خطب ومحاضرات
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [7]
الحلقة مفرغة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن مذهب أهل الحق: أن الله عز وجل لم يزل متكلماً بكلام مسموع مفهوم مكتوب، قال الله عز وجل: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] ].
أراد المؤلف إثبات صفة الكلام لله تعالى، وسيطيل فيها، وهي من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع، ومن العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع.
قال: (أن الله عز وجل لم يزل متكلماً بكلام مسموع مفهوم) فأهل السنة يقولون: إن الله تعالى متكلم بكلام مفهوم بحرف وصوت مسموع مفهوم كلام الله، فكلامه سبحانه سمعه جبرائيل، والله تعالى ينادي الناس يوم القيامة ويسمعون كلامه، وكلامه مفهوم تفهمه القلوب وتعلمه، ومقروء بالألسنة، ومكتوب في المصاحف.. كل هذا حق في هذه المواضع كلها فإذا قرأه قارئ فهو مقروء له، وإذا سمعه السامع فهو مسموع له، وإذا حفظه الحافظ فهو محفوظ له، وإذا علمه وفهمه في قلبه فهو مفهوم له.
فهو مقروء، مسموع، مكتوب، معلوم، محفوظ في الصدور، وهو في هذه المواضع كلها ليس مجازاً؛ لأن المجاز يصح نفيه، فيقال: ما قرأ القارئ كلام الله، ما سمع القارئ كلام الله، ما فهم ...إلخ. وهذا باطل، بل نقول: قرأ القارئ كلام الله, سمع السامع كلام الله، كتب الكاتب كلام الله، حفظ الحافظ كلام الله، نظر الناظر في كلام الله.
المقصود: أن المؤلف رحمه الله استدل من الكتاب العزيز بقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وهناك أدلة أخرى منها قوله تعالى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] وقوله تعالى: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الشعراء:10] وهذا فيه إثبات النداء، والنداء هو الكلام من بعد، وقوله: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52] والمناجاة هي الكلام من قرب، ونادى الله الأبوين فقال: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا [الأعراف:22]، فالأدلة في هذا الباب كثيرة، لكن المؤلف رحمه الله اقتصر على هذه الآية.
شبهات أهل البدع في إنكارهم لصفة الكلام والرد عليها
قالوا: لو قلنا: إن الله يتكلم. للزم من ذلك أن يكون له شفتان وأضراس وأسنان؛ لأن الذي يتكلم لابد أن يخرج الحروف من الشفتين والأضراس والثنايا العليا والسفلى، وحافة اللسان، والله منزه عن ذلك كله. لكن هذا لا يلزم، فنحن نرى بعض الأشياء تتكلم وليس لها أضراس ولا لسان، ومن ذلك شهادة اللسان والأيدي والأرجل يوم القيامة، قال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24] فهذه الأشياء ليس لها لسان تتكلم به، وقال النبي: (إني لأعرف حجراً يسلم علي في مكة)، أي: أن الحجر كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم والحجر ليس له لسان، بل سمع تسبيح الطعام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي يخطب على جذع ثم أُتي له بمنبر، فلما خطب صاح الجذع حتى كاد ينشق؛ فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يهدئه كما يهدئ الصبي حتى سكت، فهل الجذع له لسان وصوت وأضراس، فإذا كانت بعض المخلوقات تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم، فكيف تنكرون أن يكون الله يتكلم ولا نعلم كيف يتكلم؟ لكن أهل البدع -والعياذ بالله- ابتلوا بمخالفة النصوص والإعراض عنها، وتأويلها، ودفعها. نسأل الله السلامة والعافية.
والآية هي تأكيد للمصدر وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] قال العلماء: إن التأكيد للمصدر ينفي المجاز وينفي التأويل.
