أرشيف المقالات

إشارة إلى الآثار السيئة للمبتدعة على واقع المسلمين المعاصر

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
إشارة إلى الآثار السيئة للمبتدعة
على واقع المسلمين المعاصر

أصبح من المسلَّم به بين عُقلاء المسلمين - وقليلٌ ما هُم - خطورةُ البدعة، وسوء عاقبتها على الفرْد والمجتمع المسلِم؛ لما لها من الآثار السيّئة على الظَّاهر والباطن.
 
فالبدعةُ هي: ما اختُرع من عقائد وعبادات وسلوكيَّات، لا يقوم عليها الدَّليلُ الشَّرعي، ولا يُسلِّم بحُسنها الذَّوقُ العقْلي، فهي نوعٌ من الاستِدراك على التَّشريع، والافتِئات على المشرِّع، ولو ظُنَّ بها الكمال فما هو إلاَّ كمال في سبيلِ الشَّيطان، لا في سبيل الرَّحمن.
 
والمُبتَدِعة هم القومُ الَّذين يتولَّون كبرَها، ويعملون على نشْرها وبثِّها، وفرْضها بالقوَّة في بعض الأحيان، وما التاريخ منَّا ببعيد؛ فبنظرة سريعة يُمكن إدراك كيف كان لاقتِران قوَّة السلطان المَشوبَة بالهوى والشَّهوة بالبدعة الأَثَرُ السيّئُ، الَّذي نعاني منه حتَّى الآن في قطاعٍ عريض من البلدان الإسلاميَّة.
 
وفي كلامي معكم - أحبَّتي في الله - لا أتناول الكلام على البدعة من حيثُ الحكمُ الشَّرعي، وإقامة البراهين على تَحريمها؛ فإنَّ ذلك من المفترَض أنَّه جلِيٌّ عند كلِّ باحث عن الحقّ، يرجو لقاء ربِّه، ويَخشى عذابه، فالقرآنُ تواطَأ مع السّنَّة، وتعاضَدا مع الإجْماع وأقوال السَّلَف على ذمِّ البدعة والتَّحذير منها، فمِن ذلك قول الله - تعالى -: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى: 21]، قال ابنُ جرير (21 - 522): "أم لهؤلاءِ المشركين بالله شركاءُ في شِرْكهم وضلالتِهم، ابتدعوا لهم من الدِّين ما لم يُبِح الله لهم ابتداعَه".
 
وأخْرَجَ مسلم في صحيحه، عن أمّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنْها وعن أبيها - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فهُوَ رَدٌّ))، وفي رواية: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنا، فهُوَ رَدٌّ))؛ مسلم: (1718).
 
قال الإمام النَّووي - رحِمه الله - [12 - 16]:
"هذا الحديثُ قاعدةٌ عظيمة من قواعِد الإسلام، وهو مِن جوامع كلِمه -صلى الله عليه وسلم- فإنَّه صريحٌ في ردِّ كلِّ البِدَع والمُختَرعات، وفي الرّواية الثَّانية زيادة، وهي أنَّه قد يعانِد بعضُ الفاعلين في بدعة سُبِق إليْها، فإذا احتجَّ عليه بالرّواية الأولى، يقول: أنا ما أحدَثْت شيئًا، فيحتجّ عليه بالثانية التي فيها التَّصريح بردِّ كلّ المحدثات؛ سواء أحْدَثَها الفاعل، أو سُبِق بإحداثها".
 
وأمَّا أقوال السلَف وعلماء السنة والجماعة في ذلك، فحدِّث ولا حَرَج؛ فالسَّلَف ومَن سار على ضرْبهم - من عهْد الصَّحابة، رضوان الله عليهم، إلى يومِنا هذا - مجمعون على ذمِّ البدعة والتَّحذير من المبتدعة، ومِن أجْمع ما قيل فيهم ما افتتح به إمامُ السنَّة أحمد بن حنبل كتابَه في "الرَّدّ على الجهميَّة والزنادقة"، فقال: "عقدوا ألْوِية البدعة، وأطلقوا عقال الفتْنة، فهم مُختلفون في الكتاب، مُخالفون للكتاب، مُجمعون على مفارَقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بِغَيْر علْم، يتكلَّمون بالمُتشابه من الكلام، ويخدعون جُهَّال النَّاس بما يشبهون عليْهم، فنعوذ بالله من فِتَن المُضلِّين" [ص: 6].
 
