التوسم والفراسة


الحلقة مفرغة

من أهم مقاصد الحج وأهدافه العظيمة إفراد الله تعالى بالعبادة، وتتجلى العبادة في الحج جلية ابتداء بالتلبية وانتهاءً بطواف الوداع بالكعبة التي كان يعبد حولها أكثر من ثلاثمائة وستين صنماً، وتتجلى في الحج الوحدة لجميع المسلمين القادمين من كل فج عميق، وعلى أهل الدعوة والبلاغ اغتنام الفرصة السانحة للدعوة إلى الله تعالى وبيان المنهج الحق، وما يحويه من تيسيرات.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن موضوعٍ فيه شيءٌ من العجب والغرابة ولكنه سمةٌ من سمات المؤمنين، وصفةٌ من صفاتهم ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه واصفاً بها المؤمنين فقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75].

والتوسم والفراسة من صفات المؤمن، فأما الفراسة: فإنها النظر والتثبت والتأمل في الشيء والبصر به، يقال: تفرست فيه الخير، أي: تعرفته بالظن الصائب، وتفرس في الشيء: أي: توسمه، فالفراسةُ -أيها الإخوة- ناشئة عن جودة القريحة وحدَّة النظر وصفاء الفكر، والفراسة: هي الظن الصائب الناشئ عن تثبيت النظر في الظاهر لإدراك الباطن، والفراسةُ: هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية، وهي أيضاً ما يقع في القلب بغير نظرٍ وحجة، وقد قسمها ابن الأثير رحمه الله إلى قسمين:

الأول: ما دل ظاهر هذا الحديث عليه: (اتقوا فراسة المؤمن) وفي إسناده ضعف ولكن معناه صحيح، إن للمؤمن فراسة، وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوعٍ من الكرامات وإصابة الظن والحدس.

الثاني: نوعٌ يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرف به أحوال الناس، وفراسة المؤمن معتبرةٌ شرعاً في الجملة لقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75].

الفراسة: نظر القلب بنورٍ يقع فيه، ويتفرس يعني: يتثبت وينظر، وفي قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75] فيه أن التوسم وهو تفعل من الوسم وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوبٍ غيرها، كما قال الشاعر يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:

إني توسمت فيك الخير نافلةً     والله يعلم أني صادق البصرِ

الفراسة التي هي الاستدلال بالخلق على الخلق، لقد جاءنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: [أحسن الناس فراسةً ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا، وابنة شعيبٍ حين قالت في موسى: يا أبتي! استأجره، وأبو بكر الصديق حين ولى عمر ] وهذا يحتاج إلى إثبات نسبته إلى هذا الصحابي الجليل فإن مسألة فراسة عزيز مصر في يوسف صحيحة من جهة أنه لم يكن معه علامةٌ ظاهرة، وأما بنت شعيب والراجح أنها بنت رجل صالح ليس بنبي الله شعيب، وإنما هو رجلٌ صالح غير نبي الله شعيب؛ لأن موسى لم يكن معاصراً لشعيب، هذه المرأة كان معها علامة بينة، فأما القوة فعلامتها سقي موسى لغنمها وسط هؤلاء الرعاة، وأما الأمانة فبقوله لها: وكان يوماً رياحاً: امشي خلفي لئلا تصفك الريح بضم ثوبك إليك وأنا لا أنظرُ في أدبار النساء.

فلما رأى الريح تكشف ثوبها وهي ماشية أمامه لتدله على بيت أبيها قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، أما أبو بكر رضي الله عنه، فقد عرف ولاية عمر بالتجربة في الأعمال والمواظبة على الصحبة وطولها.

فراسة أبي بكر الصديق

وقد كان سلفنا رحمهم الله فيهم من هذه الخصلة شيءٌ كثير، فمن فراسة الصديق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: [نحلني أبو بكر رضي الله عنه الجذاذ عشرين وسقاً من ماله بـالعالية ] له نخل شجر منحها جذاذ عشرين وسقاً، الجذاذ: الحصاد أو القطف الذي يحصل للثمر، ولم تقبضه عائشة وحضرت أبا بكر المنية وهبها إذا خرج الثمر يعطيها جذاذ عشرين وسقاً، فلما حضرته المنية حمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: [با بنية! إن أحب الناس إلي غنىً أنتِ وأعزهم عليّ فقراً أنتِ وإني كنتُ نحلتك جذاذاً عشرين وسقاً من مالي بـالعالية -منطقة معروفة في المدينة وفيها نخلٌ جيد- وإنك لم تكوني قبضتيه ولا حوزتيه -ومتى تلزم الهبة؟ بالقبض: بما أنها ما قبضته فلا زال في ملك أبيها، وإنما هو مال الورثة- إذا مت الآن لن يكون من نصيبك ما قبضته بعد، فسيكون من مال الورثة، وإنما هما أخواك وأختاكِ؛ -الورثة- قالت: فقلت: فإنما هي أم عبد الله -تعني: أسماء ؛ يعني: أخواي عرفتهما، وأختاي مالي إلا أخت واحدة أسماء فمن الأخت الأخرى؟- قال: إنه ألقي في نفسي أن في بطن بنت خارجة جاريةً] وبنت خارجة : هي زوجة أبي بكر الصديق ، وهكذا حصل وصار لـعائشة أختٌ أخرى وورثت معها.

عمر صاحب فراسة

أما عمر رضي الله تعالى عنه: فإنه رجلٌ أجرى الله الحق على لسانه وقلبه، وهو رجل ملهم محدث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (في أمتي ناسٌ محدثون، منهم عمر) محدث ينطق بالحق، وما يظنه عمر يكون حقاً في الغالب وصحيحاً، هذه فراسة إيمانية يلقيها الله في قلب من يشاء من عباده، ودخل عليه قومٌ من مذحج فيهم الأشتر فصعّد عمر فيه النظر وصوبه، وقال: أيهم هذا؟ قالوا: مالك بن الحارث ، قال: ماله قاتله الله؟ إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيبة، وبعد عمر حصل من الأشتر فتنة عظيمة على المسلمين فعلاً، عرف عمر ذلك من وجه الأشتر .

