تتمة نواقض الإيمان [1-2]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً [النساء:99].

القسم الثاني: وانظر التقسيم الدقيق لـابن القيم رحمه الله لقضية أتباع طريقة كفرية ما.

أولاً: الجهال بدينهم

ثانياً: المتمكن من السؤال وطلب العلم ومعرفة الحق، ولكنه يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورئاسته ولذته ومعاشه وغير ذلك، فهو مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قبلت شهادته، ولاحظ ما قاله فلم يقل: عرف الحق ورفض.. لا. إنما قال: يتمكن من البحث والتعلم، يتمكن.. عنده كتب، عنده مصادر، عنده مشايخ، عقل، لكنه ترك البحث في الحق وعن الحق وقال: أنا أقلد هذا وأنتهي.. لماذا ترك البحث والتعلم؟ للاشتغال بالدنيا، وهذا فاسق.

القسم الثالث: أن يسأل -انظر.. كل الكلام عن الأتباع- ويطلب ويتبين له الهدى ويتركه تقليداً أو تعصباً أو بغضاً أو معاداةً لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقاً، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل.

فمما سبق يتبين لنا إعذار الأئمة لمن وقع في الكفر تقليداً إن كان جاهلاً لا بصيرة له ولا فقه، أما من كان قادراً على فهم الحجة وفرط في طلبها فإنه يأثم، ولكنه لا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه. وقد قلنا سابقاً: إن قيام الحجة مسألة نسبية، وإنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة والوسائل، وقلنا: بعض البلدان قد يكون فيها مقرر التوحيد في المدرسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية على جميع الطلاب والطالبات مأخوذ من الكتاب والسنة، قائم على الطريقة السلفية الصحيحة، ومفند للمذاهب الباطلة، مثل مقرر التوحيد الموجود عندنا الآن هنا.. هذه إذا كان أهل البدع قد درسوها وعرفوا ما فيها وعندهم عقول، فبعض المقررات الدراسية قد تكفي في إقامة الحجة عليهم، بينما بلدان أخرى يمكن أن يقرر عليه الكفر ولا يدري، يقول: هذا هو العقل.

وكذلك هناك وسائل -مثلاً- يمكن الآن في الإنترنت إقامة الحجة على أناسٍ في أقصى العالم لا يمكن للإنسان إقامة الحجة عليهم من قبل، أنت الآن ممكن أن تقيم الحجة على شخصٍ ما في نيودلهي أو البرازيل أو الأرجنتين أو أستراليا وفي آخر الدنيا، يمكن أن تقيم عليه الحجة في الإنترنت.

إذاً.. هناك وسائل وأشياء من الممكن أن تستعمل في إقامة الحجة، وقلنا: الدعاة مطلوب منهم جداً قضية الاشتغال بإقامة الحجة؛ لأن الله يريد إقامة الحجة على الناس لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] واشتغال الدعاة بذلك تحقيق مقصد شرعي ومطلب رباني من الأمة أن تقوم بإقامة الحجة على الخلق ويكونوا شهداء على الناس.

وبعد أن عرفنا موانع التكفير ندخل الآن في المكفرات (نواقض الإيمان) في الكفر بأنواعه، والشرك بأنواعه، ونتحدث عن هذه القضايا العظيمة.

كفر الجحود والتكذيب وكذلك الاستحلال أمر معلوم تحريمه من الدين بالضرورة.

أما مسألة: كفر الجحود والتكذيب من جهة، والاستحلال والإنكار من جهة أخرى فلعل التفريق بين هذا وهذا ليس بكبير، ولذلك من المحال أن تجد هذا في كلام الأئمة.

قال الإمام ابن بطة رحمه الله: "فكل من ترك شيئاً من الفرائض التي فرضها الله في كتابه أو أكدها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته على سبيل الجحود لها والتكذيب بها فهو كافر بين الكفر".

وقال القاضي عياض : "وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب وأنكر قاعدة من قواعد الشرع وما تواتر، كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس".

وكذلك يقول ابن قدامة رحمه الله: "وأما إذا كان الجاحد لها ناشئاً -هذا الكلام على فريضة الصلاة- في الأمصار بين أهل العلم فإنه يكفر بمجرد جحودها" لا يقال: عندك علماء عندك عذر. كما أسلفنا وقلنا: إنسان نشأ بين مسلمين، خطباء، وأئمة، وكتيبات، وأشرطة، ومطويات، وإذاعة القرآن الكريم، والدعاة إلى الله يتكلمون، ويدرس التربية الإسلامية في المدارس، ثم يأتي يقول: أنا ليس عندي علم أن الصلوات الخمس واجبة؟ ونقول: معذور بجهله؟ لا يمكن أبداً.

على أنه أيضاً -أضيف نقطة- بعض الذين ينشئون في الطبقات في بعض البلدان والمجتمعات ربما لا يمرون على ما يمر عليه غيرهم من عامة الناس من جهة التعرض للعلم والمعلمين، فيمكن أن يكون معزولاً تماماً بمربٍ أو مربية في بيئة محاصرةٍ لا يصل إلى سمعه الدين بالشكل الصحيح، أو بعض تفاصيل الدين بالشكل الصحيح؛ ولذلك قضية إطلاق التكفير قضية اجتهادية،.. تقول: فلان أقيمت عليه الحجة أو لم تقم عليه الحجة؟ أنت ممكن أن تقول: أقيمت. وأنا ممكن أن أقول: ما أقيمت. أنت ممكن أن تقول: والله وصلت إليه، وغالب الظن أنه سمع، معقول هذا ما سمع؟! وأنا أقول: والله إن كان سمع قد يكون سمع بشكل مشوه، لا نعلم يقيناً أن أحداً ناقشه أو كلمه أو أقام عليه الحجة. وهذا يقول: لا، أكيد الآن في الآفاق العلم منتشر في بعض البلدان، وإن كان قليلاً، فيه نشر كبير واضح للدعوة، أكيد أنه سمع وعرف، وأين يعيش هذا؟ معزول بالمرة؟ لا يصلي الجمعة؟ لا يسمع من الخطباء؟

فالقضية إذن قد يكون فيها خيار في الاجتهاد بالتكفير هل أقيمت الحجة أم لا؟ وهناك قضايا واضحة لا ينبغي النقاش فيها.

قال ابن قدامة في مسألة جاحد الصلاة: "وأما إذا كان الجاحد لها ناشئاً في الأمصار وبين أهل العلم فإنه يكفر بمجرد جحوده".