حتى أن بعض أهل البدع كالجهمية شق عليهم سماع هذه الآية التي فيها أن الله يتكلم، حتى تمنى بعضهم أن تمحى من المصحف، وحرف قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فقرأها بفتح لفظ الجلالة: وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] فجعل الرب هو المكلم وموسى هو المتكلم حتى ينفي عن الرب الكلام، فقال له بعض أهل السنة: هب يا عدو الله! أنك استطعت أن تحرف هذه الآية، فكيف تقول في قوله تعالى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]؟ قال: معنى وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أي: جرحه بأظافره، قصده من هذا إنكار الكلام وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة:41].. لا حيلة في من أضله الله.
كلام الله للعباد بلا واسطة والدليل على ذلك
(ترجمان) بضم الجيم وفتحها، والترجمان: هو الواسطة الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى، والمترجم ينقل الكلام من شخص إلى شخص أو من لغة إلى لغة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (ثم ينظر أيمن منه فلا ينظر إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل) ].
حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه حديث صحيح رواه البخاري في مواضع فرواه في كتاب الرقاق، والتوحيد، ورواه الإمام مسلم في كتاب الزكاة، ورواه الترمذي وابن ماجة وابن قتيبة في كتاب التوحيد، والآجري في الشريعة وغيرهم، وفيه إثبات كلام الله عز وجل يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان)، وفيه إثبات أن الله يكلم كل أحد ليس بينه وبينه واسطة ينقل الكلام من الله إلى العبد، أو من العبد إلى الله.
وفي اللفظ الآخر: (ما منكم من أحد إلا سيحاضره ربه محاضرة يقول: فعلت كذا يوم كذا وكذا، فعلت كذا يوم كذا وكذا وسترت عليك، فيقول: يا رب! ألم تغفرها لي؟ قال: بلى قد غفرتها لك)، وهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، ثم ينظر أيمن منه فلا ينظر إلا شيئاً قدمه) أي: ينظر عن يمينه فلا يرى إلا عمله من أمامه، قال: (ثم ينظر أشأم منه) أي: جهة الشمال، (فلا يرى إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه من الأمام فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل)، وهذا فيه فضل الصدقة وأنها تقي من النار، وشق التمرة نصفها، قوله: (من استطاع منكم أن يقي وجهه النار) أي: أن يجعل بينه وبين النار حجاباً، (بشق تمرة) أي: أن يتصدق بنصف تمرة (فليفعل)، الفقير إذا أعطيته نصف تمرة وهذا أعطاه نصف تمرة تجمع عنده شيء سد جوعته.
وفي اللفظ الآخر: (فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، إذا كنت لا تستطيع الصدقة بشيء قليل، فالكلمة الطيبة تقوم مقام الصدقة، والحديث صريح في إثبات كلام الله عز وجل، وأن الله تعالى يكلم الناس يوم القيامة، وفيه رد على أهل البدع الذين أنكروا كلام الله كالجهمية والمعتزلة وغيرهم.
كلام الله للشهداء والدليل على ذلك
وهذا الحديث لا بأس بسنده، وقد رواه ابن ماجة في المقدمة باب ما أنكرت الجهمية، وفي كتاب الجهاد، ورواه الترمذي أيضاً في كتاب التفسير، وابن أبي عاصم في السنة، وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد، وليس بحسن، ولا بأس به فيه إثبات الكلام لله عز وجل، وفيه منقبة لـعبد الله بن حرام -وهو والد جابر رضي الله عنه- عندما قتل شهيداً يوم أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنه جابر( يا جابر ! ألا أخبرك ما قال الله لأبيك عبد الله بن حرام ؟ قال: بلى، قال: ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحاً) يعني: ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب أي: من وراء واسطة (وكلم أباك كفاحاً) أي: مواجهة ليس بينه وبينه حجاب ولا رسول، وهذه منقبة لـعبد الله بن حرام ، وهي: أن الله كلمه من دون واسطة، وأما غيره فهو من وراء حجاب.
