اقتضاء العلم العمل


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فهذه الرسالة الثانية من سلسلة رسائل أهل العلم التي نتعرف فيها على بعض ما احتوته تلك الرسائل من الكنوز والعلوم والمواعظ والآداب، والرسالة بعنوان اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي رحمه الله تعالى.

واقتضاء العلم للعمل أي: أن العلم يقتضي العمل به، ومؤلفها هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي يكنى بـأبي بكر وقد اشتهر بـالخطيب البغدادي ، وقد ذكر الخطيب رحمه الله تعالى في تاريخ بغداد في ترجمة والده أن أصله من العرب، وأن له عشيرة كانوا يركبون الخيول، وأن مسكنهم بـالحصّاصة من نواحي الفرات من بلاد العراق ، ولم يكن والده من العلماء المشهورين في فنٍ من الفنون، وإنما كان له إلمام بسيط بالعلم، وقد كان يخطب الجمعة والعيدين بقرية قريبة من بغداد اسمها درزيجان .

ولذلك لم يصف الخطيب والده بأنه من العلماء، وإنما وصفه بأنه أحد حفاظ القرآن، فقال في ترجمة والده في تاريخ بغداد: كان أحد حفاظ القرآن، ويبدو أن لقب الخطيب قد استمر من الأب إلى ابنه؛ لأن الخطيب نفسه قد تولى الخطابة، كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أنه تولى الخطابة وكان خطيباً للجمعة والعيدين في بغداد، ولم ينفرد الخطيب البغدادي بهذا اللفظ (الخطيب) أو بهذا اللقب، وقد لقب به عددٌ من العلماء، منهم: تلميذ الخطيب البغدادي وهو الخطيب التبريزي رحمه الله وآخرون.

ولد أبو بكر الحافظ أحمد بن علي بن ثابت يوم الخميس لستة من جمادي الآخر سنة (392هـ) ونشأ في كنف أبيه، وكان في نشأته قد وكل به أحد القراء ليعلمه القرآن، فتعلم القرآن وحفظه منه، ولما بلغ الحادي عشر من عمره بدأ بسماع الحديث، ثم درس الفقه، ولما بلغ العشرين من عمره عزم على الرحلة في طلب العلم والحديث.

وكان الذي قد حفظّه القرآن وعلمه الكتابة هو هلال بن عبد الله رحمه الله، وتأدب منه، وهذا ما يفيد أهمية تأديب الأولاد في المرحلة المبكرة.

في سنة (412هـ) بدأت المرحلة الثانية من حياة الخطيب وهي إنشاء رحلات لجمع الحديث، وقد قام بثلاث رحلات، زار فيها ثلاث عشرة ناحية ومدينة من أشهر بلاد المسلمين.

رحلته إلى البصرة

كانت رحلته الأولى إلى البصرة في (412هـ) والتقى بكبار محدثيها، ومنهم: أبو عمر القاسم ، وأبو جعفر بن عبد الله الهاشمي ، وسمع منه سنن أبي داود وغيرها، وعاد إلى بغداد في السنة نفسها، وفي الطريق مر بـالكوفة والتقى بمحدثيها واستفاد فوائد، وقد ذكر ذلك في كتابه: تاريخ بغداد ، ولما رجع من هذه الرحلة لم تطل فرحة أبيه به؛ لأن أباه توفي في هذه السنة، وعاجلته المنية يوم الأحد من نصف شوال في السنة ذاتها التي رجع فيها الولد من رحلته.

فتولى ابنه دفنه بنفسه ولم يؤثر ذلك في نيته في الطلب وعزمه عليه، واقتضب الخطيب رحمه الله هذه الحادثة في ترجمة والده، فقال: توفي يوم الأحد النصف من شوال سنة (412هـ) ودفنته من يومه في مقبرة باب حرب، ولم يزد على هذا كلمةً واحدة.

