فتح مكة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فلا غرابة إذا تحدثنا عن واقعة تاريخية أثرت في هذا التاريخ وغيرت في مناسبة مرونتها، وفي تاريخ أوانها، ولكن مما يجدر التنبيه إليه قبل ذلك أن السرد التاريخي للأحداث ليس مجرد استحضار لأمر كان في الذاكرة، واسترجاع لأمر قد حصل ومضى، بقدر ما هو أخذ للعبر والدروس، واستمرار على نفس المسيرة التي افتتحت من قبل، وسير على نفس الخطا التي هيأها رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإذا تحدثنا عن واقعة من الوقائع المشرفة لهذه الأمة التي قام فيها رجال قد وفوا لله تعالى بما عاهدوه عليه، وصدقوا في تعاملهم مع الله، فإن ذلك مدعاة لاقتفاء الأجيال لآثار هؤلاء، والصمود على نفس الطريق، والتزامه وسلوكه؛ لذلك فإن فتح مكة شرفها الله تعالى، وإن كان حدثاً كبيراً في التاريخ وأمراً عظيماً، إلا أن اختيار الزمان والمكان له مما يعلي درجته، ويشدو إلى الاهتمام به أكثر من ذات الحادثة والواقعة، فالله عز وجل هو المدبر الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء من خلقه، وهو قادر على أن يقذف الإيمان في قلوب البشر، وأن يهديهم إلى سواء الطريق، وأن يدخل الإيمان على قريش بمكة في قلوبهم دون أن يدخل عليهم الجيوش الجبارة، ولكنه سبحانه وتعالى أخر ذلك إلى أجل محدد ووقت محدد؛ ليكون ذلك مرتبطاً بذاكرة كل مسلم ينبهه عند إتيان هذا الوقت، أو عند رؤية هذا المكان وإتيانه لينتبه إلى معالم هذا الطريق، وإلى محددات محددة في هذا المنهج، يلزم التزامها والأخذ بها.

تحريم مكة

إن مكة شرفها الله تعالى حرم الله تعالى حرمها يوم خلق السموات والأرض، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ومن دخلها فهو آمن، وقد كانت كذلك منذ القدم؛ ولذلك تقول القرشية الجمحية لولدها:

أبني لا تظلم بمكة لا الكبير ولا الصغير

أبني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور

الله آمنها وما بنيت بساحتها القصور

فهي أرض الله المحرمة منذ خلق الله السموات والأرض حرم هذه البقعة واختارها، وجعل فيها هذا البيت الذي هو مثابة للناس وأمن، وجعل فيها كثيراً من الآيات الدالة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، منها هذا البيت الذي تفد إليه أفئدة المؤمنين من مشارق الأرض ومغاربها من كل فج عميق، ويقصدون إليه في صلاتهم، ويتجهون إليه ويستقبلونه في كل أحوالهم، ورغم تباين أقطارهم وتباعدها وهذا البيت مع كل ذلك فإن الله عز وجل شرفه أولاً ببناء الملائكة، ثم بعد ذلك بناه خليل الله إبراهيم وإسماعيل ابنه بأمر من الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127].

تشريف الكعبة بصرف الناس عن عبادتها

ثم بعد ذلك شرفه الله تعالى بأمر عجيب جداً وهو أن أهل مكة حينما أغرقوا في الشرك بالله تعالى وعبدوا الأصنام، واتخذوا الآلهة من دون الله، لم يعبدوا هذا البيت الذي هو عظيم في نفوسهم، وذلك من تشريف الله تعالى للكعبة حتى لا تتدنس بأن تعبد من دون الله، لم يمر في التاريخ أن أحداً سجد للكعبة أو عبدها، وإنما كانوا يعبدون الأصنام ويضعونها على الكعبة ويلصقونها بالرصاص عليها كهبل وغيره، وقد كان على الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً في الجاهلية، وكذلك هذا الحجر الأسود المشرف الذي ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً أنه قال: الحجر الأسود يمين الرحمن في الأرض، فمن قبله فكأنما قبل يمين الرحمن. فهذا الحجر شريف عظيم، ولكن مع ذلك شرفه الله بأن لم يعبد من دون الله تعالى أبداً، ولم يمر في التاريخ أن قوماً عبدوه من دون الله.

