شرح زاد المستقنع باب ديات الأعضاء ومنافعها [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يبارك لنا في أعمارنا، وأن يرزقنا الصواب والسداد في أقوالنا وأعمالنا، وأن لا يؤخرنا إلى شر، ولا يقدمنا إلى بلاء وضر.

يقول المصنف رحمه الله تعالى [ فصل: وفي كل حاسة دية كاملة ].

هذا الفصل عقده المصنف رحمه الله بعد الباب الذي تقدم، ومن عادة العلماء رحمهم الله في باب الديات؛ أن يتكلموا على الأصل، وهو دية الأنفس، ثم بعد ذلك يتكلمون على دية الأعضاء ومنافعها، ثم الشجاج والكسور.

فهنا أربعة أشياء:

أولها: الأعضاء.

وثانيها: منافع الأعضاء.

وثالثها: الشجاج.

ورابعها: الكسور.

بالنسبة للأعضاء، تقدم معنا فيما مضى في آخر الدروس بيان ديات أعضاء الإنسان، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وكذلك ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من القضاء والفتوى في مسائل الأعضاء.

شرع المصنف رحمه الله، فقال في قسم آخر: (فصل)، إذا قال الفقيه: (فصل) فمعنى ذلك أن هناك اشتراكاً أو رابطاً بين اللاحق والسابق، فإذاً: لابد من وجود ارتباط بين الفصل الذي نتكلم عليه اليوم، وبين المقطع الذي مضى معنا في آخر الدروس.

المقطع الذي مضى معنا في دية الأعضاء، بين فيه كيف تقسم الدية على ما في الإنسان منه شيء واحد، وما في الإنسان منه شيئان وأربعة كما تقدم، ثم بعد ذلك قال: (فصل) ولذلك يترجم بعض العلماء لهذا الفصل فيقولون: (فصل في دية المنافع) وبناء على ذلك سيتكلم عن القسم الثاني من الباب كله، فالباب في دية الأعضاء ومنافعها، وعليه فيكون قد قسم الباب إلى قسمين:

القسم الأول: الأعضاء.

والقسم الثاني: منافع الأعضاء.

المنافع: جمع منفعة، وهي ضد المضرة، ومنفعة الشيء: مصلحته التي تقصد منه، فاليد مصلحة الإنسان فيها أن يبطش بها، ويحمل، ويضع، ويكتب، وغير ذلك مما يكون من حركات اليد وأعمالها، والرجل منفعتها المشي عليها، والاعتماد عليها ونحو ذلك، واللسان منفعته الكلام، ومنفعته الذوق، والأنف منفعته الشم، والأذن منفعتها السمع، فهذه أعضاء خلقها العزيز العليم وقدرها بتقديره، وجعل فيها هذه المنافع، وكل منفعة من هذه المنافع بحثها العلماء رحمهم الله، ومن هنا كان من سمو الشريعة الإسلامية، وكمال منهجها، وعظم ما منحها الله عز وجل ووضع فيها من البركة والخير، أنها فصَّلت في أحكام الجنايات، حتى في أحكام الجنايات على الأعضاء -جملة وتفصيلاً- وعلى منافعها، ولن تجد على وجه البسيطة حكماً أتم من حكم الله عز وجل، ولا حاكم إلا الله سبحانه وتعالى: يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57] .

فالعلماء رحمهم الله ذكروا هذا القسم الثاني وهو ما يتعلق بالمنافع، وبناء على ذلك سيتحدث المصنف رحمه الله في الجناية على الحواس؛ حاسة السمع، وحاسة البصر، فلو أن رجلاً بطش برجل فضربه ضربة فأصبح المضروب -المجني عليه- أخرس لا يتكلم، أو أصبح أصم لا يسمع، أو ضربه ضربة أذهبت عقله -نسأل الله السلامة والعافية- أو أصبح لا يمشي، أو أصبح لا يستطيع الأكل، أو أصبح لا يستطيع الجماع، كل هذا محل سؤال، فكما بين العلماء رحمهم الله أحكام الجناية على الأعضاء وتقديرها كان من الأهمية واللازم أن يبينوا أحكام الجناية على المنافع وتقديراتها في شريعة الله عز وجل.

قوله رحمه الله: [وفي كل حاسة دية كاملة].

الحاسة: واحدة الحواس، وأحس بالشيء: إذا شعر به، والحواس: جملة من المعاني يستشعر بها الإنسان فيدرك بها الأمور، ويستطيع أن يميز بها الأشياء، ويفصل بعضها عن بعض، فحاسة البصر يميز بها ما لا يميزه بحاسة الشم وحاسة السمع، وهكذا حاسة العقل.

