وصفة لأصحاب القلوب الحية
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
وصفة لأصحاب القلوب الحية"جدِّد السفينةَ؛ فإنَّ البحر عميق، وخُذ الزاد كاملًا؛ فإنَّ السفر طويل، وخفِّف الحِمل؛ فإنَّ العقبة كؤود، وأَخلِص العمل؛ فإنَّ الناقد بصير".
أربعة أدوية نافعة أَوصى بها أحدُ أطبَّاء القلوب المهرة العارفين، تأمَّلوا كلماتِها المؤثِّرة: عميق، طويل، كؤود، بصير...
ألفاظ قوية تَقرَع الأسماعَ، وتُلامِس شَغاف القلوب؛ لأنها تناسب المقام؛ مقام التذكير بالسَّير إلى الله وما فيه من امتحانات الدنيا وفتنة العمل الصالح والقبيح، وشناعة الذنوب، ومراقبة الله المستمرَّة للعبد في غدوِّه ورواحه وجميع أحواله.
1.
جدِّد السفينةَ؛ فإنَّ البحر عميق:
لقطع المحيط بين أوروبا وأمريكا - مثلًا - تحتاج السفينة إلى تجديد révision؛ أي: التأكد من سلامة المحرِّك ومختلف الآلات والزيوت وتوفير الوقود اللازم؛ لأنَّ لجَّة البحر لا تتسامح مع العَطَب، والرحلةُ طويلة شاقَّة مضنية.
فكيف بمن يقطع الأشواط في سَفَرِه إلى الآخرة حيث الجنة والنار؟ أليس عليه أن يجدِّد الإيمانَ الذي يحمله إلى الضفة الأخرى بأمانٍ في خِضمِّ دنيا غلابة كثيرة التقلُّبات؟
لا بدَّ من تجديدِ إيمانٍ يزيد وينقص، ويرتفع وينخفض، ويقوى ويضعُف، ووسائلُ التجديد هي تحسين العلاقة بالله، ومراقبة حال القلب والعقل والحواسِّ، والإكثار من التوبة، والاحتكام العمليُّ إلى القرآن والسُّنة في الحياة الأسريَّة والاجتماعية، ودوام ذِكر الله، والاستعداد للقائه، هذا الذي يمكِّن المسلمَ من العبور بأقلِّ التكاليف والوصول بأمان.
2.
وخذ الزاد كاملًا؛ فإنَّ السفر طويل:
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6]، ليست رحلة الحياة نزهةً ممتعة، ولا نهاية أسبوع سهلة العبور، إنها العمر الذي مهما طال أو قصُر فيه تكاليفُ ترهق الإنسان، فلا بدَّ له من مؤونة مناسبةٍ للرحلة الطويلة الشاقَّة، وهي ليست هنا المأكلَ والمشرب والمال، ولكنها العمل الصالح الذي يدرُّ الثوابَ والحسناتِ؛ لأنها وحدها العملةُ السارية يوم القيامة، ورُبَّ حسنةٍ واحدة ترجِّح الكفة، فينجو صاحبها، وربما تنقُصه حسنةٌ واحدة فيَهْلِك، كما قال الأول: "لا تسأل عمَّن هَلَكَ: كيف هلك؟ ولكن اسأل عمَّن نجا: كيف نجا؟"؛ لذلك قال ربُّنا عز وجلَّ: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].
فيا فرحة مَن تزوَّد من الفرائض والنوافل وأنواع الخيرات، ويا حسرة مَن اشتَغَلَ بالفانية وتَنَاسَى أمرَ الباقية حتى يباغته الموت فيُعرَض على ربِّه خاوي الوفاض!
3.
وخفِّف الحِمل؛ فإن العقبة كؤود:
كيف يكون حال راحلة - ناقة، حصان، سيارة، حافلة - تقتحم عقبةً صاعدةً صعبةً وهي تحمل أكثر من طاقتها؟ إنه الهلاك من غير شكٍّ، والعاقل يخفِّف حملها حتى يقدر على تجاوز العقبة، وكذلك الحال بالإنسان الذي يتحتَّم عليه مكابدة إكراهات الحياة الدنيا ومصاعبها: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴾ [البلد: 11]، والمقصود بالحِمل هنا الذنوب والمعاصي والمخالفات الشرعيَّة، فهي التي تُعرقل السير، وتقصم الظهور، وتحول دون الوصول الآمِن، وأمَّا المسلم المتيقِّظ فيغتنم الفرص المتعدِّدة ليمحوَ ذنوبه، ويبدِّل سيئاتِه حسناتٍ بالتوبة والاستغفار، وفعل الخيرات، وإرضاء الله، واتِّباع رسولِه صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114]، ((وأَتْبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها))؛ حديث رواه الترمذي.
بهذا يخفِّف الحملَ، فيقطع أشواط الرحلة بيُسر، ويكون حسابه بين يدي الله يسيرًا، أمَّا مَن فوَّت الفُرَص، وتَغَافَل عن التخفُّف، فيُفضي به المسير إلى سوء المنقلَب: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [القارعة: 8 - 11].
4.
وأَخلِص العمل؛ فإنَّ الناقد بصير:
هذا بيت القصيد، وقُطبُ الرَّحَى في صلة الإنسان بربِّه؛ الخطوة الأولى هي تحرير النيَّة والصدق مع الله، والعِبْرَةُ ليست بكثرة الأعمال؛ وإنما بنوعيَّتِها: ((إن الله طيِّب لا يَقبَل إلا طيبًا))، والإخلاص سرٌّ في قلبِ مَن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، يُنمِّي العمل القليل، ويحبِّبه إلى الله تعالى الذي لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وصوابًا، والنية الحسنة تصاحب المؤمنَ في حركاته وسكناته؛ فتجنِّبه الرياء، وتقرِّبه إلى ربِّه زلفى.
والعِبرة إذًا ليست بعين الرئيس على مرؤوسه، ولا المفتش ولا المراقب؛ إنما العبرة بعين الله التي لا تنام، إذا استشعَرَها المؤمن وهو في عمل أخرويٍّ أو دنيويٍّ، كان أدنى إلى الصدق والإحسان عاطفةً وأداءً، وهنا مرضاة الله تعالى.
فهل من مقبلٍ بجِدٍّ على تناول هذه الوصفة؛ ليستويَ على منهاج القاصدين، ويرتقي في مدارج السالكين؟