متن ابن عاشر [12]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله:

[مندوبها تيامن مع السلام تأمين من صلى عدا جهر الإمام]

قوله: (مندوبها) سبق أن النكرة إذا أضيفت إلى الضمير تعم، فالمقصود هنا مندوباتها، أي: ما فيها من المندوبات التي هي دون السنن.

وقد سبق أن ذكرنا أن المؤلف ذكر في الأصول أن السنن تدخل في المندوب، وأن المندوب يشمل السنة، ولكن المشهور في اصطلاح المالكية التفريق بينهما؛ بأن السنة هي ما أظهره النبي صلى الله عليه وسلم في ملأ وواظب عليه ولم يتركه، وأن المندوب ما دعا إليه أو فعله ولم يظهره ولم يواظب عليه أو نحو ذلك، وهذا الحد قد لا يكون دقيقاً في مندوبات الصلاة بخصوصها، فإن ما يذكرونه من المندوبات أغلبه مما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأظهره، ولكنه يكون دون ما ذكروه من السنن من ناحية درجة المطلوبية.

التيامن مع السلام

قال: (مندوبها تيامن مع السلام) (مندوبها) مبتدأ، وخبره متعدد أو نحو ذلك، و(تيامن) مبتدأ آخر وخبره منه، أي: من مندوبها؛ لأنه لا يمكن أن يكون (تيامن) خبر (مندوبها)؛ لأن الإخبار به عنه يقتضي الحصر، فيكون مندوبها محصور في التيامن مع السلام، وهذا غير مقصود، بل المقصود أن مندوبها متعدد، فمنه (تيامن مع السلام).

والتيامن معناه التفات المسلم عند سلامه مع السلام أو مع آخر السلام، وكذلك التياسر مع السلام الآخر، والتيامن أقل من التياسر، فإذا سلم الإنسان فيقول: السلام عليكم ورحمة الله.. السلام عليكم ورحمة الله، فيكون تياسره يرى منه خده الأيسر، يرى من خده الأيمن، والتيامن يرى فقط أيضاً خده الأيمن، فهذا يرى خده الذي يليه، والآخر يرى وجهه تقريباً، فهذا الفرق بين التياسر والتيامن في السلام.

وهذا نظير ما ذكرنا في رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام؛ فإنه باليدين ينبذ الدنيا وراء ظهره، وبالسلام يقبل على الناس، كأنه رجع من رحله حتى لو لم يكن خلفه أحد؛ لأنه نبذ الدنيا وراء ظهره وهو راجع إليها الآن، فلذلك يلتفت إليها.

وقوله: (مع السلام) أي: مع آخره، مع نهاية اللفظ.

التأمين بعد الفاتحة

(تأمين من صلى) كذلك من مندوبات الصلاة التأمين بعد الفاتحة، وهذا التأمين بين النبي صلى الله عليه وسلم فضله فذكر: ( أن الإمام إذا قال: وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7] قال الملائكة في السماء: آمين، فمن صادف تأمينه تأمين الملائكة غفر له )، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما حسدتكم يهود على شيء ما حسدوكم على آمين ).

و(آمين) مختلف فيها هل هي من اللغة العربية أو من غيرها؟ ومختلف في معناها أيضاً؛ فقيل: هي من اللغة العربية، وهي اختصار لجملة أصلها (اللهم أمنا بخير) أي: اقصدنا بخير، أي: وجه إلينا الخير، وقيل: هي لفظ من اللغات السامية كلها، أي: من لغات بني سام بن نوح، فيكون من الألفاظ المشتركة ويكون معناه (استجب دعاءنا).

وفيها لغات فيقال: آمين، ويقال: أمين، ويقال: أمينَ، بالتحريك، ومن ذلك قول الشاعر:

سقى الله حياً بين صارة والحمى حمى فيد صوب المدجنات المواطر

أمين فأدى الله ركباً إليكم بخير ووقاكم حمام المقادر

وكذلك قول الآخر:

ويرحم الله عبداً قال آمينا

فإذاً يقال: (آمينَ) و(أمينَ) و(آمينْ) و(أمينْ).

قال: (عدا جهر الإمام) معناه: لا يجهر بها المصلي مطلقاً، ولكن ما كان المأموم غير مطالب بالجهر أصلاً في صلاته ذكر الإمام، فالإمام لا يجهر بـ(آمين) عند المالكية، وقد كان أهل المدينة يسرون بـ(آمين)، وكان أهل مكة يجهرون بها؛ فقد ذكر عطاء بن أبي رباح أنه أدرك مائتين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون في المسجد الحرام، فإذا قال الإمام: آمين سمعت لهم لجبة بالتأمين، أي: رفعوا أصواتهم بالتأمين جميعاً.