يقول رحمه الله: (في كل حاسة) وهذا بالاستقلال؛ يعني كل حاسة ينظر إليها منفردة، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الجناية على المنفعة كالجناية على العضو، والذي في كتاب الله عز وجل، الجناية على الأعضاء: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ [المائدة:45] فهذه كلها أعضاء من حيث الأصل، لكنها أعضاء لها منافع، والغالب في الجناية على المنافع أن يصرف إلى الدية؛ لأنه قد يتعذر أن يفعل بالجاني فعلاً يفقده ذلك المعنى الذي أفقده المجني عليه، لكن إذا أمكن أن يفعل بالجاني مثل فعله فلا إشكال، والغالب في هذه المسائل من مسائل الجناية على المنافع، وكثيراً ما تحدث في زماننا في حوادث السيارات ونحوها، وحوادث الأعمال في البناء، والمصانع، والحرف، وتحدث أيضاً في الطب، فالطبيب قد يعطي دواء يتسبب في ذهاب السمع، وقد يعطي دواء يتسبب في ذهاب البصر، وقد يعطي دواء يتسبب في ذهاب حاسة الشم، أو حاسة الكلام، وكل هذه تترتب عليها مسئولية متعلقة بمسئولية شرعية دنيوية قبل الآخرة، وهي ضمان هذا التلف، ووجوب الدية فيه.

يقول رحمه الله: (في كل حاسة) أي من الحواس (دية كاملة) وبناء على ذلك نقول: إن الجناية على العضو غير الجناية على الحاسة، فلو أنه قطع أذنه، فسرت الجناية حتى أتلفت السمع، فحينئذ عليه دية ونصف، دية السمع إذا ذهب السمع من الأذنين معاً، ودية الأذن التي هي نصف الدية لو قطع له أذنه اليمنى، قلنا: الأذن فيها نصف الدية، ثم سرى القطع حتى أذهب السمع فأصبح لا يسمع بالكلية بالأذنين، فحينئذ تجب عليه دية كاملة لذهاب السمع، ونصف دية لذهاب أحد العضوين المثنيين، فالأذنان في كل واحدة منهما نصف الدية، مثلما ذكرنا فيما تقدم معنا في دية الأعضاء، فنفصل بين الأعضاء وبين المنافع، وهناك فاصل بين الأعضاء والمنافع، فجعل رحمه الله الأصل أن كل حاسة لها ديتها المستقلة بها.

قوله: (في كل حاسة) الجناية على الحاسة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن تكون الجناية موجبة لذهاب الحاسة بالكلية، فحينئذ تكون الدية كاملة، فلو أنه ضربه ضربة، أو صدمه بسيارته صدمة أخرست لسانه وأصبح لا يتكلم ألبتة، فحينئذ له الدية كاملة.

القسم الثاني: أن تكون الجناية موجبة لذهاب شيء من الحاسة، وليس كل الحاسة، فضربه ضربة أصبح بصره فيها بعدها ضعيفاً، كما لو كان في السابق يبصر إبصاراً تاماً، فأصبح بعد الحادث يبصر إبصاراً ناقصاً، فأذهب بعض البصر أو بعض السمع أو بعض الكلام، كما سيأتينا في اللسان فحينئذ ننظر إلى الجزء الذي ذهب، وقدره من الأصل، فلو ذهب النصف أوجبنا عليه نصف الدية، وإذا ذهب الربع أوجبنا عليه ربع الدية، وإذا ذهب الثلثان، فالثلثان... وهكذا.

لكن كيف نعرف هذا حتى نعلم أننا أمة لسنا متخلفين، ولسنا متحجرين، وأن قياس السمع كان يعرفه سلفنا الصالح من القرون الأولى؟

يقول الإمام الشافعي رحمه الله: تسد الأذن المريضة التي جني عليها وتفتح الأذن السليمة، فيصيح رجل من بُعْد، فإذا لم يشعر بصوته اقترب حتى يسمع أول سماع من صوته، فيحد الحد عندها، ثم بعد ذلك تفتح الأذن المريضة وتغلق الصحيحة، فلا يزال يقترب ويصيح حتى يبلغ المدى، فلو بلغ نصف المسافة فإنه قد ذهب نصف سمعه من الأذن اليمنى، وإذا بلغ الربع فالربع، وإذا بلغ الثلث فالثلث، والآن لو جئت تقدر بالآلات الموجودة في قياس السمع لا تبعد، يضعون آلات فيها صوت معين لا يزال يرفع حتى يشعر به المريض أو يشعر به الذي يراد قياس سمعه.

أما في البصر، فقارن نفس الشيء، يوضع الرجل عن بعد، ويوضع له شاحصة فإذا لم يرها اقترب ثم اقترب للعين الصحيحة حتى يميزه، فإذا أثبته وميزه كفت العين الصحيحة، ثم اقترب وما زال يقترب، ثم يضع الشاخص أو العلامة على المكان الذي ميز فيه، ثم يقترب والعين المعيبة أو التي جني عليها مفتوحة حتى يميزه، فإن وصل عند ثلثه فثلث بصره بقي وضاع الثلثان، وإن وصل إلى النصف فقد أذهب نصف بصره ووجب عليه ربع الدية؛ لأن البصر للعين الواحدة فيه نصف الدية، هذا كله تفصيل لقوله: (وفي كل حاسة دية كاملة) إن أذهبها كلها وجبت الدية كاملة، وإن أذهب بعضها فبقسط ذلك البعض الذي أذهبه، سواء أذهبه في جناية عمدٍ، وقال الرجل: لا أريد القصاص أريد الدية، أو أذهبها في خطأ كما ذكرنا، فكل ذلك يجب فيه الضمان على التفصيل الذي بيناه.