ولكن أتناوَل معكم الكلام على البِدعة؛ من حيث أثرُها السيئ على أحوال المسلمين الآن، والغَرَض من ذلك بيان شمولية مفاسد البِدْعة، والتي قد تَتَسَبَّب في تخْليد صاحبِها في النار؛ عقابًا على ردَّته، أو دخولِه النار جزاءً على زنْدقته وفِسْقه، وإقدامه على الموبقات والمُهْلكات المفسدة للأدْيان والقلوب، والعقول والأبدان، والحَرْث والنَّسل، من أَثَر البِدَع والدَّعوة إليها وترْسيخها في قُلُوب وعقول النَّاس، ممَّا يُمَثِّل عونًا للهوى والشَّهوة وجند إبليس من الجنّ والإنس، على طمْس معالِم الدِّين في حياة الفرْد والمجتمع، ولكن صدق الله العظيم: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 8، 9].
 
وفي بيان أثر البِدعة يقول ابن تيميَّة - رضي الله عنه - في "اقتضاء الصراط المستقيم" [1 - 217]: "فالعبدُ إذا أخذ من غَيْر الأعمال المشْروعة بعضَ حاجته، قلَّت رغبتُه في المشْروع وانتفاعه به بقدْر ما اعتاض من غيره، بخلاف مَن صَرَف نهمته وهمَّته إلى المشْروع، فإنَّه تعظم محبَّته له ومنفعته به، ويتمّ دينه به، ويكمل إسْلامه".
 
ثمَّ قال - رحِمه الله -: "ولهذا عظَّمت الشَّريعة النَّكير على مَن أحدَثَ البدَع، وحذَّرت منها؛ لأنَّ البدَع لو خرج الرَّجُل منها كفافًا - لا عليه ولا له - لكان الأمرُ خفيفًا، بل لا بدَّ أن توجب له فسادًا في قلبه ودينه، ينشأ مِن نقص منفعة الشَّريعة في حقِّه؛ إذ القلب لا يتَّسع للعوض والمعوض عنه".
 
فانظر - رحِمني الله وإيَّاك - إلى هذا الكلام الصَّادر من واحد من علماء السنة المحقِّقين المدقِّقين، واستشعِر ما فيه من الإشارة إلى الأثر السيّئ للبدَع على القلوب والسّلوك والعبادات، ممَّا يعمّ الفرد والمجتمع؛ لتدركَ مدى عظَم هذه الآفة الَّتي يجب محاربتُها ومحاربة أهلها ومناصريهم بشتَّى الطُّرُق والوسائل.
 
ولكي يتَّضح ذلك وينجلي؛ فإني أُبَيِّن ذلك بالمثال المفصِح عن سيّئ الأحوال الَّتي تعجُّ بها البلدان الإسلاميَّة، فأقول مستعينًا بالله - تعالى -: انظُر إلى أَثَر بدَع الاعتِقاد، وأَثَر ذلك على عقائد النَّاس، وما في قلوبهم تجاه ربّهم، وأثر ذلك على سُلُوكهم على الوجْه التالي:
1- بدعة التجَهُّم، ونفْي الأسماء الإلهية والصفات الرَّبَّانيَّة:
إنَّ هذه البدعة الضَّالَّة، الَّتي هي مِن صنيع الزنادقة الَّذين يؤول أمرهم إلى نفي وجود الإله، ونفْي أسمائه وصفاته - كما هو مذهب المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، على اختلاف مدارسهم ومراحلهم ونزاعاتهم الدَّاخليَّة - فإنَّ هذه البدعة لها منَ الأَثَر السيّئ على العقائد ما تسبَّب في أنَّ الناس لم يدركوا حقائق ولطائف هذه الصّفات والنعوت العظيمة.
 