ما الذي قال الله له؟ قال الله لـعبد الله بن حرام: (يا عبد الله ! تمن عليَّ أعطك، فقال عبد الله بن حرام : يا رب! تحييني فأقتل فيك ثانية)، لما رأى فضل الشهادة وأن منزلتها عالية، وأن الشهيد له فضل عظيم تمنى أن يعاد إلى الدنيا مرة ثانية حتى يقتل شهيداً مرة ثانية ليضاعف له الأجر، ويكون له أجر شهيدين، فقال الله: (إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون)، أي: لا يرجعون إلى الدنيا، وهذا أيضاً قاله الشهداء الذين قتلوا في بعض الغزوات، لعل الله أن يستجيب لهم، فقال الله: (إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون، قال: فأبلغ من ورائي).
فسأل الله أن يبلغ من وراءه (فأنزل الله عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169])، فبلغ الله سبحانه عن عبد الله بن حرام ، وبلغ عن الشهداء، وأخبر عن حالهم، وأنهم في عيش طيب، وأنهم أحياء يرزقون عند الله في حياة برزخية غير الحياة الحقيقة، قد زالت عنهم الهموم التي في الدنيا، والأكدار، والأنكاد، والأمراض، والأسقام، والخوف من الفتن التي في الدنيا، وتحققت لهم السعادة الأبدية، ولهذا جاء في الحديث (ما من مؤمن يموت وله عند الله خير، فيود أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد فإنه يود أن يرجع إلى الدنيا مرة أخرى حتى يقتل شهيداً مرة أخرى)، فالمؤمن إذا رأى ما أعده الله له من الكرامة في الجنة لا يتمنى أن يعود إلى الدنيا؛ لأنه قد زالت عنه جميع الهموم، والأسقام، والأمراض، والفتن التي كانت في الدنيا، فقد كان معرضاً للأسقام وللفتن وللهموم وللمصائب وللأمراض، والشهداء لهم منزلة عالية عند الله، ولهذا جاء في الحديث -إن ثبت-: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة، وترد أنهارها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش)، وأما المؤمن غير الشهيد؛ فإن روحه تتلاعب وحدها، تأخذ شكل طائر، كما في الحديث الآخر: (نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يلقاه)، فعوض الله أرواحهم أجساداً تتلاعب بواسطتها، وهي حواصل طير تسرح في الجنة، فكان تنعم الشهيد أكبر من تنعم المؤمن، وإن كان كل منهما روحه في الجنة؛ وذلك لأن الشهداء بذلوا أرواحهم في سبيله سبحانه وتعالى.
حياة الأنبياء والشهداء في الدار الآخرة
فالجنين في بطن أمه لا يأكل ولا يرضع، وإذا ولد صار يتنفس ويرضع، والنائم روحه تذهب وتجيء وقد تختلط بأرواح الموتى وبغيرهم ولكنها سريعة؛ لأنها خفيفة طبيعتها بحيث أنك إذا ضربت رجله رجعت الروح للنائم في الحال، ولها تعلق به في البرزخ بحيث ترد إليه ويأتيه الملكان ويسألانه: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ ويضيق عليه في قبره أو يوسع له ويفتح له باب إلى النار أو باب إلى الجنة.
ثم تعلقها به بعد البعث، وهذا أكبر التعلقات، فالروح والبدن كل منهما يأخذ قسطه كاملاً من النعيم أو من العذاب، فالكفار تعذب أرواحهم وأجسادهم، وكل يأخذ قسطاً من العذاب، والمؤمن ينعم بدنه وروحه، وكل منهما يأخذ قسطه كاملاً.
أنكر أهل البدع الكلام، وقالوا: لو كان الله يتكلم بكلام حادث لصار محلاً للحوادث، وهذا لا يليق به، إنما يليق بالمخلوق الحادث. وهذا باطل؛ لأن هذا إنما يقال في حق كلام المخلوق، وكلام الله لا يساوي ولا يماثل كلام المخلوق، وإنما تحل الحوادث في ذات المخلوق، والرب يتكلم بكلام ليس مثل كلام المخلوقين، فلا نعلم كيف يتكلم.