ودخل المدينة وفدٌ من اليمن وكان عمر مع الصحابة في المسجد، فأشاروا إلى رجلٍ من الوفد، وقالوا لـعمر : هل تعرف هذا؟ قال: لعله سواد بن قارب ، فكان كذلك، يسمع به ولم يره، لكن لما رأى وجهه بالفراسة عرف أن هذا هو فعلاً فكان كذلك.

وكان عمر رضي الله عنه يطوف في البيت، فسمع امرأةً تنشد في الطواف قائلة:

فمنهن من تُسقى بعذبٍ مبـردٍ     نقاخٍ فتلكم عند ذلك قرت

ومنهن من تسقى بأخضرَ آجن      أجاجٍ ولولا خشية الله رنت

من النساء من تشرب عذباً زلالاً، ومن النساء من تشرب أخضر أجاجاً معفناً، ريحه سيئة، فتفرس عمر رضي الله عنه ما تشكوه، ما هو مدلول كلامها؟ فبعث إلى زوجها فاستنكهه -أي: شم رائحة فيه- فإذا هو أبخر الفم، وبخر الفم مرض: عبارة عن رائحة في الفم كريهة مستمرة تكون في أفواه بعض الناس، لا يكاد يوجد لها علاج؛ لأنها شيء ذاتي جعلها العلماء من العيوب في الرجل التي تبيح للمرأة طلب الطلاق إذا لم تتحملها، كما يباح للمرأة مثلاً طلب الطلاق إذا كان الرجل عقيماً لا ينجب، هناك عيوب يجوز للمرأة بها طلب الطلاق، هذه جاءت تشكو إلى عمر ، وتقول:

فمنهن من تسقى بعذبٍ مبـردٍ     نقاخ فتلكم عند ذلك قرت

ومنهنّ من تسقى بأخضر آجنٍ      أجاجٍ ولولا خشية الله رنت

فلما أتى به عمر واستنكهه عرف القضية أنه أبخر الفم، فأعطاه خمسمائة درهم وجارية على أن يطلقها ففعل.

فراسة عثمان بن عفان

وأما عثمان رضي الله عنه، فله من ذلك أيضاً نصيبٌ جيد، فإنه حصل أن رجلاً مر بالسوق فنظر إلى امرأةٍ لا تحل له، فلما دخل على عثمان نظر إليه عثمان رضي الله عنه، قال: [يدخل رجل علينا، وفي عينه أثر الزنا -وزنا العينين النظر- فقال له الرجل: أوحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. ولكن برهانٌ وفراسة] ومثل هذا كثيرٌ عن علي رضي الله عنه.

القاضي إياس ممن اشتهروا بالفراسة

وممن اشتهر بالفراسة في التاريخ الإسلامي إياس القاضي رحمه الله، إياس القاضي لما تولى القضاء في البصرة فرح به العلماء، حتى قال أيوب : لقد رموها بحجرها. أصابوا الرجل المناسب في المكان المناسب، رموها بحجرها وجاء الحسن وابن سيرين فسلمَّا عليه فبكى إياس وذكر الحديث: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وواحد في الجنة) فقال الحسن : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء:78] إلى قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79] ثم جلس للناس في المسجد واجتمع عليه الناس للخصومات، فما قام حتى فصل سبعين قضيةً حتى كان يشبه بـشريح القاضي ، وكان إذا أشكل عليه شيءٌ بعث إلى محمد بن سيرين فسأله عنه.

هذا إياس القاضي رحمه الله له قصص عجيبة في الفراسة ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى، ومن هذه القصص التي ذكروها أن إياساً القاضي جاءه رجلٌ استودع أمانةً من مالٍ عند آخر ثم رجع فطلبه فجحده، فأتى صاحب الحق إياساً فأخبره فقال له إياس : انصرف واكتم أمرك ولا تعلمه أنك أتيتني ثم عد إليّ بعد يومين، فدعا إياس المودع المؤتمن الذي جحد، فقال: قد حضر مالٌ كثيرٌ وأريدُ أن أسلمه إليك أفحصينٌ منزلك؟ قال: نعم. قال: فأعد له موضعاً وحمالين، وعاد الرجل إلى إياس ، فقال: انطلق إلى صاحبك فاطلب المال، فإن أعطاك فذاك، وإن جحدك فقل له: إني سأخبر القاضي.

فأتى الرجل صاحبه، فقال: مالي وإلا أتيتُ القاضي وشكوت إليه وأخبرته بأمري فدفع إليه ماله؛ لأنه الآن لا يريد أن تتشوه سمعته عند القاضي، والقاضي وعده أن يضع عنده مالاً كثيراً وأن يجعله مقرباً منه، فدفع إليه ماله، فرجع الرجل إلى إياس فقال: أعطاني المال، وجاء الرجل الموعود إلى إياس في الموعد فزجره وانتهره وقال: لا تقربني يا خائن.

وتقدم إلى إياس بن معاوية أربع نسوة فقال إياس : أما إحداهنّ فحامل، والثانية مرضع، والثالثة ثيب، والأخيرة بكرٌ. فنظروا فوجدوا الأمر كما قال: قالوا: كيف عرفت؟ قال: أما الحامل فكانت تكلمني وثوبها مرفوعٌ عن بطنها فعرفتُ أنها حامل، وأما المرضع فكانت تضرب ثديها، فعرفتُ أنها مرضع، وأما الثيب فكانت تكلمني وعينها في عيني، فعرفتُ أنها ثيب، وأما البكرُ فكانت تكلمني وعينها في الأرض فعرفتُ أنها بكرٌ.

وكذلك من القصص التي حدثت له: أن شخصاً تحاكم إليه هو ورجلٌ آخر يدعي مالاً قد جحده الآخر، فقال إياس للمودع: أين أودعته؟ قال: عند شجرة في بستان -سلمته المال عند شجرة في بستان- فقال: انطلق إليها فقف عندها لعلك تتذكر، وفي رواية: هل تستطيع أن تذهب إليها فتأتي بورقٍ منها؟ قال: نعم. قال: فانطلقَ وجلسَ الآخر الجاحد عند إياس ، فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه ثم استدعاه فجأةً وقال له: أوصل صاحبك بعد إلى المكان؟ فقال: لا بعد أصلحك الله، فقال: قم -يا عدو الله- فأدِّ إليه حقه، وإلا جعلتك نكالاً، فقام فدفع إليه وديعته.