وكذلك هذا المقام الذي هو حجر كان يقف عليه إبراهيم فيعتلي به ويرتفع في بناء الكعبة، وبقي فيه أثره إلى وقتنا هذا وفيه يقول أبو طالب في الجاهلية:

وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه وراق ليرقى في حراء ونازل

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبةً على قدميه حافياً غير ناعل

وما زال إلى اليوم شاهداً على ما أخبرنا الله سبحانه وتعالى به من أمره إبراهيم بإقامة هذه البنية المشرفة لتكون منسكاً للناس ومأمناً، وهو من الآيات المذكورة في قول الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:96-97].

إن مكة شرفها الله تعالى حرم الله تعالى حرمها يوم خلق السموات والأرض، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ومن دخلها فهو آمن، وقد كانت كذلك منذ القدم؛ ولذلك تقول القرشية الجمحية لولدها:

أبني لا تظلم بمكة لا الكبير ولا الصغير

أبني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور

الله آمنها وما بنيت بساحتها القصور

فهي أرض الله المحرمة منذ خلق الله السموات والأرض حرم هذه البقعة واختارها، وجعل فيها هذا البيت الذي هو مثابة للناس وأمن، وجعل فيها كثيراً من الآيات الدالة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، منها هذا البيت الذي تفد إليه أفئدة المؤمنين من مشارق الأرض ومغاربها من كل فج عميق، ويقصدون إليه في صلاتهم، ويتجهون إليه ويستقبلونه في كل أحوالهم، ورغم تباين أقطارهم وتباعدها وهذا البيت مع كل ذلك فإن الله عز وجل شرفه أولاً ببناء الملائكة، ثم بعد ذلك بناه خليل الله إبراهيم وإسماعيل ابنه بأمر من الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127].

ثم بعد ذلك شرفه الله تعالى بأمر عجيب جداً وهو أن أهل مكة حينما أغرقوا في الشرك بالله تعالى وعبدوا الأصنام، واتخذوا الآلهة من دون الله، لم يعبدوا هذا البيت الذي هو عظيم في نفوسهم، وذلك من تشريف الله تعالى للكعبة حتى لا تتدنس بأن تعبد من دون الله، لم يمر في التاريخ أن أحداً سجد للكعبة أو عبدها، وإنما كانوا يعبدون الأصنام ويضعونها على الكعبة ويلصقونها بالرصاص عليها كهبل وغيره، وقد كان على الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً في الجاهلية، وكذلك هذا الحجر الأسود المشرف الذي ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً أنه قال: الحجر الأسود يمين الرحمن في الأرض، فمن قبله فكأنما قبل يمين الرحمن. فهذا الحجر شريف عظيم، ولكن مع ذلك شرفه الله بأن لم يعبد من دون الله تعالى أبداً، ولم يمر في التاريخ أن قوماً عبدوه من دون الله.

وكذلك هذا المقام الذي هو حجر كان يقف عليه إبراهيم فيعتلي به ويرتفع في بناء الكعبة، وبقي فيه أثره إلى وقتنا هذا وفيه يقول أبو طالب في الجاهلية:

وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه وراق ليرقى في حراء ونازل

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبةً على قدميه حافياً غير ناعل

وما زال إلى اليوم شاهداً على ما أخبرنا الله سبحانه وتعالى به من أمره إبراهيم بإقامة هذه البنية المشرفة لتكون منسكاً للناس ومأمناً، وهو من الآيات المذكورة في قول الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:96-97].

فهذه الأمور تقتضي شرف هذا المكان، وتعلق القلوب به.

