حديث: ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
حديث: ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفرعن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، وقد ادعى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه"، كذا عند مسلم، وللبخاري نحوه.
قوله: (ليس من رجل أدعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر)، وعند البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام"، وله عن أبي هريرة: "لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر"، وفي حديث عمر الطويل: "لا ترغبوا عن آبائكم فهو كفر بربكم".
قال ابن بطال: ليس معنى هذين الحديثين أن من اشتهر بالنسبة إلى غير أبيه أن يدخل في الوعيد كالمقداد بن الأسود، وإنما المراد به مَن تحوَّل عن نسبته لأبيه إلى غير أبيه عالِمًا عامدًا مختارًا، وكانوا في الجاهلية لا يستنكرون أن يتبنى الرجل ولد غيره، ويصير الولد ينسب إلى الذي تبناه حتى نزل قوله تعالى: ﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 5]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ﴾ [الأحزاب: 4]، فنسب كل واحد إلى أبيه الحقيقي وترك الانتساب إلى من تبناه، لكن بقي بعضهم مشهورًا بمن تبناه، فيذكر به لقصد التعريف لا لقصد النسب الحقيقي؛ كالمقداد بن الأسود، وليس الأسود أباه، وإنما كان تبناه واسم أبيه الحقيقي عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة البهراني، وكان أبوه حليف كندة، فقيل له: الكندي ثم حالف هو الأسود بن عبديغوث الزهري، فتبنَّى المقداد فقيل له: ابن الأسود؛ انتهى ملخصًا، قال: وليس المراد بالكفر حقيقة الكفر التي يخلد صاحبها في النار[1].
قال الحافظ: وقال بعض الشراح: سبب إطلاق الكفر هنا أنه كذب على الله، كأنه يقول: خلقني الله من ماء فلان، وليس كذلك؛ لأنه إنما خلقه من غيره[2].
وقال الحافظ: قوله: ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله، كذا وقع هنا كفر بالله ولم يقع قوله بالله في غير رواية أبي ذر، ولا في رواية مسلم: ولا الإسماعيلي وهو أولى، وإن ثبت ذاك فالمراد من استحل ذلك مع علمه بالتحريم، وعلى الرواية المشهورة، فالمراد كفر النعمة، وظاهر اللفظ غير مراد، وإنما ورد على سبيل التغليظ والزجر لفاعل ذلك، أو المراد بإطلاق الكفر أن فاعله فعل فعلًا شبيهًا بفعل أهل الكفر، وعند مسلم من أبي عثمان النهدي قال: لَمَّا ادعى زياد لقيت أبا بكرة، فقلت له: ما هذا الذي صنعتم، إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمع أذناي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "من ادعى أبًا في الإسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرامٌ"، فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم[3].
قال الحافظ: والمراد بزياد الذي ادعى زياد بن سمية وهي أمه كانت أمة للحارث بن كلدة زوجها لمولى عبيد، فأتت بزياد على فراشه وهم بالطائف قبل أن يسلم أهل الطائف، فلما كان في خلافة عمر، سمع أبو سفيان بن حرب كلام زياد عند عمر، وكان بليغًا فأعجبه، فقال: إني لأعرف من وضعه في أمه ولو شئت لسميته، ولكن خاف من عمر، فلما وَلِيَ معاوية الخلافة كان زياد على فارس من قبل علي، فأراد مداراته، فأطمعه في أنه يلحقه بأبي سفيان، فأصغى زياد إلى ذلك، فجرت في ذلك خطوب إلى أن دعاه معاوية وأمَّره على البصرة، ثم على الكوفة، وأكرَمه وسار زياد سيرته المشهورة وسياسته المذكورة، فكان كثير من الصحابة والتابعين ينكرون ذلك على معاوية، محتجين بحديث الولد للفراش، قال: وإنما خص أبو عثمان أبا بكرة بالأفكار؛ لأن زيادًا كان أخاه من أمه[4]؛ انتهى.
قوله: (ومن ادعى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار)، وللبخاري: "ومن ادعى قومًا ليس له فيهم نسب، فليتبوأ مقعده من النار".