ثم قال: "ومن اعتقد حل شيء أُجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنـزير".

ما هي الشبهة لو قال شخص عنده شبهة في لحم الخنـزير؟ وقد تذكرت رجل عنده شبهة في لحم الخنـزير قال لشخص: لحم الخنـزير الآن ليس بحرام. قال: نعم! لماذا؟ قال: لحم الخنـزير كان حراماً في الماضي؛ لأنه كان يأكل القاذورات، أما الآن فالخنـزير أكله نظيف، فليس بحرام. وهذا من الاستهزاء أصلاً، يعني: يصعب أن تقول: إن هذا عنده عذر فعلاً، قاذورات وما قاذورات، أنت أمامك نص: لحم الخنـزير حرام، حتى لو يأكل جوافة ودرر.

فإذاً: يقول كما قال ابن قدامة رحمه الله: "وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر". إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.

الفرق بين التكذيب والجحود

لو قال إنسان: ما هو الفرق بين التكذيب والجحود وبين الاستحلال والإنكار؟ فيمكن أن يقال: إن التكذيب أعم من الجحود، إذ الجحود يكون باللسان، والتكذيب يكون بالقلب واللسان والعمل، فيقال: كل جحود تكذيب وليس كل تكذيب جحود، لكن كلها كفر، هذا كفر وهذا كفر، ولكن ليعلم أن ما يقولون من كفر التكذيب وكفر الجحود، قلنا: إن بعض التفريقات فنية، يعني: تسمية اصطلاحات وتقسيمات فنية؛ لتسهيل الفهم وإلا قد تكون النتيجة واحدة، لكن لتسهيل الفهم.

قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: أنواع الكفر لا تخرج عن أربعة: كفر جهل وتكذيب، وكفر جحود، وكفر عناد واستكبار، وكفر نفاق.

وقال -أيضاً-: وإن انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق فكفر الجهل والتكذيب، قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس:39]وإن كتم الحق مع العلم بصدقه، فهذا كفر الجحود والكتمان، قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] والجحود كثيراً ما يقترن بالعناد.

تعريف كفر الاستحلال

وبعد أن عرفنا التكذيب والجحود، فما هو الاستحلال؟ هو: اعتقاد أن الله لم يحرم شيئاً حرمه تعالى، واعتقاد أن الله أباح الشيء الذي حرمه الله عز جل، فهذا إذاً كفر اعتقادي مختص في مخالفة النواهي باستحلالها. ونذكر هنا: أن الإنسان قد يكفر باستحلال الحرام حتى لو لم يعمله، فلو قال: أنا أعتقد أن الزنا حلال وأنا ما زنيت ولا مرة. فنقول: أنت كافر ولو لم تزنِ ولا مرة. وذاك الذي زنا وهو معتقد بتحريم الزنا لا يكفر، وإنما مرتكب كبيرة، مستحق للعذاب لكنه لا يكفر.

تعريف كفر الإنكار

وأما الإنكار فهو يقابل المعرفة كما أن التكذيب يقابل التصديق، وأما كلام الأئمة حول كفر الجاحد والمكذب والمنكر فقد أجمعوا على كفر من أنكر فريضةً من الفرائض الظاهرة المتواترة، أو كذب حكماً من أحكام الله الظاهرة المتواترة، وكلامهم هذا منتشر في كتب العقائد والأحكام.

وطرح هذه القضية في هذا الزمان مهم جداً جداً؛ لأن سوق التكذيب والجحود الآن، وسوق استحلال الحرام ومعاندة الله في أحكامه سوق رائجة، وأصبح إعلان الكفر -الآن- على الملأ في الروايات والكتب وغير ذلك أمر مشاهد وهذا شيء كبير وخطير، فلا بد من توضيح قضية أنواع الكفر للناس؛ لأنهم قد يسمعونها صباحاً ومساءً، كالذي ينكر تحريم الربا وغيره ... من الأحكام، والمسألة الآن مسألة لها أهمية بالغة.

قال القاضي عياض رحمه الله: ونقطع بتكفير كل من كذب وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقع الإجماع المتصل عليه كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس أو عدد ركعاتها وسجداتها.

وقال -أيضاً-: وكذلك من أنكر القرآن أو حرفاً منه أو غيَّر شيئاً منه أو زاد فيه، وكذلك من أنكر شيئاً مما نص فيه القرآن بعد علمه أنه من القرآن الذي في أيدي الناس، وهو صاحب المسلمين، ولم يكن جاهلاً به، ولا قريب عهد بالإسلام، وكذلك من أنكر الجنة أو النار أو البعث أو الحساب أو القيامة، كافر بإجماع النص عليه وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً.

وكذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة كالفواحش وظلم الخلق والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز واللحم والنكاح، فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل.

إذاً: لو جحد تحريم الزنا أو جحد حل الخبز يكفر.

أيها الإخوة: إن القضية ليست قضية أكل الخبز واللحم، يعني: هذه المسألة مسألة مبدأ: أن الله أحل هذا أم لا؟ بغض النظر ما هو الخبز، فإذا جاء إنسان وقال: لا، حرام. هذا معاند، ومكذب لله، الله يقول: حلال. ثم يأتي ويقول: حرام. إذاً: هذا كافر، فليست القضية قضية خبز ولحم، فالقضية قضية المعاندة وإنكار الأحكام الشرعية، والإصرار على مضادة حكم الله ورسوله، وهذا التكذيب يكفر من هذا الباب.

أنواع كفر الجحود

قال ابن القيم رحمه الله: وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص. فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، كأن يقول: كل هذه الشريعة لا تصلح، هذا تخلف، وهذه شريعة زمان مضى، والآن الناس طلعوا القمر وهذه تقال كثيراً، وتجد أصحاب الأدب المعاصر وغيرهم يصرخون: الشريعة موضة قديمة، انتهت.

فكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص. فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، أو يجحد إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، يجحد السنة كلها والقرآن.

والخاص المقيد: أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام أو تحريم محرم من محرماته أو صفة مما وصف الله بها نفسه أو خبراً أخبر الله به، عمداً أو تقديماً لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض كأن يأتي إنسان ويختار شيئاً من الإسلام ويقول: هذا أنكره أنا من رأيي. أو يقول: متابعةً للشيخ الفلاني: أو لفلان الفلاني أو لأي غرض من الأغراض.

وكفر من استحل المحرمات الظاهرة المتواترة قضية خطيرة جداً كما قال القاضي عياض رحمه الله: "وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة المتصوفة".