ومع ذلك اختير للفتح أيضاً الزمان، فكان في هذا الشهر الكريم الذي شرفه الله بالقرآن وهو شهر رمضان الذي يقول الله تعالى فيه: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185]، وكان ذلك أيضاً في العشر الأخيرة من رمضان التي هي أفضله، وفيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وكان في يوم الوتر منها فكان في اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان أذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بدخول مكة بالسلاح، بعد أن أخرج منها ثاني اثنين خائفاً، وبعد أن أوذي فيها مدة ثلاث عشرة سنة يؤذى في مكة وهو صابر، وأذن له بالهجرة فأخرج منها ثاني اثنين إذ هما في الغار، وقال عندما خرج منها: ( إنك لأحب البلاد إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك ).

ثم حين خرج أعزه الله تعالى وأظهره وقواه، فآمن به أبناء قيلة وهم الأنصار في يثرب التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة الطيبة المدينة المباركة، فلما أتاهم صلى الله عليه وسلم وآثروه ونصروه وأثنى الله تعالى عليهم بذلك، وكانت دار الهجرة فهاجر الناس إليها، مع ذلك بقيت مكة في ذلك الوقت عاصمةً للشرك وعاصمةً لمحاربة الله ورسوله فترةً هي ثمان سنوات، ثمان سنوات كاملة من كونها عاصمةً لمحاربة الله ورسوله, ولكن مع ذلك فإن الله تعالى لا بد أن يكتب العاقبة للمتقين، ولا بد أن يطهر هذا البلد الطاهر الذي طهره من قبل ببناء الملائكة، وبأن جعل فيه هذا البيت العتيق وهذا المأمن الشريف، وبأن جعل فيه هذا الحجر الكريم، وهذا المقام، وبأن جعل فيه الصفا والمروة اللتان هما من شعائر الله، لا بد أن يطهره من أرجاس الشرك، وأن يعيد الأمور إلى نصابها، وأن ترجع الأحوال إلى مدارها؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة: ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ), فجاءت الظروف مهيأةً بقدر الله سبحانه وتعالى ليكون في مكة الملا أهل القوة والشوكة، وأهل المكانة الاجتماعية، وأهل المال والغنى؛ ليطغوا فيها وليتكبروا وليتجبروا وليعلنوا حرب الله ورسوله، انطلاقاً من مبادئ سخيفة هي أنهم ما وجدوا آباءهم على هذا، وانتصاراً لما كانوا يألفونه، وحفاظاً على وضعية اجتماعية تضمن لهم بعض المصالح الدنيوية، فهذه هي المطلقات التي من أجلها صمد صناديد قريش لحرب الله ورسوله مدة ثمان سنوات، فالمحافظة على التراث الذي كان موروثاً عن الآباء، والإبقاء على وضع اجتماعي يزداد فيه الغني غنىً والفقير فقراً، ويزداد فيه القوي قوةً والضعيف ضعفاً، والحفاظ على وضع يكون فيه التمكين بالمصالح لأقوام بأعيانهم هم كما يزعمون الطبقة المؤثرة في المجتمع التي تستحق أن تعلو، وأن تحفظ لها الجباه والرءوس، وأن يشار إليها بالبنان، وتبقى الطبقات الأخرى مسحوقةً ذليلةً مستعبدة، تستغل لصالح هذه الفئة التي هي صناديد قريش وكبراؤها.

لكن الله سبحانه وتعالى هيأ الضعاف والمستضعفين لأن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فشرفهم بذلك وبدأ أتباع محمد صلى الله عليه وسلم بالضعاف؛ ولذلك حين أتاه أبو ذر رضي الله عنه كما ثبت في صحيح البخاري وهو بمكة وقومه إليه جراء سأله قال: من تابعك على هذا الأمر؟ قال: رجل وامرأة وعبد وصبي، فكان أبو ذر خامسهم.