فالجهمي ومَن سار على درْبه: كيف يُمكن لقلبه أن يتَّجه لإله لا اسم له، ولا صفة؟! فبمَ يدعوه ويتعبَّد له؟! وبأيِّ اسم موافق للحال يرجوه، ويتملَّقه، ويتقرَّب له؟! فإنَّ بدعة هؤلاء سببٌ في قطْع الصّلة بين العبد وربّه، وعدم استِشعار العبد بصفات الكمال ونعوت الجلال، وسبب في حرمان العبْد من الخير الكثير، المترتِّب على إثبات الأسماء والصِّفات، وبيان أثرها على الوجْه الحقيقي من الإثبات بلا تَمثيل، والنَّفي تنْزيهًا بلا تَعطيل، فحتَّى ولو زعموا الإيمان والتقْوى، والخوف والرَّجاء، والتذلُّل والخشوع، وصدق اللّجوء إلى الله تعالى، فإنَّه لَزَعْمٌ لساني، لا يُؤيّده الواقع، ولا يشهد له ما تطفح به كُتُبهم من الضَّلالات المبينة في جنب الله - تعالى - وأسمائه وصفاته.
 
فإنَّ هذه البدعة القَبيحة لَتنازعُ حقائق الربوبيَّة والألوهيَّة والأسماء والصّفات، ممَّا ينخر في هيْكل التَّوحيد وعظامه، فيُرديه بقلوب المسلمين قتيلاً.
 
بالإضافة إلى كون الغاية القصوى في التَّوحيد عند الأشاعرة، ومَن هُم على نَهْجهم من المبتدعة - هي إثْبات واجب الوجود القادر على الاختِراع، وهذا إذْنٌ بالوقوع في الشركيَّات والكفريَّات، بصرْف العبادات لغَيْر ربّ الأرض والسَّموات، كما هو الواقع الآن في كثيرٍ من البلدان الإسلاميَّة، فالقلبُ يَحتاج لِمن يُحبّه ويبادله المحبَّة، ويفتقر لِمَن يسأله، ويعلم أنَّه يسمعه ويُجيبه، يتشَوَّق لِمن ينظر إلى حاله، ويرى مكانه، فالنُّفاة قد حرموا النَّاس من هذا كلّه، فضلاً عن الحثّ على عبادة الله - تعالى - بالقلب واللسان والجوارح، وبذْل كلّ أنواع العبادات من صلاة وصوم، وزكاة ونذْر، وذبح وطواف لله - تعالى - لا شَريك له، كما أَمَرَنَا - سبحانه.
 
2- بدعة الإرجاء:
وهي بدْعة مُجملها نفْي العمل، إمَّا عن القلْب، وإمَّا عن اللسان، وإمَّا عن الجوارح، فهي بدعة من كلِّ وجه، ظُلمات بعضها فوق بعض.
 
فإنَّ الإرجاءَ وهجْر العمَل والدعوة إليه، ورصد الخطب والدّروس لترْسيخ كفاية النّطق والإيمان القلْبي في النَّجاة - لمهلكةٌ حقيقيَّة للمسلمين على أيْدي المرجِئة من الأشاعرة، ومَن سار على نَهْجهم، ممَّن ينتسبون إلى أهْل السنة والجماعة.
 
فإنَّ الدَّعوة الإرجائيَّة الَّتي تموج بها منابرُنا، قد ثبَّطت الناس عن العمل، وأعطتْهم كذبًا وزُورًا صُكُوك الغفران لمُجَرَّد الانتساب للإسلام، ولو كان بلا عمل، ممَّا يجعل أوامرَ الشَّرع بالعمل القلْبي والقولي والعملي فضلةً ومندوباتٍ ومستحبَّات، فتُهجَر الواجبات، وتُنسى الفرائض، وتُمحى حقيقتها مع الوقت؛ إمَّا بالاندثار، أو الابتداع بالزّيادة أو النُّقصان.
 