وقال ابن قدامة رحمه الله: "من اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر" لكن الأئمة وإن قالوا: إن مستحل الكبائر كافر، لم يقصروا التحريم على مستحل الكبائر فقط، بل لو استحل من الصغائر ما تواتر النقل في تحريمه يكفر.

ولذلك قال صاحب نهاية المحتاج فيما يوجب الردة: أو كذَّب رسولاً أو أحل محرماً بالإجماع وقد علم تحريمه من الدين بالضرورة، ولم يجز خفاؤه علينا كالزنا واللواط وشرب الخمر..، أو نفى مشروعية مجمع على مشروعيته معلوماً ولو نفلاً كالرواتب.

إنسان يعرف أن الله شرع الرواتب فليس فيها نقاش فيجحد مشروعيتها يكفر، فالآن لا تنظر قضية كبائر وصغائر، وقضية مستحبات وواجبات، قضية مبدأ: أن الله شرع هذا، شرعه مستحباً أم واجباً وحلله أم حرمه؟ في عبادة أو في قضية خبز ولحم؟ مبدأ المضادة والمعاندة لله.

وكصلاة العيد، لو أن إنساناً أنكر صلاة العيد وهو يعلم أنها مستقرة في الشريعة تماماً، ولو كانت صلاة العيد غير واجبة على قول الجمهور يكفر، كما صرح به البغوي .

ولا بد أن نعلم أن المتواتر على نوعين: أولاً: ما علمه العامة مع الخاصة كمثل كلمة التوحيد وأركان الإسلام فيكفر جاحده مطلقاً؛ لأنه قد بلغه التنزيل.

ثانياً: ما لم يعرف تواتره إلا الخاصة.. وهناك أحكام في المواريث نقل فيها التواتر، لكن لا يعرفها العامة، فلو أنكرها العامي وهو لا يعلم أنها متواترة فلا بد من التفريق، فقضية التكفير ليست سهلة.

وما لم يعرف تواتره إلا الخاصة، فلا يكفر مستحله من العامة؛ لأنه لم يبلغه، وإنما يكفر من استحله وهو يعلم حرمته بالضرورة، مثل: تحريم الصلاة على الحائض إلى غير ذلك من الأمثال الكثيرة.. فهذا بين التواتر لا يكفي وإنما لا بد أن يكون العامي أو الشخص الذي ينكر يعلم أنه متواتر، ويعلم أنه شيء مستقر في الشريعة، وليس عنده شك أنه مشروع وموجود في الدين، ولذلك أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخاص والعام كالصلاة مثلاً فهذا من أنكرها فهو كافر.

لكن لو جاء إنسان وجحد أن بنت الابن تستحق السدس مع البنت، أو جحد تحريم نكاح المعتدة وهو لا يعرف، وهذه مجمع عليها في الشريعة ومتواترة، لكنه أنكرها، فليس بكافر.

وخلاصة ما سبق: أن من أنكر أو جحد أو كذب خبراً من الأخبار الظاهرة المتواترة كالإيمان بعذاب القبر أو بوجود الجن -وليس تلبس الجني بالإنسي، فلو قال: الجن ليسوا موجودين، أنا أنكر وجود الجن. معناه أنه مكذب بسورة الجن وبسورة الرحمن وسورة طه، وقد قاله الله -أيضاً- في الأحقاف، إذاً: المسألة أنه يكذب بما قال الله- كالإيمان بعذاب القبر أو بوجود الجن أو برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ونحو ذلك، أو أنكر حكماً من الأحكام الظاهرة المتواترة، سواء كان هذا الحكم واجباً أو محرماً أو مستحباً كقضية الصلاة والزكاة وبقية الأحكام، أو وجوب بر الوالدين، وصلة الأرحام، وما يشبه ذلك، أو تحريم الخمر والسرقة والربا إلى آخره، أو أنكر سنية الوتر أو الأضحية أو السنن الرواتب.. إلى آخره فإنه يكفر إذا قامت عليه الحجة، ومثله من استحل محرماً من المحرمات الظاهرة المتواترة سواء كان هذا من الصغائر أو من الكبائر كاستحلال الغيبة، واستحلال النظر إلى النساء، ونحو ذاك.. والله أعلم.

لو قال إنسان: ما هو الفرق بين التكذيب والجحود وبين الاستحلال والإنكار؟ فيمكن أن يقال: إن التكذيب أعم من الجحود، إذ الجحود يكون باللسان، والتكذيب يكون بالقلب واللسان والعمل، فيقال: كل جحود تكذيب وليس كل تكذيب جحود، لكن كلها كفر، هذا كفر وهذا كفر، ولكن ليعلم أن ما يقولون من كفر التكذيب وكفر الجحود، قلنا: إن بعض التفريقات فنية، يعني: تسمية اصطلاحات وتقسيمات فنية؛ لتسهيل الفهم وإلا قد تكون النتيجة واحدة، لكن لتسهيل الفهم.

قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: أنواع الكفر لا تخرج عن أربعة: كفر جهل وتكذيب، وكفر جحود، وكفر عناد واستكبار، وكفر نفاق.

وقال -أيضاً-: وإن انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق فكفر الجهل والتكذيب، قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس:39]وإن كتم الحق مع العلم بصدقه، فهذا كفر الجحود والكتمان، قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] والجحود كثيراً ما يقترن بالعناد.

وبعد أن عرفنا التكذيب والجحود، فما هو الاستحلال؟ هو: اعتقاد أن الله لم يحرم شيئاً حرمه تعالى، واعتقاد أن الله أباح الشيء الذي حرمه الله عز جل، فهذا إذاً كفر اعتقادي مختص في مخالفة النواهي باستحلالها. ونذكر هنا: أن الإنسان قد يكفر باستحلال الحرام حتى لو لم يعمله، فلو قال: أنا أعتقد أن الزنا حلال وأنا ما زنيت ولا مرة. فنقول: أنت كافر ولو لم تزنِ ولا مرة. وذاك الذي زنا وهو معتقد بتحريم الزنا لا يكفر، وإنما مرتكب كبيرة، مستحق للعذاب لكنه لا يكفر.

وأما الإنكار فهو يقابل المعرفة كما أن التكذيب يقابل التصديق، وأما كلام الأئمة حول كفر الجاحد والمكذب والمنكر فقد أجمعوا على كفر من أنكر فريضةً من الفرائض الظاهرة المتواترة، أو كذب حكماً من أحكام الله الظاهرة المتواترة، وكلامهم هذا منتشر في كتب العقائد والأحكام.

