منهج ابن كثير في دعوة أهل النفاق
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
منهج ابن كثير في دعوة أهل النفاقتعريف النفاق وأنواعه
المنافق في اللغة مأخوذ من النافقاء، والنافقاء إحدى جِحَرة اليربوع، يكتمها ويُظهِر غيرها، وهو موضع يُرَقِّقه، فإذا أُتي من قبل القاصعاء - وهو جحره - ضرب اليربوع النافقاء برأسه فانتفق؛ أي: خرج، وقيل: مأخوذ من النفق، وهو السَّرَبُ تحت الأرض، ويراد أن يستتر بالإسلام كما يستتر صاحب النفق فيه"[1].
أما في الاصطلاح: فهو إظهار الإيمان باللسان وكتمان الكفر، والمنافقُ هو الذي يُضمِر الكفر اعتقادًا، ويُظهِر الإيمان قولًا[2].
ويعرِّفه ابن كثير بأنه "إظهار الخير، وإسرار الشر"[3]، وينقسم إلى قسمين: اعتقادي، وهو الذي يخلِّد صاحبَه في النار، وعملي: وهو من أكبر الذنوب؛ لأن المنافق يخالف قولُه فِعلَه، وسرُّه علانيتَه، ومَدخَلُه مَخرَجَه، ومَشهَدُه مَغيبَه"[4].
وقد توسَّع ابن كثير رحمه الله من خلال تفسيره في الكلام عن المنافقين، فاستخدم المنهج العاطفي في سياق بيان خطورتهم وتحذير المؤمنين منهم، أو المنهج العقليَّ في مشابهتهم للمشركين في أن كلًّا منهم مسلوبُ الفهمِ الصحيح والقصدِ إلى العمل الصالح، أو المنهج الحسيَّ بذِكرِ صفاتهم وأحوالهم، ومواقفِهم المشينة من المؤمنين، فتارة يَعيبونهم ويَرمونهم بالسَّفَهِ، وتارة بالسُّخرية والغدر وعدم الوفاء، وأخرى بالتربُّص بهم وموالاة الكفار عليهم، فهم مفسِدون في الأرض، يأمُرون بالمنكَر ويَنهَون عن المعروف.
ثم إن ابن كثير رحمه الله ذكَرَ أن الله سبحانه وتعالى فضَحَهم وبيَّن صفاتِهم؛ ليَحْذَرهم المؤمنون، ولئلا يغترُّوا بظاهر حالهم، وغير ذلك مما ذكره ابن كثير عن المنافقين، وهذا ما سنتحدث عنه في هذا المطلب حسب النقاط التالية:
1- من صفات المنافقين التي ذكَرَها ابن كثير: إفسادُهم في الأرض، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 11]، قال ابن كثير: "قال ابن جرير: فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربَّهم، وركوبِهم بها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعِهم فرائضَه، وشكِّهم في دينه الذي لا يُقبَل من أحدٍ عملٌ إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غيرَ ما هم عليه مقيمون من الشكِّ والريب، ومظاهرتهم أهلَ التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجَدوا إلى ذلك سبيلًا، فذلك إفسادُ المنافقين في الأرض، وهم يَحسَبون أنهم بفعلهم ذلك مصلِحون فيها"[5].
"فالمنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث والنسل...
وقال مجاهد: إذا سعى في الأرض فسادًا منَعَ الله القَطْرَ، فهلَكَ الحرثُ والنسل"[6].
ومن صفات المنافق أنه "في حال خصومته يكذب ويَزْوَرُّ[7] عن الحق ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجُر، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّث كذَبَ، وإذا عاهَدَ غدَر، وإذا خاصَمَ فجَر))"[8].
ومن صفاتهم أنهم "لا يدخُلُ قلوبَهم شيءٌ من ذكر الله عند أداء الفريضة، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكَّلون، ولا يصلُّون إذا غابوا، ولا يؤدُّون زكاة أموالهم"[9]، فالمنافق - كما قال الحسن - "إنْ صلَّى راءى، وإن فاتته لم يأسَ عليها، ويمنع زكاة ماله، وفي لفظ: صدقة ماله، وقال زيد بن أسلم: هم المنافقون، ظهَرَت الصلاة فصَلَّوها، وخَفِيَتِ الزكاة فمنَعوها"[10]، فهم كما وصفهم الله بقوله: ﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ﴾ [النساء: 142].