رحلة الخطيب إلى نيسابور

بعد وفاة والده تابع جمعه للحديث من أفواه المحدثين، وطاف على محدثي بغداد يأخذ عنهم الحديث، وبعد أن رأى بأنه قد أكمل الأخذ عنهم عزم على الرحلة مرة ثانية، وكان عنده اختياران: إما أن يذهب إلى مصر ، وإما أن يذهب إلى نيسابور ، فتردد فاستشار شيخه البرقاني رحمه الله وهو من كبار الحفاظ، وقال له: هل أرحل إلى ابن النحاس في مصر أو أخرج إلى نيسابور إلى أصحاب الأصم؟ فأشار عليه شيخه إلى نيسابور، وعلل ذلك قائلاً: إنك إن خرجت إلى مصر إنما تخرج إلى رجلٍ واحد، إن فاتك ضاعت رحلتك، وإن خرجت إلى نيسابور ففيها جماعة، إن فاتك واحدٌ أدركت من بقي، فخرج إلى نيسابور وزوده شيخه البرقاني رحمه الله برسالة لطيفه إلى محدثي أصبهان، وكتب إلى أبي نعيم ، رحمه الله الحافظ الكبير يوصيه بتلميذه الخطيب البغدادي ، ويقول له فيها: قد نفذ إلى ما عندك عمداً متعمداً أخونا أبو بكرٍ أحمد بن علي بن ثابت أيده الله وسلَّمه، ليقتبس من علومك، ويستفيد من حديثك، وهو بحمد الله من له في هذا الشأن سابقةً حسنة، وقدم ثابت، وفهم حسن، وقد رحل فيه وفي طلبه، وقد حصل له منه ما لم يحصل لكثيرٍ من أمثاله الطالبين له، وسيظهر لك منه عند الاجتماع به، مع التورع -هذه المسألة ليست مسألة فقط حفظ روايات- مع التورع والتحفظ وصحة التحصيل -أي: الدقة- ما يحسّن لديك موقعه، ويجبل عندك منزلته، وأنا أرجو إن صحت منه لديك هذه الصفة أن تبين له جانباً، وأن توفر له وتحتمل منه ما عساه يورده من تثقيل في الاستكثار، أو زيادةٍ في الاصطبار، فقديماً حمل السلف عن الخلف ما ربما ثقل.

خرج الخطيب البغدادي رحمه الله مع رفيقٍ له اسمه أبو الحسن علي بن عبد الغالب متوجهاً إلى نيسابور، وفي رحلته كان يحصل له من العبادة الشيء الكثير، وقد رآه رفقاؤه الذين معه، وحصلت له في الرحلة من الروايات والأحاديث ما ألهاه عن النساء والطعام والشراب، بل ربما أنساه حاجته للنوم! فمن العجائب التي حصلت له، ويضرب له المثل في سرعة القراءة، وشهد له الحافظ ابن حجر رحمه الله بذلك، أنه قرأ صحيح البخاري كاملاً على إسماعيل بن أحمد الضرير في ثلاثة أيام قراءة ضبط على شيخ، ولا يعرف أنه حصل لغيره مثل هذا.

ورجع بعد ذلك إلى بغداد وسمع وقرأ فيها ذلك، ولما استقر بها عكف على كتابه المشهور تاريخ بغداد ، ولما اكتملت فصول الكتاب، واجتمعت مادته، عزم على أداء فريضة الحج شكراً لله عز وجل، ولتتم النعمة، ولتتم رحلاته في أقطار العالم الإسلامي في ذلك الوقت.

رحلة الخطيب إلى دمشق وتوجهه إلى بلد الله الحرام

بدأت الرحلة الثالثة في سنة (444هـ) فتوجه من بغداد إلى دمشق وسمع من كثيرٍ من محدثيها، ثم توجه إلى مكة ولم يكن يترك طريقه بدون فائدة، بل كان يشغله بتلاوة القرآن الكريم، فيقول أحد مرافقيه وهو أبو الفرج الأسفرائيني : كان الخطيب معنا في طريق الحج يختم كل يومٍ ختمة، قراءة ترتيل، ثم يجتمع عليه الناس وهو راكب يقولون: حدثنا فيحدثهم، وهكذا قضى الطريق متقرباً إلى الله تعالى بتلاوة القرآن، وإسماع الناس الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما وصل مكة وطاف ببيت الله الحرام، وصلى ركعتين خلف المقام توجه إلى ماء زمزم وشرب منه ثلاث شربات، وسأل الله ثلاث حاجات، آخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) وهذه الثلاث هي:

الأولى: أن يحدث بـتاريخ بغداد في بغداد.

الثانية: أن يملي الحديث بجامع المنصور، وكان جامعاً مشهوراً لا يحدث به إلا النوادر ممن يؤذن له من الخليفة.