وعموماً فالإمام يشرع له التأمين، ولكن جاء حديثان في ذلك هما: ( إذا قال: آمين فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقولها في السماء، فمن صادف تأمينه تأمين الملائكة غفر له )، والحديث الآخر: ( فإذا قال: وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7] فقولوا: آمين )، وقد حمل بعض الناس ذلك على أن الإمام ليس مخاطباً بها في حال الجهر، أو أنه يسر بها؛ وذلك عملاً بحديث: ( فإذا قال: وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7])، والآخرون يرون أنه يجهر بها، ويستندون إلى حديث: ( فإذا قال: آمين فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقولها في السماء).

وعموماً فالأمر ميسور في ذلك؛ فلا حرج في الجهر بها والإسرار، لكن ليس على المأموم جهر فيما عداها، فالمأموم ليس عليه جهر بتكبيرة الإحرام ولا بتسليمة التحليل، ولا بأي لفظ من ألفاظ الصلاة، لا قراءة ولا تكبيراً ولا دعاءً إلا لفظ (آمين)، فيجوز له أن يجهر به.

وهذا الجهر ينبغي أن يكون جهراً متوسطاً، وكذلك إذا ذكرنا الجهر في الصلاة فالمقصود به إسماع نفسه، هذا أقله، وجهر الإمام هو بقدر الحاجة، أي: بقدر إسماع المصلين، وكذلك جهر المؤذن إنما هو بقدر إسماع الناس، وينبغي أن يقتصد في صوته؛ لأن رفع الصوت كثيراً فيه رعونة ومضرة على البدن؛ وقد سمع عمر رجلاً يؤذن، فيبالغ في رفع صوته، فرفع عليه الدرة وقال: (أما تختشي يا هذا أن تنشق بريداؤك) والبريداء والمريداء أسفل البطن، والله سبحانه وتعالى يقول: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[لقمان:19].

قول: (ربنا لك الحمد)

قال المصنف رحمه الله:

[وقول ربنا لك الحمد عدا من أم والقنوت في الصبح بدا]

(وقول ربنا لك الحمد عدا من أم) أي: من مندوبات الصلاة قول الفذ والمأموم: ربنا لك الحمد، فهذا هو المشهور لدى المتأخرين من المالكية في التفريق، فيرون أن لدينا ذكرين في الرفع من الركوع: الذكر الأول: سمع الله لمن حمده، وهو للإمام وللفذ كذلك، والذكر الثاني: ربنا لك الحمد، وهو للمأموم والفذ كذلك؛ فالفذ له نسبة من الإمامية، وله نسبة من المأمومية؛ فهو ليس تابعاً لأحد، فكان إماماً من هذا الوجه، وهو منفرد لا يأتم به أحد، فكان مأموماً من هذا الوجه، فلذلك جمعوا له بين الذكرين، لكن الذي رجحناه أن الذكرين مطلوبان من كل مصل؛ إماماً كان أو مأموماً أو فذاً؛ فكل مصل يقول في الرفع من الركوع: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، سواءً كان إماماً أو مأموماً أو فذاً، هذا الذي تدل عليه النصوص.

وقد سبق أن في هذا اللفظ أربع روايات: (ربنا ولك الحمد) هذه أشهرها، ثم (ربنا لك الحمد) ثم (اللهم ربنا لك الحمد) ثم (اللهم ربنا ولك الحمد) وهي أضعفها، التي اجتمع فيها (اللهم) والواو، وسبق شرح هذا اللفظ.

(عدا من أم) أي: غير الإمام.

القنوت في الصبح

(والقنوت في الصبح بدا) كذلك من مندوبات الصلاة القنوت في الصبح، والقنوت في اللغة يطلق على أربعة أمور:

يطلق على السكوت، ومنه قول الله تعالى: وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ[البقرة:238]، أي: ساكتين، وقد كانوا يتكلمون في الصلاة قبل نزول هذه الآية.

ويطلق على القيام، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الصلاة طول القنوت )، أي: طول القيام.

ويطلق على الدعاء فيقال: قنت فلان، أي: دعا، ومنه قول الله تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ[آل عمران:43].

ويطلق القنوت كذلك على الخشوع، وقد فسر به قول الله تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ[التحريم:5]، (قانتات) حملت على الخشوع.