وطرح هذه القضية في هذا الزمان مهم جداً جداً؛ لأن سوق التكذيب والجحود الآن، وسوق استحلال الحرام ومعاندة الله في أحكامه سوق رائجة، وأصبح إعلان الكفر -الآن- على الملأ في الروايات والكتب وغير ذلك أمر مشاهد وهذا شيء كبير وخطير، فلا بد من توضيح قضية أنواع الكفر للناس؛ لأنهم قد يسمعونها صباحاً ومساءً، كالذي ينكر تحريم الربا وغيره ... من الأحكام، والمسألة الآن مسألة لها أهمية بالغة.

قال القاضي عياض رحمه الله: ونقطع بتكفير كل من كذب وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقع الإجماع المتصل عليه كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس أو عدد ركعاتها وسجداتها.

وقال -أيضاً-: وكذلك من أنكر القرآن أو حرفاً منه أو غيَّر شيئاً منه أو زاد فيه، وكذلك من أنكر شيئاً مما نص فيه القرآن بعد علمه أنه من القرآن الذي في أيدي الناس، وهو صاحب المسلمين، ولم يكن جاهلاً به، ولا قريب عهد بالإسلام، وكذلك من أنكر الجنة أو النار أو البعث أو الحساب أو القيامة، كافر بإجماع النص عليه وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً.

وكذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة كالفواحش وظلم الخلق والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز واللحم والنكاح، فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل.

إذاً: لو جحد تحريم الزنا أو جحد حل الخبز يكفر.

أيها الإخوة: إن القضية ليست قضية أكل الخبز واللحم، يعني: هذه المسألة مسألة مبدأ: أن الله أحل هذا أم لا؟ بغض النظر ما هو الخبز، فإذا جاء إنسان وقال: لا، حرام. هذا معاند، ومكذب لله، الله يقول: حلال. ثم يأتي ويقول: حرام. إذاً: هذا كافر، فليست القضية قضية خبز ولحم، فالقضية قضية المعاندة وإنكار الأحكام الشرعية، والإصرار على مضادة حكم الله ورسوله، وهذا التكذيب يكفر من هذا الباب.

قال ابن القيم رحمه الله: وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص. فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، كأن يقول: كل هذه الشريعة لا تصلح، هذا تخلف، وهذه شريعة زمان مضى، والآن الناس طلعوا القمر وهذه تقال كثيراً، وتجد أصحاب الأدب المعاصر وغيرهم يصرخون: الشريعة موضة قديمة، انتهت.

فكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص. فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، أو يجحد إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، يجحد السنة كلها والقرآن.

والخاص المقيد: أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام أو تحريم محرم من محرماته أو صفة مما وصف الله بها نفسه أو خبراً أخبر الله به، عمداً أو تقديماً لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض كأن يأتي إنسان ويختار شيئاً من الإسلام ويقول: هذا أنكره أنا من رأيي. أو يقول: متابعةً للشيخ الفلاني: أو لفلان الفلاني أو لأي غرض من الأغراض.

وكفر من استحل المحرمات الظاهرة المتواترة قضية خطيرة جداً كما قال القاضي عياض رحمه الله: "وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة المتصوفة".

وقال ابن قدامة رحمه الله: "من اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر" لكن الأئمة وإن قالوا: إن مستحل الكبائر كافر، لم يقصروا التحريم على مستحل الكبائر فقط، بل لو استحل من الصغائر ما تواتر النقل في تحريمه يكفر.

ولذلك قال صاحب نهاية المحتاج فيما يوجب الردة: أو كذَّب رسولاً أو أحل محرماً بالإجماع وقد علم تحريمه من الدين بالضرورة، ولم يجز خفاؤه علينا كالزنا واللواط وشرب الخمر..، أو نفى مشروعية مجمع على مشروعيته معلوماً ولو نفلاً كالرواتب.

إنسان يعرف أن الله شرع الرواتب فليس فيها نقاش فيجحد مشروعيتها يكفر، فالآن لا تنظر قضية كبائر وصغائر، وقضية مستحبات وواجبات، قضية مبدأ: أن الله شرع هذا، شرعه مستحباً أم واجباً وحلله أم حرمه؟ في عبادة أو في قضية خبز ولحم؟ مبدأ المضادة والمعاندة لله.

وكصلاة العيد، لو أن إنساناً أنكر صلاة العيد وهو يعلم أنها مستقرة في الشريعة تماماً، ولو كانت صلاة العيد غير واجبة على قول الجمهور يكفر، كما صرح به البغوي .

ولا بد أن نعلم أن المتواتر على نوعين: أولاً: ما علمه العامة مع الخاصة كمثل كلمة التوحيد وأركان الإسلام فيكفر جاحده مطلقاً؛ لأنه قد بلغه التنزيل.

ثانياً: ما لم يعرف تواتره إلا الخاصة.. وهناك أحكام في المواريث نقل فيها التواتر، لكن لا يعرفها العامة، فلو أنكرها العامي وهو لا يعلم أنها متواترة فلا بد من التفريق، فقضية التكفير ليست سهلة.

وما لم يعرف تواتره إلا الخاصة، فلا يكفر مستحله من العامة؛ لأنه لم يبلغه، وإنما يكفر من استحله وهو يعلم حرمته بالضرورة، مثل: تحريم الصلاة على الحائض إلى غير ذلك من الأمثال الكثيرة.. فهذا بين التواتر لا يكفي وإنما لا بد أن يكون العامي أو الشخص الذي ينكر يعلم أنه متواتر، ويعلم أنه شيء مستقر في الشريعة، وليس عنده شك أنه مشروع وموجود في الدين، ولذلك أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخاص والعام كالصلاة مثلاً فهذا من أنكرها فهو كافر.

لكن لو جاء إنسان وجحد أن بنت الابن تستحق السدس مع البنت، أو جحد تحريم نكاح المعتدة وهو لا يعرف، وهذه مجمع عليها في الشريعة ومتواترة، لكنه أنكرها، فليس بكافر.