وتحاكم إليه اثنان في جاريةٍ فادعى المشتري أنها ضعيفة العقل، فقال لها إياس : أي رجليك أطول؟ فقالت: هذه، فقال لها: أتذكرين ليلة ما ولدتِ؟ قالت: نعم. فقال للبائع: ردها ردها..

وكذلك قال الثوري عن الأعمش : دعوني إلى إياس فإذا رجلٌ كلما فرغ من حديثٍ أخذ في آخر، وكان ذلك من حاله رحمه الله تعالى.

الشافعي وفراسته

وأما الشافعي رحمه الله فكان صاحب فراسةٍ أيضاً: ودخل اليمن خصيصاً لطلب كتب الفراسة وشرائها، وحصل له موقفٌ قال: مررتُ في طريق بفناء دار رجلٍ أزرق العينين، ناتئ الجبهة، سناط، فقلت: هل من منزل أبيت عندك؟ قال: نعم. قال الشافعي: وهذا النعتُ أخبث ما يكون في الفراسة، تفرست في أن هذا الرجل لئيم، لكنه رضي أن يؤويني فأنزلني وأكرمني، فقلت: أغسل كتب الفراسة إذا رأيت هذا -الآن أصبحت كتب الفراسة فاشلة- فلما أصبحتُ انتهت الضيافة قلت له: إذا قدمت مكة فاسأل عن الشافعي ؟ -يعني: من باب المكافأة بالمثل إذا جئت إلى مكة اسأل عن الشافعي حتى إذا جاء يرد له كرم الضيافة- فقال: أمولىً لأبيكَ كنتُ -أنا عبد عند أبيك؟- قلت: لا. قال: أين ما تكلفتُ لك البارحة؟ فوزنتُ له ما تكلف، وقلتُ: بقي شيءٌ آخر؟ قال: كراء الدار، ضيقتَ على نفسي قال الشافعي : فوزنتُ له، فقال: امضِ أخزاك الله فما رأيت شراً منك، هذا كلام صاحب البيت.

ومما يذكره العلماء في الفراسة أهمية فراسة العالم مع طلابه، كما ذكر الماوردي رحمه الله في كتاب أدب الدنيا والدين قال: وحكي أن تلميذاً سأل عالماً عن بعض العلوم فلم يفده، فقيل له: لِمَ منعته؟ فقال: لكل تربةٍ غرس، ولكل بناءٍ أس، وقال بعض البلغاء: لكل ثوبٍ لابس، ولكل علمٍ قابس.

وينبغي أن يكون للعالم فراسةٌ يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته، حتى يعرف كم يعطيه من العلم وقدر استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه أو يضعف عنه ببلادته، فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم.

وقد روي إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [إذا أنا لم أعلم ما لم أرَ، فلا علمتُ ما رأيت].

وقد كان سلفنا رحمهم الله فيهم من هذه الخصلة شيءٌ كثير، فمن فراسة الصديق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: [نحلني أبو بكر رضي الله عنه الجذاذ عشرين وسقاً من ماله بـالعالية ] له نخل شجر منحها جذاذ عشرين وسقاً، الجذاذ: الحصاد أو القطف الذي يحصل للثمر، ولم تقبضه عائشة وحضرت أبا بكر المنية وهبها إذا خرج الثمر يعطيها جذاذ عشرين وسقاً، فلما حضرته المنية حمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: [با بنية! إن أحب الناس إلي غنىً أنتِ وأعزهم عليّ فقراً أنتِ وإني كنتُ نحلتك جذاذاً عشرين وسقاً من مالي بـالعالية -منطقة معروفة في المدينة وفيها نخلٌ جيد- وإنك لم تكوني قبضتيه ولا حوزتيه -ومتى تلزم الهبة؟ بالقبض: بما أنها ما قبضته فلا زال في ملك أبيها، وإنما هو مال الورثة- إذا مت الآن لن يكون من نصيبك ما قبضته بعد، فسيكون من مال الورثة، وإنما هما أخواك وأختاكِ؛ -الورثة- قالت: فقلت: فإنما هي أم عبد الله -تعني: أسماء ؛ يعني: أخواي عرفتهما، وأختاي مالي إلا أخت واحدة أسماء فمن الأخت الأخرى؟- قال: إنه ألقي في نفسي أن في بطن بنت خارجة جاريةً] وبنت خارجة : هي زوجة أبي بكر الصديق ، وهكذا حصل وصار لـعائشة أختٌ أخرى وورثت معها.

أما عمر رضي الله تعالى عنه: فإنه رجلٌ أجرى الله الحق على لسانه وقلبه، وهو رجل ملهم محدث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (في أمتي ناسٌ محدثون، منهم عمر) محدث ينطق بالحق، وما يظنه عمر يكون حقاً في الغالب وصحيحاً، هذه فراسة إيمانية يلقيها الله في قلب من يشاء من عباده، ودخل عليه قومٌ من مذحج فيهم الأشتر فصعّد عمر فيه النظر وصوبه، وقال: أيهم هذا؟ قالوا: مالك بن الحارث ، قال: ماله قاتله الله؟ إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيبة، وبعد عمر حصل من الأشتر فتنة عظيمة على المسلمين فعلاً، عرف عمر ذلك من وجه الأشتر .

ودخل المدينة وفدٌ من اليمن وكان عمر مع الصحابة في المسجد، فأشاروا إلى رجلٍ من الوفد، وقالوا لـعمر : هل تعرف هذا؟ قال: لعله سواد بن قارب ، فكان كذلك، يسمع به ولم يره، لكن لما رأى وجهه بالفراسة عرف أن هذا هو فعلاً فكان كذلك.