قامت هذه الطبقات التي ليس لها وجود ولا قوة ولا يمكن بمعيار العقل ومعيار العادة أن تنتصر على هذه الرموز وهذا الملأ الكبير قامت لتتابع محمداً صلى الله عليه وسلم وتبايعه على الحق؛ فلذلك جاءت نصرتها وجاء الفتح لها ليس من قبيل القوة المادية، ولا من قبيل القوة الاجتماعية، ولا من قبيل كثرة العدد والعدة، وإنما هو نصر الله وعاقبة الله التي يكتبها للمتقين.

حال عبد الله بن مسعود بعد إسلامه

فإذا نظرنا إلى حال عبد الله بن مسعود الذي كان يرعى الغنم بمكة على دراهم، نظرنا إلى حاله عندما يطأ برجله صدر عمرو بن هشام أبي جهل يوم بدر، ويحتز رأسه فيقول له أبو جهل : لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم، نعلم أن هذا الارتقاء الصعب في هذه الدنيا مع أنه لا يساوي شيئاً من منزلة ابن مسعود عند الله تعالى في الآخرة، هذا الارتقاء الذي ناله ابن مسعود في الدنيا فأنتم تعلمون مكانه في المسلمين، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيه: ( رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد )، ويقول فيه: ( من أراد أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن مسعود )، ومكانه في المسلمين هو هو، فـعمر بن الخطاب عندما أرسله إلى أهل الكوفة كتب لهم رسالةً فيها: لقد آثرتكم بـابن أم عبد على نفسي، مع ذلك مقامه في الآخرة أعظم عند الله تعالى من هذا المقام الدنيوي الذي تجدونه في صدوركم.

حقيقة التمكين

فالتمكين ليس تمكيناً بكثرة الجيوش، ولا كثرة القوى، ولا كثرة المال، إنما التمكين هو المحبة في القلوب، ورغبة الناس في نصرة شخص أو منهج، وأنتم تلاحظون معاشر المسلمين تلك المحبة وذلك المقام العظيم الذي هو لهؤلاء المستضعفين تجدونه في صدوركم، فكل مؤمن بالله عندما يذكر اسم عمار بن ياسر ، أو يذكر اسم سمية ، أو بلال بن رباح ، أو خبيب بن عدي ، أو خباب بن الأرت ، أو أحد هؤلاء النفر الضعاف المستضعفين، ينتفخ صدره، وترتفع آذانه، وتشرئب لتسمع هذا الاسم المحبوب إليه الكريم عنده، لماذا؟ هل ذلك لأنه كان من جبابرة الدنيا وملوكها؟ أو لأنه كان من الأغنياء ذوي الثروة الطائلة، أو لأنه كان من طبقة اجتماعية معينة تنخفض لها الجباه وتذل لها الرءوس، لا، ولكن لأنه حقق ما أراد الله منه، وكان متقياً لله سبحانه وتعالى فأتاه الله هذه الجائزة الدنيوية وهذه الميدالية الذهبية التي لا تساوي شيئاً مما أعد الله له في الآخرة.

معيار انتصار الرسل

هؤلاء المستضعفون عندما جاء أبو سفيان بن حرب إلى هرقل ودعا به في دسكرته في الشام وهم بإيليا سأله عن هذا الرجل الذي ظهر قبلهم فقال: أشرفاء الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، فقال: هم أتباع الرسل. هؤلاء الضعاف والمساكين هم أتباع الرسل الذين يعز الله تعالى بهم الرسل ليبدي للناس أن انتصار الرسل ليس بالاعتبار المادي، وليس بالقوة المادية، الرسل إنما ينصرون بنصر الله، فمحمد صلى الله عليه وسلم لم ينتصر بأب فقد مات أبوه وهو حمل، ولا بأم فقد ماتت أمه وهو في الرابعة من عمره، ولا بجد فقد مات جده وهو في الثامنة من عمره، ولا بأخ ولا بأخت فلم يكن له أخ ولا أخت، فأشد الناس عليه وأسرعهم إليه عمه أبو لهب ، وبنو عمه وأقاربه هم أشد الناس عليه، كانوا يرمونه بالحجارة، حتى يدموا قدميه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