والمقصود بالقنوت في الاصطلاح: الدعاء في القيام في الركعة الأخيرة من الصلاة، وهذا القنوت له محلان: المحل الأول بعد الانتهاء من السورة قبل الركوع، والثاني بعد الرفع من الركوع في حال القيام.

وكذلك القنوت الأصل فيه الإسرار ككل دعاء؛ لأن الدعاء من شأنه الإسرار، وأدعية الصلاة كلها يسر بها في الأصل، لكن مع ذلك يجوز أن يجهر به القانت، والقنوت مطلوب في النوازل بلا خلاف بين أهل العلم، والنوازل هي ما يصيب المسلمين من المصائب أو يحل بهم من الكوارث، فيسن لهم أن يقنتوا في ذلك الوقت بالدعاء، والأصل في دعاء القنوت أن يقتصر فيه على محل النازلة، ولكن مع ذلك يجوز أن يزاد معه الدعاء بأمور أخرى.

وكذلك اتفق تقريباً أيضاً على القنوت في الوتر وبالأخص إذا كان ذلك في صلاة الوتر وبالأخص في النصف الأخير من رمضان؛ فقد كان الناس في أيام عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يقنتون في رمضان، وقال عروة: (ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان)، وقد وجه عمر بن عبد العزيز رحمه الله بالقنوت في النصف الأخير من رمضان، وأرسل بذلك إلى عماله.

أما قنوت النوازل فيمكن أن يدعى به في كل صلاة، في الركعة الأخيرة منها، سواءً كانت سرية أو جهرية، ويجوز الجهر به في السرية، كما يجوز السر به في الجهرية أيضاً.

والقنوت الدائم في صلاة الصبح مندوب عند المالكية، وهو سنة مؤكدة عند الشافعية، والشافعية يرون أن من تركه سهواً يلزمه السجود؛ لأنه من سنن الصلاة المؤكدة عندهم، أي: في صلاة الصبح بالخصوص، لكن الشافعية يرون أن الأفضل الجهر به، وأن يكون بعد الركوع، والمالكية على خلاف في ذلك؛ فيرون أن الأفضل السر به، وأن يكون قبل الركوع.

فله أربعة أحكام لدى المالكية: أن يكون قبل الركوع، وأن يكون سراً، وأن يكون في الصبح فقط، وأن يكون باللفظ الذي ورد، وهو اللفظ الذي اختاروه وهو: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد، إن عذابك بالكفار ملحق. وهذا الدعاء فيه خمسة عشر فعلاً مضارعاً، وقد رد أنه كان سورتين في مصحف أبي بن كعب، أخرج ذلك البيهقي والدارقطني، وورد عن عمر بن الخطاب أنه كان يقنت به فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك، وفي رواية: من يكفر بك. بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد، إن عذابك بالكافرين ملحِق أو ملحَق.

وروي القنوت به كذلك عن علي وابن عباس، ولكنه لم يرد فيه حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت به في الصلاة، إنما جاء الحديث المرفوع في قنوت الوتر وهو: ( اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت )، هذا في حديث الحسن بن علي بن أبي طالب .

وأما هذا اللفظ وهو: (اللهم إنا نستعينك)، فمعنى (نستعينك) أي: نطلب منك العون، (ونستغفرك) أي: نطلب منك المغفرة، والمغفرة: ستر الذنب في الدنيا وعدم المؤاخذة به في الآخرة، (ونؤمن بك ونتوكل عليك) أي: نعتمد عليك في الأمر كله، يقال: توكل وتركل بمعنى: اعتمد، ومنه قول الشاعر:

ربت ربا في كرمها ابن مدينة يظل على نسحاته يتوكل

والمدينة: الأمة، والمقصود بهذا البيت مزرعة، يصف مزرعة يقول: (ربت ربا في كرمها ابن مدينة) أي: ابن أمة، (يظل على نسحاته يتركل أو يتوكل) معناه: يعتمد.

ونخنع لك خنع له بمعنى: ذل، والخانع: الذليل، ومنه قول الشاعر:

أجلك يا ليلى عن العين إنما أراك بقلب خاشع لك خانع

والخانع معناه: الذليل.

