أرشيف المقالات

الإخلاص

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
الإخلاص

قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، فالغاية من إيجادنا هي عبادته تعالى.


وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ [الزمر: 11]، فهل يُعقَل بعد ذلك أن يكون الله تعالى ربُّ العباد ويُعبَد غيره سبحانه؟! وهل يُعقَل أيضًا أن يكون الله تعالى المنعم وحدَه ويُجابَه بالعصيان؟!

سبحان الله، كثيرًا ما ينسى المرء أن الله تعالى ناظرٌ إليه، فيخاف من الناس، ويزيِّن أعماله لهم، حتى إن خلا بنفسه فعل الأفاعيل! وقد يكذب، يغتاب، يُفسد ويظلم، وهو حالة فعله ذاك مأخوذٌ بدناءة في نفسه، ما زال الشيطان يوقِظها، ويعمل على تعظيمها، حتى يُرديه في الهلاك، وتكون جهنم مثواه والعياذ بالله!

عند زيارة شخصية عظيمة، يترقَّب هذه الزيارة، ويُهيَّأ لها بشكل جدي، ويسعى إلى إنجاحها بصورة مثالية، لكن إن وقف العبد أمام القبلة يريد الصلاة، يريد الوقوف أمام ربِّ العالمين، غاب العقل وفرَّ الخشوع، وبقيت الحركات وكأنها آلية، خالية من عمل القلب، ثم تجده بائسًا حزينًا، وعن حاله غير راضٍ، وإن سُئل عن الصلاة: قال: نعم أنا أُصلِّي، وإن كُرِّر عليه لمغزى في السؤال نفسه، ردَّد متباهيًا: نعم، نعم أُصلي، لينتكس ويقول: ولكن لا أدري ما هذا الذي يحلُّ بي، وما فَقِهَ المسكين أنه أُوتي مِن ضَعف علاقته بربِّه، وعدم العمل على تحسين هذه العلاقة وإخلاصه فيها، فإلى متى نخاصم الإخلاص، والعمر يُهدَر منَّا ولا نملِك له إيقافًا؟! بل إن سعادتنا وطُمأنينتنا رهينةٌ به، بوجوده حيًّا في مضمار الحياة المعيشة بتفاصيلها وجزئياتها.

فالإخلاص هو كل شيء، وهو جوهر النيَّة، وأعلى مراتبها، والتي إن تحقَّقت صلَحت كل أعمال الإنسان، سواء كانت عبادات أم عادات، وسواء كانت حركة أم سكونًا، فهو استسلام كامل له تعالى بلا ريبٍ قادح أو شكٍّ محبطٍ للعمل[1]، فهو كمال الدين[2].

وقال يحيى بن معاذ: الإخلاص تميُّز العمل من العيوب، كتميُّز اللبن من بين الفرث والدم[3]، ويقول ابن تيمية: "الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى، بأن يتوبَ من الذنوب توبةً نصوحًا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك"[4].

فهو إذًا الخلاص إذا اقترن باتباع سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7]، قال: "أخلصه وأصوبه"، وقال: "إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا"، قال: "والخالص ما كان لله عز وجل، والصواب ما كان على السنة".

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في الجسد مُضغة إذا صلَحت صلَح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا هي القلب"[5].

فلا يمكن إذًا بأيِّ حال أن يكون الإخلاص عملًا قلبيًّا متأصلًا في تلك المضغة، ولا يُسقى، وإنما ينبغي أن يُعنى به العناية التامة، حتى يكبُر ويكون جزءًا لا يتجزأ منه.

ومن هنا فإن الاجتهاد لنَيْل هذه العطيَّة يجب أن يكون على أشُدِّه، ويسأل الله تعالى أن يوفِّقه إليه، كما ينبغي أن يتعهَّدَ بالمراقبة والتمحيص، فينتفي بذلك من القلب جميعُ أهواء النفس وإراداتها، ووساوس الشيطان، فمن أحب شيئًا وأطاعه، وأحب عليه وأبغَض عليه، فهو إلهه، فمن كان لا يحب ولا يُبغض إلا لله، ولا يوالي ولا يعادي إلا له، فالله إلهه حقًّا، ومن أحب لهواه وأبغض له، ووالى عليه، وعادى عليه، فإلهه هواه؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾ [الجاثية: 23]، قال الحسن: هو الذي لا يهوى شيئًا إلا ركِبه، وقال قتادة: "هو الذي كلما هوى شيئًا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه، لا يَحجزه عن ذلك ورعٌ ولا تقوى[6].

فكلما جعلنا الله تعالى مقصدنا ووِجْهتنا، كان العمل الذي نقوم به أدعى إلى القبول، وكلما اطَّلعنا على كيفية عبادته صلى الله عليه وسلم لربه، اجتهدنا في تحقيق اتباعه صلى الله عليه وسلم، ونِلنا أجرًا عميمًا، وتعلَّمنا تحقيق الإخلاص في حياتنا المعيشة، وليس الأمر بالهيِّن، فهو يبغي جهادًا ومثابرة ومصابرة، وعلمًا ودعاءً، وإخلاصًا وجِديَّة في نيله، عسانا نوفَّق إليه!

فهل تساءلنا بعد هذا كله: أين وصلنا في مسيرنا إلى الإخلاص؟ بل هل جعلنا الإخلاص همَّنا في كل خطرة وفكرة وعملٍ؟ متى سنقف جادِّين مع أنفسنا ولدى كل واحدة منَّا نفس واحدة، إذا ذهبت فلن تجدَ غيرها؟!

قال الحسن: "المؤمن في الدنيا كالأسير، يسعى في فَكاك رقبته، لا يأمَن شيئًا حتى يلقى الله عز وجل، وقال: ابن آدم، إنك تغدو أو تَروح في طلب الأرباح، فليكن همُّك نفسَك، فإنك لن تربح مثلها أبدًا"[7].

فإلى متى نضيِّع أوقاتنا، ونُهدر أعمارنا فيما لا يُجدي ولا ينفع، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؟!

الإخلاصَ، الإخلاصَ، فهو الصراط المستقيم، من سلكه نجا، وهو رُوح الإيمان وساقه الذي يقوم عليه[8].

فلنُسقط الخَلْقَ من موازين حساباتنا، ولنقوِّ علاقتنا بمولانا الذي أوجدنا من العدم، وليكُن إرضاءُ ربِّنا دائمًا نُصبَ أعيننا، فحياتنا لله تعالى ومماتنا له سبحانه.
وأخيرًا، طُوبى للمخلصين، واللهم اجعلنا منهم!
 

 
[1] مجلة البحوث الإسلامية: الإخلاص هو جوهر النية.
 
[2] فيض القدير.
 
[3] تفسير الثعلبي: الكشف والبيان عن تفسير القرآن، ج2.
 
[4] تفسير الثعلبي: الكشف والبيان عن تفسير القرآن، ج2.
 
[5] الأربعون النووية.
 
[6] جامع العلوم والحكم.
 
[7] جامع العلوم والحكم.
 
[8] تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن / السعدي رحمه الله تعالى.
 

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١