ما أشدَّ الأثرَ السَّيّئ على النَّاس جرَّاء هذه البدعة المنكرة! كحال تاركي الصَّلاة والصّلة، والزَّكاة والصَّوم، وغير ذلك من العبادات والسلوكيَّات والأخلاقيَّات الإسلاميَّة القيِّمة.
 
3- بدعة الجبر:
وهذه البدعة المقصود منها: أنَّ الإنسان مُجبر على أفعاله، مسلوب الإرادة، لا خيار له، كالرّيشة في الهواء، وأنَّه إذا كان الأمرُ كذلك، فما وجْه عقوبته وحسابه على ما لَم يفعل حال كونه مجبرًا على فعله؟
 
فهذا الاعتقاد الأشْعري، والَّذي يشاركهم فيه كثيرٌ من المسلمين - عن علمٍ أو جهْل - قد حمل النَّاس على أمرَيْن:
الأوَّل: وصف الله - تعالى - بالظُّلم؛ لأنَّه جبر النَّاس على أعمالهم، ثمَّ يُجازيهم على معاصيهم ويُدخِلهم النَّار.
 
ومنَ المقَرَّر من آيات القُرآن والأحاديث النَّبويَّة وإجْماع السَّلَف وعقلاء بني البشَر: أنَّ الله - تعالى - مُنَزَّه عن الظُّلم، فما هو بظلاَّم للعبيد، وأن ليس للإنسان إلاَّ ما سعى، وأنَّه يجب ألا يخاف ظلمًا ولا هضمًا، كما هو مُقَرَّر ومسطَّر في كتُب أهل العلم، ولسان الدّعاة إلى التَّوحيد والسّنَّة.
 
الثَّاني: تملُّص النَّاس من آثار جناياتِهم، والتشبُّث بالقَدَر في حَمله لهم - زعموا - على معاصيهم وإعْراضهم عن مضمار الطَّاعة والخضوع لله - تعالى.
 
فانظُر - وفَّقني الله وإيَّاك - إلى آثار هذه البِدَع على سلوكيَّات النَّاس، وفصلهم عن التَّوحيد، وحِرْمانهم من معرفة ربِّهم، وإدخالهم في مغارات الشِّرك والتَّنديد، والخلود إلى مستقْبحات التَّعطيل عن العمل؛ بحجَّة التشبُّث بالقدر، فالواقع أنَّ التَّجَهُّم والجبر والإرجاء المعاصر الذي تبْدو ملامحه في وجوه الناس وعقائدهم وسلوكهم - نذير شؤْم عليهم وعلى الدُّعاة إلى هذه الخبائث، من الأشاعِرة والمعتزلة وأذنابِهم من المعاصرين.
 
فلذلك؛ يجب تضافُر الجهود، وتوْحيد الصَّفّ في مواجَهة هؤلاء المبتدعة وأذنابِهم ومُداهنيهم، ونشْر السنَّة، وبيان خطر الإرْجاء والجبر والتجهُّم، من خلال الآيات والأحاديث وإجْماعات السَّلف وأقْوال العُلماء، وبيان مغبَّة ذلك وعاقبته على عقائد النَّاس وعباداتهم، وأثر ذلك نقدًا ونسيئةً قبل أن يأتيَ يومٌ لا مَرَدَّ له منَ الله تعالى، يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنون، إلاَّ مَن أتى الله بقلْبٍ سليم.
 
المراجع:
1- القرآن الكريم.
2- تفسير ابن جرير.
3- صحيح مسلم، مع شرح النووي.
4- الرد على الزنادقة؛ للإمام أحمد.
5- اقتضاء الصراط المستقيم؛ للإمام ابن تيميَّة.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