التوفيق بين عمل الدنيا وعمل الآخرة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد.

فمع عودة كثيرٍ من الناس إلى أعماهم ودراساتهم، أنبه وأعرض في هذه الخطبة -أيها المسلمون- إلى مفهومٍ إسلامي أصيل، وتصورٍ جاء به هذا الدين العظيم، وهو: أن طريق الدنيا والآخرة طريق واحد، وأن طريق العبد في هذه الحياة حتى ولو كان يعمل للدنيا فإنما هو ينظر إلى الآخرة؛ إذ أن التعارض بين الدنيا والآخرة والفصل بينهما صار عند كثيرٍ من الناس بأسبابٍ متعددة، إذا نظروا في أمر الإسلام والدين، ثم التفتوا إلى أمر دنياهم وأعمالهم ووظائفهم وتجارتهم ودراستهم؛ وجدوا تناقضاً وأحسوا بالإثم، ورأوا تعارضاً بين ما هم فيه من أمور الدنيا وبين القرآن والسنة، وهذا الشعور له مصادر متعددة، فقد يكون نتيجةً لتصور خاطئ، وقد يكون نتيجةً لممارسةٍ خاطئةٍ وعملٍ محرم، فالذين يعملون في المحرمات.. وظيفةً وتجارة ودراسة شعورهم بالتعارض بين دنياهم وآخرتهم شعور حقيقي وصحيح، ويجب أن يشعروا أن ما هم فيه من عمل الدنيا يتعارض مع الآخرة تعارضاً واضحاً.. لماذا؟

لأنهم يعملون في مجالاتٍ محرمة منافيةٍ للدين، وتصير أمور دنياهم في هذه الحالة مخالفةً لأحكام دينهم، فيجب على هؤلاء ترك المحرمات التي هم فيها واقعون.

ومن المسلمين طائفة ثانية.. تشعر بالتعارض؛ لأنه غلَّب جانب الدنيا على جانب الآخرة في الاهتمام والعمل، فشعوره -أيضاً- شعورٌ صحيح؛ لأنه غبن نفسه وفوت عليها حسناتٍ كثيرة لو حصلها لارتفع عند الله في الآخرة، ولأنه انشغل بالفاني، عن العمل للباقي، وركز جهده في هذه الحياة التي تنتهي؛ ركز فيها جهده وعمله، وجعل الفتات والفضلة من وقته لأمر الآخرة التي لا تنتهي، والتي حياتها في خلودٍ دائم.. فهذا مغبونٌ ومسكين؛ لأنه انشغل بما ينتهي عما لا ينتهي، وبالفاني عن الباقي، فينبغي أن يعود، ويعدل الميزان، وأن يجعل عمله للآخرة هو الأكثر.

ومن المسلمين من يرى تعارضاً بين الدنيا والآخرة لخطأ في تصور القضية.. طريق الدنيا وطريق الدين، فهؤلاء ينبغي أن يبصروا ويفقهوا ليزول اللبس فلا يتعذبون، وليعملوا وهم في راحة.

يصر البعض على زعم أن العبادة تتعارض مع الكسب والعمل في الصناعة والتجارة والزراعة.. وغيرها، وأن من أراد الآخرة فلا بد أن يطلَّق الدنيا طلاقاً باتاً حتى يصلح قلبه.

شبهة الصوفية والرد عليها

يقول بعض هؤلاء من الصوفية وغيرهم: إن الصحابة لم يفتحوا البلدان، ولم يصلوا إلى المنزلة العالية من الدين، إلا بعد أن تركوا الدنيا وتفرغوا تفرغاً تاماً للعبادة والجهاد.. فما صحة هذا الكلام؟

الجواب: إن هذا الكلام فيه تعسفٌ ومنافاة لمصلحة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، وبعيدٌ عن الحكمة والعقل السليم والواقع، وهو مغاير قبل ذلك كله لحال الصحابة رضوان الله عليهم، وللرد على تلك المزاعم نريد إلقاء الضوء على النظرة الشرعية للعمل الدنيوي والكسب أولاً، وكيف طبق الصحابة ذلك في حياتهم ثانياً؟

أما المسألة الأولى: فقد قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة".