دية السمع

قال رحمه الله: [ وهي السمع ]

قوله: (وهي) أي: هذا تفصيل لقوله (في كل حاسة) فقال رحمه الله: (السمع)، والسمع حاسة من أعظم الحواس، ولذلك قدمه الله قيل تشريفاً له، حتى إن مذهب بعض العلماء أن السمع أفضل من البصر كما قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ [الإسراء:36] فقدم السمع على البصر، وقالوا: إنه أعظم، ويقال: إن الفهم بالسمع أقوى من الفهم بالبصر، ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله في الطفل؛ لأن الطفل يميز الأشياء بعد السماع، والسماع يعين الطفل على التمييز، ومن هنا كان أمر السمع أعظم، وشأنه أكبر، فلو جنى عليه جناية أذهبت سمعه والعياذ بالله كلياً، فإنه يجب عليه ضمان السمع كاملاً بديته كاملة.

لكن الذي استشكله العلماء في هذه المسألة، أنه قد يدعي -والعياذ بالله- شخص أن سمعه ذهب، فكيف يمكن أن يعرف في السمع والبصر أنه فعلاً قد أثرت الجناية فيه حتى أذهبت سمعه؟ وهذا أمر أيضاً ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، فقالوا: إنه إذا كان يدعي أن سمعه ذهب، وقال الجاني: لم يذهب سمعه، واختلفا، اختبر وامتحن.

قالوا: ومن الامتحان: أن يترك في حال غفلة ثم يصاح عليه صيحة مزعجة، فإن تأثر بها فجأة، فمعنى ذلك أنه كذب، ولذلك هذه مما ذكرها العلماء رحمهم الله والأئمة، لأنه لو فتح هذا الباب، فهناك من الناس -نسأل الله السلامة والعافية- من لا يتورع عن الكذب، حتى ولو لم يؤثر الإضرار في حقيقته إلى ذلك، لكن قد يكون هناك رغبة في الإضرار بالجاني بسبب العداوة، أو لحب الانتقام، أو بسبب محبة الدنيا، -نسأل الله السلامة والعافية- مهما كانت الدوافع والموجبات، لكن الذي يهمنا أنه يختبر ويمتحن، وفي البصر قالوا: إذا ادعى أنه لا يرى شيئاً، تؤخذ له حية، أو شيء مخوف، وهو مؤتمن على نفسه، وقد يكون رجلاً ليست عنده أمانة، قالوا: فيقال له: سر في مكان فيه حية، وفيه تلف، أو يكون آخر المسير فيه مثلاً كبوة أو حفرة، فإذا اتقى أو امتنع أو تلكأ أو تأخر يعني: وجدت الريبة في تصرفه، ظهر أنه ليس بصادق...، فعلى كل حال هذا مما ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، وكل هذا يراد به الوصول إلى حقيقة الجناية، فإذا ثبت أن السمع ذهب كله وجبت الدية كاملة، فإذا جنى عليه فأبقى شيئاً من سمعه، والسمع يشترط ذهابه من الأذنين، فإذا أذهب السمع من الأذنين فيه الدية كاملة، لكن لو أنه أتلف السمع في أذن والأذن الأخرى سليمة، أو جاء مريض إلى طبيب واشتكى أذنه فعالج تلك الأذن فأذهب سمعها، فإنه حينئذٍ يجب ضمان السمع بجزئه بحسب ما فات وهو النصف.

يجب عند الحكم بالدية كاملة أن يراعى أمر مهم جداً وهو أن يقول الأطباء: إن هذه الحاسة التي تلفت لا تعود، فلو قال الأطباء: إن هذه الضربة تذهب السمع إلى حين، وهناك أمل أن يعود السمع بعد علاج أو دواء، أو بعد مضي مدة فحينئذٍ ينبغي التريث والتربص، ثم اختلف العلماء في التفصيل فقالوا: إذا قال الأطباء إن سمعه يمكن أن يعود فلا يخلو قولهم من حالتين.