وخلاصة ما سبق: أن من أنكر أو جحد أو كذب خبراً من الأخبار الظاهرة المتواترة كالإيمان بعذاب القبر أو بوجود الجن -وليس تلبس الجني بالإنسي، فلو قال: الجن ليسوا موجودين، أنا أنكر وجود الجن. معناه أنه مكذب بسورة الجن وبسورة الرحمن وسورة طه، وقد قاله الله -أيضاً- في الأحقاف، إذاً: المسألة أنه يكذب بما قال الله- كالإيمان بعذاب القبر أو بوجود الجن أو برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ونحو ذلك، أو أنكر حكماً من الأحكام الظاهرة المتواترة، سواء كان هذا الحكم واجباً أو محرماً أو مستحباً كقضية الصلاة والزكاة وبقية الأحكام، أو وجوب بر الوالدين، وصلة الأرحام، وما يشبه ذلك، أو تحريم الخمر والسرقة والربا إلى آخره، أو أنكر سنية الوتر أو الأضحية أو السنن الرواتب.. إلى آخره فإنه يكفر إذا قامت عليه الحجة، ومثله من استحل محرماً من المحرمات الظاهرة المتواترة سواء كان هذا من الصغائر أو من الكبائر كاستحلال الغيبة، واستحلال النظر إلى النساء، ونحو ذاك.. والله أعلم.

أيضاً من المكفرات العظيمة: الشك في حكمٍ من أحكام الله عز وجل أو خبرٍ من أخباره، فمن شروط لا إله إلا الله: اليقين المنافي للشك. وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلق الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة) لاحظ قول: (غير شاك فيهما) وحديث أبي هريرة : (اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة).

وقول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15].

وقوله: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ [التوبة:45] واضح جداً أن من شروط الإيمان: اليقين وعدم الشك والارتياب.

إذاً: الذي يشك في هذا الأمر يكفر، ويناقض لا إله إلا الله.

قال ابن القيم رحمه الله: كفر الشك ألا يجزم بصدقه ولا يكذبه بل يشك في أمره.

ونوضح ذلك بمثال: قال القاضي عياض : ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل أو وقف فيهم -يا أخي! اليهود والنصارى كفار أم لا؟ قال: والله أنا أتوقف- أو وقف فيهم أو شك -يقول: أنا أشك، ولست متأكداً أنهم كفار، فمن دان بملة غير ملة المسلمين أو وقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم -قال: هم على حق ونحن على حق- وإن أظهر مع ذلك الإسلام والشهادتين وصلى وصام وزكى فهو كافر.

إذاً: المسألة مسألة خطيرة والقضية مهمة، وقد ذكر شيخ الإسلام حكم من يكفر الكافر سواء كان كافراً أصلياً كاليهود والنصارى، أو ثبت كفره يقيناً كـالباطنية، فقال في الرد على أهل الحلول والاتحاد، وأقوال هؤلاء، يعني: أهل الحلول والاتحاد يقولون: إن الله حل في كل المخلوقات، كل ما تراه بعينك فهو الله، تعالى الله عن قولهم، قال شيخ الإسلام : "وأقوال هؤلاء -جماعة ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض- وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى" النصارى يقولون بالتثليث، أما هذا فكل شيء عنده هو الله، يعني ملايين الأصوات بل بلايين.

إذاً: النصارى أعقل منهم.

قال: وفيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى، وبذلك يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة، فإنه مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يلبسون على من لم يفهمه، فهذا كله كفر باطناً وظاهراً بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم، ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كما يشك في كفر اليهود والنصارى أو المشركين.

كذلك قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: الثالث: من المكفرات: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر إجماعاً، وقال حفيده الشيخ سليمان : فإن كان شاكاً في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم بينت له الأدلة. قلنا: النصارى يقول الله عنهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] فإن قال: أنا لا أستطيع أن أكفر النصارى، أنا متوقف، أنا لا أدري هم كفار أم لا، فإن شك بعد ذلك وتردد فإنه بإجماع العلماء على أن من شك في كفر الكفار فهو كافر. إذ كيف تشك بكفر الكافر؟

وكذلك فإن الشك في أصول الدين كفر، فلو أن إنساناً قال: أنا أشك في الجنة والنار، أنا أشك في البعث، فقد يكون هناك بعث وقد لا يكون، تصور شخصاً من أبناء المسلمين في جامعة، قال ذات مرة: أنا أصلي احتياطاً. قلت: كيف تصلي احتياطاً؟ قال: إذا صح أن هناك يوماً آخر وهناك حساباً نكون قد صلينا، أي: وإذا لم يصح فما خسرنا شيئاً.

هل تعرف ما معنى هذا؟ معناه أن هذا إنسان كافر بالله العظيم، خارج عن ملة الإسلام، لا تنفعه صلاته ولا صيامه ولا زكاته ولا حجه ولا شيء، وشهادته التي يقولها حبر على ورق، لأنه شك في قضية أصلية هي قضية الدين، شك فيها، وأكثر منه ذلك الأب الذي قام ينصح ولده - له ولد وعلى كلام العامة صار مطوعاً متديناً ومجتهداً في العبادة- قال: يا ولد! قال: نعم يا أبي. قال: لا تتعب نفسك كثيراً، لا تجتهد كثيراً.. لماذا؟ قال: يمكن يطلع ما في شيء .. وهذا أكفر من الأول.

فلذلك الشك هو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بكذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه.. ونحو ذلك، فالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوب الصلاة، أو لا يعتقد تحريم الزنا ولا عدم تحريم الزنا، وهذا كفر بإجماع المسلمين وقد قاله شيخ الإسلام رحمه الله.

وسوسة الشيطان بالكفريات مع عدم الاقتناع بها

وهنا مسألة دقيقة: لو قال قائل: يا أخي، لا يخلو الإنسان من الوساوس، أي: يأتينا الشيطان ويوسوس لنا ويقول: يمكن الله موجود أو غير موجود واليوم الآخر وهكذا ... فهل نحن كفار وخارجون عن الملة؟ فنقول: فرق بين الشك المنافي لليقين وبين الوسوسة، فالوسوسة مما يهجم على الإنسان بغير اختياره، فإذا كرهها ونفاها كان ذلك صريح الإيمان عنده، فلو جاءك الشيطان وقال لك يمكن يوجد ويمكن لا. وتقول: والله لئن ألقى من جبل ولا أن أقول الشيء الذي يوسوس به الشيطان، أنا كاره، يوسوس لي بأشياء أعوذ بالله، أشياء فظيعة. معناه: أنت كاره لهذه الوسوسة.

إذاً: ما عليك شيء، وبالعكس هذا صريح الإيمان، اطمئن، لكن الذي يشك بدون وسوسة، هكذا عقيدته يقول: أنا أعتقد أن هذا غير موجود ويمكن أن يكون موجوداً، هذا إنسان عنده شك في قلبه، ولذلك لو وسوس الشيطان فكره ذلك فليس عليه شيء إطلاقاً، وأما إذا استكان لوسوسة الشيطان وصدقها وبنى عليها فقد كفر.