قوله تعالى: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] هذه الآية فيها تفسيران: الثاني: أي: لا تنس ما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك -أي: ضيوفك وزائريك- عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقٍ حقه.

وقال الحسن وقتادة : [ أي: لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ]. وهذا مثل قول ابن عمر رضي الله عنه: [احرث لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً] وقال الحسن : [قدم الفضل وأمسك ما يبلغ] وقال مالك : "هو الأكل والشرب بلا سرف".

هذا معنى: لا تنس نصيبك من الدنيا.. لا تنس الحلال فهو نصيبك من الدنيا.

يقول بعض هؤلاء من الصوفية وغيرهم: إن الصحابة لم يفتحوا البلدان، ولم يصلوا إلى المنزلة العالية من الدين، إلا بعد أن تركوا الدنيا وتفرغوا تفرغاً تاماً للعبادة والجهاد.. فما صحة هذا الكلام؟

الجواب: إن هذا الكلام فيه تعسفٌ ومنافاة لمصلحة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، وبعيدٌ عن الحكمة والعقل السليم والواقع، وهو مغاير قبل ذلك كله لحال الصحابة رضوان الله عليهم، وللرد على تلك المزاعم نريد إلقاء الضوء على النظرة الشرعية للعمل الدنيوي والكسب أولاً، وكيف طبق الصحابة ذلك في حياتهم ثانياً؟

أما المسألة الأولى: فقد قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة".

قوله تعالى: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] هذه الآية فيها تفسيران: الثاني: أي: لا تنس ما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك -أي: ضيوفك وزائريك- عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقٍ حقه.

وقال الحسن وقتادة : [ أي: لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ]. وهذا مثل قول ابن عمر رضي الله عنه: [احرث لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً] وقال الحسن : [قدم الفضل وأمسك ما يبلغ] وقال مالك : "هو الأكل والشرب بلا سرف".

هذا معنى: لا تنس نصيبك من الدنيا.. لا تنس الحلال فهو نصيبك من الدنيا.

مسألة الكسب -أيها الإخوة- مسألة شرعية.. تحصيل المال لإنفاقه على النفس، وسد الحاجة مطلبٌ شرعي، وليست قضيةً دنيويةً بحتة.. يرتبط بتحصيل الكسب للإنفاق على النفس وسد الحاجة، أجرٌ وثوابٌ في الآخرة، فهي ليست قضية دنيوية مجردة، وهذا من الفروق بين المسلمين والكفار؛ فالكفار لا يحتسبون -في عملهم للدنيا.. في وظائفهم ودراساتهم وأبحاثهم- أجراً عند الله، وإن كانوا يقولون : إن ذهابهم إلى الكنيسة من أجل أن يجدوا فائدة ذلك بعد الموت، لكنهم لا يحتسبون في أعمالهم الدنيوية أي نوعٍ من أنواع الأجر.

وأما المسلمون: فانظر في هذا الحديث الصحيح: قال صلى الله عليه وسلم في الخارج من بيته: (إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان).

مسألة الغرس التي يغرسها الإنسان في الأرض، مع أن ظاهرها قضية دنيوية، ولكن لها في الآخرة اتصال وثيق؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة) رواه البخاري .

قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث فضل الغرس والزرع، والحض على عمارة الأرض.

ويستنبط منه: اتخاذ الضيعة -وهي التي يسميها الأولون بهذا الاسم- كالمزرعة وغيرها، والقيام عليها.

وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة من الصوفية وغيرهم.

فأما ما ورد من النهي عن ذلك فإنه يحمل على من استكثر بها واشتغل عن أمر الدين، وقوله: "إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة"، مقتضاه أن أجر ذلك الغرس يستمر حتى لو مات الزارع والغارس وانتقل ملكية الزرع إلى غيره.

كيفية دخول الدنيا في الآخرة

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجلٌ بفلاةٍ من الأرض، فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله) والحرة: الأرض الملبسة حجارة سوداء.