قالوا: لو قلنا: إن الله يتكلم. للزم من ذلك أن يكون له شفتان وأضراس وأسنان؛ لأن الذي يتكلم لابد أن يخرج الحروف من الشفتين والأضراس والثنايا العليا والسفلى، وحافة اللسان، والله منزه عن ذلك كله. لكن هذا لا يلزم، فنحن نرى بعض الأشياء تتكلم وليس لها أضراس ولا لسان، ومن ذلك شهادة اللسان والأيدي والأرجل يوم القيامة، قال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24] فهذه الأشياء ليس لها لسان تتكلم به، وقال النبي: (إني لأعرف حجراً يسلم علي في مكة)، أي: أن الحجر كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم والحجر ليس له لسان، بل سمع تسبيح الطعام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي يخطب على جذع ثم أُتي له بمنبر، فلما خطب صاح الجذع حتى كاد ينشق؛ فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يهدئه كما يهدئ الصبي حتى سكت، فهل الجذع له لسان وصوت وأضراس، فإذا كانت بعض المخلوقات تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم، فكيف تنكرون أن يكون الله يتكلم ولا نعلم كيف يتكلم؟ لكن أهل البدع -والعياذ بالله- ابتلوا بمخالفة النصوص والإعراض عنها، وتأويلها، ودفعها. نسأل الله السلامة والعافية.
والآية هي تأكيد للمصدر وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] قال العلماء: إن التأكيد للمصدر ينفي المجاز وينفي التأويل.
حتى أن بعض أهل البدع كالجهمية شق عليهم سماع هذه الآية التي فيها أن الله يتكلم، حتى تمنى بعضهم أن تمحى من المصحف، وحرف قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فقرأها بفتح لفظ الجلالة: وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] فجعل الرب هو المكلم وموسى هو المتكلم حتى ينفي عن الرب الكلام، فقال له بعض أهل السنة: هب يا عدو الله! أنك استطعت أن تحرف هذه الآية، فكيف تقول في قوله تعالى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]؟ قال: معنى وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أي: جرحه بأظافره، قصده من هذا إنكار الكلام وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة:41].. لا حيلة في من أضله الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان) ].
(ترجمان) بضم الجيم وفتحها، والترجمان: هو الواسطة الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى، والمترجم ينقل الكلام من شخص إلى شخص أو من لغة إلى لغة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (ثم ينظر أيمن منه فلا ينظر إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل) ].
حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه حديث صحيح رواه البخاري في مواضع فرواه في كتاب الرقاق، والتوحيد، ورواه الإمام مسلم في كتاب الزكاة، ورواه الترمذي وابن ماجة وابن قتيبة في كتاب التوحيد، والآجري في الشريعة وغيرهم، وفيه إثبات كلام الله عز وجل يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان)، وفيه إثبات أن الله يكلم كل أحد ليس بينه وبينه واسطة ينقل الكلام من الله إلى العبد، أو من العبد إلى الله.
وفي اللفظ الآخر: (ما منكم من أحد إلا سيحاضره ربه محاضرة يقول: فعلت كذا يوم كذا وكذا، فعلت كذا يوم كذا وكذا وسترت عليك، فيقول: يا رب! ألم تغفرها لي؟ قال: بلى قد غفرتها لك)، وهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، ثم ينظر أيمن منه فلا ينظر إلا شيئاً قدمه) أي: ينظر عن يمينه فلا يرى إلا عمله من أمامه، قال: (ثم ينظر أشأم منه) أي: جهة الشمال، (فلا يرى إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه من الأمام فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل)، وهذا فيه فضل الصدقة وأنها تقي من النار، وشق التمرة نصفها، قوله: (من استطاع منكم أن يقي وجهه النار) أي: أن يجعل بينه وبين النار حجاباً، (بشق تمرة) أي: أن يتصدق بنصف تمرة (فليفعل)، الفقير إذا أعطيته نصف تمرة وهذا أعطاه نصف تمرة تجمع عنده شيء سد جوعته.