الحالة الأولى: أن يحددوا زماناً لرجوع السمع، وهذا التحديد ليس من علم الغيب، إنما هو راجع إلى التجربة، وهذا مما يقبل فيه القول؛ لأن الله عز وجل جعل في الحياة سنناً، فإذا ثبت بتجربة الأطباء أنه مرت عليهم حوادث من جنس هذه الحادثة ذهب فيه السمع سنة ثم عاد، أو شهراً أو شهرين ثم عاد، فإذا حددوا كان في ذلك تفصيل:

فإن حددوا مدة يغلب على الظن عيش المجني عليه إليها؛ فإنه لا يجب إعطاء الدية إلا بعد مضيها، فإذا مضت المدة ولا زال فاقداً لسمعه وجبت الدية، وأما إذا حددوا مدة يغلب على الظن موته وهلاكه قبل مضيها ففيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله: فمنهم من يرى التربص، ومنهم من يرى أنه يعطى الدية وهو أقوى.

أما إذا لم يحدد مدة، قالوا: يمكن أن يرجع إليه ويمكن ألا يرجع، فإنه قد جنى جناية توجب الدية، فالأصل وجوب الدية، وحينئذ احتمال أن يرجع أو لا يرجع ساقط ما لم يغلب ويترجح، وعلى هذا فإننا: نوجب على الجاني أن يدفع للمجني عليه الدية كاملة.

دية البصر

قال رحمه الله: [ والبصر ]

وهو الحاسة الثانية من الحواس التي إذا جني عليها وجبت فيها الدية كاملة، وهذه الحواس -السمع والبصر- قرنها الله عز وجل في كتابه لعظم أمريهما، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي العينين الدية) وكذلك صح عن الصحابة رضوان الله عليهم قضاؤهم بأن العين فيها الدية، وهذا أصل عندهم أن منفعة الإبصار فيها، ولذلك أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلاً اعتدى على رجل فأذهب سمعه وبصره، ونكاحه وعقله -أصبح مجنوناً- فأوجب فيه عمر أربع ديات، وهذا الأثر رواه البيهقي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفه، والعمل عند أهل العلم رحمهم الله عليه، فجعل لكل حاسة دية كاملة، وهذا هو الأصل في الباب، وإن كان في حديث معاذ رضي الله عنه أيضاً عند البيهقي وفي المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بالدية، وفي العقل أصل الإجماع على أنه لو ضربه فجن أن فيه دية كاملة.

فإذا جنى على بصره وأذهب البصر، ففيه الدية كاملة، ولو أذهب بصر إحدى العينين وجب قدر ما ذهب وهو النصف، ولو أذهب نصف النظر باليمنى فعليه ربع الدية، فيتقسط المال بقدر الجناية.

دية الشم

قال رحمه الله: [ والشم ]

الشم حاسة يدرك بها الإنسان الروائح، فيميز الروائح طيبها وخبيثها، وهذه الحاسة موجودة في الأنف، ومن نظر وتأمل إلى بديع خلق الله وعظيم صنع الله فيما حار فيه الأطباء، وتعجب واستغرب منه الحكماء، مما وضع الله سبحانه وتعالى في هذه الحاسة؛ من الحفظ والحرز للإنسان من حيث يشعر أو لا يشعر، فكم من الشرور والمصائب والبلايا يحفظ الله بها عبده بفضله سبحانه، ثم بفضل هذه الحاسة، وقد يكون الإنسان بين الحياة والموت ولا ينجو إلا بفضل الله، ثم بوجود هذه الحاسة، وهي حاسة الشم، فبها يميز الأشياء، ويتنعم ويرتفق بالروائح الطيبة، وقد حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيب وهو من الروائح، فجعل الله عز وجل في هذه الحاسة الخير الكثير للإنسان.

وتقع الجناية لو أن طبيباً عالج مريضاً وعنده حاسة الشم، فأذهب هذه الحاسة، وبعض العمليات الجراحية التي تجرى في الدماغ -نسأل الله السلامة والعافية- قد يحدث فيها خطأ فتذهب حاسة الشم، وبعض العمليات أيضاً التي تحدث في الأنف قد تعطل حاسة الشم، فلو حصل هذا وجب فيه الضمان، فإذا أصبح لا يشم ولا يميز الأشياء التي يشمها، فإنه تجب له الدية كاملة، وهذا محل إجماع عند العلماء رحمهم الله، ولا يعرف فيه مخالف، فمن اعتدى على غيره فأذهب حاسة الشم، فإنه يجب عليه ضمان تلك الحاسة بالدية كاملة، ولو أذهب بعض الحاسة فإنه يقدر بقدر الجناية، ويجب ضمان ما أذهبه.

دية الذوق

قال رحمه الله: [ والذوق ]

الذوق: تمييز للأشياء التي تطعم وتشرب، يميز حلوها ومرها، وحامضها وعذبها، وهذا التمييز جعله العلماء مقسط على هذه الأربعة التي ذكرناها، قالوا حاسة الذوق موجودة في اللسان، وهناك عصب موجود في اللسان يتذوق به الأشياء بقدرة الله عز وجل، وهذه الحاسة إذا عطلت كلها فلا إشكال، لكن لو أصبح لا يذوق الحلو ولا يجد له طعماً، أو العكس لا يجد طعماً للمر، ففي هذه الحالة يتقسط بقدر الجناية التي جني عليه فيها، كما تقدم معنا في الحواس الأخرى، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الذوق، فقال بعضهم: الذوق موجب للدية كاملة، وهذا طبعاً منصوص عليه عند الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، ومشى عليه المصنف رحمه الله، وهناك وجه ثان عند العلماء رحمهم الله يقول: إن الذوق لا يبلغ مبلغ الحاسة الكاملة، وإنه إذا ذهب فيه الحكومة -والحكومة سيأتي إن شاء الله تفصيلها- فيقدر قبل الجناية عليه ثم يقدر بعد الجناية عليه، وينظر إلى الأرش بين الحالين فيجب ضمانه.