والشرجة: مفرد شراج، وهي مسالك الماء.. الطرق التي يسيل فيها الماء وينحدر. (فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله -الذي نزل من السماء- فتتبع الماء) هذا الرجل الذي سمع الصوت من السحابة يتتبع الماء إلى أين ينتهي (فإذا رجلٌ قائمٌ في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحاب) طابق الاسم الذي قاله له الرجل الاسم الذي سمعه في السحابة قبل قليل: اسق حديقة فلان.. (قال: فما تصنع فيها؟ -ما شأنك في هذه الحديقة والمزرعة- قال: أما إذا قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأرد فيها ثلثه)، وفي رواية: (وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل) رواه مسلم.

إذاً هذا الحديث يدل على الاشتغال بالزرع لحاجة الإنسان وأهله، وحاجة الأرض والمشروع الأساسي، ثلثان لهذا الذي يتصور الناس أنه من الدنيا، ولكن ذلك الرجل بصلاح نيته وصدقته.. الثلث من الدخل صدقة، قد بلغ به هذا الحال عند الله أن أكرمه بهذه الكرامة العظيمة.

وحتى يكون لدينا مثال آخر في قضية دخول الدنيا في الآخرة: لنتأمل في مسألة التجارة في الحج؛ هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، أباح الشارع الحكيم التجارة فيه لعلمه بحاجات الناس وما يصلحهم؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها -في مواسم الحج- فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 198]] رواه البخاري.

فكيف إذاً سمح لنا بالتجارة في موسم الحج؟!

إن أعمال الحج ماشية، والحاج يسير في نسكه، ويجوز له أن يتاجر! نعم لو تفرغ للعبادة لكان أفضل، ولكن لا يمنع ذلك أن يتاجر في ذلك الموسم، وأن يبيع ويشتري.. ماذا يعني هذا؟

مراعاة الشريعة لحال الناس، وأن هذا دين يلبي طلبات الناس، وأن من ابتغى بعمله الله عز وجل ولو كان عمله دنيوياً أنه يؤجر على ذلك.

الصحابة وجمعهم بين كسب الدنيا والعلم والعمل

كيف طبق الصحابة مسائل الكسب وهم يعيشون في طلب العلم والجهاد والعبادة بأنواعها؟

يشتكي الآن عدد من المخلصين ويقولون: لا نستطيع أن نوفق بين الدنيا وطلب العلم، وبين الدنيا والعبادة.. فكيف نفعل؟

صحيح أن المجتمع قد تعقد كثيراً، وأنه قد صارت هناك متطلبات لا توجد في العصر الأول، لكن هناك شيءٌ أساسي مشترك، وهو: الحاجة الشخصية إلى المال والكسب.

قال عمر -رضي الله عنه- لـابن عباس يعلمه قصة المرأتين، قال: [كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهم من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل يوماً وأنزل يوماً؛ فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك] رواه البخاري .

عمر يحتاج إلى العمل.. يحتاج لكسب قوته.. الصحابة لم يكونوا يمدون أيديهم للناس وهم يستطيعون كسب أقواتهم، كان عندهم عزة؛ فهم يعملون لأجل كسبهم.. كان بين عمر وشخص آخر صداقة أدت إلى عمل مشترك في زراعة؛ فكان عمر يعمل يوماً وينزل ذلك الرجل لطلب العلم، والرجل يعمل في اليوم الثاني وعمر ينزل في ذلك اليوم لطلب العلم، ثم يخبر كل واحدٍ منهما الآخر بما حصل في ذلك اليوم من خبر الوحي أو غيره، كما قال عمر : لا يسمع شيئاً إلا حدثه به، ولا يسمع عمر شيئاً إلا حدثه به، وفي رواية: [يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غبت، وأحضره إذا غاب، ويخبرني وأخبره].

قال ابن حجر رحمه الله: وفيه أن طالب العلم يجعل لنفسه وقتاً يتفرغ فيه لأمر معاشه وحال أهله.

أيها الإخوة: العظمة كيف استطاع ذلك الجيل أن يجمع بين تحصيل الكسب الدنيوي وبين تحصيل العلم؛ إنه لم يطلب العلم يوماً ويتفرغ للدنيا يوماً ثم يفوت العلم الذي كان في اليوم الذي عمل فيه للدنيا، كلا!

