الفطرة وعلاقتها بالإيمان بوجود الله عز وجل
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
الفطرة وعلاقتها بالإيمان بوجود الله عز وجلالفطرة قوة داخلية لو تُركت على أصلها بدون معوقات ومؤثرات خارجية، فإنها تدفع الإنسان إلى الإيمان بوجود الله عز وجل، والاستسلام له سبحانه؛ ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172].
((كل مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه؛ كمَثَل البهيمة تُنتَجُ البهيمةَ، هل ترى فيها جدعاءَ؟))[1].
وكذلك ترى الالتجاء إلى الله عز وجل في المصائب: ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ﴾ [يونس: 12].
تجد المسلمين وغير المسلمين - بل وغير المؤمنين بأي دين - إذا حدثت لهم مصيبة، أو تعسر عليهم أمر، تراهم يتوجهون إلى السماء، وكأن هناك شيئًا داخليًّا يقودهم إلى أن هناك إلهًا في السماء، يطلبون منه العون وكشف الضر، وهي من بقايا الفطرة التي غرست في الإنسان من بداية خلقه.
وتجد ذلك أيضًا في الغرب؛ فمن الأمثال الموجودة هناك: "لا يوجد ملحدون في الخنادق"، "no atheist in the trenches"؛ بمعنى أنه في حال الحرب واشتداد القتال، لا يوجد ملحدون، بل الكل يتوجه إلى تلك القوة العليا يطلب منها النصر والسلامة.
وقد قال المؤرخ الإغريقي بلوتارك: "من الممكن أن نجد مدنًا بلا أسوار، وبلا ملوك، وبلا ثروة، وبلا آداب، وبلا مسارح، ولكن لم نجد قط مدينة بلا معبد، يمارس فيه الإنسان العبادة".
وهناك كثير من علماء العلوم الإنسانية؛ كعلم النفس والاجتماع، والتاريخ والأدب، يعترفون بوجود دوافع داخلية في الإنسان يسمونها أحيانًا فطرة، وأحيانًا غريزة.
ونجد عالمًا مثل (دين هامر) مدير وحدة التنظيم والهيكل الجيني في معهد السرطان القومي الأمريكي ألَّف كتابًا، سماه (الجين الإلهي) يطرح فكرة أن تكون الفطرة الدافعة إلى الإيمان والروحانيات، محملة على أحد الجينات، إن وجود هذه الجينات على هذا النسق من التناغم والتكامل يثبت وجود الله عز وجل.
والفطرة تؤدي إلى إثبات وجود الله عز وجل، وإذا تُركت فِطَر الناس على حالها، لآمن من في الأرض كلهم؛ ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].
كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا))[2].
ويقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: "ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أعطى الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدًا"[3].
يقول الإمام الطيبي: "إن تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين، فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها".
قيل لجعفر بن محمد: ما الدليل على وجود الله، ولا تذكر لي العالم والعرض والجوهر؟ فقال: هل ركبت البحر؟ قال: نعم، قال: وهل عصفت بكم الريح حتى خفتم الغرق؟ قال: نعم، قال: هل انقطع رجاؤك من المركب والملاحين؟ قال: نعم، قال: هل تيقنت في نفسك أن ثَمَّ مَن ينجيك؟ قال: نعم، قال: فذاك هو الله؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 67].
قصة عودة الطبيب لورانس بروان إلى الفطرة؛ يقول بروان: رُزقت بطفلة تعاني من مشكلة كبيرة في القلب، وهي تضيق برزخ الأبهر (Coarctation of Aorta)، والطفل المصاب بهذا المرض يحتاج إلى عملية جراحية في القلب، ثم بعد عدة سنوات يُفتح القلب من جديد، وتجرى له عملية أخرى وهكذا.
يقول بروان: حين عرفتُ حالتها شعرت، وللمرة الأولى في حياتي أنني عاجز عن فعل أي شيء...
أُخذت الطفلة مباشرة للعناية المركزة...
ولونُ جسمها من الصدر فما دون أزرق! لأن جسمها لا يصله الأكسجين...
وهذا يعني أنها ربما تموت...
عندما رأيتُ هذا المنظر شعرتُ أنني وللمرة الأولى في حياتي بحاجة إلى القوة العظمى...
فقد كنتُ ملحدًا قبل ذلك...
كان عليَّ أن أغادر غرفة العناية المركزة...
وتركتُ ابنتي مع فريق من الأطباء المتخصصين في مستشفى جامعة جورج واشنطن...
توجهتُ ولأول مرة في حياتي لغرفة العبادة المجاورة...
ثم صليتُ صلاة أهل الإلحاد وقلت فيها: يا رب، إذا كنتَ موجودًا فأنا أريد مساعدتك، وأعطيتُ عهدًا لخالقي في ذلك اليوم، وكان ذلك العهد إذا أنقذ حياة ابنتي وهداني للديانة التي يرتضيها، فسأتبع هذا الدين، كل هذا استغرق مني 15 أو 20 دقيقة)...
وعندما عدتُ إلى غرفة العناية المركزة رفع الدكاترة وجوههم إليَّ...