دية الكلام

قال رحمه الله: [ وكذا في الكلام ]

هذه الحاسة الخامسة التي ذكرها هي من نعم الله عز وجل على الإنسان؛ لأنه يتكلم فيبين عن مراده ويفصح، ولذلك يعتبر من المعاني، وهذا من الجناية على المنافع والمعاني، فالكلام الذي عليه جماهير السلف رحمهم الله والأئمة على أنه إذا جنى عليه جناية أخرس لسانه؛ فإنه تجب الدية كاملة، ولو ضربه ضربة على رأسه فأصبح لا يتكلم أو يتكلم فلا تعرف ماذا يقول، أو لا يخرج الحروف كما هي أبداً؛ فإنه حينئذ تجب الدية كاملة، سواء أخرسه بالكلية بحيث لا يتكلم -نسأل الله السلامة والعافية- أو يصيح بدون أن يبين الحروف، ومن المعلوم أن الأصل في اللغة العربية ثمانية وعشرون حرفاً، فإذا جنى عليه جناية وأصبح لا يتكلم بالكلية فلا إشكال، لكن لو أنه جنى عليه جناية فتكلم ببعض الحروف ولم يتكلم ببعضها، فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: نقسم الدية على ثمانية وعشرين حرفاً التي هي أصل حروف اللغة العربية، ومن أهل العلم من قال: تقسم على ثمانية عشر حرفاً؛ لأن اللسان الذي يخرج منه ثمانية عشر حرفاً، والستة الحروف التي تخرج من الحلق، والأربعة التي تخرج من الشفتين هذه خارجة عن المعدود؛ لأن الجناية على اللسان وليست على الكل، ومن هنا اختلف -يعني قول العلماء رحمهم الله والأئمة في هذا- والذي نص عليه الأكثرون أنها تقسم على ثمانية وعشرين حرفاً، وأن اللغات من الغير عربية تنزل منزلة العربية، فإذا كانت اللغة غير العربية نظر إلى عدد حروفها، وما أبطلت الجناية من تلك الحروف بحيث تعذر على المجني عليه أن ينطق بها، فلو أنه أفسد له نصف الحروف وجب عليه أن يدفع نصف الدية، وإذا أفسد الثلثين فالثلثان.. وهكذا يعني تقدر بقدر الجناية، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وفي اللسان الدية) فأثبت عليه الصلاة والسلام الدية في الجناية على اللسان وإن كان الأصل فيها العضو.

دية العقل

قال رحمه الله: [والعقل]