الثالثة: أن يدفن بجانب بشر الحافي ، وهو أحد الورعين الزهاد العباد، فتمنى أن يدفن بجانبه، وبلغه أن كريمة المروزية مجاورة بـمكة المكرمة، وعندها سماعٌ عالٍ لـصحيح البخاري ؛ لأن كريمة عُمِّرت إلى سن المائة رحمها الله تعالى، فذهب إليها وقرأ عليها صحيح البخاري في خمسة أيام.

وبعد الانتهاء من فريضة الحج والاجتماع بمحدثي مكة ، والمشاهدات النافعة التي حصلت له، كما قال الله عز وجل: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28] قفل راجعاً إلى الشام من الحجاز، فمر بـالـبيت المقدس أولى القبلتين ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع بعلمائها، مثل: أبي محمد عبد العزيز بن أحمد بن عمر المقدسي وسمع منه الحديث، ولعل هذا الدخول لـبيت المقدس كان في سنة (446هـ).

ثم انتقل بعدها إلى صُوْرٍ وسمع فيها من بعض مشايخها، مثل: عبد الوهاب بن حسين العمر الغزال ، وانتهى مكثه بمدينة صُوْر فتوجه راجعاً إلى وطنه بغداد حاملاً معه رواياته الجديدة، ومسموعاته التي تزود بها، وبدخوله بغداد ، انتهت المرحلة الثانية من حياته.

كانت رحلته الأولى إلى البصرة في (412هـ) والتقى بكبار محدثيها، ومنهم: أبو عمر القاسم ، وأبو جعفر بن عبد الله الهاشمي ، وسمع منه سنن أبي داود وغيرها، وعاد إلى بغداد في السنة نفسها، وفي الطريق مر بـالكوفة والتقى بمحدثيها واستفاد فوائد، وقد ذكر ذلك في كتابه: تاريخ بغداد ، ولما رجع من هذه الرحلة لم تطل فرحة أبيه به؛ لأن أباه توفي في هذه السنة، وعاجلته المنية يوم الأحد من نصف شوال في السنة ذاتها التي رجع فيها الولد من رحلته.

فتولى ابنه دفنه بنفسه ولم يؤثر ذلك في نيته في الطلب وعزمه عليه، واقتضب الخطيب رحمه الله هذه الحادثة في ترجمة والده، فقال: توفي يوم الأحد النصف من شوال سنة (412هـ) ودفنته من يومه في مقبرة باب حرب، ولم يزد على هذا كلمةً واحدة.

بعد وفاة والده تابع جمعه للحديث من أفواه المحدثين، وطاف على محدثي بغداد يأخذ عنهم الحديث، وبعد أن رأى بأنه قد أكمل الأخذ عنهم عزم على الرحلة مرة ثانية، وكان عنده اختياران: إما أن يذهب إلى مصر ، وإما أن يذهب إلى نيسابور ، فتردد فاستشار شيخه البرقاني رحمه الله وهو من كبار الحفاظ، وقال له: هل أرحل إلى ابن النحاس في مصر أو أخرج إلى نيسابور إلى أصحاب الأصم؟ فأشار عليه شيخه إلى نيسابور، وعلل ذلك قائلاً: إنك إن خرجت إلى مصر إنما تخرج إلى رجلٍ واحد، إن فاتك ضاعت رحلتك، وإن خرجت إلى نيسابور ففيها جماعة، إن فاتك واحدٌ أدركت من بقي، فخرج إلى نيسابور وزوده شيخه البرقاني رحمه الله برسالة لطيفه إلى محدثي أصبهان، وكتب إلى أبي نعيم ، رحمه الله الحافظ الكبير يوصيه بتلميذه الخطيب البغدادي ، ويقول له فيها: قد نفذ إلى ما عندك عمداً متعمداً أخونا أبو بكرٍ أحمد بن علي بن ثابت أيده الله وسلَّمه، ليقتبس من علومك، ويستفيد من حديثك، وهو بحمد الله من له في هذا الشأن سابقةً حسنة، وقدم ثابت، وفهم حسن، وقد رحل فيه وفي طلبه، وقد حصل له منه ما لم يحصل لكثيرٍ من أمثاله الطالبين له، وسيظهر لك منه عند الاجتماع به، مع التورع -هذه المسألة ليست مسألة فقط حفظ روايات- مع التورع والتحفظ وصحة التحصيل -أي: الدقة- ما يحسّن لديك موقعه، ويجبل عندك منزلته، وأنا أرجو إن صحت منه لديك هذه الصفة أن تبين له جانباً، وأن توفر له وتحتمل منه ما عساه يورده من تثقيل في الاستكثار، أو زيادةٍ في الاصطبار، فقديماً حمل السلف عن الخلف ما ربما ثقل.