يقول ابن كثير: "هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة، إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها؛ لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمان لهم بها ولا خشية، ولا يعقلون معناها، كما روى ابن مردويه، عن ابن عباس قال: يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طَلْقَ الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح؛ فإنه يُناجي الله، وإن الله أمامه يغفر له، ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو ابن عباس هذه الآية: ﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ﴾ [النساء: 142]".
ومن خداعهم ومكرهم أنهم يَتخِذون الأيمانَ الفاجرة؛ ليُصَدِّقهم الناس فيما يقولون، كما قال سبحانه: ﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [المنافقون: 2]، يقول ابن كثير: "أي اتقَوُا الناسَ بالأيمان الكاذبة، والحلفات الآثمة؛ ليُصَدَّقوا فيما يقولون، فاغترَّ بهم من لا يعرف جليَّة أمرهم، فاعتقَدوهم مسلمين، فربما اقتدى بهم فيما يفعلون، وصدَّقهم فيما يقولون، وهم من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا يَأْلُونَ الإسلامَ وأهلَه خَبالًا، فحصل بهذا الغدر ضررٌ كبير على كثير من الناس"[11].
2- أن المنافقين يتربَّصون بالمؤمنين ويكيدونهم، ويَسعَون للتفريق بينهم، ويَتمنَّون الهزيمة وزوال دولتهم، كما قال تعالى: ﴿ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ ﴾ [آل عمران: 118]، يقول ابن كثير[12]: "والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمن خبالًا؛ أي: يَسعَون في مخالفتهم وما يضُرُّهم بكل ممكن، وبما يستطيعونه من المكر والخديعة، ويوَدُّون ما يُعْنِت المؤمنين ويُحرِجهم ويشُقُّ عليهم"[13].
وكما قال تعالى: ﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ﴾ [آل عمران: 120]، يقول ابن كثير: "وهذه الحال دالةٌ على شدة العداوة منهم للمؤمنين، وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خِصبٌ ونصر وتأييد، وكثُروا وعزَّ أنصارُهم، ساء ذلك المنافقين، وإن أصاب المسلمين سَنَةٌ - أي: جدب - أو أُديلَ عليهم الأعداء - لما لله في ذلك من الحكمة، كما جرى يوم أُحُدٍ - فَرِح المنافقون بذلك"[14].
أما مع أعداء المسلمين من اليهود والنصارى، فهم كما قال ابن كثير: "يبادرون إلى موالاتهم ومودَّتِهم في الباطن والظاهر ﴿ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ﴾ [المائدة: 52]؛ أي: يتأوَّلون في مودتهم وموالاتهم أنهم يَخشَون أن يقع أمرٌ مِن ظَفَرِ الكفار بالمسلمين، فتكون لهم أيادٍ عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك"[15].
فلذلك نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتخذوهم بِطانةً، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ﴾ [آل عمران: 118]، يقول ابن كثير: "يقول تبارك وتعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة؛ أي: يَطَّلِعون على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم"[16].
ومن رحمته سبحانه بالمؤمنين أنه نبَّه "على صفات المنافقين؛ لئلا يغترَّ بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فسادٌ عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكِبار؛ أن يُظَنَّ بأهل الفجور خيرٌ"[17]؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ﴾ [محمد: 29]، قال ابن كثير: "أي أيعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرَهم لعباده المؤمنين، بل سيوضح أمرَهم ويجلِّيه؛ حتى يفهمهم ذوو البصائر، وقد أنزل في ذلك سورة براءة، فبيَّن فيها فضائحهم، وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم؛ ولذلك كانت تسمى الفاضحة"[18].
فالمؤمنون الصادقون يَعرِفون المنافقين ويميزونهم "فالمرائي لا يرُوجُ أمرُه ويستمر إلا على غبيٍّ، أما المؤمنون المتفرِّسون، فلا يرُوج ذلك عليهم، بل ينكشف لهم عن قريب، وعالِمُ الغيب لا تَخفى عليه خافيةٌ"[19].
3- أن الله سبحانه وتعالى جازى المنافقين بأنْ طبَعَ على قلوبهم، كما قال سبحانه: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 3]؛ أي "فلا يصل إلى قلوبهم هدى، ولا يخلُصُ إليها خير، فلا تعي ولا تهتدي"[20].
وكما قال سبحانه: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الأنفال: 22]، قال ابن كثير: "وقال محمد بن إسحاق: هم المنافقون، قلت: ولا منافاة بين المشركين والمنافقين في هذا؛ لأن كلًّا منهم مسلوبُ الفهم الصحيح، والقصدِ إلى العمل الصالح"[21].
وأخيرًا أرشَدَ ابن كثير رحمه الله إلى أسلوب التعامل مع المنافقين ودعوتهم ومجاهدتهم عند تفسير الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 73]، فقال: "وقال ابن عباس: أمَرَ الله بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهَبَ الرِّفق عنهم، وقال الضحاك: جاهِدِ الكفارَ بالسيف، واغلُظْ على المنافقين بالكلام، وهو مجاهدتهم...
وقال الحسن وقتادة: مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم، وقد يقال: إنه لا منافاة بين هذه الأقوال؛ لأنه تارة يؤاخذهم بهذا، وتارة بهذا، بحسَبِ الأحوال"[22].
ولذلك أرشَدَ اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يُعرِض عنهم ويَعِظَهم ويقول لهم قولًا بليغًا، فقال سبحانه: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 63]، يقول ابن كثير: "هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم، وسيجزيهم على ذلك؛ فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتَفِ به يا محمد فيهم، فإن الله عالِمٌ بظواهرهم وبواطنهم؛ ولهذا قال له: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾؛ أي: لا تعنِّفْهم على ما في قلوبهم، ﴿ وَعِظْهُمْ ﴾؛ أي: وانهَهم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، ﴿ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾؛ أي: وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلامٍ بليغ رادع لهم"[23].
إلى غير ذلك مما ذكره ابن كثير رحمه الله عن المنافقين من الوقفات المتعددة[24]، التي تبيِّن خطرهم وعداوتهم، وأنهم الخطر الحقيقي على الأمَّة الإسلامية، والمرضُ الفتاك في المجتمع الإسلامي في كل زمان ومكان، وهذا يحتِّم على الدعاة التنبُّهَ لذلك، وعدم الاغترار بظاهر أعمال المنافقين، فهم العدو الذي يجب الحذر منه.
[1] انظر لسان العرب مادة نفق 10/ 358، 359، والنهاية في غريب الحديث، للإمام مجد الدين بن محمد الجزري ابن الأثير 5/ 98، طبعة دار الفكر بيروت، بدون تاريخ.
[2] انظر التعريفات للجرجاني ص 298، 311، حققه إبراهيم الإبياري، طبعة دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية 1413هـ.
[3] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 64 عند تفسير الآية: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا ﴾ [البقرة: 8].
[4] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 64.
[5] المرجع نفسه 1/ 67.
[6] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 307 عند تفسير الآية: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ﴾ [البقرة: 205].
[7] معنى يَزْوَرُّ؛ أي: يميل وينحرف، المعجم الوسيط ص 406.
[8] المرجع نفسه 1/ 306، والحديث متفق عليه وأخرجه البخاري كتاب الإيمان، باب علامات المنافق رقم (33)، ومسلم كتاب الإيمان، باب خصال المنافق رقم (211)، والترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في علامة المنافق رقم (2631).
[9] المرجع نفسه 2/ 358 عند تفسير الآية: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ ﴾ [الأنفال: 2].
[10] المرجع نفسه 4/ 669 عند تفسير الآية: ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [الماعون: 7].
[11] المرجع نفسه/ 434.
[12] المرجع نفسه 1/ 487.
[13] المرجع نفسه 1/ 489.
[14] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 489.
[15] المرجع نفسه 1/ 89.
[16] المرجع نفسه 1/ 487.
[17] المرجع نفسه 1/ 65 عند تفسير الآية: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 8].
[18] انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 213.
[19] المرجع نفسه 3/ 674، عند تفسير آية 10 من سورة فاطر.
[20] انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 435.
[21] المرجع نفسه 2/ 372.
[22] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 459.
[23] المرجع نفسه 1/ 634.
[24] للاستزادة انظر مثلًا: 1/ 488، 1/ 693، 2/ 253، 2/ 254، 2/ 447، 2/ 448، 2/ 449، 2/ 450، 2/ 455، 2/ 459، 2/ 461، 2/ 463، 2/ 465، 2/ 467، 2/ 468، 2/ 479، 2/ 520، 3/ 371، 3/ 472، 4/ 387.