وكان عمر رضي الله عنه يطوف في البيت، فسمع امرأةً تنشد في الطواف قائلة:

فمنهن من تُسقى بعذبٍ مبـردٍ     نقاخٍ فتلكم عند ذلك قرت

ومنهن من تسقى بأخضرَ آجن      أجاجٍ ولولا خشية الله رنت

من النساء من تشرب عذباً زلالاً، ومن النساء من تشرب أخضر أجاجاً معفناً، ريحه سيئة، فتفرس عمر رضي الله عنه ما تشكوه، ما هو مدلول كلامها؟ فبعث إلى زوجها فاستنكهه -أي: شم رائحة فيه- فإذا هو أبخر الفم، وبخر الفم مرض: عبارة عن رائحة في الفم كريهة مستمرة تكون في أفواه بعض الناس، لا يكاد يوجد لها علاج؛ لأنها شيء ذاتي جعلها العلماء من العيوب في الرجل التي تبيح للمرأة طلب الطلاق إذا لم تتحملها، كما يباح للمرأة مثلاً طلب الطلاق إذا كان الرجل عقيماً لا ينجب، هناك عيوب يجوز للمرأة بها طلب الطلاق، هذه جاءت تشكو إلى عمر ، وتقول:

فمنهن من تسقى بعذبٍ مبـردٍ     نقاخ فتلكم عند ذلك قرت

ومنهنّ من تسقى بأخضر آجنٍ      أجاجٍ ولولا خشية الله رنت

فلما أتى به عمر واستنكهه عرف القضية أنه أبخر الفم، فأعطاه خمسمائة درهم وجارية على أن يطلقها ففعل.

وأما عثمان رضي الله عنه، فله من ذلك أيضاً نصيبٌ جيد، فإنه حصل أن رجلاً مر بالسوق فنظر إلى امرأةٍ لا تحل له، فلما دخل على عثمان نظر إليه عثمان رضي الله عنه، قال: [يدخل رجل علينا، وفي عينه أثر الزنا -وزنا العينين النظر- فقال له الرجل: أوحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. ولكن برهانٌ وفراسة] ومثل هذا كثيرٌ عن علي رضي الله عنه.

وممن اشتهر بالفراسة في التاريخ الإسلامي إياس القاضي رحمه الله، إياس القاضي لما تولى القضاء في البصرة فرح به العلماء، حتى قال أيوب : لقد رموها بحجرها. أصابوا الرجل المناسب في المكان المناسب، رموها بحجرها وجاء الحسن وابن سيرين فسلمَّا عليه فبكى إياس وذكر الحديث: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وواحد في الجنة) فقال الحسن : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء:78] إلى قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79] ثم جلس للناس في المسجد واجتمع عليه الناس للخصومات، فما قام حتى فصل سبعين قضيةً حتى كان يشبه بـشريح القاضي ، وكان إذا أشكل عليه شيءٌ بعث إلى محمد بن سيرين فسأله عنه.

هذا إياس القاضي رحمه الله له قصص عجيبة في الفراسة ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى، ومن هذه القصص التي ذكروها أن إياساً القاضي جاءه رجلٌ استودع أمانةً من مالٍ عند آخر ثم رجع فطلبه فجحده، فأتى صاحب الحق إياساً فأخبره فقال له إياس : انصرف واكتم أمرك ولا تعلمه أنك أتيتني ثم عد إليّ بعد يومين، فدعا إياس المودع المؤتمن الذي جحد، فقال: قد حضر مالٌ كثيرٌ وأريدُ أن أسلمه إليك أفحصينٌ منزلك؟ قال: نعم. قال: فأعد له موضعاً وحمالين، وعاد الرجل إلى إياس ، فقال: انطلق إلى صاحبك فاطلب المال، فإن أعطاك فذاك، وإن جحدك فقل له: إني سأخبر القاضي.

فأتى الرجل صاحبه، فقال: مالي وإلا أتيتُ القاضي وشكوت إليه وأخبرته بأمري فدفع إليه ماله؛ لأنه الآن لا يريد أن تتشوه سمعته عند القاضي، والقاضي وعده أن يضع عنده مالاً كثيراً وأن يجعله مقرباً منه، فدفع إليه ماله، فرجع الرجل إلى إياس فقال: أعطاني المال، وجاء الرجل الموعود إلى إياس في الموعد فزجره وانتهره وقال: لا تقربني يا خائن.

وتقدم إلى إياس بن معاوية أربع نسوة فقال إياس : أما إحداهنّ فحامل، والثانية مرضع، والثالثة ثيب، والأخيرة بكرٌ. فنظروا فوجدوا الأمر كما قال: قالوا: كيف عرفت؟ قال: أما الحامل فكانت تكلمني وثوبها مرفوعٌ عن بطنها فعرفتُ أنها حامل، وأما المرضع فكانت تضرب ثديها، فعرفتُ أنها مرضع، وأما الثيب فكانت تكلمني وعينها في عيني، فعرفتُ أنها ثيب، وأما البكرُ فكانت تكلمني وعينها في الأرض فعرفتُ أنها بكرٌ.

وكذلك من القصص التي حدثت له: أن شخصاً تحاكم إليه هو ورجلٌ آخر يدعي مالاً قد جحده الآخر، فقال إياس للمودع: أين أودعته؟ قال: عند شجرة في بستان -سلمته المال عند شجرة في بستان- فقال: انطلق إليها فقف عندها لعلك تتذكر، وفي رواية: هل تستطيع أن تذهب إليها فتأتي بورقٍ منها؟ قال: نعم. قال: فانطلقَ وجلسَ الآخر الجاحد عند إياس ، فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه ثم استدعاه فجأةً وقال له: أوصل صاحبك بعد إلى المكان؟ فقال: لا بعد أصلحك الله، فقال: قم -يا عدو الله- فأدِّ إليه حقه، وإلا جعلتك نكالاً، فقام فدفع إليه وديعته.

وتحاكم إليه اثنان في جاريةٍ فادعى المشتري أنها ضعيفة العقل، فقال لها إياس : أي رجليك أطول؟ فقالت: هذه، فقال لها: أتذكرين ليلة ما ولدتِ؟ قالت: نعم. فقال للبائع: ردها ردها..

