عنَّا وعنهُم - زينب صلاح عبد الحليم
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
إنّ الوجل يتسلّل إلى القلب دون إرادة إذا هممنا بذكرهم، وهم الذين عصفت بهم ريح الشدة فما نالت من جذور إيمانهم إلا عجبا وغيظا ..عجبا من ثبات لم ترَ نظيره إلا هناك ..
حيث الأنبياء والصدّيقون ..
حيث طمأنينة اليقين في وعد آتٍ لا محالة!
وغيظا من تلك القوة، متى يا تُرى يضعفون؟
إنك لا ترى الخضوع في عين الأمّ الثكلى؛ بل ترى بين دموعها يقينا واحتسابا ..
ولا تسمع مع صرخة الطفل الجريح تسليما للظالم الغاشم؛ بل ترى فيه أسَدا غاضبا يزأر ..
حتى القتلى! يبعثون رسائلهم إليك إلى آخر زفرة يكملون بها شهادة التوحيد ، ويستمرون في إشارات العزم إلى سكون تلكم السبّابة المرفوعة، تصبّ في قلبك الثبات صبّا ..
يتألّمون، وما يبرق الذهب إلا باللهيب..
يستشهدون، وما يعلو الحق إلا على جماجم الأولياء ..
إنّ النفس الكبيرة لا تتربّى على العظمة حتى تُفتَن، وما الفتنة إلا ساعة ثم بعدُ المستقرّ، وتالله إن ساعتهم لتُنبيء بمستقر عزيز ..
من ذا يداني سموّ أمّ يظن رائيها أنها قد صيغت من حنان فقط، تتحسّس فلذة كبدها وشغف قلبها الشاب الجريح وهو يحتضر: "قل يا حبيبي لا إله إلا الله"! ، يرددها الشهيد ثم يرقى ..
فتحمد ربها وتسترجع!
أتظنّ القصة قد انتهت؟! ..
نعم راح ولدها، لكن لها ابنة ستنجب ولدا آخر، تربّيه تماما كخاله، تطعمه الهدى والرضا كلما طلب طعاما، وتعلّمه الصبر والجلَد مع كل حرف يتعثر في نطقه أول مرة، حتى إذا اشتد عوده أخبرته أنه مخلوق للخلود ..
في صفحات التاريخ هنا، وفي فراديس السماء هناك.
إنّني أتبصّر هذا الطفل الصارخ غدا ..
أراه في خيالي رجلا ذاق طعم الظلم فلم يظلم إنسانا، ودّعه الترف فروّض هو العقبة الكئود، أتمثّله أمامي مرفوع الرأس أنّى وجّهه القدر ، ولا أراه يموت إلا واقفا ..
أجَل، إنّ لهذا الدين مجمرا لن يخمد مهما نبحت الحوادث، إنه يضعف لكن لا ينطفيء أبدا ..
فتحت الرماد ومضات ستستعر يوما على المستهينين بها، وستضيء لكل حائر درب نجاته بما أودعه البلاء فيها من حقّ وصبر ..
فبشراكم أيها الشرفاء بشراكم ..
لو رأيتم ما صنع فينا بلاؤكم لما ازددتم إلا حمدا وشكرا! فإن الله ما سلب من عبد نعمة وعوضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه به خيرا مما فقده، وإن كل مصاب دون مصاب الدين يهون!
ألم تروا كيف رضيتم بالله ربا في قدره وسخط عليه المنعّم من غيركم؟! ألم تسمعوا بالسائلين عن العدل الإلهي فيما لحق بكم في جهل وغفلة عن حقيقة الدنيا والآخرة؟!
قد رضيتم في البلاء وسخطوا في العافية، فبالله من المبتلى حقا؟
ألا ما أشبه اليوم بالأمس! يوم كان خير الناس بعد الأنبياء يذوقون ألوان العذاب في مكّة ولا نصير ..
والكفار الظالمون يمرّون بهم ضاحكين ساخرين، أين ربكم؟ لماذا لم ينصركم ويعذّبنا إن كنتم على حق وكنا على باطل؟ ثلاثة عشر عاما من الصبر والثبات، ومن العربدة والتمادي أيضا!
أين كان الله؟ ..
كان يملي للظالم ويثيب أهل الإحسان، حتى إذا جاء وعده عرف الفريقان أيهما كان الكذاب الأشر!
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ* وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ* وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ* وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ* وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ* فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ* عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ* هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المطففين:29-36]
أين كان الله حين قتل يحيا السيّد الحصور بأمر بغيّ فاجرة؟ ..
أهان عليه؟ كلا والذي أجرى السحاب وأنزل الكتاب! بل للكلّ موعد لن يُخلفه!
حينما كان الرجل يشق بالمنشار نصفين لا يردّه ذلك عن دينه، وحينما صُلب السحَرة قطّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف فما زادوا إلا يقينا، وحينما قتل غلام الأخدود بسهمه، وحُرّق من أجابوا دعوته بالنار، وحينما قتل ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم غدرا وليس على ظهرها ابن نبي غيره، لم يكن الله تعالى غافلا - جلّ جلاله -، بل كان يجري سنّته ليُحقّ الحق بكلماته {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}[إبراهيم:42].
إن هذه الدنيا ليست النهاية، وليس فيها قرار ولا هي مرادة لذاتها، وإن السنن الكونية تجري على الفريقين جميعا، فمن آمن وصبر كان له حسن الجزاء وطيب المستقر، ومن جهل وغفل وافق جزاؤه عمله، ولا يظلم ربُّك أحدا ..
أواه كيف أمسيتِ يا حلَبُ جحيما ونعيما! ثم كيف صُبّ جحيمُكِ على من يتقلبون في النعيم وغدا نعيمُك لمن يلتهبون تحت النار !