وفي اللفظ الآخر: (فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، إذا كنت لا تستطيع الصدقة بشيء قليل، فالكلمة الطيبة تقوم مقام الصدقة، والحديث صريح في إثبات كلام الله عز وجل، وأن الله تعالى يكلم الناس يوم القيامة، وفيه رد على أهل البدع الذين أنكروا كلام الله كالجهمية والمعتزلة وغيرهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى جابر بن عبد الله قال: (لما قتل
وهذا الحديث لا بأس بسنده، وقد رواه ابن ماجة في المقدمة باب ما أنكرت الجهمية، وفي كتاب الجهاد، ورواه الترمذي أيضاً في كتاب التفسير، وابن أبي عاصم في السنة، وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد، وليس بحسن، ولا بأس به فيه إثبات الكلام لله عز وجل، وفيه منقبة لـعبد الله بن حرام -وهو والد جابر رضي الله عنه- عندما قتل شهيداً يوم أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنه جابر( يا جابر ! ألا أخبرك ما قال الله لأبيك عبد الله بن حرام ؟ قال: بلى، قال: ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحاً) يعني: ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب أي: من وراء واسطة (وكلم أباك كفاحاً) أي: مواجهة ليس بينه وبينه حجاب ولا رسول، وهذه منقبة لـعبد الله بن حرام ، وهي: أن الله كلمه من دون واسطة، وأما غيره فهو من وراء حجاب.
ما الذي قال الله له؟ قال الله لـعبد الله بن حرام: (يا عبد الله ! تمن عليَّ أعطك، فقال عبد الله بن حرام : يا رب! تحييني فأقتل فيك ثانية)، لما رأى فضل الشهادة وأن منزلتها عالية، وأن الشهيد له فضل عظيم تمنى أن يعاد إلى الدنيا مرة ثانية حتى يقتل شهيداً مرة ثانية ليضاعف له الأجر، ويكون له أجر شهيدين، فقال الله: (إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون)، أي: لا يرجعون إلى الدنيا، وهذا أيضاً قاله الشهداء الذين قتلوا في بعض الغزوات، لعل الله أن يستجيب لهم، فقال الله: (إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون، قال: فأبلغ من ورائي).
فسأل الله أن يبلغ من وراءه (فأنزل الله عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169])، فبلغ الله سبحانه عن عبد الله بن حرام ، وبلغ عن الشهداء، وأخبر عن حالهم، وأنهم في عيش طيب، وأنهم أحياء يرزقون عند الله في حياة برزخية غير الحياة الحقيقة، قد زالت عنهم الهموم التي في الدنيا، والأكدار، والأنكاد، والأمراض، والأسقام، والخوف من الفتن التي في الدنيا، وتحققت لهم السعادة الأبدية، ولهذا جاء في الحديث (ما من مؤمن يموت وله عند الله خير، فيود أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد فإنه يود أن يرجع إلى الدنيا مرة أخرى حتى يقتل شهيداً مرة أخرى)، فالمؤمن إذا رأى ما أعده الله له من الكرامة في الجنة لا يتمنى أن يعود إلى الدنيا؛ لأنه قد زالت عنه جميع الهموم، والأسقام، والأمراض، والفتن التي كانت في الدنيا، فقد كان معرضاً للأسقام وللفتن وللهموم وللمصائب وللأمراض، والشهداء لهم منزلة عالية عند الله، ولهذا جاء في الحديث -إن ثبت-: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة، وترد أنهارها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش)، وأما المؤمن غير الشهيد؛ فإن روحه تتلاعب وحدها، تأخذ شكل طائر، كما في الحديث الآخر: (نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يلقاه)، فعوض الله أرواحهم أجساداً تتلاعب بواسطتها، وهي حواصل طير تسرح في الجنة، فكان تنعم الشهيد أكبر من تنعم المؤمن، وإن كان كل منهما روحه في الجنة؛ وذلك لأن الشهداء بذلوا أرواحهم في سبيله سبحانه وتعالى.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [3] | 2161 استماع |
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [2] | 2153 استماع |
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [1] | 1965 استماع |
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [10] | 1698 استماع |
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [6] | 1695 استماع |
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [14] | 1684 استماع |
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [11] | 1561 استماع |
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [15] | 1504 استماع |
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [13] | 1498 استماع |
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [4] | 1390 استماع |