وكذلك قال الثوري عن الأعمش : دعوني إلى إياس فإذا رجلٌ كلما فرغ من حديثٍ أخذ في آخر، وكان ذلك من حاله رحمه الله تعالى.

وأما الشافعي رحمه الله فكان صاحب فراسةٍ أيضاً: ودخل اليمن خصيصاً لطلب كتب الفراسة وشرائها، وحصل له موقفٌ قال: مررتُ في طريق بفناء دار رجلٍ أزرق العينين، ناتئ الجبهة، سناط، فقلت: هل من منزل أبيت عندك؟ قال: نعم. قال الشافعي: وهذا النعتُ أخبث ما يكون في الفراسة، تفرست في أن هذا الرجل لئيم، لكنه رضي أن يؤويني فأنزلني وأكرمني، فقلت: أغسل كتب الفراسة إذا رأيت هذا -الآن أصبحت كتب الفراسة فاشلة- فلما أصبحتُ انتهت الضيافة قلت له: إذا قدمت مكة فاسأل عن الشافعي ؟ -يعني: من باب المكافأة بالمثل إذا جئت إلى مكة اسأل عن الشافعي حتى إذا جاء يرد له كرم الضيافة- فقال: أمولىً لأبيكَ كنتُ -أنا عبد عند أبيك؟- قلت: لا. قال: أين ما تكلفتُ لك البارحة؟ فوزنتُ له ما تكلف، وقلتُ: بقي شيءٌ آخر؟ قال: كراء الدار، ضيقتَ على نفسي قال الشافعي : فوزنتُ له، فقال: امضِ أخزاك الله فما رأيت شراً منك، هذا كلام صاحب البيت.

ومما يذكره العلماء في الفراسة أهمية فراسة العالم مع طلابه، كما ذكر الماوردي رحمه الله في كتاب أدب الدنيا والدين قال: وحكي أن تلميذاً سأل عالماً عن بعض العلوم فلم يفده، فقيل له: لِمَ منعته؟ فقال: لكل تربةٍ غرس، ولكل بناءٍ أس، وقال بعض البلغاء: لكل ثوبٍ لابس، ولكل علمٍ قابس.

وينبغي أن يكون للعالم فراسةٌ يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته، حتى يعرف كم يعطيه من العلم وقدر استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه أو يضعف عنه ببلادته، فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم.

وقد روي إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [إذا أنا لم أعلم ما لم أرَ، فلا علمتُ ما رأيت].

أما مسألة القضاء بالفراسة هل يجوز أن يقضي القاضي بفراسة؟

إن فقهاء المذاهب بالجملة لا يرون الحكم بالفراسة، فإن مدارك الأحكام معلومةٌ شرعاً مدركةٌ قطعاً، وليست الفراسة منها؛ لأنها حكم بالظن والحزر والتخمين، وهي تخطئ وتصيب.

هناك مسألةً مهمة نبه عليها ابن القيم رحمه الله في كتابه الطرق الحكمية وفي كلام نفيس ذكر مسألة الحكم بالقرائن، وما يظهر وما يلوح وما يفهمه القاضي وما يستشفه من الأمر، قال: أما بعد:

وسئلت عن الحاكم أو الوالي يحكم بالفراسة والقرائن التي يظهر له فيها الحق، والاستدلال بالأمارات ولا يقف مجرد ظواهر البينات والإقرار حتى إنه ربما يتهدد أحد الخصمين، وربما سأله عن أشياء تدله على صورة الحال، فهذه مسألة كبيرة عظيمة النفع ... إلخ. ثم قال: وإذا تأملت الشرع وجدته يعول على ذلك -أي على القرائن والحكم بها- ومن هذا مستند ذلك قوله تعالى: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27].

ونقل عن ابن عقيل رحمه الله قوله في مسألة اعتماد القرائن قال: وفي العطار والدباغ إذا اختصما في الجلد أنه لمن؟ للدباغ، العطار ما دخله في الجلد، والنجار والخياط إذا تنازعا في المنشار، للنجار، والطباخ والخباز إذا تنازعا في القدر، للطباخ.. ونحو ذلك، فهل ذلك إلا الاعتماد على الأمارات، وكذلك الحكم بالقافة، القافة: الذين يعرفون الأثر وإذا رأوا أثر شخص على الأرض يعرفون من أي قبيلة، كم عمره، ذكر أو أنثى، وإذا كانت أنثى حاملاً أو ليست بحامل، وربما يعلم من أثر المرأة الحامل في أي شهرٍ هي.

هذه فراسة يرزقها الله من يشاء من الناس، فمن بني مدلج أناس مشهورون بالقيافة كما أن في بني مرة الآن أناس مشهورون بالفراسة، أو بالقيافة، فالقيافة نوع من الفراسة، وكذلك يمكن أيضاً من رؤية الأرجل أن يعرف هذا ولد فلان أو لا.

القيافة يؤخذ بها في معرفة الأنساب

وقد حدثت قصةٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي قصة مجزز المدلجي رضي الله تعالى عنه، فإنه دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وأسامة بن زيد وأبوه زيد بن حارثة نائمين عند النبي عليه الصلاة والسلام قد تغطيا، وأقدام أسامة ظاهرة من تحت الغطاء وأقدام أبيه زيد ظاهرة، كان أسامة بن زيد أسود كالفحم، وكان زيد بن حارثة أبيض كالقطن، فطعن المنافقون في نسب أسامة بن زيد ، يعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام يحب أسامة بن زيد وأباه وأن كلاً منهما حب النبي عليه الصلاة والسلام، فمن باب إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يطعنون في نسب أسامة من أبيه زيد ، فدخل مجزز على النبي عليه الصلاة والسلام وأسامة وأبوه نائمين، فنظر إلى الأقدام من غير ما أحد يسأله ولا يستشيره ولا يطلب شهادته، فنظر فقط للأقدام فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، لا يعرف الآن من النائم ولا من الأشخاص والألوان مختلفة، قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر النبي صلى الله عليه وسلم جداً؛ لأن الشهادة جاءت من شخص غير متواطئ ولا مستشار، شهد من نفسه فكانت شهادته كاتمةً ومخرسةً لألسن المنافقين.