العقل في لغة العرب: الحبس، ومنه العقال الذي يحبس البعير عن المسير، ويسمى العقل عقلاً؛ لأنه يحبس الإنسان عن الأمور التي لا تليق بمثله، ولذلك سماه الله حجراً وسماه نهية فقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى [طه:54] وقال سبحانه وتعالى: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:5] أي لذي عقل يحجره عما لا يليق به، فالعقل به يدرك الإنسان صحيح الأشياء وفاسدها، وصوابها وخطأها، وجعله الله عز وجل في قلبه، فعقل الإنسان في قلبه، وهذا منصوص النصوص التي جاء بها الوحي من السماء، من لدن حكيم خبير، كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، وقال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179] فنسب الفقه والفهم إلى القلوب، وهذه المسألة حصل فيها خلط وخلاف قديم مشهور إلى يومنا هذا، والأطباء يصرون على أن العقل في الدماغ، وهذا خلاف النص الذي نعتقده وندين الله عز وجل به، فإن العقل في القلب، ولا يمنع أن تكون آلة العقل في الدماغ، وهناك فرق بين الآلة وبين الروح التي هي متحكمة في مشاعر الإنسان، ألا ترى الرجل من أكمل الناس عقلاً، فإذا دخل عليه الحزن في قلبه لم يعرف أن يفعل شيئاً، وإذا دخل عليه الفرح في قلبه لم يعرف أن يقدم أو يؤخر شيئاً، ولذلك القلب يؤثر تأثيراً عجيباً في نفس الإنسان خيراً وشراً، ونسب الله عز وجل إليه فلا يمتنع أن يكون العقل في القلب، ولكن مع وجود هذه الأجهزة يقولون: إن الشخص لو ضرب على دماغه يصبح مجنوناً ولا يعقل، وهذا ليس بدليل، فقد استندوا إلى أدلة عقلية، أما نحن فنتكلم على الروح الخفية؛ لأن العقل ليس من الأشياء الملموسة، وما يوجد في خريطة الدماغ فهذه أشياء أشبه بالآلة، وهي التي تتصرف بالإنسان وتتحكم وتصدر منها الأوامر للإنسان، لكن العقل والفهم كله في قلب الإنسان، ولذلك تجد الإنسان في نفسيته يرجع إلى قلبه وفؤاده، فإن حزن أو فرح فإنك تجد الفرح والحزن كله متعلق بفؤاده وقلبه، ولذلك وجود هذه القضية، وأنه إذا ضرب على رأسه ربما فقد عقله، وبعض أهل العلم لما احتج عليه بهذا الدليل قال: إن الشخص ترض خصيتيه فيغمى عليه، فهل معنى ذلك أن عقله في خصيتيه، لما اعترض أحد الفلاسفة على أحد أهل العلم رحمة الله عليه وقال له: لقد قلت قولاً عجيباً، فأجاب بهذا الجواب، قال له: الإغماء وفقد العقل لا يستلزم وجود العقل في المكان؛ لأنها آلة من الآلات، وقد تكون شدة الأذية والضرر موجبة لذلك، ولذلك الفرح الذي يكون في القلب يعمي الإنسان عن معرفة الأشياء، ونهي القاضي أن يقضي وهو غضبان، ومن القضاء وهو في شدة الفرح والسرور، فمعنى ذلك أن القضية ليست قضية الآلة نفسها، إنما القضية قضية روح موجودة في الإنسان، ولذلك تجد أن إدراك الأشياء يستند إلى روح أودعه الله سبحانه وتعالى لا يستطيع الإنسان أن يقول أن العقل مثلاً أصفر أو أحمر أو ملموس، ولا أنه ذاك الشيء الذي في الدماغ، وبالرغم من الاكتشافات التي اكتشفوها -والتي نسلم بها- إلا أنهم لا زالوا في حيرة، ولن يزالوا في حيرة ما لم يهدهم الله سبحانه وتعالى، ولا زالوا إلى الآن لا يعلمون أين أماكن السمع، ولم يعلموا إلا فيما بعد، وإن كانوا وصلوا إلى بعض الأشياء التي يثبتون بها محل السمع، ومحل الكلام، ويعملون عمليات جراحية معقدة جداً في الدماغ بأدق الأجهزة، فما إن يختل هذا الجهاز بأقل مقدار إلا ويحدث خلل لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فإذا بالرجل لا يستطيع الكلام، وإذا به لا يستطيع أن يتحكم في بوله، أو لا يستطيع أن يتحكم في مشيه، فسبحان الله العظيم وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] هذا تقدير العزيز العليم، فإذا قدره العزيز العليم فلا ينبئك مثل خبير، فإن قال لك العقل في القلب، قلت: نعم، سمعنا وأطعنا، فلو أجمع أهل الأرض كلهم على خلاف ذلك لم نسمع ولم نطع، ولا نعبأ بأحد إذا خالف نص كتاب الله، فقد نص الله عز وجل على ذلك وبين أن العقل هو فهم الأمور؛ لأن الأصل في الفهم مستند إلى العقل، ولذلك لم يوجه الخطاب إلا إلى عاقل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة؛ وذكر منهم المجنون حتى يفيق) فعلى هذا لو أنه جنى على عقله جناية أذهبت العقل -نسأل الله السلامة والعافية- وأصبح مجنوناً وجبت الدية كاملة، وفيه أثر مرفوع عنه عليه الصلاة والسلام، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الجناية على العقل إذا أفسدت العقل كلاً أنها توجب الدية كاملة.

لكن لو أنه جنى عليه جناية أذهبت العقل حيناً دون حين، فأصبح مثلما يقع في بعض الأحوال يجن مثلاً فترة ثم يفيق فترة، ولو عمل له عملية جراحية تسببت في حصول غيبوبة للعقل فترة ثم رجع الشخص طبيعياً فترة أخرى ننظر في هذه الفترة التي يفيق فيها والفترة التي يستضر فيها، فلو كان يفيق يوماً ويجن يوماً، فإنه تجب نصف الدية؛ لأنه عطل عقله نصف عمره، وحينئذ كأنه عطل نصف العقل، لأنك لا تستطيع أن تقول: هذا عاقل أو هذا نصف عاقل، ولا تستطيع أن تقول: هذا ربع عاقل ولا ثلثي عاقل، إنما ينظر إلى التقدير بالزمان، وهذا ضابط كثير من أهل العلم رحمهم الله، لو أنه جنى على عقله فغاب عقله ستة أشهر ويرجع إليه ستة أشهر ففيه نصف الدية، ولو غاب عقله ثمانية أشهر ورجع إليه أربعة أشهر فعليه ثلثا الدية، وهكذا يتقسط بقسطه من العقل.