إذاً: المسألة الآن لا تحتاج إلى قضية قلق وإزعاج؛ لأن بعض الناس يأتيهم من هذه القضية فيعتبر نفسه كافراً، وهذا لا يجوز، اطمئن، ما دمت موقناً بالله وأنه الخالق الرازق المحيي والمميت، ويجب عبادته وحده لا شريك له، موقناً بالجنة وأن الله خلقها من زمان، وأن الله خلق النار من زمان، وأن البعث والجنة حق والنار حق والحساب حق وعذاب القبر حق والساعة آتية وأن الله يبعث من في القبور، ما دمت جازماً بهذا فلا يضرك لو أن الشيطان جاء وألقى لك بعض الأفكار الخبيثة التي أنت تقاومها وتكرهها وتطردها، وتقول: أعوذ بالله من الشيطان وتتفل عن يسارك ثلاث مرات، فهذه لا تضرك إن شاء الله.

وهنا مسألة دقيقة: لو قال قائل: يا أخي، لا يخلو الإنسان من الوساوس، أي: يأتينا الشيطان ويوسوس لنا ويقول: يمكن الله موجود أو غير موجود واليوم الآخر وهكذا ... فهل نحن كفار وخارجون عن الملة؟ فنقول: فرق بين الشك المنافي لليقين وبين الوسوسة، فالوسوسة مما يهجم على الإنسان بغير اختياره، فإذا كرهها ونفاها كان ذلك صريح الإيمان عنده، فلو جاءك الشيطان وقال لك يمكن يوجد ويمكن لا. وتقول: والله لئن ألقى من جبل ولا أن أقول الشيء الذي يوسوس به الشيطان، أنا كاره، يوسوس لي بأشياء أعوذ بالله، أشياء فظيعة. معناه: أنت كاره لهذه الوسوسة.

إذاً: ما عليك شيء، وبالعكس هذا صريح الإيمان، اطمئن، لكن الذي يشك بدون وسوسة، هكذا عقيدته يقول: أنا أعتقد أن هذا غير موجود ويمكن أن يكون موجوداً، هذا إنسان عنده شك في قلبه، ولذلك لو وسوس الشيطان فكره ذلك فليس عليه شيء إطلاقاً، وأما إذا استكان لوسوسة الشيطان وصدقها وبنى عليها فقد كفر.

إذاً: المسألة الآن لا تحتاج إلى قضية قلق وإزعاج؛ لأن بعض الناس يأتيهم من هذه القضية فيعتبر نفسه كافراً، وهذا لا يجوز، اطمئن، ما دمت موقناً بالله وأنه الخالق الرازق المحيي والمميت، ويجب عبادته وحده لا شريك له، موقناً بالجنة وأن الله خلقها من زمان، وأن الله خلق النار من زمان، وأن البعث والجنة حق والنار حق والحساب حق وعذاب القبر حق والساعة آتية وأن الله يبعث من في القبور، ما دمت جازماً بهذا فلا يضرك لو أن الشيطان جاء وألقى لك بعض الأفكار الخبيثة التي أنت تقاومها وتكرهها وتطردها، وتقول: أعوذ بالله من الشيطان وتتفل عن يسارك ثلاث مرات، فهذه لا تضرك إن شاء الله.

ومن نواقض الإيمان -أيها الإخوة- ولا شك: الشرك بالله عز وجل، ومن ذلك الشرك في الربوبية وهو أن يوصف أحد من الخلق بأي صفة من صفات الله عز وجل الذاتية أو الفعلية المختصة به سبحانه وتعالى كالخلق أو الرزق أو علم الغيب أو التصرف في الكون، حتى ولو أثبت هذه الصفات لله، فلو قال: الله يعلم الغيب وفلان يعلم الغيب مثلاً؛ فإن ذلك يعتبر من المخالفة للتوحيد مخالفة أساسية ناقضة للإيمان، وهذا الشرك يكثر لدى الفرق المنحرفة كغلاة الصوفية والباطنية حيث يعتقد أهل الرفض مثلاً في أئمتهم المعصومين الاثني عشر بزعمهم أنهم يعلمون الغيب، وتخضع لهم ذرات الكون ونحو ذلك. وهذا ولا شك شرك في الربوبية، فمن اعتقد أن الأئمة يعلمون الغيب فهو مشرك كافر خارج عن الملة، ونوع الشرك بالتحديد والتوصيف شرك في الربوبية.

الشرك في الخلق والرزق

وأما شرك الخلق والرزق فيقر به عامة الصوفية، وكذلك المشركون الأوائل يعتقدون بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق لكن يدعون ويستغيثون بالأولياء من دون الله؛ لزعمهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ولذلك اقتصر مفهومهم بالشرك باعتقادهم أن الأولياء يخلقون أو يرزقون من دون الله، أو باعتقاد تصرفهم في الخلق باستقلالهم.

الشرك في علم الله

ومن الشرك في الربوبية -أيضاً- الشرك في العلم، بأن يعتقد أن بعض الناس يعلمون مثل علم الله أو يشاركون الله في العلم الذي هو مختص به عز وجل كما جاء في كتاب المجالس المؤيدية قال -وهذا في عقيدة الإسماعيلية، والمؤلف هبة الله الشيرازي - يقول: الأئمة يعلمون من أمر المبدأ والمعاد ما حجبه الله عن كافة العباد.

وكذلك يقول الكليني في الكافي وهو من أهل الرفض وفيه تدليل على أن القوم مشركون شرك الربوبية في قضية علم الله، يقول وقد نسب الكلام إلى جعفر الصادق، وجعفر الصادق من أئمة أهل السنة وهو بريء من هذا الكلام، يقول: إن جعفراً قال: ورب الكعبة، ورب البيت لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما؛ ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما؛ لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وراثةً!

وينسبون إلى الحسن بن علي رضي الله عنه أنه قال: إنا نعلم المكنون والمخزون والمكتوم الذي لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل غير محمد وذريته.

وهذه الفكرة -أيضاً- موجودة عند الصوفية الغلاة، ولذلك بينهم وبين أهل الرفض قرابة المذهب، أولاد عم في الأفكار والمعتقدات.

وهذا عبد الكريم الجيلي الصوفي صاحب كتاب " الإنسان الكامل " يزعم أنه كشف له عن حقائق الأمور من الأزل إلى الأبد، وأنه رأى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة.

