أرشيف المقالات

على هامش كتاب عبقرية محمد

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
في مجلس الأستاذ (أبي الوفاء الشرقاوي) (مهداة إلى الأستاذ الكبير (عباس محمود العقاد)) للأستاذ محمد حسنين مخلوف آذنت الشمس بالمغيب ونحن في حضرة الأستاذ أبي الوفاء الشرقاوي يحدثنا فننعم بسحر البيان، وعذوبة النغم الموسيقي ينبعث من قلبه المطمئن، ويتنقل في أبراج الفكر كما تجري الشمس في مسارها المقدر منذ الأزل وإلى الأبد، رتيبة الحركة، رصينة الخطوة، فيبعث في القلوب حرارة الإيمان، ويهبها نفحة من سر الوجود، ويضفي عليها من نعيم الأمل أشعة مضيئة قوية.
وأشرقت نفسه العالية، وانطلق لسانه الفصيح، وضاء جبينه الأسمر العريض، بنور العقل القوي النادر، وراح يترسل ويتبسط وهو يمد يده للِصَّفِّي الحبيب يتناول الكتاب الجديد.
ودار الحديث حول المؤلف الموهوب صاحب القلم الجبار، عدة العقل الشرقي وذخره في ميدان المنطق والبيان. قلت: لقد كان دعاء النبي ﷺ: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) وإن لهذا الكتاب في النفس فرحة، كفرح المسلمين بعمر بن الخطاب.
قال الإمام: - بعض هذا.
ولنجعل كتابه فيصلاً - أرأيتم قصة شيخ جليل كان يرشد ويعلم، وكان له تلاميذ ومريدون، وكان من أحبهم إليه شاب صاحب علم وقلم، وفلسفة وبلاغة، كتب في قصة آدم عليه السلام رسالة لطيفة، حتى إذا أتمها مضى بها إلى الشيخ يستأذنه في قراءتها، فأذن له.

وجلس الشيخ يسمع والمؤلف يقرأ.

وكانت العبارة عالية، والأسلوب خلاباً.
ومضت آيات الإعجاب الشديد تتدفق من فم الشيخ عند كل مقطع.
فهو لا يخفي سروره ولا يكتم طربه من قوة السبك وإشراق الديباجة، ويهز رأسه ويدق كفاً بأخرى وهو يقول: (الله الله يا شيخ علي) وكان هذا اسم المؤلف (إن من البيان لسحراً يا شيخ علي) (هكذا العلم يا شيخ علي) واتصلت حلقة الإعجاب وتدفق الشيخ علي يتابع فصول الرسالة تلاوة حتى جاء ذكر الشجرة والثمرة.

فوصف الأمر بأنه معصية من آ السلام - وكان هذا يخالف ما يراه الشيخ الجليل - فإذا به يستمر في هز رأسه هكذا وفي دق كفيه هكذا ويصيح: (كفرت يا علي) وطوى الشاب رسالته وعاد بها إلى حيث لا يعرف الرواة مصيرها.
وقام الإمام من المجلس وبقينا نحن لنقضي السهرة، وكتاب العقاد سميرنا المؤنس، نستروح نسمات الروح الأمين من ثنايا السطور والكلمات.
وقد تحلقنا حول الشعلة الوهاجة المنبعثة من (عبقرية محمد) عليه السلام. وأيم الحق لقد كانت براعة العقاد بما صورت من عظمة العبقرية المحمدية في بلاغة معجزة، ومنطق قوي، وعلم غزير.
تأخذ بمجامع القلوب وتتكشف عن شخصيته الفذة ولما كنا من غدنا لقينا الإمام في مجلسه وقد عاد يحنو على (عبقرية محمد) عليه السلام وتبددت في وجهه الوسيم تباشير الرضا.
وعدنا نصل حديث الأمس فقلنا: وكيف حال صاحبنا؟! قال الإمام: لقد جاوز الشجرة والثمرة.

وإذا كان للقصة أن تعود (فالله الله يا عقاد!) قلنا: لقد جعل المؤلف فساد المجتمع.
والبيئة والخلق وطغيان الشهوات واستشراء الضلال وانحلال الوشائج، كل أولئك إلى لهفة العقول على مخرج من ظلام الجاهلية وانحطاط الوثنية وشعوذة الكهان.