خرج الخطيب البغدادي رحمه الله مع رفيقٍ له اسمه أبو الحسن علي بن عبد الغالب متوجهاً إلى نيسابور، وفي رحلته كان يحصل له من العبادة الشيء الكثير، وقد رآه رفقاؤه الذين معه، وحصلت له في الرحلة من الروايات والأحاديث ما ألهاه عن النساء والطعام والشراب، بل ربما أنساه حاجته للنوم! فمن العجائب التي حصلت له، ويضرب له المثل في سرعة القراءة، وشهد له الحافظ ابن حجر رحمه الله بذلك، أنه قرأ صحيح البخاري كاملاً على إسماعيل بن أحمد الضرير في ثلاثة أيام قراءة ضبط على شيخ، ولا يعرف أنه حصل لغيره مثل هذا.

ورجع بعد ذلك إلى بغداد وسمع وقرأ فيها ذلك، ولما استقر بها عكف على كتابه المشهور تاريخ بغداد ، ولما اكتملت فصول الكتاب، واجتمعت مادته، عزم على أداء فريضة الحج شكراً لله عز وجل، ولتتم النعمة، ولتتم رحلاته في أقطار العالم الإسلامي في ذلك الوقت.

بدأت الرحلة الثالثة في سنة (444هـ) فتوجه من بغداد إلى دمشق وسمع من كثيرٍ من محدثيها، ثم توجه إلى مكة ولم يكن يترك طريقه بدون فائدة، بل كان يشغله بتلاوة القرآن الكريم، فيقول أحد مرافقيه وهو أبو الفرج الأسفرائيني : كان الخطيب معنا في طريق الحج يختم كل يومٍ ختمة، قراءة ترتيل، ثم يجتمع عليه الناس وهو راكب يقولون: حدثنا فيحدثهم، وهكذا قضى الطريق متقرباً إلى الله تعالى بتلاوة القرآن، وإسماع الناس الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما وصل مكة وطاف ببيت الله الحرام، وصلى ركعتين خلف المقام توجه إلى ماء زمزم وشرب منه ثلاث شربات، وسأل الله ثلاث حاجات، آخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) وهذه الثلاث هي:

الأولى: أن يحدث بـتاريخ بغداد في بغداد.

الثانية: أن يملي الحديث بجامع المنصور، وكان جامعاً مشهوراً لا يحدث به إلا النوادر ممن يؤذن له من الخليفة.

الثالثة: أن يدفن بجانب بشر الحافي ، وهو أحد الورعين الزهاد العباد، فتمنى أن يدفن بجانبه، وبلغه أن كريمة المروزية مجاورة بـمكة المكرمة، وعندها سماعٌ عالٍ لـصحيح البخاري ؛ لأن كريمة عُمِّرت إلى سن المائة رحمها الله تعالى، فذهب إليها وقرأ عليها صحيح البخاري في خمسة أيام.

وبعد الانتهاء من فريضة الحج والاجتماع بمحدثي مكة ، والمشاهدات النافعة التي حصلت له، كما قال الله عز وجل: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28] قفل راجعاً إلى الشام من الحجاز، فمر بـالـبيت المقدس أولى القبلتين ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع بعلمائها، مثل: أبي محمد عبد العزيز بن أحمد بن عمر المقدسي وسمع منه الحديث، ولعل هذا الدخول لـبيت المقدس كان في سنة (446هـ).

ثم انتقل بعدها إلى صُوْرٍ وسمع فيها من بعض مشايخها، مثل: عبد الوهاب بن حسين العمر الغزال ، وانتهى مكثه بمدينة صُوْر فتوجه راجعاً إلى وطنه بغداد حاملاً معه رواياته الجديدة، ومسموعاته التي تزود بها، وبدخوله بغداد ، انتهت المرحلة الثانية من حياته.

