجد أحدًا، فذهبتُ إلى المنزل الذي كنتُ أنام فيه وكنتُ أظن أن القوم سيشعرون بغيابي ويرجعون إليَّ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبَتْني عيناي فنمتُ، وكان صفوان بن المُعطِّل قد تخلَّف هو الآخر عن اللَّحاق بالجيش حتى أقبل الظلام، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائمٍ، فأتاني فعرَفني حين رآني، وكان قد رآني قبل الحجاب، فاستيقظتُ باسترجاعه؛ أي: استيقظتُ حين سمِعْتُه يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فخمَّرتُ وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعتُ منه غير تكرار قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأناخ راحلته (ناقته) فداس على يدِها فركِبْتُها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش والتحقنا به عند الظهيرة، فهلَك مَن هلَك في شأني، وكان الذي أشاع الإفك وقاد أمرَه هو عبدُالله بن أُبَي بن سلولٍ، فقدِمنا المدينة فاشتكيتُ آلامًا حين قدِمنا المدينة شهرًا، والناس يخوضون في الإفك وأنا لا أشعر بشيء من ذلك، إلا أني أحسستُ أني لم ألقَ اللطفَ والرعاية التي عوَّدني عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين كان يجدُني مريضةً، فلم أجد منه سوى قولِه حين يدخل عليَّ: ((كيف تِيكُم؟))، فكان ذاك الذي يُرِيبُني، ولم أشعر بما يحدثُ حولي، حتى خرجتُ بعد شفائي من مرضي أنا وأم مِسْطَحٍ إلى المواضع التي نقضي فيها حاجاتنا، وكنَّا لا نخرج إلى هذه الأماكن إلا ليلاً، وكان ذلك قبل أن نتَّخِذ المواضع المستورة قرب بيوتنا، فسمعتُ أم مِسْطَح تقول: تعس مِسْطَح، تعس مِسْطَح، فقلتُ لها: بئس ما قلتِ، تسبِّين رجلاً شهد بدرًا؟! فقالت لي: ألم تسمعي ما قال؟! قلتُ: وماذا قال؟ فأخبرتْني بقول أهل الإفك، فازددتُ مرضًا إلى مرضي، فلما رجعتُ إلى بيتي، دخل عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ((كيف تِيكُم؟))، فقلتُ: أتأذن لي أن أذهب إلى بيت أبي وأمي؟ فأذِن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئتُ إلى أبي وأمي، فقلتُ لأمي: يا أمتاه، ماذا يتحدَّث الناس عني؟ فقالت: يا ابنتي، هُوِّني عليك، فواللهِ، لقلَّ ما كانت امرأة قط وضيئة جميلة عند رجل يحبُّها، ولها ضرائر، إلا أكثر عليها الكلام، قالت: فقلتُ: سبحان الله، أو قد تحدَّث الناس بذلك؟! قالت: فبكَيْتُ تلك الليلة حتى أصبحتُ لا ينقطع لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا وأسامة بن زيد حين تأخَّر نزول الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله وزوجته، قالت: فأما أسامة بن زيد، فقال: يا رسول الله، إنها أهلُك ولا نعلم منها إلا خيرًا، أما علي - رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله، لم يُضيِّقِ الله عليك والنِّساء سواها كثير.
 
وفي كتب السيرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن استشار عليًّا، وقال له ما قال، استشار عمر - رضي الله عنه - فقال له: يا رسول الله، مَن زوَّجكها؟ فقال: ((الله))، فقال عمر: أتظن أن الله دنَّس عليك عِرْضَك؟!
 
ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يخطب، فقال: ((أيها الناس، من يعذرني من رجلٍ قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟! والله ما وجدتُ منها إلا خيرًا، وقد اتَّهموا رجلاً (صفوان بن المعطل) لم أجد منه إلا الخير))، وظل رسول الله شهرًا يعاني من خوض الخائضين في أحبِّ زوجاته إليه، قالت: ثم أتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا في بيت والديَّ، فحين جلس قريبًا مني، قال: ((أما بعد يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فسيُبرِّئك الله، وإن كنتِ قد ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب، تاب الله عليه))، قالت: فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته، انحبس دمعي من شدة الحزن، فقلتُ لأبي: أجِبْ عني رسول الله، فقال: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ لأمي: أجيبي عني رسول الله، فقالت: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله - صلى الله عيه وسلم - فقالت: وأنا فتاةٌ حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن، فقلتُ: سمعتم عني ما سمعتم، ثم صدقتم أقاويل الناس حتى استقر ذلك في قلوبكم، إن قلتُ لكم: إني بريئة، لا تصدقونني، فوالله لا أجد لكم ولي مثلاً إلا ما قال أبو يوسف: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]، قالت: ثم تحوَّلتُ فاضطجعتُ على فراشي، وكنتُ أعلم علمَ اليقين أني بريئة، وأن الله - سبحانه - سيُبرِّئني، ولكن والله ما كنتُ أظن أن يُنزِل الله وحيًا في شأني يُتلى على مر الدهور؛ لأني كنتُ أشعر أني أصغر من أن ينزل الله آياتٍ تثبتُ براءتي، لكني كنتُ أتوقع أن يرى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المنام ما يثبت له أني بريئة، قالت - رضي الله عنها -: والله ما غادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسَه ولا خرج من أهل البيتِ أحدٌ حتى نزل جبريل - عليه السلام - على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأصابه ما كان يصيبه حين ينزل عليه الوحي من التعب، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شاتٍ شديد البرد؛ من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت: فلما أفاق بعد أن تركه الوحي وجدتُ السرور باديًا على وجنَتَيْه، وهو يضحك، فكان أوَّل كلمة تكلم بها أنه قال: أبشري يا عائشة، أمَّا الله - عز وجل - فقد برَّأكِ، قالت: فقالت لي أُمي: قومي إليه فهنِّئيه، فقلتُ: لا والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا اللهَ - عز وجل - فهو الذي أنزل براءتي.
 
فأنزل الله - تعالى - من سورة النور: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النور: 11 - 19].

شارك الخبر

المرئيات-١