مدعاة لتوقع رسالة نبي، أو هي إرهاص بمقدمه.
قال الإمام: إنه لحق.
وإنه لنظر سديد ومنطق سليم.
كان التوفيق رائد العقاد في تصويره وعرضه.
وإنه ليحاصر شرود العقل بقوة الحجة.
ويأخذ عليه المسالك ببراعة خلابة، كمهندس عبقري يوافيه السيل بالماء العمم فلا يزال به يجمعه ويركزه ويشق له المجرى العميق المستقيم، فيسيطر عليه ويحقق آية الله في إرساله.
لقد بلغ المؤلف هنا غاية الروعة العقلية، وذروة القوة المنطقية قلنا: أو نقيس فساد الماضي بفساد الحاضر؟ وضلال العقل الوثني الذي كلن يعبد الحجر والحيوان ويهيم في فيافي الظلام بين شهوة وقوة وفتنة.
.
بضلال العقل الوثني اليوم الذي يقدس الشهوة، ويتعبد بالرذيلة، ويهيم في فيافي الظلام بين مادية وقسوة وفتنة؟! قال الإمام: إذا أغفلنا الفارق الجوهري بين الحالين جاز لنا أن نعقد القياس بينهما.

ولكن إذا كانت البصيرة مشرقة والمحاجة بريئة والفهم مستقيما لم يقع هذا.

فهم في الماضي كانوا في حيرة مرهقة.

مرضى ينقصهم طبيب ودواء؛ ولكنهم اليوم مرضى لديهم الطبيب والدواء.
وإنما ينقصهم عقل رشيد وإدراك سليم قلنا: وهل لنا أن نسأل: (وأين النبي المنتظر؟!) قال الإمام: كيف السؤال؟! عندما كان النهر يجري دافقاً سيالاً يحمل الخصب والنماء، تركوه ينحدر إلى البحر ويتلاشى بين أمواجه.
فلما تكشفت عنهم غاشية الجهل، واستيقظت فطرة الإدراك، عرفوا نظام الري والزراعة؛ ولما تدرجت فطرة الإدراك في مراقي الكمال عرفوا كيف يستغلون مساقط المياه في توليد قوة الكهرباء؛ فاتسعت آفاق النفع وتعددت صوره وأشكاله.
فإذا جئنا اليوم لنهرنا هذا - وأشار إلى النيل - وأردنا أن نفيد منه كما أفاد المتحضرون من أنهارهم، ترانا نبحث عن المخترع الذي يجري التجارب، ويفني العمر ليبتكر لنا نظام توليد الكهرباء من الماء؟! أم ترانا نعمد إلى ما وصلوا إليه هناك في الغرب من نتائج في هذا السبيل؟! قلنا: إذا كتب لنا التوفيق فنحن نطبق ما علمناه منهم قال الإمام: كذلك أمر الرسالة المحمدية.

كانت البشرية في فساد يتطلب علاجاً.

فجاءت نبوة محمد ﷺ علاجاً، وجاءت رسالته دواء، فشرعت نظاماً وحققت نفعاً، وقررت للعمران دستوراً مكيناً، وأضاءت الشعلة المقدسة الباقية على الزمان، وتركتها في أمة الإسلام سراجاُ منيراً، ونظاماً قويماً، تسعد ما استضاءت بنورها، وتمسكت بعروتها؛ وتشقى ما بعدت عنها وجاوزت حدودها.
وظلت هي على الدهر وهاجة النور خالدة الضياء.

فإذا فسد أمر البشرية اليوم واختل نظامها وعادت إلى وثنية منحطة، وضلت في ظلام الرذيلة والشهوة والقسوة.

لم تكن في حاجة إلى نبي جديد.

بل في حاجة إلى عقل كهذا - ولوح بالكتاب - يعود بالناس إلى حيث يجدون الطبيب والدواء.
وإلى ذهن خصيب موهوب يحسن مخاطبة العقول، وإلى رأس يحسن الفهم والتقدير ويملك البيان بمثل هذه الروعة في (عبقرية محمد).

نبي جديد؟! لعمر الحق أتسألون جادين أم هازلين؟! قلنا: معاذ الجلال في مجلس الإمام! إنما هي قولة أرسلها قلم في إحدى المجلات.
قال الإمام: خلوا عنكم هذا.

وخذوا فيما أنتم بسبيله من هذا الجد الرصين.
فإنما أنتم بصدد (عبقرية محمد) ﷺ يصورها لكم (عباس محمود العقاد) ونهض الإمام من مجلسه فقد آذنت صلاة العشاء (نجع حمادي) (لها بقية) محمد حسنين مخلوف

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