وكذلك وحشي قاتل حمزة لما أسلم وجاءه رجلان واحد منهم معتجر بعمامته متلثم، ولما رآه وحشي سأله الشخص تعرفني؟ فقال: لا. إلا أن تكون أنت ابن فلانة فقد حملتُكَ وأنتَ رضيع -كم القصة؟ يمكن فيها أربعين سنة- فعرفه، ومع أنه ما رآه إلا وهو رضيع من قبل، وهذه فراسةٌ عظيمة، قيافة عظيمة، فإذاً: للفراسة أشياء يستدل بها كالخلق في التقسيمات في الوجه والأعضاء واللون والهيئة يستدل بها على أمور:

على نسب شخص، وهذه مسألة لها دخل في قضية القضاء إذا ادعى عدة آباء ولداً، كل واحد يقول: هذا ولدي، وليس هناك بينة فيعمل بكلام القافة، فيؤتى بالقائف الخبير الذي جرب من قبل، يجرب يقال له: هذا ولد لم نعرف من أبوه، يقول: ولد فلان ويكون كلامه صحيحاً والثاني والثالث، نختبر القائف فإذا عرفنا خبرته وصدقه فهنا يأخذ كلامه في مثل هذه الحالة، عندما لا يدرى أن هذا ولد من، فيختصم عليه مجموعة أو اثنان أو أكثر فإنه يعمل بقوله.

يؤخذ بالقرائن في أحكام الحوادث الكلية

وكذلك يؤخذ بالقرائن في فقه أحكام الحوادث الكلية وفقه نفس الواقع وأحوال الناس ويميز بها بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل، وهذا من عدل هذه الشريعة ومجيئها بما يسعد الخلائق وأنه لا عدل فوق عدلها.

وكذلك فإن النبي سليمان عليه السلام قد استدل بالمحق من المبطل لما جاءت المرأتان كل واحدة تدعي الولد، فحكم به داود عليه السلام للكبرى، فلقيهما سليمان عندما خرجتا من عنده فسألهما عن القضية فأخبرتاه أنهما اختصمتا في الولد، أختان كل واحد معها ولدها، فخرجت إلى البرية، فجاء الذئب فعدا ببنت إحداهما فأخذه، فاختصمتا في الولد، كل واحدة تقول: هذا ولدي، جاءتا إلى داود فحكم به للكبرى؛ لأن الولد كان مع الكبرى، فلما خرجتا من عنده سألهما سليمان، ثم قال سليمان: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، نصف لها ونصف لك، فقالت الصغرى: هو ولدها يرحمك الله، فقضى به للصغرى، وعرف أن الرحمة ما جاءت إلا من الأم الحقيقية، فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة؟! فاستدل برحمة الصغرى ورضا الكبرى على ذلك وأن الصغرى رفضت ذبح صغيرها بسبب ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله في قلب الأم، وقويت هذه القرينة عنده حتى قدمها على إقرارها، وحكم به لها مع قولها هو ابنها.

يؤخذ بالقرائن في مسألة إقرار المريض بمرض الموت

وكذلك يعمل بالقرائن في مسألة إقرار المريض بمرض الموت بمالٍ لوارثه، فإذا قال شخص وهو على مرض الموت: أنا أخذت من ولدي هذا فلان مائة ألف لانعقاد سبب التهمة، واعتماداً على قرينة الحال في قصده تخصيصهم، وكذلك في الشهادة التي ذكرها الله في كتابه: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ [يوسف:25] الآيات. فقال: فتوصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب.

وكذلك فإن القرينة الظاهرة التي جعلت الصحابة يحكمون بوجوب الحد برائحة الخمر من في الرجل أو قيئه خمراً، يعد اعتماداً على القرينة الظاهرة، ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار.

قال في الأمارات والعلامات: وكذلك إذا رأينا رجلاً مكشوف الرأس وليس ذلك عادته -عادته يلبس عمامة- وآخر هارباً أمامه بيده عمامة وعلى رأسه عمامة، حكمنا بالعمامة للمكشوف، حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعاً ولا نحكم بها لصاحب اليد ولا نقول: وجدت بيده فهي له، من القرينة القوية التي قامت.

النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالقرينة

ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه وادعى نفاده فقال له: العهد قريب والمال أكبر من ذلك، فهاتان قرينتان في غاية القوة، كثرة المال وقصر المدة، والقصة بأكملها رواها ابن عمر رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر ، حتى ألجأهم إلى قصرهم والحصن فغلب على الزرع والأرض والنخل فاستولى عليها بالقوة، فصالحوه على أن يجلوا من حصونهم ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصخراء والبيضاء -الذهب والفضة- واشترط عليهم النبي عليه الصلاة والسلام ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد ولا أمان، يقتلوا إذا كانوا كاذبين وغشوا.

فغيبوا اليهود، أخفوا مسكناً فيه مالٌ وحليٌ لـحيي بن أخطب ، كان قد احتمله معه إلى خيبر ، حين أجليت النظير. لجأ حيي بن أخطب من نظير إلى خيبر ، ومعه هذا المال والذهب، فلما أجلي يهود خيبر أخفوا هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب -وكان حيي قد قتل-: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النظير؟ قال: أذهبته النفقات والحروب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد قريب والمال أكثر) ما مضى مدة طويلة على المال .. العهد قريب والمال كثير، لا يمكن أن يكون قد ذهب بالنفقات فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير، سلم اليهودي إلى الزبير فمسه بعذاب، لما قامت القرينة قال له: اضربه ليعترف، وكان قبل ذلك دخل خربةً فقال -هذا العم لما ضرب- قال: رأيت حيي ابن أخي يطوف في خربةٍ هاهنا، فذهبوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق بالنكث الذي نكثوا.

ففي هذه السنة الصحيحة الاعتماد على شواهد الحال والأمارات الظاهرة، وعقوبة أهل التهم، وجواز الصلح على الشرط وانتقاض العهد الذي خالفوا وإخزاء الله لأعدائه بأيديهم وسعيهم، فهو سبحانه قادرٌ على أن يطلع رسوله على الكنز بالوحي، لكن جعلها تمضي لكي يعرف القضاة من بعد النبي عليه الصلاة والسلام مسألة الأخذ بالقرائن.