بدأت المرحلة الثالثة: وهي مرحلة التصنيف والكتابة والإسماع والإملاء، فجعل يجمع المتفرق، ويرتب المتناثر من الفوائد والمسموعات التي حصلها، ويجعل منها مادة دسمة وغنية بتصانيفه التي كانت بحقٍ من أجود التصانيف خصوصاً في علوم الحديث، ويعتبر الخطيب البغدادي رحمه الله مجدداً في علوم الحديث، ويعتبر النقلة التي نقل بها علم الحديث من ناحية التأليف نقلة كبيرة، فكان العلماء في الحديث من بعده كلهم عالة عليه، وكل من أراد أن يؤلف في الحديث لابد أن يرجع إلى كتب الخطيب رحمه الله تعالى.

حتى عدّد بعض أهل العلم كتبه بأربع وخمسين مصنفاً إلى عام (453هـ) غير ما صنف بعدها.

وأما الحاجة الأولى التي كان سأل الله إياها: وهي التحديث بـتاريخ بغداد بـبغداد، فقد حدثت في هذا الاستقرار، فإنه حدث بـبغداد بكتاب تاريخ بغداد وأملاه على بعض تلاميذه في حجرةٍ كانت له قرب المدرسة النظّامية.

الخطيب.. والتحديث بجامع المنصور

وأما الحاجة الثانية: وهي إملاء الحديث بجامع المنصور، فلم يكن ذلك أمراً سهلاً ويصعب على الخطيب أن يقدم التماسات للسلطان لكي يسمح له بذلك، ولعل قدر الله يجري، وكان يتمنى أن يجري قدر الله بشيءٍ يجعل السلطان من نفسه يأذن له بالتحديث أو يعرف رغبته فيأذن له بالتحديث، فجرت حادثة سنة (447هـ) وكان لها الأثر الكبير في رفعة مقام الخطيب البغدادي عند السلطان، ومن كان في ذلك الوقت آخذاً بزمام الأمور، وهذا الحادث هو أن بعض اليهود قد أظهر كتاباً بخط اليد، وادّعى أنه من النبي صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر ، وأن فيه شهادات الصحابة وخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فرئيس الرؤساء في ذلك الوقت أبو مسلم عرضه على الخطيب، وسمع أن الخطيب محقق من المحققين، ومؤرخ ومحدث؛ فعرض عليه الرسالة، فقال الخطيب لما اطلع على الرسالة فوراً: هذا مزوّر، فقال من أين لك هذا؟ وما هو الدليل؟

قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخيبر كانت في سنة (7هـ) وفي هذه الرسالة أيضاً شهادة سعد بن معاذ رضي الله عنه، وسعد بن معاذ مات يوم الخندق قبل معركة خيبر، فكيف يشهد سعد بن معاذ الذي مات قبل خيبر على قضية حصلت بـخيبر ، وكيف يوقع معاوية بن أبي سفيان الذي أسلم بعد خيبر على قضية حدثت بـخيبر!

هذه فائدة معرفة التواريخ، وكان ذلك من فطنته وعلمه رحمه الله، فاستحسن السلطان ذلك جداً، واعتمده وأمضاه، ولم يُجز اليهود على ما في الكتاب؛ لظهور التزوير، ولعله عاقبهم.

وارتفعت منزلته بهذه القصة عند أبي مسلم وكبر في عينه كثيراً، ووثق به وبدقة علمه؛ فقدمه وصار يذكره، وشاع ذكر الخطيب رحمه الله بعد تلك القصة جداً، وحُمل إلى الخليفة ومعه جزءٌ من سماع الخليفة الآخر القائم بأمر الله، وأراد أن يحدث الخليفة بجزء الخليفة الآخر، فقال الخليفة: هذا رجلٌ كبيرٌ في الحديث ليس له إلى السماع مني حاجة -ذهب إليه ليستمع حديثه منه، وكان الخليفة قد سمعه هو نفسه، فكان الخطيب قد كتبها عنده لما أدخل على الخليفة ومعه جزء الخليفة، وطلب منه أن يسرد عليه الأحاديث التي سمعها، قال الخليفة متعجباً: هذا رجلٌ كبير القدر في الحديث، فليس له إلى السماع مني حاجة، وعنده من الطرق الأخرى ما يستغني عني وعن سماعي- فما حاجته اسألوه؟ قال: حاجتي أن يأذن لي بالإملاء في جامع المنصور.

فأذن للخطيب بالإملاء، واجتمع الناس في جامع المنصور، وأملى الحديث وتمت له اثنتين مما دعا الله بها عند زمزم، وهذا المسجد الكبير الذي يؤمه الطلاب لا شك أنه كان نافذة كبيرة للخطيب رحمه الله؛ لكي يملي أحاديثه وينشر علمه من خلال ذلك المنبر.