قال الحافظ: وقوله: فليتبوأ، أي ليتخذ منزلًا من النار، وهو إما دعاء أو خبر بلفظ الأمر، ومعناه هذا جزاؤه إن جوزي وقد يعفى عنه وقد يتوب، فيسقط عنه، قال: وفي الحديث تحريم الانتفاء من النسب المعروف والادعاء إلى غيره، وقُيد في الحديث بالعلم ولا بد منه في الحالتين إثباتًا ونفيًا؛ لأن الإثم إنما يترتب على العالم بالشيء المتعمد له، وفيه جواز إطلاق الكفر على المعاصي، لقصد الزجر كما قررناه، ويؤخذ من رواية مسلم تحريم الدعوى بشيء ليس هو للمدعي، فيدخل فيه الدعاوي الباطلة كلها مالًا وعلمًا وتعلمًا ونسبًا وحالًا وصلاحًا ونعمة وولاءً، وغير ذلك، ويزداد التحريم بزيادة المفسدة المترتبة على ذلك[5].
قوله: (ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه)، وللبخاري: "لا يرمي رجل رجلًا بالفسق أو الكفر، إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك".
قال الحافظ: (وهذا يقتضي أن من قال لآخر: أنت فاسق، أو قال له: أنت كافر، فإن كان ليس كما قال، كان هو المستحق للوصف المذكور، وأنه إذا كان كما قال لم يرجع عليه شيء لكونه صدق فيما قال، ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقًا ولا كافرًا ألا يكون آثمًا في صورة قوله له: أنت فاسق، بل في هذه الصورة تفصيل إن قصد نصحه أو نصح غيره ببيان حاله جاز، وإن قصد تعييره وشهرته بذلك، ومَحض أذاه، لم يجز لأنه مأمور بالستر عليه وتعليمه وعظته بالحسنى، فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف؛ لأنه قد يكون سببًا لإعراضه وإصراره على ذلك الفعل، كما في طبع كثير من الناس من الأنفة، لا سيما إن كان الآمر دون المأمور في المنزلة، وقال أيضًا: من قال ذلك يعني رميه بالكفر لمن يعرف منه الإسلام، ولم يقم له شبهة في زعمه أنه كافر، فإنه يكفر بذلك، فمعنى الحديث فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكفر، فكأنه كفر نفسه لكونه كفر من هو مثله، ومن لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام، ويؤيده أن في بعض طرقه وجب الكفر على أحدهما، وقال القرطبي: حيث جاء الكفر في لسان الشرع، فهو جحد المعلوم من دين الإسلام بالضرورة الشرعية، وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم وترك شكر المنعم والقيام بحقه.
قال: وقوله: باء بها أحدهما أي رجع بإثمها، ولازم ذلك وأصل البوء اللزوم، ومنه أبوء بنعمتك؛ أي أُلزمها نفسي، وأُقر بها، قال: والهاء في قوله بها راجع إلى التكفيرة الواحدة التي هي أقل ما يدل عليها لفظ كافر، ويحتمل أن يعود إلى الكلمة، والحاصل أن المقول له إن كان كافرًا كفرًا شرعيًّا، فقد صدق القائل، وذهب بها المقول له، وإن لم يكن رجعت للقائل معية ذلك القول وإثمه، كذا اقتصر على هذا التأويل في رجع وهو من أعدل الأجوبة)[6].
قال ابن دقيق العيد: وهذا وعيد عظيم لمن كفَّر أحدًا من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلقٌ كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة، وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد، فغلبوا على مخالفيهم وحكموا بكفرهم، والحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها، فإنه حينئذ يكون مكذبًا للشرع[7]؛ ا.هـ.
وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء رفعه: "إن العبد إذا لعن شيئًا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينًا وشمالًا فإذا لم تجد مساغًا، رجعت إلى الذي لعن، فإن كان لذلك أهلًا وإلا رجعت إلى قائلها"، والله المستعان.
[1] فتح الباري: (12/ 55).
[2] فتح الباري: (12/ 55).
[3] فتح الباري: (6/ 540).
[4] فتح الباري: (12/ 54).
[5] فتح الباري: (6/ 540).
[6] فتح الباري: (10/ 466).
[7] إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: (1/ 420).