إنه كان يحصل العلم لنفسه يوماً، ثم يسمعه من غيره عن اليوم الآخر.. من ناحية الفائدة والمعلومات لا يفوته شيء، ولكن لا بد من عمل قد يفوت شيئاً من الفضل والأجر؛ كحضور مجلس العلم، والجلوس عند العلماء، ولكن هكذا فعلوا، وهكذا وفقوا بين طلبات الدنيا والطلبات الدينية؛ بين الحاجات الدينية، والحاجات الدنيوية، فلم يكن الصحابة ممتنعين عن الكسب، فهذا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، يقول أبو العالية : [ وكان له -أي: لـأنس - بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحانٌ كان يجيء منه ريح المسك ]. رواه الترمذي وحسنه.

وكذلك رعوا الغنم مع أن رعي الغنم عمل دنيوي، وهكذا حصل لـسعد رضي الله عنه في غنمٍ له؛ فقد فر من الفتن إلى خارج المدينة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (يعجب ربك من راعي غنم، في رأس شظية الجبل، يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا، يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة) رواه النسائي.

إذاً العمل الدنيوي مستمر؛ لكن إذا جاء وقت الصلاة فأذان وصلاة ولو كان وحيداً في فلاةٍ من الأرض، وكذلك المؤمن يرعى حق الله وهو في الوظيفة والدراسة، لكن عندما يقول: الحصة أهم من الصلاة ولو ضاع وقتها، والتجارة والوظيفة لا تنقطع لأجل العمل ولا تنقطع لأجل الصلاة؛ فهذا هو المسكين.

أيها الإخوة: إن التوفيق ممكن، والطريقان واحد، إذا ابتغى الإنسان وجه الله عز وجل، فقد أحلَّ الله تعالى البيع، وقال عن التجارة العالمية والنقل البحري: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ [البقرة:164].. وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [النحل:14].. رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ [الإسراء:66] ومعنى يزجي: أي يُجري ويُيسر، وأكثر البضائع في العالم الآن تنقل عبر الشحن البحري، وهذه منة من الله.. وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ [فاطر:12] أي: السفينة العظيمة تجري في البحار بما ينفع الناس من البضائع والتجارة؛ لتبتغوا من فضله، فأشار إلى التجارة والابتغاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الكسب: (بيع مبرور، وعمل الرجل بيده) رواه الإمام أحمد.

وقال عبد الرحمن بن عوف : [ دلوني على السوق ]. قالها حينما جاء المهاجرون فقراء إلى المدينة ، فقال سعد بن الربيع الأنصاري -من أخوته ودينه- لـعبد الرحمن بن عوف : انظر شطر مالي فخذه -أعطيك شطر المال- قال عبد الرحمن بن عوف : [ بارك الله في مالك دلوني على السوق ]. فدلوه على السوق، فذهب واشترى وباع وربح، فجاء بشيءٍ من أقطٍ وسمن، وفي رواية البخاري : ثم تابع الغدو -أي: داوم الذهاب للتجارة- ثم تزود وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً: فقد تاجروا وعملوا.

وقال أبو هريرة : [إن المهاجرين كانوا يذهبون إلى الأسواق، والأنصار يعملون في النخل] إنها حركةٌ عجيبة.. حركة المجتمع المدني في عهد النبوة! الجهاد قائم، وطلب العلم قائم، والعبادة قائمة، والتجارة قائمة، ورعي الغنم قائم، والزراعة قائمة، فالمجتمع يعمل للدنيا والآخرة.

لقد قدَّم لنا الصحابة -رضي الله عنهم- نموذجاً عملياً لقضية الجمع بين الدنيا والآخرة؛ كانوا في قمة الدين، وكانوا يحصلون الدنيا أيضاً.

وقال صخر الغامدي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها) وكان صخرٌ رجلاً تاجراً، صحابياً فاضلاً، وكان إذا بعث تجارة بعثهم من أول النهار فأثرى وكثر ماله. رواه الترمذي وحسنه.

أيها الإخوة: إن هذه القضية تدل بجلاء على أن الطريقين واحد، وأنه ينبغي لنا أن نبتغي بأعمالنا الحلال وجه الله عز وجل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لأرشد أمرنا، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم ارزقنا من فضلك واعف عنا واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.