وكذلك قال: ومن ذلك أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل : كل واحد يقول: أنا قتلته، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. قال: فأرياني سيفيكما، فلما نظر فيهما قال لأحدهما: هذا قتله، وقضى له بسلبه) فمن خلال السيوف عرف -بالقرائن- من هو الذي قتله فعلاً، وقضى له بسلبه، وهذا من أحسن الأحكام وأحقها بالاتباع فالدم في النصل شاهدٌ عجيب.

وقد روى ابن ماجة وغيره عن جابر بن عبد الله قال: (أردت السفر إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر ، قال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً) الآن جابر كان عليه ديون ويريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعطيه خمسة عشر وسقاً من تمر خيبر ، من قبل وكيل النبي عليه الصلاة والسلام، كيف يعرف الوكيل أن جابراً فعلاً عنده وكالة بأن يأخذ خمسة عشر وسقاً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـجابر (فإذا طلب منكَ آيةً فضع يدك على ترقوته) قال: وكيلي إذا طلب منك دليلاً فضع يدك على ترقوته، كان يوجد اتفاق سابق بين النبي عليه الصلاة والسلام ووكيله قبل أن يذهب على هذه العلامة وهي: إذا جاءك شخص يدعي شيئاً مني ووضع يده على ترقوتك اعرف أنه محق.

فهذا اعتمادٌ في الدفع إلى الطالب على مجرد العلامة، وإقامة لها مقام الشاهد، فالشارع لم يلغِ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال.

قال ابن القيم: ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لهم لم يقدموا عليها شهادةً تخالفها، وكذلك فإن الأمارات والفراسة ربما تدفعهم إلى الارتياب في حال المدعي، فيسألونه عن تفاصيل زائدة، وعن صحة ما يقول: وأين كان ونظر الحال، ونحو ذلك من الأشياء والأوصاف التي تقود في النهاية إلى معرفة الحقيقة.

القاضي إياس والقضاء بالقرائن والشواهد

ومما حدث في التاريخ أيضاً من قصص إياس رحمه الله في هذا الجانب، مسألة العمل بالقرائن، قال: أودع رجلٌ بعض شهوده كيساً مختوماً وذكر أن فيه ألف دينار -وضع كيساً فيه ألف دينار عند شخص بحضور شهود- فلما طالت غيبة الرجل المودع ماذا فعل المودع عنده؟

فتق الكيس من أسفله، وأخذ الدنانير وجعل مكانها دراهم -الدنانير ذهب والدراهم فضة قيمتها أقل- وأعاد الخياطة كما كانت، وجاء صاحبها بعد سنوات فطلب وديعته، فدفع إليه الكيس بختمه لم يتغير مختوم من فوق ما تغير الختم ولا انكسر فلما فتحه وشاهد الحالة رجع إليه قال: إني أودعتك دنانير والذي دفعتَ إلي دراهم، فقال: هو كيسك بخاتمك، فاستعدى عليه القاضي فأمر بإحضار المودع، فلما صار بين يديه قال له القاضي: منذُ كم أودعك هذا الكيس؟ -انظر الآن فراسة وحنكة القاضي، قضاة المسلمين كانوا على درجة عالية من الذكاء والخبرة والفراسة والعمل والأمارات والنباهة، ما كانوا مغفلين ولا نائمين ولا جهلة، هذه مسألة دماء وأموال: ما يحكم فيها إلا صاحب خبرة وعلم، القاضي هذا كان إمام البلد له وزنه- قال: منذُ خمس عشرة سنة، فأخذ القاضي تلك الدراهم وقرأ سكتها، مسكوكة في عام كم؟ فإذا فيها ما قد ضرب من سنتين أو ثلاث، فأمره بدفع الدنانير إليه وأسقطه ونادى عليه، أي: شهر فيه وسفهه وعاقبه وحكم عليه بأن يرد الدنانير.

الشيخ صالح بن عثمان وشدة فراسته

ومن هذا القبيل ما حدث في زماننا هذا الشيخ صالح بن عثمان القاضي، قاضي عنيزة ، شيخ الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، كان قاضياً يقضي في الطريق ويقضي عند بيته ويقبل به الناس، وكان صاحب حلم وورع وتقوى ودقة وخبرة وفراسة، وقد جاءه مرةً رجل يعرفه أنه من أهل الصلاح يعمل جزاراً، وآخر بدوي.. -شخص آخر بدوي- يقول المدعي هذا: جاءني هذا البدوي وباع علي غنمه، فأعطيته الدراهم حول المغرب، ثم جاءني ثاني يوم في النهار يقول: أعطني ثمن الغنم، فقلت: أعطيتك إياها بالأمس، فقال: ما أعطيتني شيئاً، فذهب إلى الشيخ، وكان القاضي يحمس قهوته. -ماء يفور على النار ويغليه لأجل القهوة- فقال: يا أيها البدوي! في جيبك دراهم، قال: نعم. قال: أعطني إياها، فسكب الشيخ القاضي الماء في الإناء ثم طرح الدراهم التي مع البدوي في الإناء فطفا الدهن على سطحها، فقال: يا كذاب! هذه دراهم جزار، إذاً: هو أعطاك ثمنها، فالشاهد الآن أن هذه القرائن التي يعرف بها أهل الفراسة من القضاة وأهل العلم والخبرة يعرفون بها الأحوال فيضعون الحق في نصابه.

القاضي أبو حازم وتأخير الحكم بسبب قرينة

وكذلك يقول مكرم بن أحمد : كنتُ في مجلس القاضي أبي حازمأبو حازم كان قاضياً مشهوراً- فتقدم رجلٌ شيخٌ ومعه غلامٌ حدث -جاء شخص كبير في السن ومعه غلام صغير، معه شاب حدث- فادعى الشيخ على الغلام هذا ألف دينار ديناً، قال: هذا استلف مني ألف دينار، فقال القاضي للشاب الحدث: ما تقول؟ قال: نعم. فعلاً أخذت منه ألف دينار، فقال القاضي للشيخ: ماذا تريد؟ قال: أريد أن تحبسه حتى يعيد إلي المال، فتفرس أبو حازم فيهما ساعة، نظر في هذا وفي هذا، ثم قال: اجلس حتى أنظر في أمركما في مجلسٍ آخر.