ونخلع أي: نخلع ونترك من يكفرك، نخلعه بمعنى: ننبذه ونتركه، نترك من يكفرك، وفي الرواية الأخرى: (من يكفر بك) ومعناهما واحد، يقال: كفره وكفر به، مثل ما يقال: شكره وشكر له، اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ[لقمان:14]، وكذلك تتعدى بنفسها فيقال: شكره، ومنه قول الشاعر:

سأشكر عمراً ما تراخت منيتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت

رأى خلتي من حيث يخفى مكانها فكانت قذى عينيه حتى تجلت

(اللهم إياك نعبد) وتقديم المعمول يفيد الاختصاص، وهذا معناه: لا نعبد إلا أنت، وقد حصلت قصة للشيخ البيضاوي المفسر وهو من مشاهير علماء الروم، وكان له لفظ (الروم) إذ ذاك يطلق على ما نسميه نحن اليوم بتركيا، هذه بلاد الروم، وكان البيضاوي من مشاهير علماء الروم، فألف كتابه في التفسير، وحمله من بلاد الروم يقصد به ملكاً بفارس من كبار الملوك يثيب على الكتب المؤلفة، وقد اشتهر في تاريخ الإسلام أن من كان من أهل العلم من الملوك يثيب على الكتب؛ فمن أهدى إليه كتاباً من العلماء أثابه عليه بمال جزيل؛ ولذلك قال ابن مالك مخاطباً صلاح الدين الأيوبي في مقدمة المثلث:

وإتباع حمد الملك الوهابي صلاته على الرضا الأواب

محمد وآله الأنجاب به انتهاج النطق في الكتاب

وبعد فالأولاد أن تجلى له بنات فكر ناسبت إجلاله

ملك يباري فضله إفضاله بنصر أهل العلم والآداب

الناصر الذي له تأييد من ربه بأسعد تزيد

الناصر هو صلاح الدين الصغير.

فمن عداه لهم مبيد مستأصل يغني عن اضطراب

من جره الأقدار فهي منجدة لمن يواليه بجود وجده

ومن يناويه يجدها مقصدة بأسهم لم تخن بالإكتاب

إلى صلاح الدين الابتداء ممن سمت بعزمه العلياء

ومن نوى إدراك ما يشاء من مبتغى المربوب والأرباب

يمناه فيها لابنها معين منه على نيل العلا معين

فلن يرى لسؤدد تعين إلا بقرب منه وانتساب

قد نجأت له الملوك السيد طوعاً وكرهاً هم له عبيد

إذ ليس عنه لهم محيد إلا لأحرى الخلق بالعقاب

لما علمت أنه ذو أرب إلى اتساع في كلام العرب

أردت أن أجعل بعض قربي له كتاباً فيه ذا احتساب

وهذا استدراك مهم؛ لئلا يكون الكتاب مجرد تقرب إلى الملك، مع أنني محتسب فيه عند الله تعالى.

أحوي به أكثر تثليث الكلم نحو حملت وحرمت وحلم

فحوز هذا الفذ مهم به اعتنى علماً أولو الألباب

وها أنا آتي به مبوباً على الحروف بيناً مرتبا

ملخصاً مخلصاً مهذباً ينقاد معناه بلا اصطصعاب

فكذلك هذا الشيخ حمل تفسيره إلى هذا الملك، فنزل على شيخ بالعراق فأكرمه، فسأله: إلى أين تسافر أيها الشيخ؟ قال: إلى هذا الملك، أحمل إليه كتاباً ألفته في التفسير، لم يؤلف مثله، لعله يثيبني عليه بمال أستعين به على أمور دنياي وقضاء ديني، فسكت العراقي ثم سأله فقال: أيها الشيخ! ماذا قلت في تفسير قول الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، فقرأ له تفسيره فإذا فيه: لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين إلا بك، وتقديم المعمول يفيد الاختصاص، كأنه ينبهه إلى أنه الآن يستعين بمخلوق، ففهم البيضاوي ذلك وقرر قطع رحلته والرجوع إلى بلاده، متوكلاً على الله، فما وصل إلى داره حتى سبقه رسل الملك يحملون إليه مالاً جزيلاً.

وقد تكررت هذه القصة، فحصلت لـأبي عثمان بكر المازني النحوي المشهور، وهو من كبار أئمة البصريين، وهو شيخ أبي العباس المبرد، فإنه كان فقيراً ذا بنات، فجاءه يهودي بالبصرة فسأله أن يكتب له كتاب سيبويه على ثلاثمائة درهم، قال: فوجدت في كتاب سيبويه ثلاثمائة آية، فلم أكن لأبيعها بثلاثمائة درهم ليهودي، فامتنع من ذلك، فأقبل عليه أهل بيته يلومونه على ذلك، ويقولون: اكتب له الكتاب وخذ ثلاثمائة، فنحن بحاجة إليها، فبينما هو يناقش أهل بيته في الليل إذ طرقت عليه خيل البريد، وإذا استدعاء من الخليفة الواثق، يدعوه للحضور في نفس الليلة لبغداد، فحملته خيل البريد، وجيء به إلى الواثق في مجلسه، فأدخل عليه، فإذا هو كانت تغنيه جارية له، فأنشدت قول الشاعر:

أغليم إن مصابكم رجلاً أهدى السلام تحية ظلم

فقال الواثق: (أغليم إن مصابكم رجل) خبر (إن) فقالت الجارية: هكذا لقنني شيخي أبو عثمان المازني بالبصرة، فطلبه حتى جيء في ذلك الوقت فسأله عن هذا البيت: أغليم إن مصابكم؟ فقال:

أغليم إن مصابكم رجلاً أهدى السلام تحية ظلم

قال: ما فعلت بخبر (إن)؟ قال: يا أمير المؤمنين! ألا ترى أن الكلام مغلق إلى قوله: ظلم، فظلم في آخر البيت هي خبر (إن)، و(رجلاً) مفعول (مصابكم) لأنه مصدر، وهو مضاف إلى فاعله فينصب مفعوله.

وبعد جره الذي أضيف له كمل بنصب أو برفع عمله

ففهم الواثق ذلك، فأعطى المازني ثلاثة آلاف دينار، وأعطى الجارية ثلاثة آلاف دينار فأهدتها إلى شيخها.

وسأله عن أهله فذكر أن له بنات فقال: ماذا قلن لما أتتك خيل البريد؟ قال: قلن قول الأعشى :

أبانا فلا رمت من عندنا فإنا بخير إذا لم ترم

أرانا إذا أضمرتك البلا د نجفى وتقطع منا الرحم

فقال: بماذا أجبتهن؟ قال بقول جرير:

ثقي بالله ليس له شريك ومن عند الخليفة بالنجاح

فقال: بالنجاح إن شاء الله؟ ثم عرض عليه هل يريد البقاء معه وتدريسه، أو أن يرجعه مكرماً إلى أهله، فاختار الرجوع إليهم، فعجله بخيل البريد إلى أهله.

لذلك لابد أن يدرك الإنسان أن الاستعانة بالمخلوق لا تأتي بخير، وأن الاستعانة بالخالق جل جلاله هي التي توصل الإنسان إلى مراده؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهما: ( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ).

(ولك نصلي) أي: الصلاة بكاملها، وهي العبادة المخصوصة، (ونسجد) قيل: معناه سجود التلاوة وقيل: السجود في الصلاة؛ لأن العطف في الأصل يقتضي المغايرة، لكن عطف الخاص على العام يفيد مزية في الخاص، مثل قول الله تعالى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ[البقرة:98]؛ فجبريل من الملائكة وقد عطف عليهم، وعطف الخاص على العام يفيد مزية في الخاص. فقوله: (ولك نصلي ونسجد) السجود له مزية على غيره من الصلاة؛ لأنه أقرب أحوال العبد إلى ربه.

(وإليك نسعى) إما أن يكون المقصود السعي بين الصفا والمروة، أو أن يكون المعنى العمل مطلقاً؛ فالعمل سعي، والسعي يطلق على العمل، ويطلق على المشي، ويطلق على الإسراع في المشي، فيطلق على ثلاثة أمور، فيطلق على الإسراع في المشي، ومنه قول الله تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى[القصص:20]، أي: يسرع في مشيه، ومنه قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ[الجمعة:9]، أي: فامضوا؛ كما أخرج مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب في تفسير هذه الآية قال: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ[الجمعة:9]، قال: فامضوا المشي فقط دون إسراع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار )، ويطلق السعي على العمل، يقال: سعى فلان إلى كذا، أي: عمل على الوصول إليه، و(إليك نسعى) إما أن يكون معناها: نعمل، أو نمشي، وكذلك يمكن أن تفسر بالإقبال على الله والمشي إليه؛ لأنه سبحانه وتعالى قال فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: ( أنا عند ظن عبدي لي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ).

(ونحفد) حفد معناه: خدم، أي: الخدمة المختصة بالملوك، ومنه الحفيد أي: ابن البنت؛ لأنه يخدم أجداده كخدمة الملوك؛ ولذلك يقول الشاعر:

إني امرؤ من بني جميمة لا أحسن قتو الملوك والحفدا

(لا أحسن قتو الملوك) أي: خدمتهم، والحفد هو الخدمة المخصوصة.