وأما الحاجة الثانية: وهي إملاء الحديث بجامع المنصور، فلم يكن ذلك أمراً سهلاً ويصعب على الخطيب أن يقدم التماسات للسلطان لكي يسمح له بذلك، ولعل قدر الله يجري، وكان يتمنى أن يجري قدر الله بشيءٍ يجعل السلطان من نفسه يأذن له بالتحديث أو يعرف رغبته فيأذن له بالتحديث، فجرت حادثة سنة (447هـ) وكان لها الأثر الكبير في رفعة مقام الخطيب البغدادي عند السلطان، ومن كان في ذلك الوقت آخذاً بزمام الأمور، وهذا الحادث هو أن بعض اليهود قد أظهر كتاباً بخط اليد، وادّعى أنه من النبي صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر ، وأن فيه شهادات الصحابة وخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فرئيس الرؤساء في ذلك الوقت أبو مسلم عرضه على الخطيب، وسمع أن الخطيب محقق من المحققين، ومؤرخ ومحدث؛ فعرض عليه الرسالة، فقال الخطيب لما اطلع على الرسالة فوراً: هذا مزوّر، فقال من أين لك هذا؟ وما هو الدليل؟

قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخيبر كانت في سنة (7هـ) وفي هذه الرسالة أيضاً شهادة سعد بن معاذ رضي الله عنه، وسعد بن معاذ مات يوم الخندق قبل معركة خيبر، فكيف يشهد سعد بن معاذ الذي مات قبل خيبر على قضية حصلت بـخيبر ، وكيف يوقع معاوية بن أبي سفيان الذي أسلم بعد خيبر على قضية حدثت بـخيبر!

هذه فائدة معرفة التواريخ، وكان ذلك من فطنته وعلمه رحمه الله، فاستحسن السلطان ذلك جداً، واعتمده وأمضاه، ولم يُجز اليهود على ما في الكتاب؛ لظهور التزوير، ولعله عاقبهم.

وارتفعت منزلته بهذه القصة عند أبي مسلم وكبر في عينه كثيراً، ووثق به وبدقة علمه؛ فقدمه وصار يذكره، وشاع ذكر الخطيب رحمه الله بعد تلك القصة جداً، وحُمل إلى الخليفة ومعه جزءٌ من سماع الخليفة الآخر القائم بأمر الله، وأراد أن يحدث الخليفة بجزء الخليفة الآخر، فقال الخليفة: هذا رجلٌ كبيرٌ في الحديث ليس له إلى السماع مني حاجة -ذهب إليه ليستمع حديثه منه، وكان الخليفة قد سمعه هو نفسه، فكان الخطيب قد كتبها عنده لما أدخل على الخليفة ومعه جزء الخليفة، وطلب منه أن يسرد عليه الأحاديث التي سمعها، قال الخليفة متعجباً: هذا رجلٌ كبير القدر في الحديث، فليس له إلى السماع مني حاجة، وعنده من الطرق الأخرى ما يستغني عني وعن سماعي- فما حاجته اسألوه؟ قال: حاجتي أن يأذن لي بالإملاء في جامع المنصور.

فأذن للخطيب بالإملاء، واجتمع الناس في جامع المنصور، وأملى الحديث وتمت له اثنتين مما دعا الله بها عند زمزم، وهذا المسجد الكبير الذي يؤمه الطلاب لا شك أنه كان نافذة كبيرة للخطيب رحمه الله؛ لكي يملي أحاديثه وينشر علمه من خلال ذلك المنبر.

بقي الخطيب طيب النفس قرير العين بما بلغت أمانيه التي استجابها الله له يملي بجامع المنصور، ويصنف ويهذب، إلى أن حدثت فتنة البساسير، وهذا انقلاب خطير جداً صارع الخلافة العباسية السنية من قبل هذا البساسير الرافضي الباطني ومعه عددٌ آخر من الباطنية، ومعهم من الرعاع والأشرار وقطاع الطرق والمجرمين، بحيث أنهم سيطروا على مدينة بغداد فعلاً، واستطار شر هذه الفتنة وكاد الخطيب رحمه الله أن يُقتل فيها، لكنه سارع بالخروج من بغداد متخفياً إلى دمشق وهاجر منها وقد صارت موطن كفرٍ بما حكم به ذلك الرافضي الباطني الخبيث، وخلع خليفة المسلمين، وتُتبع أهل العلم والفضل، وقُتل من أهل السنة وعلمائهم خلقٌ كثير في تلك الفتنة بأمورٍ شنيعة، وكيفيات بشعة في القتل جداً، وقد أشار ابن كثير رحمه الله إلى هذه الفتنة في كتاب البداية والنهاية ، ووصف البساسير بالخبيث.