فإذا نظرنا إلى حال عبد الله بن مسعود الذي كان يرعى الغنم بمكة على دراهم، نظرنا إلى حاله عندما يطأ برجله صدر عمرو بن هشام أبي جهل يوم بدر، ويحتز رأسه فيقول له أبو جهل : لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم، نعلم أن هذا الارتقاء الصعب في هذه الدنيا مع أنه لا يساوي شيئاً من منزلة ابن مسعود عند الله تعالى في الآخرة، هذا الارتقاء الذي ناله ابن مسعود في الدنيا فأنتم تعلمون مكانه في المسلمين، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيه: ( رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد )، ويقول فيه: ( من أراد أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن مسعود )، ومكانه في المسلمين هو هو، فـعمر بن الخطاب عندما أرسله إلى أهل الكوفة كتب لهم رسالةً فيها: لقد آثرتكم بـابن أم عبد على نفسي، مع ذلك مقامه في الآخرة أعظم عند الله تعالى من هذا المقام الدنيوي الذي تجدونه في صدوركم.

فالتمكين ليس تمكيناً بكثرة الجيوش، ولا كثرة القوى، ولا كثرة المال، إنما التمكين هو المحبة في القلوب، ورغبة الناس في نصرة شخص أو منهج، وأنتم تلاحظون معاشر المسلمين تلك المحبة وذلك المقام العظيم الذي هو لهؤلاء المستضعفين تجدونه في صدوركم، فكل مؤمن بالله عندما يذكر اسم عمار بن ياسر ، أو يذكر اسم سمية ، أو بلال بن رباح ، أو خبيب بن عدي ، أو خباب بن الأرت ، أو أحد هؤلاء النفر الضعاف المستضعفين، ينتفخ صدره، وترتفع آذانه، وتشرئب لتسمع هذا الاسم المحبوب إليه الكريم عنده، لماذا؟ هل ذلك لأنه كان من جبابرة الدنيا وملوكها؟ أو لأنه كان من الأغنياء ذوي الثروة الطائلة، أو لأنه كان من طبقة اجتماعية معينة تنخفض لها الجباه وتذل لها الرءوس، لا، ولكن لأنه حقق ما أراد الله منه، وكان متقياً لله سبحانه وتعالى فأتاه الله هذه الجائزة الدنيوية وهذه الميدالية الذهبية التي لا تساوي شيئاً مما أعد الله له في الآخرة.

هؤلاء المستضعفون عندما جاء أبو سفيان بن حرب إلى هرقل ودعا به في دسكرته في الشام وهم بإيليا سأله عن هذا الرجل الذي ظهر قبلهم فقال: أشرفاء الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، فقال: هم أتباع الرسل. هؤلاء الضعاف والمساكين هم أتباع الرسل الذين يعز الله تعالى بهم الرسل ليبدي للناس أن انتصار الرسل ليس بالاعتبار المادي، وليس بالقوة المادية، الرسل إنما ينصرون بنصر الله، فمحمد صلى الله عليه وسلم لم ينتصر بأب فقد مات أبوه وهو حمل، ولا بأم فقد ماتت أمه وهو في الرابعة من عمره، ولا بجد فقد مات جده وهو في الثامنة من عمره، ولا بأخ ولا بأخت فلم يكن له أخ ولا أخت، فأشد الناس عليه وأسرعهم إليه عمه أبو لهب ، وبنو عمه وأقاربه هم أشد الناس عليه، كانوا يرمونه بالحجارة، حتى يدموا قدميه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

لقد أقام الله الحجة على المؤمنين إقامةً عجيبة بشأن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التوبة:38-40]، أول النصر ليس خارجاً عن الشخص نفسه، أول النصر ينزل في القلب، فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التوبة:40]، هذا أول جند من جند محمد صلى الله عليه وسلم، ليس النصر المادي ولا كثرة الجيوش والسيوف والسلاح، أول النصر السكينة، أن يثق الشخص بنفسه، ويثق بعلاقته بالله، هذا بداية النصر وهو أقوى الجيوش، ومحمد صلى الله عليه وسلم نصر بجيشين غير ماديين:

النصر بنزول السكينة

النصر بالرعب

الجيش الثاني: ذلك الرعب الذي جعله الله تعالى في قلوب أعدائه، ويسيروا أمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله مسيرة شهر، هذا الرعب ليس مختصاً بشخصه الكريم صلى الله عليه وسلم، بل هو رعب مختص بدينه، فحيث ما وجد هذا الدين سار أمامه وخلفه ويمينه وشماله جيش من الرعب مسيرة شهر، هذا الجيش هو الذي يدوخ القلوب، ويدوي في الآذان، فتجدون العروش ترتجف، والجبابرة ترتعب من أشخاص ضعفاء فقراء، لكنهم يعمرون الصفوف الأولى في المساجد.

دور الجيش في فتح مكة

لذلك فإن هذا الجيش العظيم هو الذي أدى في السنة الثامنة بعد أن أخرج ثاني اثنين إذ هما في الغار إلى أن يدخل مكة بعشرة آلاف مسلح عزيزاً، فيقف خطيباً عند الكعبة، وعلى رأسه المغفر، وعلى رأسة عمامة سوداء، فيقول في خطبته: ( إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة بلدكم هذا، وأن يقول: إن كل دم كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي هذه، وأول دم أضعه دمنا دم عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ).

وكذلك قال: ( إن كل رباً كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي هذه، وأول رباً أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب )، فيبدأ في التطبيق بآل بيته، لا يريد من الآخرين أن يطبقوا مالم يطبقه هو، يبدأ أولاً بالتطبيق في الأقربين، ثم بعد ذلك ينتشر هذا الخير ويستمر هذا النور ليصل مشارق الأرض ومغاربها، ويصل ما وصل الليل والنهار، عندما أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة ثاني اثنين إذ هما في الغار، كان المشركون يراهنون على أنه لا يمكن أن يجد بقعةً في الأرض يجد فيها مستقراً لقدمه، وأنه قد تمالأ عليه أهل الأرض كلهم، وأنه لا يمكن أن يجد آذاناً صاغيةً، ولا من يسمع لدعوته، ولا من يستجيب لأمره، فكانوا يقولون: إذا طرده الأقربون فالأبعدون منه أبعد.

هذا بميزان الدنيا وبمعيارها الواضح لديهم، ولكنهم خفي عليهم معيار آخر هو أصدق وأوفى وأولى من هذا المعيار.

امتحان المؤمنين في صلح الحديبية

هذا المعيار لاحظه أحدهم في يوم الحديبية عندما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فصده الله تعالى عن مكة ولم يأذن له بدخولها، امتحاناً لقلوب المؤمنين: هل يقدمون الشرع على العاطفة، أو يقدمون العاطفة على الشرع؟ كثير من الناس يتمنى التمكين لنصرة الدين، ولكن يخالط ذلك هوىً في نفسه، فيريد حظاً لنفسه، وهذا ليس من صفات التمكين، وليس من شروطه، التمكين الحق هو الذي يأتي عندما يكون الشخص يرى هذا التصرف وهذا الفعل تكليفاً يكلفه الله تعالى به، فيبذل فيه الجهد سواءً نجح أو ما نجح، فيقول بقلب صادق ثابت: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52].

عندما يستوي الحسنيان لدى شخص وينظر إليهما جميعاً نظرة العدل بالتساوي يأتي التمكين، لكن قبل ذلك لا بد من الامتحان.