(نرجو رحمتك) الرجاء من الألفاظ التي تستعمل في الأضداد، فيطلق على تعلق القلب بالمحبوب، وهذا المقصود هنا، ويطلق أيضاً على عكسه وهو الخوف من المكروه؛ ولذلك قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ[العنكبوت:5]، معناه: يخاف الله؛ فالرجاء هنا بمعنى الخوف؛ ولذلك هو من الألفاظ التي تستعمل في الضدين، فيستعمل بمعنى الطمع والطلب، ويستعمل بمعنى الخوف، وهو هنا بمعنى الطمع، أي: تعلق بالمحبوب مع الشروع في أسبابه، وهذا الفرق بين الرجاء والتمني؛ فالرجاء مطلوب شرعاً، والتمني مذموم شرعاً، فالرجاء هو تعلق القلب بالمحبوب مع الشروع في أسبابه، والتمني هو تعلق القلب بالمحبوب من غير تعلق بأسبابه، فلا يبذل الإنسان أي سبب، ولكن يتمنى فقط، وقد جاء في الحديث: ( والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني )، والله سبحانه وتعالى يقول: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ[النساء:32]، وقد جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: (أحتسب عند ربي عشراً؛ فما تغليت ولا تمنيت، ولا مسست ذكري يمني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم..) إلى آخر الأثر، فالتمني ليس محموداً شرعاً بخلاف الترجي، فالرجاء هو تعلق القلب بالمحبوب مع الشروع في أسبابه، والإنسان الذي يرجو أن يكون عالماً معناه أنه يحب ذلك وهو شارع في أسبابه، يبذل جهداً في الوصول إليه، أما الذي يتمنى ذلك فهو لا يبذل أي جهد، ولكنه يحب ذلك فقط.

(نرجو رحمتك) ورحمة الله هنا قد تكون بمعنى جنته، أي: نرجو جنتك، ويمكن أن تكون أعم من ذلك فتشمل رحمة الدنيا ورحمة الآخرة، والرحمة تنقسم إلى قسمين: إلى رحمة هي صفة من صفات الله جل جلاله، وهي غير مخلوقة؛ فهو جل جلاله الرحمن الرحيم، وإلى رحمة مخلوقة، والمقصود بها أثر الرحمة على عباده؛ فهذا يسمى رحمته؛ ولذلك ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة واحدة في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها )، فهذه الرحمة المخلوقة التي هي أثر الرحمة القديمة، والرحمة القديمة صفة الله جل جلاله، والرحمة المخلوقة أثر هذه الرحمة، وهذا الأثر واسع جداً؛ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[الأعراف:156]؛ ولذلك من آثار الرحمة المطر، يقول الله تعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا[الروم:50]، ومن آثار الرحمة الليل والنهار كما قال الله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ[القصص:73]، فهي وسعت الليل والنهار وما سكن فيهما، فكل ذلك داخل في سعة رحمة الله جل جلاله.

وهذه الرحمة الدنيوية بها يتراحم الخلائق فيما بينهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها )، الدابة كالفرس أو الأتان أو البغل، فالبغلة إذا كانت نفوراً شروداً لم تؤدب بأي أدب، فولدت ولدها الضعيف الصغير فإنها ترفع حافرها عنه لئلا تؤذيه، وهي مؤدبة على ذلك بتأديب الله ورحمته، فلم يتدخل مخلوق في أبدها في ذلك، وهي تدفع عنه البهائم، وتقربه إلى الظل؛ فكل ذلك من رحمة الله جل جلاله.

وقد دخل عبد الله بن المبارك رحمه الله على هارون الرشيد فقال له هارون: عظني، فوعظه حتى بكى، فلما بكى اشتد بكاء الخليفة حتى رحمه عبد الله فخاف عليه، فقال: يا أمير المؤمنين! ما نصيبك من رحمة الله في الدنيا؟ قال: لقد أنعم الله علي بما لا أحصيه؛ فخلقني وسواني، ورزقني عقلاً وإيماناً، وهداني للإسلام، وجعلني ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آل بيته، ثم ملكني على المسلمين، وذكر بعض النعم التي أنعم الله بها عليه، قال: يا أمير المؤمنين! هذا حظك من رحمة واحدة قسمها الله بين الخلائق أجمعين في الحياة الدنيا، فما ظنك من حظك من تسع وتسعين رحمة ادخرها للمؤمنين في الجنة؟

فالمؤمنون أصلاً نسبتهم في غيرهم نسبة يسيرة جداً هي واحد من ألف في أهل النار؛ فالخلائق جميعاً بمن فيهم الكفار ينالون حظهم من هذه الرحمة الدنيوية، بها تنزل الأمطار، وبها تجرى السفن، وبها يجرى الهواء ويتعاقب الليل والنهار، كل ذلك ينتفع به المسلم والكافر والبهيمة والإنسان.