دية منفعة المشي

قال رحمه الله: [ومنفعة المشي].

وهكذا لو جنى عليه جناية لم يستطع أن يمشي بعدها فأصبح مشلول الرجلين؛ فإنه تجب عليه الدية كاملة، وهذا قول جمهور العلماء رحمهم الله: أنه إذا عطله عن منفعة تامة -وهي منفعة المشي- أنه يجب عليه ضمان ذلك بدية كاملة، لكن لو أنه اختل مشيه فحينئذ يتقسط بقدر ما حصل من الضرر، إن كان يقوم يمشي ويحصل له ضرر ففيه الحكومة، وأما إذا كان عطله على وجه تتشطر معه الجناية فإنه يتشطر بقدرها من الدية.

دية منفعة الأكل

قال رحمه الله: [والأكل]

لو جنى عليه جناية عطلت منفعة الأكل فأصبح لا يستطيع أن يأكل وإنما يؤكل، أو لا يستطيع بلع الطعام، أو يستضر في أكله، فإن الذي اختاره المصنف رحمه الله وجماعة وهو منصوص عليه في مذهب الحنابلة أنه تجب الدية كاملة، وهذا مبني على أن الأصل ملحق به نظيره، فأنت إذا نظرت إلى أن السمع حاسة، والبصر حاسة، وهي منفعة قائمة بذاتها، فالأكل منفعة قائمة بذاتها وعليها أود وقوام البدن، وبها يرتفق الإنسان، وإذا كان عمر رضي الله عنه قد قضى بأن الرجل الذي ضرب الرجل فأفسد نكاحه وهي شهوة من الشهوات لا تعدل شهوة الأكل؛ لأن الأكل أعظم منها بل حياة الإنسان موقوفة على الأكل، فإذا كان هذا فيما عمل به الخلفاء رحمهم الله وقضوا به وقالوا أنه يلتحق بهما هو أولى، فإن منفعة الأكل أعظم.

دية منفعة النكاح

قال رحمه الله: [والنكاح]

النكاح: الجماع، والمراد بذلك أن يعطله فلا ينتشر عضوه، ولا يستطيع أن يجامع، فإذا عطله عن الجماع فإنه في هذه الحالة تجب الدية كاملة، وإن عطل بعض المنفعة وحصل عنده ضعف وعجز عن الجماع قدر بحسب ذلك العجز، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في كتاب عمرو بن حزم أن في الذكر الدية، وقضى عليه الصلاة والسلام أيضاً في البيضتين الدية، ونظر إلى هذه الأعضاء كل عضو ففصل البيضتين عن الذكر؛ فدل على الالتفات إلى المنفعة، ففي الخصيتين -أكرمكم الله- من المنفعة ما ليس في الذكر نفسه، ولذلك كان نظر الفقهاء صحيحاً، وهو نظر مستنبط من الأصل المنصوص عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنسل والحيوانات المنوية والتأثير في الماء والجينات الوراثية كلها موجودة في الخصيتين، وهي أشبه بالمعمل الذي يخرج وينتج هذا الشيء بقدرته سبحانه وتعالى، ولذلك كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا نوع من الإعجاز، وهذه الأمور لا يمكن أن تدرك إلا بدقائق الطب ومعرفة الأسرار الموجودة في هذه الأعضاء لكن نبأه العليم الحكيم سبحانه وتعالى، وبين له العليم الخبير جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدل على أن اعتبار المنافع في الأعضاء أصل، وثبتت به السنة واعتبرته.

دية استمساك البول والغائط

قال رحمه الله: [ وعدم استمساك البول والغائط ]

هذا يحدث في الجنايات، فلو ضربه على خصيتيه ضربة أو على مثانته ضربة فأصبح لا يستمسك بوله، أيضاً يحدث في ضرب الصلب في بعض الخصومات والنزاعات قد يجني أحد على آخر فيضربه على ظهره، فضرب الظهر في بعض الأحيان -نسأل الله السلامة والعافية- يضر بالنخاع الشوكي، وحينئذ يؤثر في استمساك البول واستمساك الغائط، فإذا ضربه على بطنه فلم يستمسك غائطه أو ضربه على خصيته فلم يستمسك بوله، أو ضربه على أي موضع بحيث أثر في استمساك البول والغائط فإنه يتضرر بذلك، وهذه منفعة موجودة في البدن ألحقها كما اختاره المصنف وغيره من بعض العلماء رحمهم الله بمسألة الجناية على المنافع التي تقدمت معنا.