في هذا اليوم الذي امتحن الله فيه المؤمنين بصدهم عن البيت يأتي الوسطاء والسفراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بينهم رجل عاقل هو عروة بن مسعود الثقفي ، فلما أتاه قال: (يا محمد! إن قومك قد لبسوا جلود النمور، وصحبوا العوذ المطافيل يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوةً أبداً، وما أرى معك إلا أشابةً من الناس جدير أن يفروا عنك ويتركوكعروة بن مسعود ينظر بمنظار أهل الجاهلية، ويرى أن من لا تجمعهم قبيلة، ولا يجمعهم لون، ولا تجمعهم مصالح مشتركة، لا يمكن أن تتألف قلوبهم، وأن تزول الضغائن بينهم، وأن يوحدوا أنفسهم، وأن يكونوا صفاً وأحداً وجيشاً واحداً، ما كان يتوقع هذا أبداً؛ لأن هذا معيار دنيوي، ولذلك لاحظوا التعليق على هذا المعيار الدنيوي في قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:62-63].

الدنيا ينظر إليها كثير من الناس على أنها ذات مصالح، تجمع الناس، وتؤلف القلوب، وأن من وزع الدنانير والدراهم على الناس يمكن أن يأخذ قلوبهم، أو أن من وزع عليهم الوظائف والمراتب يمكن أن يأخذ قلوبهم، أو أن من أعطاهم السيارات والمنابر ولمعهم يمكن أن يأخذ قلوبهم، ولكن الواقع خلاف هذا.

فيمكن أن ينخدع ثلة من الناس وينطلي عليهم هذا الأمر لمدة محددة، ولكن الرغبة الصادرة عن حاجة معينة كلما عدمت تلك الحاجة انعدمت تلك الرغبة، فالارتباط الناشئ عن مصلحة دنيوية، إذا انقطعت تلك المصلحة لا بد أن ينقطع، لكن الارتباط الناشئ عن قناعة دينية لا يمكن أن ينقطع؛ لأن القناعة مستمرة إلى أن ينادي المنادي يوم القيامة: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ [يس:59]، إذا جاء ذلك الامتياز سيقع الامتحان النهائي، ويقع التفاصل، فحينئذ يخرج وفد الجنة إليها، وهم إخوان، كما كانوا إخواناً في الدنيا، هذه الأخوة بينهم استمرت في الدنيا، وهي مستمرة يوم القيامة إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا [الحجر:45-47]، هذه أخوة حتى في الجنة في ذلك اليوم تنقطع الأنساب والأسباب: يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]، يأتي هؤلاء الوفد إخواناً، إذا كان المعيار هكذا فإن كلام عروة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير صحيح.

ولذلك قام إليه أبو بكر فقال: امصص بظر اللات، أنفر ونترك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقام إليه ابن أخيه المغيرة بن شعبة بن مسعود الثقفي عمه عروة بن مسعود ، ( قام إليه وهو يلبس السلاح، ولا يرى منه إلا الحدق تحت الحلق، فضرب يده بالسيف وقال: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! من هذا القائم على رأسك؟ قال: ما عرفته؟ هو ابن أخيك المغيرة بن شعبة ، فقال: ويلك! لقد آلمتني وما غسلت سوأتك إلا بالأمس )، يمن عليه أمراً دنيوياً قد انقطع، ولم يتعلق بإيمان المغيرة بن شعبة ، فـالمغيرة بن شعبة أبدله الله أهلاً خيراً من أهله، ومنزلاً خيراً من منزله، كان من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طرده قومه وأخرجوه، فجاء مهاجراً إلى الله ورسوله، فآواه الله ورسوله، وكان من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان من الخمسة الذين شرفوا بأن غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفنوه ودفنوه، مع أنه ليس من أهل البيت من ناحية النسبية، هو من ثقيف، ولكن إيمانه وتعلقه بهم جعله منهم، حينئذ رجع عروة بن مسعود بهذه المشاهد التي رآها، فجاء إلى قريش فقال: (يا معشر قريش! والله لقد وفدت على كسرى في ملكه، وعلى قيصر في ملكه، وعلى النجاشي في ملكه، فما رأيت رجلاً يعظمه أصحابه مثلما يعظم محمداً أصحابه، فوالله إنهم ليصغون عنده حتى كأن على رءوسهم الطير، ووالله ما يبصق بصقةً ولا يمتخط مخاطةً إلا كادوا يقتتلون عليها، وإنهم ليقتتلون على طهوره ووضوئه، وإنهم ليبتدرون أمره)، فنصحهم أن يفتحوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق، وأن يتركوه حتى يؤدي عمرته.