إذاً هذه الرحمة الواحدة وزعت في الدنيا بين الخلائق أجمعين، مسلمهم وكافرهم، إنسانهم وبهائمهم، ومع ذلك هذا نصيبك منها، فما ظنك بنصيبك من تسع وتسعين رحمة تختص فقط بالمؤمنين؟!

(ونخاف عذابك) وفي الرواية الأخرى: (ونخشى عذابك)، والخوف والخشية اختلف فيهما؛ فقيل: هما مترادفان؛ لأن الرواية جاءت لكليهما، وقيل: الخشية أخص من الخوف؛ فالخوف قد لا يحمل على التسبب، والخشية تحمل على التسبب دائماً، فإذا قلت: أخشى كذا فمعنى ذلك أنك تعمل على إزالة ما تخشاه، وإذا قلت: أخاف كذا فقد لا تعمل عملاً من أجله؛ ولذلك فخشية الله أعلى مقاماً من خوفه، فالعاصي يخاف الله، ولكن المطيع يخشى الله؛ لأن خشيته حملته على الطاعة والعاصي خوفه لم يحمله على الطاعة، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، فهذا الفرق بين الخشية والخوف.

والعذاب أنواع منوعة؛ فمنه عذاب الدنيا وعذاب البرزخ وعذاب الآخرة، وعذاب الدنيا ثلاثة أقسام هي المذكورة في قول الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ[الأنعام:65]، فجعل العذاب ثلاثة أقسام: القسم الأول منه منزل من السماء، والثاني مرتفع من الأرض، والثالث في الوسط وهو الخلافات والحروب والبغضاء والشحناء، والعذاب متفاوت الدرجة، فأقله شأناً عذاب الدنيا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذه أهون )، أي: عذاب الدنيا فيما يتعلق بأن يسلط الله بعضهم على بعض، أو أن يجعل بأسهم بينهم.

وهو هنا مقصود (فنرجو رحمتك ونخاف عذابك)، لكن في رواية إثبات الوصف وهي: (نخشى عذابك الجد) مخرج لعذاب الدنيا؛ فمعناه: نخشى عذابك الجد الذي هو عذاب القيامة؛ فهو العذاب الأكبر؛ كما قال الله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ[السجدة:21]، وقد اختلف أهل التفسير في العذاب الأدنى فقالت طائفة: هو عذاب القبر، وبعده العذاب الأكبر وهو عذاب النار، وقالت طائفة أخرى: بل المقصود هنا عذاب الدنيا؛ لأنه قال: لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ[السجدة:21]، لا فرصة للرجوع بعد عذاب القبر.

وقيل في تفسير: لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ[السجدة:21]، أي: ليبعثوا بعد عذاب القبر فيكون ذلك تنقية لهم؛ لأن عذاب القبر من مكفرات الذنوب.

(إن عذابك بالكفار ملحق) أي: لاحق بهم؛ فالملحق بصيغة اسم الفاعل من المزيد فيه، والرواية الأخرى (ملحَق) بصيغة اسم المفعول، أي: يلحقه الله بهم.

وقد اختلف في حكم هذا القنوت قديماً من أيام الصحابة، فقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يحافظ على القنوت، وقد سئل عن قنوت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه كان يقنت بعد الرفع من الركوع، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (كان يطيل في الرفع من الركوع حتى نقول: هل سها؟) كما في حديث علي رضي الله عنه.

والقنوت الذي سئل عنه الصحابي في أيام بني أمية فقال: (أي بني محدث)، إنما هو القنوت الذي كان أمراء بني أمية يفعلونه للدعاء لملوكهم والثناء عليهم، فيجعلون لهم حظاً من الصلاة يثنون على ملوكهم بذلك، فذلك الذي كرهه الصحابة، أما قنوت النوازل فقد قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً في الدعاء للمستضعفين بمكة؛ فكان يقول: ( اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة )، وهؤلاء الثلاثة من بني مخزوم، وكانوا مستضعفين بمكة، فأنجاهم الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، كما قنت صلى الله عليه وسلم شهراً في الدعاء على عصية ورعل وذكوان حين غدروا ببعث الرجيع، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يقول في صلاته: ( اللهم العن رعلاً وذكوان وعصية )، وكان يقول: ( عصية عصت الله )، وعصية بطن من بني سليم، ومنذ ذلك الوقت إلى عصرنا هذا لا يزيد عددهم عن سبعة رجال، ولا يبلغون عشرة؛ وقد حدثني أحدهم قال: لم يرو في التاريخ أن رجالنا زادوا على هذا العدد منذ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ومع ذلك بقوا في تسلسل، وهم موجودون لهذه الموعظة والعبرة.