وهذا الشعراني صاحب الطبقات الكبرى ينقل عن شيخه الخواص أنه كان يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة فساعة.

ومما قاله المتصوفة: وينبغي لمن يريد: أن يعلم أو أن يعتقد بشيخه أنه يرى أحواله كلها كما يرى الأشياء في الزجاجة، وهذا الكلام في كتب التيجانية مثل كتاب " رماح حزب الرحيم في نحور حزب الرجيم ".

وكذلك فإن أهل السنة والجماعة يعتقدون أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهذا واضح من خلال الآيات: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هود:123].

قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الكهف:26] ما الفرق بين غيب السماوات والأرض له وبين له غيب السماوات والأرض؟ التخصيص، له غيب السماوات والأرض اختص به سبحانه وتعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50] وأولئك يقولون: ورثناها وراثة عنه، عن محمد صلى الله عليه وسلم! كذباً، ينسبون إلى الأئمة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ورثوه منه وراثة: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65] والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله) لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في الغيب إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحدٌ إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله.

وكذلك لما قال عز وجل: عَالِمُ الْغَيْبِ [الجـن:26] قال عن نفسه: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجـن:26-27] فإذاً: هذا بين أن الله عز وجل جعله خاصاً مختصاً بعلم الغيب، وأنه إذا أطلع رسولاً على شيء من الغيب لحكمة، مثلما أطلع الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً على بعض ما يكون عند قيام الساعة، فحدثنا به عليه الصلاة والسلام فيما يعرف بأشراط الساعة، وأطلعه على صنف محدود.. على شيء معين عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجـن:26-27] فيطلعه على أمرٍ معين وليس على كل شيء: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:109] وقال عن نبيه: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50].

فإذاً: من ادعى علم الغيب لنفسه أو لغيره فهو كافر مكذب بالقرآن، وقد قال الله لنبيه: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف:9] فهذه الأخبار قد جاءت في القرآن الكريم بهذا عن سائر الأنبياء، وأن إبراهيم عليه السلام لم يعلم بأنه يولد له ولد من زوجته سارة إلا بعد أن جاءته الملائكة في صورة بشر فلم يعرفهم، فذبح لهم عجلاً، ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أخبروه أنهم يريدون أن يذهبوا لتدمير قرية قوم لوط، ولما جاءوا لوطاً ساءه ذلك ولم يعلم حق هؤلاء، وظن أنه قد ابتلي بهؤلاء الأضياف وكيف يدافع عنهم، ثم ما عرف الحقيقة إلا بعد أن أخبروه أنهم ملائكة، وأنهم جاءوا لإنجائه وإنجاء أهله من قومه.

إذاً: هو المختص بعلم الغيب عز وجل، ولو قيل: إنه سبحانه وتعالى قال: إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجـن:27] فنقول: هذه في أمورٍ معينة، عند الله تعالى علم الغيب وحده، وبيده طرق الغيب لا يملكها إلا هو، فإذا شاء إطلاع أحد من خلقه من الرسل مثلاً على شيء من الغيب أطلعه عليه كأشراط الساعة، وأن بعض الصحابة في الجنة، وأحوال بعض أهل النار وأهل الجنة كما أطلعه عليها وقال: (رأيت صاحبة الهرة التي حبست هرتها في النار) أخبرنا بأمور من الغيب عن ربه عز وجل.

وأما بالنسبة للغيب فكل ما غاب عنك فهو غيب، فقد يكون في الماضي وقد يكون في الحاضر، مثل أشياء -الآن- في قاع المحيطات، وقد يكون في المستقبل، وهو الذي لا يعلمه إلا الله، فالماضي قد يعلمه بعض الناس، والحاضر يعلمه بعض الناس، ولذلك قضية الغيب للماضي والحاضر قضية نسبية، فبعض الناس يعلمون أشياء لا يعلمها آخرون من أخبار الماضي أو من أخبار الحاضر، أما المستقبل فلا يعلمه إلا الله عز وجل.

ولذلك لا بد من تمييز هذه القضايا لئلا يتسرع بعض سيئي الحكم على أشخاص آخرين بالكفر دون أن يكون هناك بنية شرعية؛ ولذلك الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله لما علق على قضية مقامات الغيب للخلق التي لا يعلمها إلا الله، وأنه قد تفرد بعلمها، وأن من قال: إنه يعلم ما في الأرحام فهو كافر. وعلم ما في الأرحام يشمل أنه يعلم هل هو شقي أو سعيد، ويعلم عمله ومتى يولد، وكم يوم بالضبط، هل يجهض؟ هل يموت؟ هل يولد ناقصاً أم يكمل المدة أو أنه لا يكمل المدة، أو يسقط جنيناً قبل أن يكتمل؟ كل ذلك لا يعلمه على الحقيقة إلا الله.

وبقيت قضايا معينة: مثلاً: هل هو ذكر أو أنثى مثلاً؟ هذه المسألة إذا كان فيها تجربة وقال الإنسان فيها بخبرته وتجربته، قال: من خبرتي وتجربتي أنها تحمل ذكراً. فإن كان لهذا سبب واضح فلا نقول: هذا كافر.. يقول ابن العربي رحمه الله: والتجربة منها أن يقول الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، وإن كان ذلك في الثدي الأيسر -أي: مسود الحلمة- فهو أنثى، المهم عند بعض الأطباء تجربة وقد تكون صحيحة وقد تكون خطأ، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فهو ذكر، وإن وجدت الجنب الأيسر أثقل فهو أنثى، فإذا ادعى أن هذه عادة وردت له من خلال تجربته، قال: لم نكفره ولم نفسقه، وأما من ادعى العلم في مستقبل العمر فهو كافر.

وكذلك الآن لو صورناه في الآلات بعد عمر معين ورأينا كذا لا يقال: هذا كافر؛ لأنه لا يخبر عن المستقبل إلا الله فإنه يخبر عما يراه بالأجهزة الآن، ثم قد يكون صادقاً وقد لا يكون، وقد حدث أن أخبروا رجلاً أن زوجته ستضع أنثى فذهب واشترى ملابس أنثى، ويوم ولدت جاء ذكراً، وكل الملابس التي اشتراها أصبحت لا تفيده.

إذاً: حتى هذه القضية ليس بالضرورة أنهم يخبرون بها على الوجه الدقيق، قد يخطئون وقد يقولون: لاف رجل على رجل، لم نعرف ما هو. هذا عند الذين يصورون بجهاز الموجات.