لقد استتر الخطيب رحمه الله وخرج من بغداد في شهر صفر سنة (451هـ) مصطحباً كتبه وتصانيفه قاصداً دمشق فوصلها سالماً، واتخذ المئذنة الشرقية من الجامع الأموي مسكناً له، وبدأ التدريس في المسجد، وصار له حلقة كبيرة يجتمع الناس فيها ويحدثهم، وكان يخرج أيضاً إلى بساتين ويقرأ كتب الأدب هناك، ولعل كتاب التطفيل وحكاية الطفيليين قد حدث في ذلك الجو والظل الوارف، وبينما كان يقرأ من الكتب في دمشق كتاب فضائل الصحابة الأربعة للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله سمع بذلك بعض الروافض، وكان لهم شوكةٌ؛ حصلت لهم بسبب حكم الفاطميين في مصر ، فثاروا على الخطيب وأرادوا قتله، فأجاره أحد الأشراف في ذلك المكان، وكان مسكنه قريباً من الجامع، فأجاره على أن يخرج من دمشق، فخرج إلى صور، ونفعته الرحلة الأولى التي دخل فيها صور وأقام فيها علاقات مع بعض أهلها، فكان المكان المناسب أن يخرج إلى تلك البلدة، ومن الأسباب التي جعلت هؤلاء يقومون عليه هو صوته -رحمه الله- فقد قال ابن كثير في البداية ، عن الخطيب البغدادي : أنه كان جهوري الصوت، يُسمع صوته من أرجاء الجامع كله، فاتفق أن قرأ على الناس في يومٍ من الأيام فضائل العباس فثار عليه الروافض من أتباع الفاطميين وأرادوا قتله، فحصل ما حصل من خروجه إلى صور، وقد خرج في سنة (459هـ) وكان فيها بعض أهل العلم وهاجر إليها لا ليسمع كما كان من قبل وإنما ليُسمِع هو ويملي ويحدث في تلك البلدة، وقد قيض الله له من يُنفق عليه في تلك البلدة ويُعطيه مالاً كثيراً، فحصل له به اكتفاء.

رجوع الخطيب إلى بغداد بعد الفتنة

لما بلغ الخطيب سبعين سنة وشاخ وشعر بقرب أجله حنّ إلى بغداد ، وكانت فتنة البساسير قد زالت، وعاد الأمر إلى أهل السنة، ونُصِبَ الخليفة منهم مرةً أخرى، فرجع الخطيب رحمه الله في سنة (462هـ) سالكاً طريق الساحل ماراً بـطرابلس ودخل فيها وجلس فيها فترةً يسيرة ناظر في ضمن من ناظره بعض أهل التشيع هناك، وكانت طرابلس تحت حكمهم، وتفوق عليهم، ثم خرج منها قاصداً حلب ، وأقام بها أياماً يسيرة يُعلِّم ويحدِّث، وسمع من بعض الشيوخ بـحلب، ومنهم: أبو الفتح أحمد بن النحاس رحمه الله، ثم توجه إلى بغداد فوصلها في سنة (462هـ) في تلك السنة أيضاً، فاستغرقت الرحلة من صُوْر إلى بغداد أربعة أشهر لم يكن يترك في طريقه الفائدة والعبادة والتقرب إلى الله، فلا زال على طريقته التي عهدوه عليها في رحلة الحج من ختمٍ للقرآن كل يومٍ ختمةً كاملةً.

ولما وصل إلى بغداد وسُر بالوصول إليها بعد فراق دام إحدى عشرة سنة، أراد أن يكافئ أحد من صنع إليه معروفاً في بغداد، فلم يجد ما يكافئه به أعظم من كتابه تاريخ بغداد، وقال: لو كان عندي أعز منه لأهديته له.