قال رحمه الله: [ وهي السمع ]

قوله: (وهي) أي: هذا تفصيل لقوله (في كل حاسة) فقال رحمه الله: (السمع)، والسمع حاسة من أعظم الحواس، ولذلك قدمه الله قيل تشريفاً له، حتى إن مذهب بعض العلماء أن السمع أفضل من البصر كما قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ [الإسراء:36] فقدم السمع على البصر، وقالوا: إنه أعظم، ويقال: إن الفهم بالسمع أقوى من الفهم بالبصر، ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله في الطفل؛ لأن الطفل يميز الأشياء بعد السماع، والسماع يعين الطفل على التمييز، ومن هنا كان أمر السمع أعظم، وشأنه أكبر، فلو جنى عليه جناية أذهبت سمعه والعياذ بالله كلياً، فإنه يجب عليه ضمان السمع كاملاً بديته كاملة.

لكن الذي استشكله العلماء في هذه المسألة، أنه قد يدعي -والعياذ بالله- شخص أن سمعه ذهب، فكيف يمكن أن يعرف في السمع والبصر أنه فعلاً قد أثرت الجناية فيه حتى أذهبت سمعه؟ وهذا أمر أيضاً ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، فقالوا: إنه إذا كان يدعي أن سمعه ذهب، وقال الجاني: لم يذهب سمعه، واختلفا، اختبر وامتحن.

قالوا: ومن الامتحان: أن يترك في حال غفلة ثم يصاح عليه صيحة مزعجة، فإن تأثر بها فجأة، فمعنى ذلك أنه كذب، ولذلك هذه مما ذكرها العلماء رحمهم الله والأئمة، لأنه لو فتح هذا الباب، فهناك من الناس -نسأل الله السلامة والعافية- من لا يتورع عن الكذب، حتى ولو لم يؤثر الإضرار في حقيقته إلى ذلك، لكن قد يكون هناك رغبة في الإضرار بالجاني بسبب العداوة، أو لحب الانتقام، أو بسبب محبة الدنيا، -نسأل الله السلامة والعافية- مهما كانت الدوافع والموجبات، لكن الذي يهمنا أنه يختبر ويمتحن، وفي البصر قالوا: إذا ادعى أنه لا يرى شيئاً، تؤخذ له حية، أو شيء مخوف، وهو مؤتمن على نفسه، وقد يكون رجلاً ليست عنده أمانة، قالوا: فيقال له: سر في مكان فيه حية، وفيه تلف، أو يكون آخر المسير فيه مثلاً كبوة أو حفرة، فإذا اتقى أو امتنع أو تلكأ أو تأخر يعني: وجدت الريبة في تصرفه، ظهر أنه ليس بصادق...، فعلى كل حال هذا مما ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، وكل هذا يراد به الوصول إلى حقيقة الجناية، فإذا ثبت أن السمع ذهب كله وجبت الدية كاملة، فإذا جنى عليه فأبقى شيئاً من سمعه، والسمع يشترط ذهابه من الأذنين، فإذا أذهب السمع من الأذنين فيه الدية كاملة، لكن لو أنه أتلف السمع في أذن والأذن الأخرى سليمة، أو جاء مريض إلى طبيب واشتكى أذنه فعالج تلك الأذن فأذهب سمعها، فإنه حينئذٍ يجب ضمان السمع بجزئه بحسب ما فات وهو النصف.

يجب عند الحكم بالدية كاملة أن يراعى أمر مهم جداً وهو أن يقول الأطباء: إن هذه الحاسة التي تلفت لا تعود، فلو قال الأطباء: إن هذه الضربة تذهب السمع إلى حين، وهناك أمل أن يعود السمع بعد علاج أو دواء، أو بعد مضي مدة فحينئذٍ ينبغي التريث والتربص، ثم اختلف العلماء في التفصيل فقالوا: إذا قال الأطباء إن سمعه يمكن أن يعود فلا يخلو قولهم من حالتين.

الحالة الأولى: أن يحددوا زماناً لرجوع السمع، وهذا التحديد ليس من علم الغيب، إنما هو راجع إلى التجربة، وهذا مما يقبل فيه القول؛ لأن الله عز وجل جعل في الحياة سنناً، فإذا ثبت بتجربة الأطباء أنه مرت عليهم حوادث من جنس هذه الحادثة ذهب فيه السمع سنة ثم عاد، أو شهراً أو شهرين ثم عاد، فإذا حددوا كان في ذلك تفصيل:

فإن حددوا مدة يغلب على الظن عيش المجني عليه إليها؛ فإنه لا يجب إعطاء الدية إلا بعد مضيها، فإذا مضت المدة ولا زال فاقداً لسمعه وجبت الدية، وأما إذا حددوا مدة يغلب على الظن موته وهلاكه قبل مضيها ففيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله: فمنهم من يرى التربص، ومنهم من يرى أنه يعطى الدية وهو أقوى.

أما إذا لم يحدد مدة، قالوا: يمكن أن يرجع إليه ويمكن ألا يرجع، فإنه قد جنى جناية توجب الدية، فالأصل وجوب الدية، وحينئذ احتمال أن يرجع أو لا يرجع ساقط ما لم يغلب ويترجح، وعلى هذا فإننا: نوجب على الجاني أن يدفع للمجني عليه الدية كاملة.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3704 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3186 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع