تفسير قوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ...}
مدة
قراءة المادة :
19 دقائق
.
تفسير قوله تعالى: ﴿ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس... ﴾
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 13].
قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ﴾ الكاف: للتشبيه، وهي صفة لمصدر محذوف؛ أي: آمِنوا إيمانًا كإيمان الناس؛ أي: إيمانًا يتوافق فيه الفعلُ مع القول، والباطن مع الظاهر؛ قولًا باللسان، واعتقادًا بالقلب، وعملًا بالجوارح، إيمانًا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبكل ما يجب الإيمانُ به من المغيبات السابقة واللاحقة، مما أخبَرَ اللهُ به ورسولُه صلى الله عليه وسلم، واستسلِموا لذلك وانقادُوا له؛ بفعل الأوامر، وترك النواهي.
والمراد بالناس الصحابةُ رضي الله عنهم، وغيرُهم من المؤمنين.
وإنما قيل لهم هذا القول؛ لأن إيمانهم مجرد دعوى، وقول بلا عمل، وهم يعلمون ذلك من أنفسِهم؛ ولهذا لم يُنكِروا ذلك، بل قالوا إقرارًا منهم، وأنفة أن يكونوا مع المؤمنين بمنزلة واحدة، وعلى طريقة واحدة:
﴿ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ﴾ الاستفهام للإنكار والنفيِ والتحقير؛ أي: أنؤمن إيمانًا كإيمان السفهاء، ويعنون بذلك - أخزاهم الله - صحابةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من المؤمنين.
والسفهاء: جمع سفيه، وهو من لا يُحسِن التصرف، والسفهُ ضد الرشد والعقل، والسفه يكون في الدِّين، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ [البقرة: 130]، وقال تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ ﴾ [البقرة: 142]، وقال تعالى: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 140]، وقالت الجن فيما حكى الله عنهم: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ﴾ [الجن: 4].
كما يكون السفه في المال؛ فالسفيه في المال من لا يحسن التصرف فيه، ولا يعرف وجوهَ المصالح فيه، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ﴾ [النساء: 5].
ويكون السفه في الولاية، فالسفيه في الولاية من لا يحسن التصرف فيها، سواء كانت من الولايات العامة، أو الولايات الخاصة.
ومراد المنافقين في قولهم: ﴿ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ﴾ رميُ الصحابة وغيرِهم من المؤمنين بالسفه في الدِّين، الذي هو أعظم أنواع السفه؛ ولهذا ردَّ الله عز وجل عليهم بقوله: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.
وهذا دأب المكذِّبين ودعاة الباطل؛ يصفون أهل الحق ومن يدعوهم إلى الله من الرسل وغيرهم، ويرمونهم بأبشع الصفات؛ لينفِّروا الناس منهم ومن اتباعهم، فيرمونهم بالسفه والجنون والسِّحر والكهانة والشِّعر وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات: 52]، وقال تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا له: ﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴾ [الشعراء: 111]، وقالوا أيضًا: ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ [هود: 27].
وكم لاقى علماءُ ودعاة الإسلام عبر تاريخ الأمَّة الطويل من الأذى والاتهام من دعاة الباطل، من المنافقين والكفار وأهل البدع والمعاصي.
وفي هذا دروسٌ للدعاة إلى الله عز وجل؛ ليعلموا أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وليس مفروشًا بالورود والرياحين، وكما قيل:
فدَرْبُ الصاعدينَ كما علمتُم ♦♦♦ به الأشواكُ تكثُرُ لا الورودُ[1]
﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ﴾[البقرة: 13] أكَّد عز وجل في هذه الآية السفهَ وحصَرَه فيهم، كما أكَّد وحصر الإفساد فيهم بقوله: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ﴾ [البقرة: 12].
فهم السفهاء حقًّا؛ لأنهم كفروا بالله وكذَّبوا بما جاءهم من الحق؛ مما يدل على جهلهم بمصالح أنفسهم، وسعيِهم فيما يضرُّها، وهذا هو عين السفه، وفي هذا ردٌّ عليهم ودفاع عن المؤمنين، وقد أحسن القائل:
وإذا أتَتْك مَذَمَّتِي مِن ناقصٍ ♦♦♦ فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ[2]
﴿ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أي: لا يعلمون العلم الذي ينتفعون به، ولا يعلمون أنهم هم السفهاء؛ لعمى قلوبهم، وانطماس بصائرهم، وجهلهم المطبق.
وقال هنا: ﴿ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ فنفى عنهم العلم؛ لأن السفه والجهل أمرٌ معنوي، بينما قال في الآية السابقة: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 12]؛ لأن الإفساد في الأرض أمرٌ حسي يُدرَك بالحواس.
فبسبب ضعف إدراكهم، وموت حواسِّهم، وجهلهم المطبق، وعدم علمهم، وانطماس بصائرهم؛ يدَّعون الإيمان وهم كاذبون، ويخدعون أنفسهم وما يشعرون، ويُفسِدون في الأرض ويزعمون أنهم مصلحون، وهم في الحقيقة هم المفسدون ولكن لا يشعرون، ويَرْمون المؤمنين بأنهم السفهاء، وهم في الحقيقة هم السفهاء ولكن لا يعلمون.
المصدر: « عون الرحمن في تفسير القرآن »
[1] البيت للشاعر وليد الأعظمي من قصيدة له في كتابه "الزوابع" بعنوان "شباب الجيل".
انظر: "الأعمال الشعرية الكاملة" ص85.
[2] البيت للمتنبي، انظر: "ديوانه" ص180.
.drop-shadow {
-moz-box-shadow: 0 1px 4px rgba(0, 0, 0, 0.3), 0 0 40px rgba(0, 0, 0, 0.1) inset;
-webkit-box-shadow: 0 1px 4px rgba(0, 0, 0, 0.3), 0 0 40px rgba(0, 0, 0, 0.1) inset;
background: #fff;
box-shadow: 0 1px 4px rgba(0, 0, 0, 0.3), 0 0 40px rgba(0, 0, 0, 0.1) inset;
float: left;
margin: .5em 10px 2em;
padding: .5em;
position: relative;
width: 180px;
}
.drop-shadow:before,
.drop-shadow:after {
content: "";
position: absolute;
z-index: -2;
}
.curved:before {
-moz-border-radius: 10px/100px;
-moz-box-shadow: 0 0 15px rgba(0, 0, 0, 0.6);
-webkit-box-shadow: 0 0 15px rgba(0, 0, 0, 0.6);
border-radius: 10px/100px;
bottom: 10px;
box-shadow: 0 0 15px rgba(0, 0, 0, 0.6);
left: 0;
right: 50%;
top: 10px;
}
.curved-hz-2:before {
-moz-border-radius: 100px/10px;
border-radius: 100px/10px;
bottom: 0;
left: 10px;
right: 10px;
top: 0;
}