فيقول مكرم : قلت للقاضي: لم أخرت حبسه؟ قال: ويحك، إني أعرف في أكثر الأحوال في وجود الخصوم وجه المحق من المبطل، حتى صارت لي بذلك دراية، وقد وقع إليّ أنا الآن مرتاب، بسبب سماحة هذا بالإقرار، يعني: هذا الحدث بسرعة يقر بالألف! ولعله ينكشف لي من أمرهما ما أكون معه على بصيرة، أما رأيت قلة تقصيهما في الناكرة وقلة اختلافهما وسكون طباعهما مع عظم المال -مع أن المال كثير ما جادل ولا ناقش ولا أحد دافع التهمة- وما جرت عادة الأحداث بفرق التورع -هؤلاء الصغار لا يعترف بسهولة! هذا مسألة فيها شيء- وما جرت عادة الأحداث بفرق التورع حتى يقر مثل هذا طوعاً عجلاً منشرح الصدر يقر على المال، قال: فنحن كذلك نتحدث إذ أتى الآذن يستأذن على القاضي لبعض التجار، فأذن له، فلما دخل التاجر قال: أصلح الله القاضي إني بليتُ بولدٍ حدث يتلف مالي، ويظفر به في القيان عند فلان -في الأغاني واللهو- فإذا منعته -إذا لم أعطه نقوداً يلعب بها ويلهو بها، ويسافر بها أو يشتري سيارات يفحط بها- فإذا منعته احتال بحيلٍ تضطرني إلى التزام الغرم عنه، وقد نصب اليوم صاحب القيان يطالب بألف دينارٍ حالاً وبلغني أنه تقدم إلى القاضي يقر له فيحبسه، فما هي الخطة الآن؟

الجواب: يقول هذا الرجل: الآن الولد متفق مع صاحب الملاهي بأن يذهب عند القاضي والولد يعترف أن لصاحب الملاهي ألف دينار، فماذا يفعل القاضي؟ يحبس الولد، ثم إذا انحبس الولد قامت أمه نكدت عيشتي حتى أقضي الدين عن الولد وأدفع الألف دينار إلى المعترَف له، ويتقاسمانه بعد ذلك.

فلما سمعتُ بذلك بادرت إلى القاضي فتبسم القاضي وقال: كيف رأيته؟ فقلت: هذا من فضل الله على القاضي، فقال: علي بالغلام والشيخ، فأرهب الشيخ ووعظ الغلام فأقرا، فأخذ الرجل ابنه وانصرف، فالمسألة مسألة دراسة عند القاضي؛ ولذلك يعرف بها المحق من المبطل.

وكذلك قال: وقع من الفراسة أن ابن عمر رضي الله عنه لما ودع الحسين قال: [أستودعك الله من قتيل] ومعه كتب أهل العراق فكانت فراسة ابن عمر أصدق من كتبهم، وفعلاً قتل الحسين ، ومن ذلك أيضاً أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما تفرس أنه مقتول ولا بد، أمسك عن القتال وعن الدفاع عن نفسه لئلا يجري بين المسلمين قتال وآخر الأمر يقتل هو. هذه طائفة من الأخبار التي ذكرها ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية في هذا الموضوع.

وقد حدثت قصةٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي قصة مجزز المدلجي رضي الله تعالى عنه، فإنه دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وأسامة بن زيد وأبوه زيد بن حارثة نائمين عند النبي عليه الصلاة والسلام قد تغطيا، وأقدام أسامة ظاهرة من تحت الغطاء وأقدام أبيه زيد ظاهرة، كان أسامة بن زيد أسود كالفحم، وكان زيد بن حارثة أبيض كالقطن، فطعن المنافقون في نسب أسامة بن زيد ، يعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام يحب أسامة بن زيد وأباه وأن كلاً منهما حب النبي عليه الصلاة والسلام، فمن باب إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يطعنون في نسب أسامة من أبيه زيد ، فدخل مجزز على النبي عليه الصلاة والسلام وأسامة وأبوه نائمين، فنظر إلى الأقدام من غير ما أحد يسأله ولا يستشيره ولا يطلب شهادته، فنظر فقط للأقدام فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، لا يعرف الآن من النائم ولا من الأشخاص والألوان مختلفة، قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر النبي صلى الله عليه وسلم جداً؛ لأن الشهادة جاءت من شخص غير متواطئ ولا مستشار، شهد من نفسه فكانت شهادته كاتمةً ومخرسةً لألسن المنافقين.

وكذلك وحشي قاتل حمزة لما أسلم وجاءه رجلان واحد منهم معتجر بعمامته متلثم، ولما رآه وحشي سأله الشخص تعرفني؟ فقال: لا. إلا أن تكون أنت ابن فلانة فقد حملتُكَ وأنتَ رضيع -كم القصة؟ يمكن فيها أربعين سنة- فعرفه، ومع أنه ما رآه إلا وهو رضيع من قبل، وهذه فراسةٌ عظيمة، قيافة عظيمة، فإذاً: للفراسة أشياء يستدل بها كالخلق في التقسيمات في الوجه والأعضاء واللون والهيئة يستدل بها على أمور:

على نسب شخص، وهذه مسألة لها دخل في قضية القضاء إذا ادعى عدة آباء ولداً، كل واحد يقول: هذا ولدي، وليس هناك بينة فيعمل بكلام القافة، فيؤتى بالقائف الخبير الذي جرب من قبل، يجرب يقال له: هذا ولد لم نعرف من أبوه، يقول: ولد فلان ويكون كلامه صحيحاً والثاني والثالث، نختبر القائف فإذا عرفنا خبرته وصدقه فهنا يأخذ كلامه في مثل هذه الحالة، عندما لا يدرى أن هذا ولد من، فيختصم عليه مجموعة أو اثنان أو أكثر فإنه يعمل بقوله.