رأيتُ في وجوههم أن شيئًا ما قد تغيَر، كانوا لا يدركون ما الذي حدث، كأنهم مصدومون.
وحين أقبلتُ عليهم قالوا لي: سوف يكون وضعها جيدًا، ولن تموت! وسوف تصبح طفلة طبيعية جدًّا! ولن تحتاج إلى عملية ولا إلى دواء! قال أحدهم: في البداية أظهر إيكو القلب عندها المشكلة العظيمة التي أخبرناك عنها...
أما الآن فهي طبيعية جدًّا.
حاول الأطباء أن يشرحوا لي كيف حدث هذا...
فقلتُ لهم: هذه الشروحات قد تنفعكم أنتم...
ولكنها لا تنفعني أنا...
لأنني صليتُ صلاتي...
وأعتقدُ أن يد خالقي قد تدخَّلتْ، تيقنتُ أن خالقي حقق وعْده...
وعليَّ أن أحقق وعدي.
وهذا ما جعلني أبحث في الديانات...
بدأتُ باليهودية والنصرانية، وبذلتُ كل جهدي لسنوات...
ولكنني لم أجد الحق في تلك الديانات لوجود التناقضات فيها.
واستمررتُ في بحثي حتى وصلتُ إلى الإسلام...
فوجدتُ أجوبة لكل أسئلتي...
ودخلت الطمأنينة من يومها قلبي...
كان ذلك في عام 1994.[4]
وهذا بروفيسور الرياضيات العائد إلى الفطرة، جيفري لانج يقول: "لا أحد يعرف الوحدة كالملحد، فالمسلم عندما يشعر بالوحدة، فإنه ينادي من أعماق روحه الواحد الأحد، الذي يعرفه ويكون في مقداره الاستجابة له، لكن الملحد محروم من هذه النعمة؛ لأن عليه أن يسحق هذا الدافع، ويذكر نفسه بسخفه، فالملحد إله عالمه الخاص، وهو عالم صغير جدًّا يحدده مجال إدراكه، وهذه الحدود في تناقص مستمر".
وعندما سألته ابنته عن سبب إسلامه، قال: "لقد هويت في الرحمة النابعة من الحب الأسمى، لقد عدت إلى ملاذي ثانية"[5].
• وهذا جاستين باريت أستاذ علم النفس في جامعة أكسفورد، يُجري بواسطة مساعدته تجربة حول الإلحاد والإيمان، فأجرت مساعدة باريت مقابلة مع أم إنجليزية وابنها، وكانت تسأل الأم عن اعتقادهم حول وجود إله، فكانت الأم تنفي وجود إله صانع للكون، بينما كان الطفل يُصر على حتمية وجود صانع للكون، ويقول لأمه: يجب أن يكون جوابك عن الاعتقاد بوجود إله، بنعم.
• إذًا؛ فدليل الفطرة هو أقوى الأدلة على وجود الله عز وجل، وعلى صحة دين الإسلام، وما يقوم به الملحدون من الطعن في الدين هو محاولة لطمث هذه الفطرة، والقيام باختراع أسباب تبرر إلحادهم، حتى يبدو وكأنه إلحاد عقلاني، ففكرة كون بلا خالق، ومعضلة الشر، ونظرية التطور، والنظريات الفيزيائية، وتكذيب الرسل والافتراء عليهم، ونقد الشريعة الإسلامية، كل ذلك ما هي إلا محاولات ليُريح الملحد نفسه من عناء منازعة الفطرة له في إلحاده، ومن أجل ذلك لجأ الملحدون إلى إنكار الأشياء المسلَّمة؛ مثل: الأخلاق والغرائز، والمبادئ العقلية والسببية.
فإذا كان لا يؤمنون بالأخلاق، فما الذي يجعل هناك التزام أخلاقي؟ وتقسيم الأفعال، هذا فعل خير، وهذا فعل شر؟ فإذا قالوا: إنه توافق مجتمعي، كما يقول أحد أشهر الملاحدة ريتشارد دوكنز: "العلم الطبيعي ليس لديه طرق للحكم على ما هو أخلاقي، إن هذه مسألة متروكة للأفراد والمجتمع"، فكيف توافقوا على هذا؟ ما المحرك الذي دفعهم إلى هذا؟ فنجد أن هناك قوة داخلية وهي الفطرة التي حركتهم في هذا الاتجاه.
• وإذا كل مجتمع له الحرية في اختيار ما يناسبه من القيم والأخلاق إذا توافق عليه المجتمع، فلمَ ينكر المجتمع الغربي على المجتمع الإسلامي أخلاقه وعاداته وتقاليده، ويقلل من شأنها إذا كانت لا توافق أخلاقه وعاداته وتقاليده.
• وإذا كانت الأخلاق تتطور وتتغير، فمعنى ذلك أن يصبح الخير شرًّا، والشر خيرًا، طالما لا يحكمها ضابط، ومن ثَمَّ لا يمكن تجريم من يرتكب جريمة، فهي بالنسبة لهم أشياء نسبية.