والدعاء من المعلوم أنه موجه إلى المشركين منهم، وليس موجهاً إلى المسلمين، لكن الذنب شؤم يصل إلى الأعقاب، فنحن نعلم أن العقاب لا يصل إلا إلى مقترف الذنب، ولكن الشؤم يتعداه؛ فشؤم الذنوب به يأتي القحط، والقحط يصيب الحيتان في البحر، ويصيب الشجر في البراري، ويصيب البهائم والوحوش، وكل ذلك من شؤم ذنوب العباد.

ولا بد أن نعرف أن ما يناله الناس من الخير بسبب الحسنات في الدنيا ليس من جزائها؛ لأن الجزاء أخروي، والدنيا دار عمل ولا جزاء، ولكنه من بركة الحسنات، وما يصيبهم من الشر بسبب الذنوب في الدنيا ليس من جزائها؛ لأن الجزاء أخروي، وإنما هو من شؤمها فقط.

اتخاذ الرداء

قال المصنف رحمه الله:

[رداً وتسبيح السجود والركوع سدل يد تكبيره مع الشروع]

(رداً) كذلك من مندوبات الصلاة اتخاذ الرداء، والرداء هو الثوب الذي يجعله الإنسان على كتفيه، أي: من ورائه ثم يستر به صدره، وإذا جعله على رأسه وستر به صدره فذلك جائز لغير المحرم أيضاً، والمقصود به ما يستر أعلى الإنسان، فالواجب كما سبق في الستر هو ما يستر أسفله، أي: من سرته إلى ركبته، وقد سبق في ستر العورة.

والرداء هو ستر أعلاه، فيكره للإنسان أن يصلي وليس على كتفيه شيء، وبعض الناس يفهم ذلك أنه إذا كان يلبس ثوباً سابغاً لا بد أن يتخذ فوقه أيضاً رداء، وهذا غير صحيح.

وبعض الفقهاء يفهم إن الرداء دائماً تغطية الرأس، وتغطية الرأس في الصلاة قيل: هي مشروعة للإمام وحده لئلا يعان أو يعاب؛ لأنه إما أن يكون جميلاً، وإما أن يكون قبيحاً، فإن كان جميلاً خشية أن يعان، أي: أن يصيبه الناس بالعين، وإن كان قبيحاً فخشية أن يعاب، أي: أن يعيبه الناس.

وذهب بعضهم إلى أنه يندب لكل مصل تغطية الرأس، وهذا يختلف باختلاف البلدان، فبعض البلدان يكون من المروءة فيها تغطية الرأس، وبعض البلدان لا يكون ذلك مروءة فيها، بل يكون الأمر سهلاً فيها، مما يجوز، وقد ثبت في حديث أنس أنهم (كانوا يعرفون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في السرية باضطراب لحيته)، وهذا يدل على أنه ليس رأسه مغطىً إذ ذاك، ولو كان مغطىً برداء لما رأوا لحيته تضطرب وهم وراءه في الصف.

وعموماً فإن استعمال العمامة في الصلاة وفي غيرها هو من شأن العرب، والعمائم تيجان العرب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل العمامة؛ فقد جاء: ( أنه ألقى طرفيها بين كتفيه، وأدارها على رأسه )، وثبت في حديث جابر في صحيح مسلم: ( أنه خطب يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء فوق المغفر ).

وقوله: (رداً) هو بالقصر، وإذا قصر فإنه ينون كـ(عصاً) فأصله (رداء) ولكنه قصر للضرورة:

القصر للمد اضطرار مجمع عليه والعكس بخلف يقع

كما قال ابن مالك .

التسبيح في السجود والركوع

(وتسبيح السجود والركوع) كذلك من مندوبات الصلاة التسبيح في السجود والتسبيح في الركوع، وهذا التسبيح تجزئ منه المرة الواحدة، ولكن الكمال فيه ثلاث تسبيحات، فهي أقل الكمال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثاً فقد تم ركوعه، وذلك أدناه )، والعلماء حملوا ذلك على أن المعنى: وذلك أدنى الكمال؛ لأنه أدنى الركوع؛ فهذا التس