الأخنس بن شريق ووصفه لحال المؤمنين يوم الحديبية

وحين أتاهم سفير آخر ووافد آخر وهو الأخنس بن شريق وكان رجلاً فيه تحنف أو تحنث ومعناه: تعبد بالملل السابقة أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثيروا الهدي في وجهه، فرأى الإبل عليها العفاء، وهي مقلدة مشعرة، ورأى أن صدها عن البيت لا يليق، فلما رأى ذلك تأثر الرجل تأثراً بالغاً، ولكنه مع ذلك جاء لمهمة، ففرضت عليه دبلوماسيته أن يحاول فرض الموقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لما رجع أيضاً إلى مكة قال: (يا معشر قريش! إني رأيت وجوهاً لا يؤلف بينها إلا محبة هذا الرجل، ووالله لن يرجعوا حتى يقتلوا عن آخرهم أو أن يأمرهم هو بذلك، فإما أن تكلموه حتى يقتنع بالرجوع من عند نفسه، أو أن تعدوا لقتاله عدته، وتعلموا أنهم لن يرجعوا إلا إذا قتلوا عن آخرهم).

وهذا ما تحقق فعلاً، فإن المؤمنين في هذا اليوم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت تحت الشجرة لما أسند ظهره إلى شجرة الرضوان، وهي سمرة من سمر تهامة بايعه ألف وستمائة رجل على الموت، على أن يموتوا في سبيل الله، فنظر الله إليهم في هذا الحال بعين رضاه، أحل عليهم رضاه الأكبر الذي لا سخط بعده، فحينئذ أنزل الله عليهم: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وليس الرضا هنا ناشئاً عن مجرد أنسابهم وذواتهم وأموالهم، لا، بل قال: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:18]، القضية متعلقة بما في القلوب، ليست متعلق بالذوات والأشكال، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].

بايعوه هذه البيعة التي كانت ثالثة مزية في الإسلام، قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة ).

وفي صحيح البخاري : ( أن عبداً لـحاطب بن أبي بلتعة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو تعامله، فقال: يا رسول الله! والله ليلجن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، والله لا يلج حاطب النار؛ فإنه بايع تحت الشجرة )، من بايع تحت هذه الشجرة في هذا الوقت الضيق وفي وقت الحرج أثابه الله تعالى بأن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

نلاحظ بهذا أن هذه المغفرة الشاملة لما تقدم وما تأخر جاءت أولاً من القلب فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:18]، فلما تحقق ذلك محا الآثار الظاهرة، فالتصرفات الظاهرة إذا صلح ما في القلب واستقام كلها تكون من استفزاز الشيطان، أو من استفزاز النفس الأمارة بالسوء، أو من بعض التصرفات الطائشة التي تذوب في خضم هذه القلوب النيرة الطاهرة، فإذا طهرت هذه القلوب لم يلتصق بها الخبث، فتكون هذه القلوب أعلى وأسمى من أن تلتصق بها النجاسات أو تؤثر فيها، فهذه القاذورات وإن كانت قد تخشاها بعض الجوارح إلا أنها لا تصل إلى القلوب، فالقلوب وصلت إلى مستوى من الطهر يمنعها أن تلتصق فيها هذه القاذورات؛ ولذلك قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( إن القلوب تعرض على الفتن كأعواد الحصير عوداً عوداً حتى تكون على قلبين: قلب تنبع عنه الفتن ولا تلتصق به، وقلب تتراكم الفتن فيه فيكون كالكوز مسوداً مجخياً لا ينجو من فتنة )، فهؤلاء الملأ الذين محصوا ونجحوا في الامتحان هم الذين طهرت قلوبهم، فاستعدوا لأن ينصرهم الله تعالى فنصرهم.