• وهذه بعض أقوال كبار الملاحدة لتتبين الحالة التي يعيشونها من عدم الأخلاق:
فهذا دان باركر يقول: "إن الاغتصاب قد يكون أمرًا أخلاقيًّا".
وهذا بيتر سنجر يقول: "يمكن للبشر والحيوان أن يقيما علاقة جنسية مرضية للطرفين"، ويؤيد قتل المواليد الجدد إذا كانوا مصابين بإعاقة.
وهذا دوكينز يدافع عن الخيانة الزوجية، ويرفض تسميتها بخيانة.
وهذا سيلفرمان رئيس الملحدين الأمريكيين يصرح بأن الأخلاق شيء نسبي، ولا وجود قيم حقيقية مطلقة، ولا يرى مشكلة في قتل الأطفال وتعذيبهم، وهكذا نرى أن المنكر لوجود الخالق يتبعه إنكار للنزعة الأخلاقية، ويعيش بلا مبادئ ولا أخلاق.
كذلك أنكروا وجود الغريزة، فنحن نرى الطيور تهاجر من الشمال إلى الجنوب في أوقات معينة، ونرى بعض الأسماك تترك المياه الباردة إلى المياه الدافئة في أوقات معينة، ونشاهد المولود يلتقط ثدي أمه، ونرى حنان الأم على طفلها، فمن ذا الذي هدى هؤلاء إلى فعل تلك الأشياء؟ إنها الفطرة التي غرسها الله سبحانه في الكائنات.
ورأينا تناقض مواقفهم مثل ادعائهم احترامهم للعقل، بينما تقول نظرية داروين التي يقدسونها أن العقل جاء نتيجة تطور من كائنات أدنى، وأن قدرات العقل مشكوك فيها، وهذا ما قاله مؤسس الداروينية نفسه حين قال في كتاب أصل الأنواع: "ينتابني دائمًا شك فظيع حول ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان، الذي بدوره تطور من عقول كائنات أدنى، لا تتمتع بأي قيمة أو تستحق أدنى ثقة"، فكيف بك يا ملحد تؤمن بأن العقل ليس قيمة، ثم تستدل به على أنه مصدر المعرفة؟ فيا له من تناقض كبير!
ورأينا تناقضهم في إنكارهم مبدأ السببية عندما يتعلق الأمر بدلالة الأشياء على وجود الله عز وجل، رغم أنهم يبنون إيمانهم بالعلم على مبدأ السببية، فقد يصبح من العبث البحث عن أسباب الأمراض، فحسب ادعائكم قد تنتج هذه الأمراض نتيجة الصدفة مثل الكون بلا سبب، فلا داعي للبحث وإنفاق الأموال من أجل معرفة أسباب الأمراض؛ ومن ثم علاجها.
ورأينا تحقيرهم لقيمة الإنسان واعتباره وسخًا كيميائيًّا كما يقول ستيفين هوكينج، بينما نرى في المقابل احترام الدين للإنسان، وجعله مكرمًا وخليفة الله على الأرض، سخر الله له الكون.
ورأينا كيف يعيبون على المؤمنين أمورًا ثم يمارسونها هم، مثل الإيمان بالغيبيات، ثم يعلنون إيمانهم بنتائج غيبية لا دليل عليها، ويبنون تفكيرهم العلمي على افتراض الفروض، ثم عمل التجارب لإثبات تلك الفروض.
ويزعم بعضهم أنه دخل في الإلحاد؛ لأنه لم يجد ردودًا على أسئلة متعلقة بالله الخالق، وأنه بإلحاده هذا قد فك القيود التي تقيد تفكيره وعقله، ليقع في دوامة من الأسئلة عن الغايات والأخلاق والغرائز، ونشأة الكون وأعاصير التناقضات التي تحيط به، وبدأ في سلسلة من الإنكارات، حتى لا يبقى شيء ثابت ولا قانون يُعتمد عليه، ولا مبادئ يتحاكم إليها.
ويدعون أن المؤمنين يخادعون أنفسهم، بينما هم يدعون إلى خداع الناس وخداع أنفسهم؛ حتى لا يسألوا عن الغاية من وجود الإنسان؛ كما يقول المخرج الأمريكي (ويلي آلان): "إن الحل الوحيد لكيلا يسأل الناس عن الغاية من الحياة هو إلهاؤهم وتشتيتهم؛ حتى لا يواجهوا الحقيقة"، وكما يرى لورانس كراوس "أن الكون جاء صدفة، وأنه يجب الاستمتاع باللحظة".
• ولكن أحد الملحدين وهو (جون سارتر) لم يستطع أن يكمل خداعه لنفسه، ورجع عن إلحاده قائلًا: "لا أرى أنني وليد الصدفة، بل شخص محسوب حسابه، وُجد لغاية، كائن لا يستطيع إيجاده إلا خالق".
[1] رواه الشيخان.
[2] رواه مسلم.
[3] كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
[4]
https://www.youtube.com/watch?v=90tozR1Duho
[5]
https://www.youtube.com/watch?v=FaOlc7ykli0&t=31s