قال صديق حسن خان رحمه الله: فمن اعتقد في نبي أو ولي أو جن أو إمام أو ولد الإمام أو شيخ أو شهيد أو منجم أو رمال أو جفار أو فاتح فأل أو برهم أو خبيث أن له مثل هذا العلم وهو يعلم الغيب فهو مشرك بالله، وعقيدته من أبطل الباطلات وأكذب المكذوبات.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: والمقصود من هذا أن يدعي معرفة علم الشيء من المغيبات، فهو إما داخل في حكم الكاهن وإما مشارك له في المعنى فيلحق به.

الشرك في التصرف

هناك أيضاً مما يخرج من الملة وينقض الإيمان وينافي توحيد الربوبية منافاةً أساسية قضية الشرك في التصرف:

الشرك في التصرف من ضمن ما تقول به بعض الفرق كـالباطنية وتأليههم لبعض الأشخاص، فيؤوله بعض فرق الباطنية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك يؤلهون الحاكم بأمره، وهؤلاء لهم غلوٌ ظاهر، فمثلاً يعتقد بعض الباطنية أن الله يحل في الأشخاص، وأن آخر حلول له كان في علي بن أبي طالب ، ذهبوا إلى ما يشبه عقيدة التثليث عند النصارى، إذ أنهم ألفوا ثالوثاً يتكون من علي ومحمد وسلمان الفارسي ، ويزعمون أن العلاقة بين أطراف هذا الثالوث علاقة إيجاد، فـعلي خلق محمداً، ومحمد خلق سلمان، وسلمان خلق الأيتام الخمسة، وهم: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وعثمان بن مظعون، وعبد الله بن رواحة، وقنبر بن كادان مولى علي رضي الله عنه وأنه أوكل لهؤلاء الخمسة -الأيتام الخمسة- مسئولية الكون والتصرف فيه وتصريف أموره، فـالمقداد إليه الرعد والصواعق والزلازل، وأبو ذر موكل إليه الرياح وقبض أرواح البشر، وقنبر موكل إليه نفخ الأرواح في الأجسام، وعلي بن أبي طالب وسلمان والأيتام الخمسة يتفردون بتصريف أمور الكون من الخلق والموت والحياة.. وهذا من أخص صفات الربوبية.

فإذاً: من يعتقد هذا فلا شك أنه كافر كفراً أكبر.

كذلك تقدم أن الإمامية الاثنا عشرية ينسبون إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من رواية جعفر بن محمد قوله: انتقل النور إلى غرائزنا، ولمع في أئمتنا، فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض، فبنا النجاة ومنا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمور، وبمهدينا تنقطع الحجج.

وكذلك ينسبون إليه أنه قال: انظر الاعتقاد هذا الذي يقول: كيف يكفر؟ يكفر وإذا كان هناك أكثر من الكفر شيء فهو من صاحبه.

يزعمون أن علياً قال عن الأئمة: ونحن الذين بنا تمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذننا، وبنا تمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث وتنشر الرحمة.

وكذلك قالوا: إن لأئمتنا درجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لها جميع ذرات الكون. وهذا شرك في الربوبية.

وكذلك المتصوفة جعلوا بعض أئمتهم أو الولي عندهم أو الغوث الأعظم مساوياً لله عز وجل في بعض صفاته، يرون مثلاً: أن الولي الفلاني يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويتصرف في الكون، ولهم تقسيمات لهذه الولاية، فالولي: يعني الولاية، والولي طبقات وأنواع: فهناك الغوث المتحكم في كل شيء في العالم، والأقطاب الأربعة الذين يمسكون الأركان الأربعة في العالم بأمر الغوث، والأبدان السبعة الذين يتحكم كل واحد منهم في قارة من القارات السبع.. -جيد عندهم علم في الجغرافيا- وكذلك النجباء كل واحد منهم يتصرف في ناحية تتحكم في مصير الخلق، بل يزعم بعض المتصوفة أن من كرامات أوليائهم أنهم يحيون الموتى، وأن أحمد البدوي جاءته امرأة تستغيث بولدها الذي مات، فمد البدوي يده ودعا له فأحياه الله تعالى، ويزعمون أن البدوي يميت من يتعرض له من الأحياء كما فعل مع معارضيه في العراق، فقال لهم: موتوا. فوقعوا على الأرض قتلى. ثم قال: قوموا بإذن من يحيي الأموات ويميت الأحياء. فقاموا.

الاعتقاد بالأنواء والكواكب

ومما يدخل تحت دعوى تصرف المخلوقات بشئون الكون من دون الله: ما يدعيه أهل الجاهلية ومن تبعهم من الاعتقاد بالأنواء والنجوم والكواكب، وأنها تنشئ السحاب وتنزل الغيث، وأن هذه النجوم لها تأثير مباشر على الحوادث الأرضية، وأن بسببها يموت فلان ويحيا فلان، ويحدث كذا، وتقوم حرب.. وهكذا، فهؤلاء أيضاً مشركون شرك الربوبية.

أما أهل السنة والجماعة -المسلمون- يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى مختص بهذه الأشياء، وأن النفع والضر، والخير والشر والخلق والرزق والإحياء والإماتة، والتصرف في شئون العالم كله بقضائه وقدره ومشيئته وأمره عز وجل، وأنه يأمر ملائكته بالأوامر المختلفة فينفذون، وقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف:188] وقال عز وجل: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً [الجـن:21].. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126] وقال سبحانه وتعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سـبأ:22].

وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ [سـبأ:22] ما لهم نصيب ولا مشاركة ولا تصرف، والحديث: (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) وحديث: (وإن اجتمع الخلق على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد قدره الله لك) وكذلك في الضر، قال عز وجل عن نفسه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر [الأعراف:54] سبحانه وتعالى.

فإذاً: ليس لأحد من مخلوقاته شيء ما بوجه من الوجوه من ناحية التدبير والتصريف، فالكل تحت ملكه سبحانه وقهره إماتةً وخلقاً ورزقاً وغير ذلك، ونحن نعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قال بعض الناس على إثر سماء أمطرت: مطرنا بنوء كذا. فنقل لنا عن ربه عز وجل حديثاً قدسياً: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) رواه البخاري .

وأما شرك الخلق والرزق فيقر به عامة الصوفية، وكذلك المشركون الأوائل يعتقدون بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق لكن يدعون ويستغيثون بالأولياء من دون الله؛ لزعمهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ولذلك اقتصر مفهومهم بالشرك باعتقادهم أن الأولياء يخلقون أو يرزقون من دون الله، أو باعتقاد تصرفهم في الخلق باستقلالهم.