وكانت هذه النسخة من تاريخ بغداد بخط الخطيب نفسه، واستأنف الخطيب رحمه الله دروسه في بغداد في جامع المنصور بعد أن آل الأمر فيها لـأهل السنة، والخليفة العباسي القائم بأمر الله، واجتمع إليه الناس، ورجع إليه طلاب الحديث بشوقٍ ولهفة وحنين، فحدَّث بـسنن أبي داود من روايته وبكتبه وتواريخه.

لما بلغ الخطيب سبعين سنة وشاخ وشعر بقرب أجله حنّ إلى بغداد ، وكانت فتنة البساسير قد زالت، وعاد الأمر إلى أهل السنة، ونُصِبَ الخليفة منهم مرةً أخرى، فرجع الخطيب رحمه الله في سنة (462هـ) سالكاً طريق الساحل ماراً بـطرابلس ودخل فيها وجلس فيها فترةً يسيرة ناظر في ضمن من ناظره بعض أهل التشيع هناك، وكانت طرابلس تحت حكمهم، وتفوق عليهم، ثم خرج منها قاصداً حلب ، وأقام بها أياماً يسيرة يُعلِّم ويحدِّث، وسمع من بعض الشيوخ بـحلب، ومنهم: أبو الفتح أحمد بن النحاس رحمه الله، ثم توجه إلى بغداد فوصلها في سنة (462هـ) في تلك السنة أيضاً، فاستغرقت الرحلة من صُوْر إلى بغداد أربعة أشهر لم يكن يترك في طريقه الفائدة والعبادة والتقرب إلى الله، فلا زال على طريقته التي عهدوه عليها في رحلة الحج من ختمٍ للقرآن كل يومٍ ختمةً كاملةً.

ولما وصل إلى بغداد وسُر بالوصول إليها بعد فراق دام إحدى عشرة سنة، أراد أن يكافئ أحد من صنع إليه معروفاً في بغداد، فلم يجد ما يكافئه به أعظم من كتابه تاريخ بغداد، وقال: لو كان عندي أعز منه لأهديته له.

وكانت هذه النسخة من تاريخ بغداد بخط الخطيب نفسه، واستأنف الخطيب رحمه الله دروسه في بغداد في جامع المنصور بعد أن آل الأمر فيها لـأهل السنة، والخليفة العباسي القائم بأمر الله، واجتمع إليه الناس، ورجع إليه طلاب الحديث بشوقٍ ولهفة وحنين، فحدَّث بـسنن أبي داود من روايته وبكتبه وتواريخه.

لقد مرض الخطيب رحمه الله في نصف رمضان من سنة (463هـ) في حجرته، ولما أحس بدنو أجله وكان عنده شيءٌ من المال والثياب أراد أن يوزع ذلك قبل أن يموت، ولم يكن له زوجة ولا أولاد، ولا عقب ولا وارث؛ فلعله أراد أن يختم حياته بالتصدق بما عنده من أموال، ففرقها على أصحاب الحديث، وكانت كل ممتلكاته مائتي دينار، وكّل في توزيعها أبا الفضل بن خيرون، فوزعها في حياة الخطيب، وأوصى بأن يتصدق بجميع ثيابه وما يملكه من أشياء بعد وفاته، وجعل جميع كتبه ومصنفاته وقفاً على المسلمين، واشتد المرض به في أوائل ذي الحجة سنة (463هـ) حتى توفي في ضحى يوم الاثنين السابع من ذي الحجة في تلك السنة، رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه، وامتدت فترة مرضه من رمضان إلى سبع ذي الحجة، وكان اشتداد المرض في أوائل ذي الحجة، والوفاة في السابع من هذا الشهر.

بوفاته رحمه الله تعالى طويت صفحة عظيمة من صفحات علم الحديث التي ذهب فيها هذا العالم الكبير إلى ربه سبحانه وتعالى، وكان على أخلاقٍ عظيمة وعبادةٍ كبيرة، وعفةٍ متناهية، فإنه لم يتزلف إلى سلطانٍ، ولم يتولَّى منصباً قط، لا قاضياً ولا مفتياً، مع أنه كان أهلاً لذلك، ولم تكن المناصب لتمتنع عليه، لو أنه سعى إليها وأرادها، لكنه اختار أن يبقى بعيداً عن فتنة الوجاهة، ورضي بالكفاف من العيش، ولم يكن له خدمٌ ولا جوارٍ، ولعلّ الرحلة في طلب العلم لم تسعفه في الزواج، فتوفي رحمه الله وخلف أولاداً مخلدين من المصنفات التي ألفها.